برهان الإمكان

طباعة

برهان الإِمكان

وتوضيحه يتوقف على بيان أمور :

الأمر الأول : تقسيم المعقول إلى الواجب والممكن والممتنع .

إنَّ كل معقول في الذهن إذا نسبنا إليه الوجود والتحقق ، فإما أن يَصِحَّ اتصافُه به لذاته أو لا .

الثاني هو ممتنع الوجود كاجتماع النقيضين .

والأول : إما أَنْ يقتضي وجوبَ اتصافه به لذاته أو لا . والأول هو واجب الوجود لذاته .

والثاني ، هو ممكن الوجود لذاته ، أعني به ما تكون نسبة كل من الوجود والعدم إليه متساوية .

وبعبارة أخرى : إذا تصورنا شيئاً ، فإما أَنْ يكون على وجه لا يقبل الوجود الخارجي عند العقل أو يقبله . والأول هو الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين وارتفاعها ، واجتماع الضدين ، ووجود المعلول بلا علة .

والثاني ، إما أنْ يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده ولزوم تحققه في الخارج ، فهذا هو الواجب لذاته . وإما أَنْ يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم فلا يستدعي أَحدهما أَبداً ، ولأَجل ذلك قد يكون موجوداً وقد يكون معدوماً ، وهو الممكن لذاته ، كأفراد الإِنسان وغيره .

وهذا التقسيم ، دائر بين الإِيجاب والسلب ولا شق رابع له ، ولا يمكن أَنْ يُتصور معقول لا يكون داخلاً تحت هذه الأَقسام الثلاثة .

الأَمر الثاني : وجود الممكن رهن علّته .

إِنَّ الواجب لذاته بما أَنَّه يقتضي الوجود من صميم ذاته ، لا يتوقف وجوده على وجود علة توجده لاستغنائه عنها . كما أَنَّ الممتنع حيث يستدعي من صميم ذاته عدم وجوده فلا يحتاج في الإِتصاف بالعدم إلى علة . ولأَجل ذلك قالوا إِنَّ واجبَ الوجود في وجوده ، وممتنع الوجود في عدمه ، مستغنيان عن العلة ، لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الفقر والفاقة ، والواجب ، واجبُ الوجود لذاته . والممتنع ، ممتنعُ الوجود لذاته . وما هو كذلك لا حاجة له في الإِتصاف بأَحدهما إلى علة . فالأَول يملك الوجود لذاته ، والثاني يتّصف بالعدم من صميم الذات .

وأما الممكن فبما أَنَّ مَثَلَه إِلى الوجود والعدم كَمَثَلِ مركَزِ الدائرةِ إلى محيطها لا ترجيحَ لواحد منهما على الآخر ، فهو في كلٍّ من الإِتصافين يحتاج إلى علة تخرجه من حالة التساوي وتجرُّه إما إِلى جانب الوجود أَو جانب العدم .

نعم ، يجب أن تكون علة الوجود أمراً متحققاً في الخارج ، وأما علة العدم فيكفي فيها عدمُ العلة . مثلاً : إنًّ طردَ الجهل عن الإِنسان الأُميّ وإحلالَ العلم مكانَه ، يتوقّفُ على مبادىء وجوديةٍ ، وأما بقاؤه على الجهل وعدم العلم فيكفى فيه عدم تلك المبادىء .

الأمر الثالث : في بيان الدور والتسلسل وبطلانهما .

الدور عبارة عن كون الشيء مُوجِداً لشيءٍ ثانِ ، وفي الوقت نفسه يكون الشَّيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأول . وهذا باطل لأنَّ مقتضى كونِ الأول علة للثاني ، تقدُّمُه عليه وتأخُّرُ الثاني عنه : ومقتضى كون الثاني علة للأول تقدُّمُ الثاني عليه . فينتج كونُ الشيء الواحد ، في حالة واحدة ، وبالنسبة إلى شيء واحد ، متقدِّماً وغير مُتَقَدِّم ، ومتأخراً وغير متأخر . وهذا هو الجمع بين النقيضين ، وبطلانه كارتفاعهما من الضروريات البديهية . فينتج أنَّ الدّورَ وما يستلزمه محال .

ولتوضيح الحال نمثل بمثال : إِذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة واشترط كلُّ واحدٍ منهما لإِمضائها ، إمضاءَ الآخر ، فتكون النتيجة توقُّفُ إمضاء كلٍّ على إمضاء الآخر . وعند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاةً إلى يوم القيامة ، لما ذكرنا من المحذور .

