الأُفول والغروب يدلّ على وجود مسخّر

طباعة

الأُفول والغروب يدلّ على وجود مسخّر

( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ  إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ). (1)

قبل أن نبيّن هدف هذه الآيات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط تساعد على فهم مفاد هذه الآيات :

1. « الملكوت » و « الملك » تهدفان إلى معنى واحد غير انّه أُضيف إلى الأوّل « الواو والتاء » لأجل المبالغة والتوكيد على غرار « جبروت » و « طاغوت » الذي يرجع أصلهما إلى جبر وطغيان.

وحيث إنّ معنى الملك هو المالكية والحاكمية لذلك فمن الطبيعي أن يكون معنى الملكوت هو ذلك المعنى نفسه مع المبالغة والتأكيد.

وسوف نوضح عند شرح استدلال إبراهيم عليه السلام كيف أبطل الخليل : حكومة الكواكب والشمس والقمر ومشاركتها في تدبير نظام الكون والحياة الإنسانية. وبالتالي أعلن عن اعتقاده بأنّه ليس للكون سوى « مدبّر » واقعي واحد تجري أُمور العالم تحت إرادته خاصّة.

2. استفاد بعض المفسرين من العبارات التالية : « رأى كوكباً ، فلما رأى القمر » وما يماثلهما أنّ إبراهيم عليه السلام قال هذه العبارات عندما وقع نظره ـ لأوّل مرّة ـ على تلك الكواكب إذ أنّه لم يكن قد رآها قبل ذلك.

وتؤيد بعض الروايات هذا الرأي حيث تقول : إنّ أُم إبراهيم عليه السلام أخفته منذ بدء طفولته في الغار ، خوفاً عليه من بطش طاغية زمانه « نمرود » ، وكان هذا أول خروجه من الغار ، والتحاقه بمجتمعه ، وقومه ، وأوّل خطوة له في مطالعة ما حوله والتحقيق فيما يراه.

غير أنّ هاهنا احتمالاً آخر هو أنّ إبراهيم عليه السلام كان قد رأى الشمس والقمر والكواكب من قبل ، ولكنَّه لم ينظر إليها بنظرة الباحث المدقّق ، وكان هذا أوّل مطالعته الباحثة للكون ، وأوّل نظره إلى ما حوله بنظرة المحقق المتأمّل واستفادته هذه المطالب التوحيدية من ذلك.

3. تشهد عبارة ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) أنّ إبراهيم بدأ تحقيقه هذا بين أبناء قومه الذين كانوا يعبدون هذه الكواكب باعتقاد أنّها أرباب وتشهد أنّهم كانوا معه ، في كل المراحل الثلاث من التحقيق ، المذكورة في الآيات ، يرون تحقيقه ، ويشاهدون بحثه ، للوقوف على الرب الحقيقي ويسمعون كلامه طوال ذلك البحث والتأمّل.

ولو كان الأمر على غير هذا لما صح توجيه الخطاب إلى قومه مرّة واحدة فيقول : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ، لأنّ الهدف من جعل قومه موضعاً لخطابه هو ضم قومه إليه في الاعتقاد الصحيح ، ودفعهم إلى ترك الشرك ، وهذا التكليف إنّما يكون صحيحاً إذا سمعوا منطقه وحديثه المبرهن.

4. عندما كانت تقع عينا إبراهيم على الكوكب أو القمر أو الشمس كان يقول : ( هَـٰذَا رَبِّي ).

إنّ هذه الجملة لا تعني ـ بالمرّة ـ وللأدلة التي سنذكرها ، إذعاناً قلبياً بربوبية هذه النجوم بل كان الهدف هو طرح النظرية هذه ليتضح ويوضح ـ بعد ذلك ـ بطلانها أو صحتها.

وهذا أسلوب متعارف وشائع في عمليات البحث والتحقيق العلمي.

فالباحث عن علّة حادثة ما يستعرض في مخيلته جميع الاحتمالات والفروض الواحد تلو الآخر ، ويعمد إلى مطالعة كل واحد من هذه الفروض والاحتمالات فيفترض كونه هو العلة ولو للحظة واحدة ، ولا يتركه إلى غيره ما لم تتضح النتيجة وما لم يثبت بطلان الفرض. فإذا ثبت بطلان الفرض تركه وانتقل إلى دراسة الفرض الآخر ، وهكذا يتحكم نوع من الروح الباحثة على كل هذه الفروض دون أن يكون في البين أيُّ إذعان وتصديق.

