تفسير القدر والقضاء العلميَّيْن

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 197 ـ 202

 

(197)



2 ـ تفسير القدر والقضاء العلميَّيْن
إذا كان التقدير والقضاء العينيّان راجعين إلى إطار وجود الشيء في
الخارج من اتصافه بالتقدير والضرورة ، يكون المراد من التقدير والقضاء
العلميين ، علمه سبحانه بمقدار الشيء وضرورة وجوده في ظرف خاص ،
علماً ثابتاً في الذات أو علماً مكتوباً في كتاب . والأوّل يكون علماً في مقام
الذات ، والآخر يكون علماً في مقام الفعل.
ولكن الفلاسفة خصّوا القضاء بالجانب العلمي ، والقدر بالجانب العيني
فقالوا : « القضاء » عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكن عليه الوجود حتى يكون
على أحسن النظام وأكمل الانتظام ، وهو المسمّى بـ « العناية » الّتي هي مبدأ
لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها.
و « القَدَرُ» عبارة عن خروجها على الوجود العيني بأسبابها على الوجه الّذي
تقرر في القضاء».
كما أنَّ الأشاعرة خصّوا « القضاء » بكون الشيء متعلقاً للإرادة الأزلية
قبل إيجادها ، و « القدر » بإيجادها على قدر مخصوص ، فقالوا: « إنّ « قضاء
الله» هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال.
________________________________________


(198)


و « قدَرَه» إيجاده إيّاها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها
وأحوالها ».
والمعتزلة أنكروا وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العبادة متعلقاً
للقضاء والقدر ، وأثبتوا علمه تعالى بهذه الأفعال ، ولكن أنكروا إسناد وجودها
إلى ذلك العلم ، بل إلى اختيار العباد وقدرتهم (1).
ولكن الحق حسب ما تعطيه الآيات القرآنية أنَّ كلاًّ من القضاء والقدر
على قسمين علمي وعيني . أمّا العيني فقد تقدّم ، وأمّا العلمي فالتقدير منه هو
علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود وخصوصيات.  والقضاء منه ،
علمه سبحانه بحتميّة وجود تلك الأشياء عن عللها ومبادئها. وإليك فيما يلي بيان
العلمي منهما ، ثمّ بيان عدم استلزام وجود الجبر في الأفعال الاختيارية للعبادة ؛ فتارة
نبحث عن كون أفعال العباد ، معلومة لله سبحانه في الأزل ، وأخرى عن كونها
متعلقة للإرادة الأزلية ، حتى يكون البحث واضحاً.


أفعال العباد وعلمه الأزلي
لا شكّ أنَّ الله سبحانه كان عالماً بكل ما يوجد في هذا الكوكب ومطلق
الكون ، فكان واقفاً على حركة الالكترونات في بطون الذرّات ، وعلى
حفيف أوراق الأشجار في الحدائق والغابات ، وحركات الحيتان العظيمة في
خضم أمواج المحيطات. كما أنّه سبحانه كان عالماً قبل أن يخلق العالم
بأفعال المجرمين وقسوة السفّاكين ، وطاعة الطائعين هذا من جانب.
ومن جانب آخر : إنَّ علمه تعالى بالأُمور علم بالواقع والحقيقة ، وهو لا
يتخلف عن الواقع قيد شعرة ، وقد عرفتَ سعة علمه بالأشياء ، وقبل الكينونة في
الآيات المتقدمة صدر الفصل . وقال سبحانه:  { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف : ج 8 ، ص 180 ـ 181 .
(2) سورة الأنعام : الآية 59 .
________________________________________


(199)