وهاك مثالاً آخر : لو أَراد رجلان التعاون على حمل متاع ، غيرَ أَنَّ كلّاً يشترط في إِقدامه على حمله إِقدام الآخر . فلن يحمل المتاع إلى مكانه أَبداً .

وأما التسلسل فهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة ، مترتبةً غير متناهية ، ويكون الكل متَّسِماً بوصف الإِمكان بأَنْ يتوقف (أ) على (ب) ، والثاني على (ج) ، والثالث على رابع ، وهكذا دواليك تتسلسل العلل والمعاليل من دون أَنْ تنتهي إلى نقطة .

وباختصار : حقيقة التسلسل لا تخرج عن حدود تَرَتُّبِ علل ومعاليل ، تكون متناهيةً من جانب ـ أعني آخرها ـ وغيرَ متناهيةٍ من جانب آخر ، أعني أوّلها . وعلى ذلك ، يتسم الجزء الأخير بوصف المعلولية فقط بخلاف سائر الأَجزاء ، فإنَّ كلاً منها مع كونه معلولاً لما فوقه ، علة لما دونه ، فالمعلولية وصف مشترك بين الجميع ، سائدة على السلسلة وعلى أَجزائها كلها بخلاف العلية فهي غير صادقة على الجزء الأخير . هذا واقع التسلسل وأما بيان بطلانه :

إِنَّ المعلولية كما هي وصف عام لكل جزء من أجزاء السلسلة ، وصف لنفس السلسلة أَيضاً . وكما أَنّ َكلَّ واحدة من الحَلقات معلولة ، فهكذا مجموعُها الذي نعبّر عنه بسلسلة المعاليل المترتبة ، أَيضاً معلول . فعندئذ يَطرَحُ هذا السؤال نفسَه : إِذا كانت السلسلةُ الهائلة معلولةً ، فما هي العلةُ التي أَخرجتها من كَتْمِ العَدَمِ إلى عالم الوجود ، ومن الظُّلْمَةِ إِلى عالم النور ؟ مع أَنَّ حاجَةَ المعلول إلى العلّةِ أَمرٌ بديهي . وقانونُ العليّةِ من القوانينِ الثابتةِ لا ينكره إِلّا الغبي أَو المجادل في الأمور البديهية ، هذا من جانب . ومن جانب آخر إِنَّ السلسلة لم تقف ولن تقف عند حدّ حتى يكونَ أولُ السلسلة علّةً غيرَ معلولٍ ، بل هي تسير وتمتد بلا توقف عند نقطة خاصة . وعلى هذين الأمرين تتسم السلسلة بسمة المعلولية من دون أنْ يكونَ فيها شيءٌ يَتَّسِمُ بِسِمَةِ العليَّةِ فقط . وعندئذ يعود السؤال : ما هي العلة المحققة لهذه السلسلة المعلولة ، المخرجة لها عن كتم العدم إلى حيّز الوجود ؟

ولك إجراءُ هذا البيان في كل واحدةٍ من حلقات السلسلة ، كما أُجْرِيَ في نفسِ السلسلة بعينِها وتقول : إِذا كان كلُ واحدٍ من أَجزاءِ السلسلة معلولاً ومتَّسِماً بِسِمَةِ المعلولية ، فيطرح هذا السؤال نَفْسَهُ : ما هي العلة التي أخرجت كلَّ واحدةٍ من هذه الأجزاء الهائلة الموصوفة بوصف المعلولية ، من حَيِّزِ العدم إلى عالمَ الوجود .

وإذا كانت المعلولية آيةَ الفقر وعلامةَ الحاجة إلى العلة ، فما تلك العلةُ التي نفضت غبار الفقر عن وجه هذه الحلقات والبَسَتْها لِبَاسَ الوجود والتحقّق وصيَّرتها غنية بالغَير ؟ .

إِنَّ معلولية الأَجزاء التي لا تنفك عن معلولية السلسلة آية التعلق بالعلة ، وعلامة التدلي بالغير ، وسمةُ القيام به . فما هي تلك العلة التي تتعلق بها الأَجزاء ؟ وما ذاك الغير الذي تتعلق به السلسلة ؟

وأنت إذا سألت كل حلقة عن حالها لأجابتك بلسانها التكويني بأنها مفتقرة في وجودها ، متعلقة في جميع شؤونها بالعلة التي أوجدتها . فإذا كان هذا حال كل واحدة من هذه الحلقات ، كان هذا أيضاً حال السلسلة برمّتها . وعندئذٍ نخرج بهذه النتيجة : إنَّ كلَّ واحدة من أجزاءِ السلسلة معلولة ، والمركب من المعاليل ( السلسلة ) أيضاً معلول . والمعلول لا ينفك عن العلّة ، والمفروض أنَّه ليس هنا شيء يكون علّة ولا يكون معلولاً وإلّا يلزم انقطاع السلسلة وتوقفها عند نقطة خاصة قائمة بنفسها أعني ما يكون علة ولا يكون معلولاً ، وهذا خلف .

