الأمويون وتفسير القضاء بالجبر

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 166 ـ 169

 


(166)


الأمويون وتفسير القضاء بالجبر


1 ـ قال أبو هلال العسكري في الأوائل: إنَّ معاوية أوّل من زعم أنَّ
الله يريد أفعال العباد كلها (2).
2 ـ روى الخطيب عن أبي قتادة عندما ذكر قصة الخوارج في النهروان
لعائشة : قالت عائشة : ما يمنعني ما بيني وبين عَلِيٍّ أن أقول الحق ،
سمعت النبي يقول : تفترق أُمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلقون
رؤوسهم يحفون شواربهم ، أزُرهم إلى أنصاف سُوقهم ، يقرأون القرآن لا
يتجاوز تراقيهم ، يقتلهم أحبُّهم إليّ وأحَبُّهم إلى الله . قال : فقلت : يا أُم
المؤمنين : فأنت تعلمين هذا!! فلم كان الّذي منك ؟ قالت : يا قتادة وكان
أمر الله قدراً مقدوراً ، وللقدر أسباب (3).
3 ـ لقد سعى معاوية بن أبي سفيان ـ بعدما سَمّ الحسن ـ عليه السَّلام ـ
ورأى الجو السياسي مناسباً ـ إلى نصب ولده يزيد خليفة من بعده ، فلمّا
اعترض عليه عبد الله بن عمر ، قال له: « إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين ،
وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإنَّ أمر يزيد قد كان قضاء من
القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم » (4).
وأجاب بهذا الكلام أيضاً عائشة أُم المؤمنين عندما نازعته في هذا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الأوائل: ج2، ص 125 .
(3) تاريخ بغداد : ج 1، ص 160 .
(4) الإمامة والسياسة، لابن قتيبة : ج 1، ص 171 .
________________________________________


(167)


الاستخلاف ، فقال لها: « إنَّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة
من أمرهم» (1).
فإنك ترى أنَّ معاوية يتوسل في تحقيق أهدافه بأيديولوجية دينية مُسَلّمة
بين الناس من المعترضين وغيرهم ، وهي تفسير عمله بالتقدير والقضاء
الإلهي.
وفي هذا الصدد يقول أحد الكتّاب المصريين المعاصرين:  « إنَّ معاوية
لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ، ولكن بأيديولوجية تمسّ العقيدة في
الصميم ، ولقد كان يعلن في الناس أنَّ الخلافة بينه وبين علي
ـ عليه السَّلام ـ قد احتكما فيها إلى الله ، فقضى الله له على عليّ
ـ عليه السَّلام ـ ، وكذلك حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل
الحجاز ، أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاءً من القضاء ليس للعباد
خيرة في أمرهم ، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين أنَّ كل ما يأمر به
الخليفة حتى ولو كانت طاعة الله في خلافه فهو قضاء من الله قد قدّر على
العباد» (2).
4 ـ ومن مظاهر هذه الفكرة الخاطئة (مساوقة التقدير للجبر) تبرير
عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الإمام الطاهر الحسين بن علي سلام الله عليه
مبرراً جنايته بأنّها تقدير إلهي . وعندما اعترض عليه عبد الله بن مطيع
العدوي بقوله : اخترت همدان والري على قتل ابن عمك . قال عمر بن
سعد : كانت أُموراً قضيت من السماء ، وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة ،
فأبى إلاَّ ما أبى (3).
وعلى هذا الأصل قامت السلطة الأُموية ، ونشأت ، وارتقت ، فكان الخلفاء
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه : ص 167 .
(2) نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية للدكتور أحمد محمود : ص 334 .
(3) طبقات ابن سعد : ج 5، ص 148، طبعة بيروت.
________________________________________


(168)


من هذا البيت يهددون من يخالفهم فيه ، ويعاقبون بما هو مسجل مضبوط في
التاريخ.
5 ـ إنَّ الحسن البصري (ت 22 ـ م 110 هـ) من الشخصيات البارزة
في عصره ، وكان يشغل منصة الوعظ والخطابة والإرشاد . ومع ذلك كله لم
يكن معتقداً بالتقدير المُصَوّب عند الأمويين ، فلما خوّفه بعض أصدقائه من
السلطان ، وعد أن لا يعود . روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال: « نازلت
الحسن في القدر غير مرة حتى خوّفته من السلطان فقال لا أعود بعد
اليوم » (1).
6ـ إنَّ محمّد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة الّتي قام
بتلخيصها ابن هشام ، أتّهم بالمخالفة في التقدير وضرب عدّة سياط تأديباً.
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : إنّ محمّد بن إسحاق أتهم بالقَدَر ، وقال
الزبير عن الدراوردي : وجلد ابن إسحاق ، يعني في القَدَر ؟ (2).
7 ـ وروى ابن قتيبة أنَّ عطاء بن يسار كان قاضياً للأمويين ، ويرى رأي
معبد الجهني ، فدخل على الحسن البصري وقال له : يا أبا سعيد إنَّ هؤلاء
الملوك يسفكون دماء المسلمين ، ويأخذون أموالهم ، ويقولون إنّما تجري أعمالنا
على قضاء الله وقدره ، فقال له الحسن البصري: كذب أعداء الله  (3).   ونقل
المقريزي أنَّ عطاء بن يسار ومعبد الجهني دخلا على الحسن البصري فقالا
له: إنَّ هؤلاء يسفكون الدماء ، ويقولون إنّها تجري أعمالنا على قدر الله ،
فقال: كذب أعداء الله ، فطعن عليه بهذا  (4).
8 ـ يقول ابن المرتضى: « ثمّ حَدَثَ رأيُ المُجَبّرة من معاوية وملوك بني
مروان فَعَظُمَتْ به الفتنة» (5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد : ج 7، ص 167، طبعة بيروت.
(2) تهذيب التهذيب : ج 9، ص 38 و 46 .
(3) المذاهب الإسلامية : محمّد أبو زهرة : ص 175. والملل والنحل : ج 1، ص 113 .
(4) الخطط المقريزية : ج 2، ص 356 .
(5) طبقات المعتزلة : ص 6، تأليف أحمد بن يحيى بن مرتضى المعتزلي.
________________________________________


(169)


هذه نماذج ممّا سجله التاريخ في شأن هذا الاستنتاج ، نعم كان هناك
فَرْق بين الحافز الّذي دعا المشركين إلى استنتاج الجبر ، والحافز الّذي
ساق الأمويين إلى نشر تلك الفكرة ، فإنّ الداعي عندالمشركين كان داعياً
دينياً محضاً ، بينما كان عند الأمويين مشوباً بالسياسة ، وتبرير الأعمال المنحرفة ،
وإخماد الثورات ، وتخدير المجتمع من القيام في وجه السلطة ، حتى يتسنى
لهم بذلك الحكومة عليه ، واستقرار عروشهم ، وانغماسهم في ملذاتهم
الدنيوية.
إلى هنا عرفتَ وجهة المسألة عبر العصور والقرون الأُولى ، ولكن أي
الفريقين أحقّ أن يتبع ، لا أرى في الإدلاء به إلزاماً ، فالأمر واضح عند كل
ذي لُب وبصيرة . وما ذكرناه كان عرضاً إجمالياً لتاريخ المسألة تلقي ضوءاً
على فهم آيات الكتاب والسنّة الواردة في القضاء والقدر . فلنشرع ببيان
مصادر المسألة في الكتاب والسنّة وتحليلها.


***