وقال سبحانه:  { قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }(1).
وعلى هذين الأساسين ربما يتصور أنَّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء
عموماً ، والأفعال الاختيارية للإنسان خصوصاً ، يجعل الإنسان مجبوراً
مضطراً متظاهراً بالحرية والاختيار ؛ لأنّه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل ، أنَّ
هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة ، فبما أنَّ العلم
الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدراً لهذا الذنب ،
ولا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة وقدرة ، بل لا يستطيع أن يغير من كميته
وكيفيته ؛ إذ تخلفه نفس تخلف علم الله عن الواقع ، وصيرورة علمه جهلاً
تعالى الله عنه.
أقول : إنَّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى
الجبر ، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى ، غير متخلفة عن متعلقها ،
ولكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم ، لرجعوا
عن هذا الحكم الخاطئ.
والجواب عن ذلك : إنَّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من
مؤثره على أي وجه اتفق ، وإنّما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع
الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل . فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة
للشعور والاختيار ، أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار ، فتعلق علمه سبحانه
بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصية ، أي أن تصدر الحرارة من النار
من دون أن تشعر فضلاً عن أن تريد ، ويصدر الارتعاش من الإنسان
المرتعش عن علم ولكن لا بإرادة واختيار ، فالقول بصدور هذه الظواهر عن
عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع ، وعدم تخلفه عنه قيد
شعرة .
وإن كانت العلَّة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلق علمه
على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات ، وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار
والحرية .  فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية ، لكان علمه مطابقاً للواقع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الطلاق: الآية 12 .
________________________________________


(200)


غير متخلف عنه ، وأمَّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار
بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.
نقول توضيحاً لذلك ، إنَّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين :
قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة كأعمال الجهاز الدموي ، والجهاز المعوي ،
وجهاز القلب ، والأحشاء ، الّتي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال
الاضطرارية ، غير الاختيارية.
وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار . ويتسم بسمة الأعمال
الاختيارية غير الاضطرارية كدراسته  وكتابته  وتجارته  وزراعته.
وعلى ما سبق من أنَّ علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه
قيد شعرة ، فتقع أعماله مورداً لتعلق علم الله بها على ما هي عليه من
الخصائص والألوان .  فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل
معين في لحظة معينة من إنسان معين إمَّا بالاضطرار والإكراه ، أو بالاختيار
والحرية ، وتعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر ، بل يلازم الإختيار . ولو
صدر كل قسم على خلاف ما اتسم به لكان ذلك تخلفاً عن الواقع.
وبعبارة أُخرى : إن علم الله بما أنَّه يطابق الواقع الخارجي ولا يتخلف
عنه أبداً ، فيجب أن يقوم الإنسان بكل قسم من أعماله على حسب السمة
الّتي اتّسم بها . فلو كان مصدراً لعمل الجهاز الدموي عن اختيار ، وقد تعلق
علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار ، لزم تخلف علمه عن معلومه . كما
أنَّه لو كان مصدراً للقسم الآخر من أفعاله ككتابته وخياطته على وجه الإلجاء
والاضطرار ، لزم تخلف علمه عن الواقع لتعلق علمه بصدوره عنه بسمة
الاختيار . وسيوافيك نصوص من أئمة الحكماء كصدر المتألّهين وغيره عند
البحث عن الجبر الأشعري.
فعلينا في هذا الموقف الالتفات إلى كيفية تعلق علمه بصدور الأفعال
عن مبادئها وعللها . نعم ، من أنكر وجود الأسباب والمسببات في الوجود ،
واعترف بعلّة واحدة وسبب مفرد وهو الله سبحانه ، وجعله قائماً مقام جميع
العلل والأسباب ، وصار هو مصدراً لكل الظواهر والحوادث مباشرة ، ولم يُقِم
________________________________________


(201)


للعلل الطبيعية وللإنسان وما فيه من المبادئ وزناً وقيمة ، ولم يعترف بتأثيرها
في تكوّن الظواهر والحوادث ، لا مناص له عن القول بالجبر.  وهو مصير
خاطئ يستلزم بطلان بعث الأنبياء ، وإنزال الكتب.