فإنْ قلت : إِنَّ كلَّ معلول من السلسلة مُتَقَوِّم بالعلّة التي تتقدمه ، ومتعلق بها ، فالجزء الأَول من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني ، والثاني بالثالث ، وهكذا إلى ما شاءَ الله من الأَجزاءِ غير المتناهية والحلقات غير المحدودة . وهذا المقدار من التعلّق يكفي في رفع الفقر والحاجة .

قلت : إِنَّ كل معلول ، وإِنْ كان يستند إلى علة تتقدمه ويستمد منها وجودَه ، ولكن لما كانت العلل في جميع المراحل متسمةً بسمة المعلولية كانت مفتقرات بالذات ، ومثل هذا لا يوجد معلولَه بالإِستقلال ، ولا ينفض غبار الفقر عن وجهه بالأَصالة ، إذْ ليسَ لهذه العلل في جميع الحلقات دور الإِفاضة بالأَصالة ودور الإِيجاد بالإِستقلال بل دور مثل هذه العلل دور الوسيط والأَخذ من العلة المتقدمة والدفع إلى معلوله ، وهكذا كل حلقة نتصورها علة لما بعدها . فهي عند ذاك لا تملك شيئاً بذاتها وإنما تملك ما تملكه من طرف العلة التي تتقدمها ومثلها حال العلل الأخرى من دون استثناء في ذلك . ومثل هذا لا يصيِّر السلسلة ولا أَجزاءَها غنية بالذات بل تبقى على ما وصفناها به من كونها مفتقرات بالذات ومتعلقات بالغير . فلا بدّ أَنْ يكون هناك علة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها وتكون سناداً لها .

وبعبارة أخرى : إنَّ كلَّ حلقة من هذه الحلقات ( غير الأخيرة ) تحمل سمتين : سمةِ العلية ، وبهذه السمة تَوجِدُ ما قبلها ، وسمةِ المعلولية وبهذه السمةِ تعلن أَنَّهَا لم تملك ما ملكَتْهُ ولم تدفع ما دفعَتْهُ إِلى معلولِها ِإلَّا بالاكتساب مما تقدمها من العلّة . وهذا الأَمر جارٍ وسائدٌ في كل حلقة وكل جزء يقع في أفق الحس أو الذهن . فإذاً تصبح نفسُ السلسلةِ وجميعُ أَجزائِها تحمل سمة الحاجة والفقر ، والتعلّقِ والرَّبطِ بالغير . ومثل تلك السلسلة لا يمكن أَنْ تُوجَد بنفسها إِلَّا بالإِستناد إلى موجود يحمل سمةً واحدة وهي سمةُ العليةِ لا غير ويتنزه عن سمة المعلولية . وعند ذاك تنقطع السلسلة وتخرج عن كونها غير متناهية إلى التناهي .

تمثيلان لتقريب امتناع التسلسل

إذا أردْتَ أن تستعينَ في تقريب الحقائقِ العقْلية بالأمثلة الملموسة فهاك مثالين على ذلك :

الأول : إنَّ كل واحدة من هذه المعاليل ـ التي نشير إليها بالإِشارة العقلية وإن لم نقدر على الإِشارة إليها عن طريق الحسّ لكونها غير متناهية ـ بحكم فقرها الذاتي ، بمنزلة الصفر . فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار . ومن المعلوم أنَّ الصِّفْرَ بإضافة صِفْر ، بإضافة صِفْرٍ ، صِفْرٌ مهما تسلسل ، ولا ينتج عدداً صحيحاً . فلأجل ذلك يحكم العقل بأنَّه يجب أن يكونَ إلى جانب هذه الأصفار عدداً صحيحاً قائماً بالنفس حتى يكون مصححاً لقراءتها ، ولولاه لما كان للأصفار المجتمعة الهائلة أيُّ دورٍ في المحاسبة ، فلا يُقْرَأ الصفر مهما أُضيفَتْ إليه الأصفار .