هذا مضافاً إلى أنّ قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ... ) يفيد أنّ إبراهيم كان مشمولاً بالعناية الإلهية الخاصة في كل المواقف ، وكان عليه السلام يستمد منه تعالى العون ، والمدد ، وكان الله سبحانه يريد لإبراهيم أن يقف على معنى مالكية الله وحاكميته المطلقة عبر طي مراحل من استعراض مجموعة من الفرضيات عن حاكمية الكواكب والنجوم وإبطالها ، وأن يطمئن ـ من خلال دليل رافع للشك ـ إلى أنّ أمر الإنسان بيد الله وليس بيد هذه الأجرام النورية الأسيرة في قبضة القوانين الطبيعية ، الخاضعة للسنن الكونية.

مع هذا البيان لا يكون قول إبراهيم عليه السلام : ( هَـٰذَا رَبِّي ) بمعنى الإذعان والتصديق القلبي.

وبعبارة أُخرى : كان الله تعالى يريد لإبراهيم أن يكون ـ بمشاهدته لملكوت السماوات والأرض وتعلّق هذه الموجودات بالقدرة الإلهية ـ من الموقنين ، كما صرح بذلك القرآن الكريم بعد أن كان من المؤمنين.

وهذا الكلام لا يعني ـ بالطبع ـ أنّ إبراهيم كان إلى ذلك الحين خالياً من هذا اليقين عارياً عنه. كلا بل كان يعلم بفطرته السليمة أنّ الرب الحقيقي للكون والإنسان هو الله الخالق لا غير ، ولكنّه أُريد له أن يقف على ذلك الأمر الذي كانت الفطرة تدعو إليه عن طريق الاستدلال ، ليزداد يقيناً إلى يقين.

ولم يكن هذا بالأمر الجديد في شأن إبراهيم عليه‌السلام ، بل تكرر منه مثل هذا في أمر المعاد ، وبعث الإنسان والحياة أيضاً.

ولك أن تراجع في هذا الصدد تفسير قوله سبحانه :

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (2).

كل هذا مضافاً إلى أنّ بحث إبراهيم وتحقيقه تم في حين كان قومه مشركين يعبدون تلك الكواكب والنجوم ، فهو كان فيهم وكانوا معه ، وحيث إنّ أحد أهدافه عليه‌السلام في هذا التحقيق كان إرشاد قومه وهدايتهم إلى طريق الحق والصواب ، وذلك يقتضي أن يقبل الموجّه والمرشد الفكرة الباطلة بنحو موقت ثم يعمد إلى إبطالها بالدليل وإقامة البرهان ، لذلك لم يكن بد لإبراهيم من اتخاذ هذا الاسلوب المعقول والمنطقي في الإرشاد والهداية والتوجيه.

5. الظاهر أنّ الآيات المبحوثة تفيد أن إبراهيم عليه السلام قام بجميع مراحل بحثه ـ المذكورة في الآيات ـ تباعاً وفي موقف واحد بحيث طلع القمر على أثر أُفول النجم ، وطلعت الشمس على أثر غياب القمر.

ومثل هذا الفرض أي ملازمة طلوع القمر مع أُفول النجم يحصل ـ في الأكثر ـ مع كون النجم المذكور هو الزهرة.

لأنّ كوكب الزهرة ـ نظراً لضيق مداره ـ لا يمكن أن يبتعد عن الشمس أكثر من 47 درجة ، ولهذا فهو يلازم الشمس دائماً ، وقد يظهر في السماء قبل طلوع الشمس ، ولكن لا يلبث أن يختفي بعيد طلوع الشمس ، وقد يظهر بعد غروب الشمس في جهة المغرب ولا يلبث أن يغيب من الأُفق بسرعة.

فعلى هذا يقارن غروب الزهرة طلوع القمر في النصف الثاني من الشهر في الليالي 17 و 18 و 19.

لأجل هذا لا يستبعد أن يكون المراد بالكوكب المذكور في الآية هو كوكب الزهرة (3).