تمثيل خاطئ
ربما يتمسك في تحليل علمه سبحانه بمثال خاص ، ويقال إنَّ باستطاعة
كثير من الأساتذة أن يتكهنوا بمستقبل تلامذتهم ، فإنَّ المعلم الّذي يعرف
حدود السعي والعمل والاستعداد في تلميذه المعيَّن ، يستطيع أن يتكهن
بنجاح التلميذ أو رسوبه بصورة قاطعة ، فهل نستطيع أن نقول : إنَّ علم المعلم
بوضع التلميذ صار علّة لعدم نجاحه في الامتحان بحيث لو تكهَّن المعلم
بعكس هذا ، لكان النجاح حليف التلميذ ، أو إنَّ السبب في فشله في
الإمتحان هو تكاسله أيام الدراسة ، وإهماله طول السنة الدراسية مطالعة
ومباحثة الكتاب المقرر ، وصرفه أوقاته في الشَّهوات.
إنَّ هذا التمثيل نافع للأذهان البسيطة الّتي لا تفرق بين علم المعلم ،
وعلمه سبحانه. وأمّا العارف بخصوصية علمه تعالى ، وأنَّه نفس ذاته ، وذاته
علّة لما سواه ، فهو يرى قياس أحد العلمين بالآخر قياساً خاطئاً ؛ فإنّ علم
المعلم ليس في سلسلة علل الحوادث ، وفي مورد المثال : رسوب التلميذ أو
نجاحه .  وهذا بخلاف علمه تعالى فإنّه في سلسلة العلل ، بل تنتهي إليه
جميع الأسباب والمسببات .  وقد عرفتَ أنَّ القضاء عند الفلاسفة عبارة عن
علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل
الانتظام ، وهو المسمّى عندهم بالعناية الّتي هي مبدأ لفيضان الموجودات ،
من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها .  فعند ذلك يصبح التمثيل في
مقام الإجابة أجنبياً عن الإشكال(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسيأتي الإيماء إلى هذا الجواب عند البحث عن الأُصول الّتي دفعت الأشاعرة إلى القول
بالجبر ، ومنها علمه الأزلي.
________________________________________


(202)


والحق في الإجابة ما ذكرنا من أنَّ علمه العنائي الّذي هو السبب لظهور
الموجودات على صفحة الوجود ، وإن كان علة لظهور الأشياء ، لكنه ليس
بالعلَّة الوحيدة القائمة مقام الأسباب والعلل المتأخرة ( كما عليه الأشاعرة
المنكرين للأسباب والمسببات ) بل هناك أسباب ومسببات كثيرة يؤثر كل
سبب في مسببه بإذنه سبحانه ومشيئته. وفي خلال تلك الأسباب سببية
الإنسان لفعله بإذنه سبحانه ، فَتَعَلَّقَ علمه على أن يكون الإنسان في معترك
الحياة فاعلاً مختاراً وسبباً حُرّاً لما يفعل ويترك . فكون مثل هذا السبب متعلقاً
لعلمه العنائي المبدأ لفيضان الموجودات ، لا ينتج الجبر بل ينتج الاختيار.


أفعال العباد وإرادته الأزلية
قد عرفتَ أنَّ القضاء العلمي عند الأشاعرة هو عبارة عن إرادته
الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال . وعند ذلك يتحد هذا
التفسير مع التفسير السابق إشكالاً وجواباً . وبما أنَّا سنبحث في فصل الجبر
والاختيار عن شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد وعدمه ، فنترك التفصيل إلى
مكانه.  وسيوافيك أنَّ شمول إرادته سبحانه لجميع الكائنات عموماً ، وأفعال
الإنسان خصوصاً ، ممَّا لا مناص عنه ، كتاباً وسنَّة وعقلاً (وإن خالف في
ذلك كثير من العدلية حذراً من لزوم الجبر) . لكن القول بعموم الإرادة ،
وشمولها للأفعال الاختيارية ، لا ينتج الجبر كما أوضحنا حاله في العلم.
هذا حال التقدير والقضاء العلميين ، والنتيجة الّتي تترتب على هذه
العقيدة حسب تحليل الأشاعرة وتحليلنا . وبقي هنا بحث وهو سرد بعض
الروايات الواردة في القضاء والقدر في الصحاح والمسانيد الّتي لا تتخلف
عن الجبر قيد شعرة ، وعرضها على الكتاب والسنَّة والعقل ليُعلم ناسجها
ومصدرها . ويتلوه بحث في تفسير « القدرية » الواردة في الأخبار.