الثاني : إنَّ القضايا المشروطة إِذا كانت غيرَ متناهية وغير متوقفة على قضيةٍ مطلقة ، لا تخرج إلى عالم الوجود . مثلاً إذا كان قيام زيدٍ مشروطاً بقيام عمروٍ ، وقيامُه مشروطاً بقيام بكر ، وهكذا دواليك إلى غير النهاية ، فلن يتحقق القيام عندئذ من أي واحد منهم أَبداً ـ كما إِذا شرط الأَول إِمضاءَه للورقة بإِمضاءِ الثاني ، والثاني بإِمضاءِ ثالث وهكذا ، فلن تُمْضَى تلك الورقة إلى الأبد ـ إلَّا إِذا انتهت تلك القضايا إِلى قضيةٍ مُطْلَقَةٍ بأَنْ يكونَ هناك من يقومُ أَو يمضي الورقة من دون أَنْ يكون فعلُه مشروطاً بشيء .

فهذه المعاليلُ المتسلسلة ـ بما أَنَّ وجودَ كلٍّ منها مشروط بوجودِ علةٍ تتقدمه ـ تكون قضايا مشروطةً متسلسلةً غيرَ متناهيةٍ فلا تَخْرُجُ إلى عالم الوجود ما لم تصل إلى قضيةٍ مطلقَةٍ ، أَي إِلى موجود يكون علةً محضةً ولا يكونُ وجودهُ مشروطاً بوجودِ علَّةٍ أخرى ، وعندئذ يكون ما فرضناه متسلسلاً غير متسلسل ، وما فرضناه غير متناه متناهياً .

فقد خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ فَرْضَ عِلَلٍ ومعاليلَ غير متناهية ، فرضٌ محال لاستلزامه وجود المعلول بلا علة . فيكون الصحيح خلافَه أَي انقطاع السلسلة ، إِذ لا واسطة بين الإِيجاب والسلب (1) .

إلى هنا تمت المقدمات التي لها دور في توضيح برهان الإِمكان وإليك نفس البرهان .

تقرير برهان الإِمكان

لا شك أَنَّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإِمكانية بدليل أنها توجَد وتنعدم ، وتَحْدُث وتفنى ، ويطرأ عليها التبدّل والتغيّر ، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإِمكان وسمات الافتقار .

وهذه الموجودات الإِمكانية ، الواقعة في أفق الحس إمَّا موجودات بلا علة أَوْ لها علّة . وعلى الثاني فالعلّة إِمّا ممكنة أَوْ واجبة . ثم العلّة الممكنة إما أَنْ تكون متحققة بمعاليلها ( أي الموجودات الإِمكانية ) ، أَوْ بممكن آخر .

فعلى الأَول ـ أي كونها موجودات بلا علة ـ يلزم نقضُ قانونِ العليّةِ والمعلولية وأنّ كلَّ ممكن يحتاج إلى مؤثر . ومثلُ هذا لو قلنا بأن علَّتَها نفسُها ، مضافاً إِلى أَنَّ فيه مفسدةَ الدور .

وعلى الثاني ـ أي كونها متحققة بعلّة ممكنة والعلة الممكنةُ متحققةٌ بهذه الموجوداتِ الإِمكانية ـ يلزم الدور المحال .

وعلى الثالث ـ أي تحققها بممكن آخر وهذا الممكن الآخر متحقق بممكن آخر وهكذا ـ يلزم التسلسل الذي أَبطلناه .

وعلى الرابع ـ أَي كون العلة واجبة ـ يثبت المطلوب .

فاتضح أنَّه لا يصح تفسير النظام الكوني إلّا بالقول بانتهاءِ الممكنات إلى الواجب لذاته القائم بنفسه ، فهذه الصورة هي الصورة التي يصحِّحُها العقلُ ويَعُدُّها خاليةً عن الإِشكال . وأَما الصور الباقية فكلها تستلزم المحال ، والمستلزم للمحال محال .

فالقول بكونها متحققة بلا علة أَوْ كونِ علتِها نفسَها ، يدفعه قانون العليّة الذي هو معترف به عند الجميع ، كما أَنَّ القول بكون بعضها متحققاً ببعضها الآخر ، وذاك البعضِ الآخر متحقق بالبعض الأَول يستلزم الدور . والقول بأَنَّ كلَّ ممكن متحققٌ بممكن ثان والثاني بثالث وهكذا يستلزم التسلسل .

فلم يبق إِلّا القول بانتهاء الممكنات إِلى الواجب بالذات ، القائم بنفسه ، المفيض للوجود على غيره .

بُرهانُ الإِمكان في الذكرِ الحَكيم

إنَّ الذكرَ الحكيم طرح معارفَه وأصولَه مدعومة بالبراهين الجليّة ، ولم يكتف بمجرد الدعوى بلا دليل ، فهو كالمعلِّم يلقي دروسه على تلاميذه بالبينة والبرهان . فالإِستدلالُ بهذه الآياتِ ليس كاستدلال الفقيه بها على الفروع ، فإنَّ الفقيه أثبَتَ أنَّ الوحيَ حجةٌ فأخَذَ بتفريعِ الفروع وإقامةِ الحُجَّةِ عليها من الوحي ، بل الإِستدلال بها في هذا الموقف الذي نحن فيه كالإِستدلال بسائر البراهين الموروثة عن الحكماء والمتألهين . وقد أشار سبحانه في الآيات التالية إلى شقوق برهان الإِمكان .

فإلى أَنَّ حقيقةَ الممكن ، حقيقةٌ مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً وتحقُّقاً ولا أيَّ شيء آخر ، أشار بقوله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى الله وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (2) .

ومثله قوله سبحانه : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ) (3) .

وقوله سبحانه : ( وَاللَّـهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ) (4) .

وإِلى أنَّ الممكنَ ، ومنه الإِنسان ، لا يتحقق بلا علَّة ، ولا تكون علَّتُهُ نفسَهُ ، أَشار سبحانه بقوله :

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (5) .

وإلى أَنَّ الممكن لا يصح أَنْ يكونَ خالقاً لممكنٍ آخر بالأَصالة والإِستقلال ومن دون الإِستناد إِلى خالق واجب ، أَشار سبحانه بقوله : ( أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ) (6) .

فهذه الآيات ونظائِرُها تستدل على المعارف العقلية ببراهين واضحة ولا تتركها بلا دليل . (7)

سؤال وجواب

السؤال : إنَّ القول بانتهاء الممكنات إلى علة أزلية موجودة بنفسها ، غير مخلوقة ولا متحققة بغيرها ، يستلزم تخصيص القاعدة العقلية ، فإنَّ العقل يحكم بأنَّ الشيء لا يتحقَّق بلا علّة . والواجب في فرض الإِلهيين شيءٌ متحقق بلا علّة ، فلزم نقض تلك القاعدة العقلية .

والجواب علىٰ وجوه :

الأول : إنَّ هذا السؤال مُشْتَرَك بين الإِلۤهي والماديّ ، فكلاهما يعترف بموجود قديم غير متحقق بعلة . فالإِلۤهي يرى ذلك الموجود فوقَ عالَمِ المادةِ والإِمكان ، وأنَّ الممكناتِ تنتهي إليه . والماديُّ يرى ذلك الموجودَ ، المادة الأولى التي تتحول وتتشكل إِلى صور وحالات ، فإنها عنده قديمة متحققة بلا علة . فعلى كلٍّ منهما تجب الإِجابة عن هذا السؤال ولا يختص بالإِلۤهي (8) .

الثاني : إِنَّ القاعدة العقلية تختص بالموجودات الإِمكانية والظواهر المادية فإِنها ـ بما أنَّها مسبوقةٌ بالعدم ـ لا تنفك عن علة تخرجها من كَتْمِ العَدَمِ إلى عالَمِ الوجود . ولولا العلة للزم وجود الممكن بلا علة ، وهو محال .

وأَما الواجب في فرض الإِلهيينَ فهو أزَلِيٌ قديمٌ غيرُ مسبوقٍ بالعدم . وما هذا حاله غني عن العلة لا يتعلق به الجعل والإِيجاد ، فإِنهما من خصائص الشيء المسبوقِ بالعدم ولا يعمّان ما لم يسبِقْهُ العدم أبداً وكان موجوداً في الأزل .

والسائل لم يحلل موضوع القاعدة وزعم أنَّ الحاجة إِلى العلَّة من خصائص الموجود بما هو موجود مع أَنَّها من خصائص الموجود الممكن المسبوق بالعدم ، والواجب خارج عن موضوع القاعدة خروجاً تخصصياً لا تخصيصياً ، والفرق بين الخروجين واضح .

الثالث : إِنَّ القول بانتهاء الممكنات إِلى موجود واجب متحقق بنفسه مقتضى البرهان العقلي الذي يحكم في سائر المجالات . فلا يصح الأَخذ بحكمه في مجال دون مجال .

فالعقل الذي يعترف بقانون العليّة والمعلوليّة يحكم بلزوم انتهاء الموجودات إلى موجود واجب . وقد عبّر الحكماء عن هذه القاعدة بقولهم : « كلُّ ما بالعَرَض لا بدَّ أن ينتهي إلى ما بالذات » . كما استعانوا في توضيحه بأمثلة كثيرة معروفة في محلها ، نحو : إنَّ كلَّ شيء مضاءٌ بالنور ، والنور مضيءٌ بنفسه ، وإنَّ حلاوة الأغذية الحلوة بالسّكر والسكر حُلْوٌ بنفسه ، إلى غير ذلك من التقريبات العرفية .

خاتمة المطاف

قَدْ تَعَرفْتَ على مقدّمات برهان الإِمكان وأنَّ الاستنتاج منه متوقفٌ على امتناع الدور والتسلسل ، ولولا تسليم امتناع هذين الأمرين ، لأصبح القياس عقيماً والبرهان غيرَ منتج . والذي نركز عليه هنا هو أنَّ كلَّ ما استُدِلَّ به على إثبات الصَّانع لا يكونُ منتجاً إلَّا إذا ثبت قَبْلَه امتناع الدور والتسلسل . ولولا هذا التسليم لكانت البراهين ناقصةً ، غير مفيدة .

مثلاً : إِنَّ برهان النظم الذي هو من أَوضح البراهين وأعمِّها لا يكون منتجاً ودالاً على أنَّ للعالَم خالقاً واجباً ، وأنَّ سلسلة الكون منتهيةً إليه ، إلَّا إذا ثبتَ قبلَه امتناعُ الدور والتسلسل . لأَنَّ النظام البديعَ آيةُ كونِه مخلوقاً لعلمٍ وسيعٍ وقدرة فائقة يعجز الإِنسان عن وصفهما وتعريفهما . وأَما كون ذلك العلم واجباً وتلك القدرة قديمة ، فلا يثبتُ بذلك البرهان . إِذ من المحتمل أَنْ يكونَ خالقُ النّظام ممكناً مخلوقاً لموجودٍ آخر وهكذا ، إِما أَنْ يدورَ أوْ يتسلسل . فإِثباتُ كونِ النظامِ وسلسلةِ العللِ والمعاليلِ متوقفةً عند نقطةٍ خاصّة هي واجبةٌ لا ممكنةً ، غنية لا فقيرة ، قائمةٌ بنفسها لا بغيرها ، يحتاج إِلى تسليم امتناع الدور والتسلسل كما هو واضح ، فكأنَّ الـمُسْتَدِلَّ ببرهان النظمِ أو سائرِ البراهين أخذ امتناعهما أصلاً مسلماً عند الاستدلال بها .

الهوامش

1. إنَّ بطلان التسلسل من المسائل المهمة في الفلسفة الإِلۤهية وقد طرحه الفلاسفة في أَسفارهم وأَثبتوا البطلان بحجج كثيرة تناهز العشر . ولكنَّ أَكثرها غيرُ مُقنع لأَنهم استدلوا على البطلان بالبراهين الهندسية التي لا تجري إلا في الامور المتناهية وما ذكرناه من البرهان ، برهان فلسفي محض مقتبس من أصول الحكمة المتعالية التي أَسَّسها صَدْرُ الدين الشّيرازي وأَرْسى قواعدها تلامذة مدرسته وأبرزهم في العصر الأخير سيّدنا الراحل المغفور له العلّامة الطباطبائي قدس سرّه .

2. سورة فاطر : الآية 15 .

3. سورة النجم : الآية 48 .

4. سورة محمد : الآية 38 .

5. سورة الطور : الآية 35 .

6. سورة الطور : الآية 36 .

7. كما أَنَّ فيها دلالة واضحة على أَنَّ التفكّر المنطقيّ مما يتوخَّاه القرآن الكريم ويدعو البشرية إِليه . ولو كانت الفلسفة بمعنى التفكّر الصحيح والبرهنة المبتنية على المدعى ، فقد فتح بابها القرآن الكريم .

8. والعجب أَنَّ الفيلسوف الإِنكليزي « برتراند راسل » زعم اختصاصه بالإِلۤهي وأَنَّ مَنْهَجَه يستلزم وجود الشيء بلا علة وقد عرفت خلافه .

مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 61 ـ 72