ذلك مضافاً إلى أنّ الصابئة الذين كانوا يقطنون في العراق وكان النبي إبراهيم يعيش بينهم كانوا ينسبون تدبير الظواهر والحوادث الأرضية إلى السيارات السبع ( ومنها الزهرة ) وكانوا يحترمون هذه الكواكب فقط دون بقية الكواكب ، هذا على العكس من الهندوس الذين كانوا ينسبون تدبير الموجودات والوقائع الأرضية إلى الثوابت من الكواكب ويحترمونها خاصة.

6. تكشف آية : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) عن أنّ مسألة خالقية الله لم تكن موضع بحث وحوار بين إبراهيم وقومه. فهو وقومه ـ أيضاً ـ كانوا يعتقدون بأنّه لا خالق للكون غير الله ، بل كان البحث والجدل يدور حول من هو « مدبّر » الظواهر والحوادث الأرضية ؟

هل هو الله الخالق ؟

أم أنّ بعض أُمور تدبير الموجودات الأرضية قد فوض إلى بعض المخلوقات كما كان يظن ويعتقد قوم إبراهيم في العراق ، ويتصورون أنّ تدبير الحوادث الأرضية فوِّض إلى القمر والشمس وغيرهما من الكواكب ؟

إذن فمصب البحث لم يكن إثبات الصانع ، أو توحيد ذاته تعالى ، أو توحيد الخالقية ، بل كان تعيين « المدبّر » الحقيقي للظواهر الأرضية.

وبتعبير آخر : فإنّ مصب البحث كان هو التوحيد الافعالي ، لأنّ البحث في إرجاع تدبير الكون ، كله أو بعضه ، إلى بعض المخلوقات من فروع التوحيد في الأفعال.

وقد كان قوم إبراهيم عليه السلام مشركين في مسألة التدبير هذه. وكان إبراهيم يريد أن يدعوهم إلى التوحيد في هذه المسألة ويدفعهم إلى الاعتقاد بوحدانية المدبّر.

لهذا السبب جاء في نهاية آية ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ) قوله : ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) تلويحاً إلى أنّه يعتقد بوحدانية المدبّر على خلاف ما عليه أبناء قومه المشركين في قضية التدبير.

7. يستدل إبراهيم بأُفول هذه الأجرام الثلاثة على أنّ هذه الأجرام لا تصلح لأن تكون هي المدبّر لشؤون الأرض وحوادثها ، وعلى الأخص : الإنسان.

وهنا ينطرح سؤال هو : كيف ولماذا استدل الخليل بأُفول هذه الأجرام على عدم كونها مدبّرة ، أو مشاركة في التدبير ؟!

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يتم في صور مختلفة على أنّ كل صورة من هذه الصور مفيدة في حد ذاتها.

هذا بالإضافة إلى أنّ تعدد تفسير منطق إبراهيم في إبطال مدبّرية الكواكب يكشف عن تعدّد أبعاد مفاهيم القرآن وكثرتها ، بحيث يصلح كل بعد منها لفريق من الناس المختلفي المدارك.

وإليك التفسيرات المتعددة المتنوّعة لهذا الاستدلال :

ألف. لمّا كان الهدف من اتخاذ الرب هو أن يبلغ الموجود الضعيف في ظل اتصاله بالقدرة الربانية إلى الكمال المطلوب ، لذلك ينبغي ( بل ويتحتم ) أن يكون هذا الرب والمربي قريباً من مربوبيه بحيث يكون عالماً بأحوالهم مطّلعاً على احتياجاتهم ، ولا يكون بعيداً عنهم ، مفارقاً لهم ، غير حاضر لديهم ولا شاهداً لأوضاعهم.

أمّا ذلك الموجود الذي يكون بعيداً عن مربوبيه ، ساعة أو ساعات ، ويكون نائياً عنهم بالمرة بحيث يحجب عنهم أنواره ، وبركاته ، فكيف يصلح أن يكون مربياً لتلك الموجودات المربوبة ورباً للكائنات الأرضية ؟!

من أجل هذا كان أُفول هذه الكواكب ، وغيبتها علامة على غربتها عن الكائنات الأرضية وانقطاع الصلة بينها وبين هذه الموجودات ، وشاهداً على أنّ لهذه الكائنات مدبّراً غير هذه الكواكب .. مدبّراً عارياً عن أي نقص منزّهاً عن أي عيب.

ب. انّ طلوع وغروب الأجرام السماوية وحركتها المنتظمة في مدارات لا تتغير لدليل قاطع على أنّها خاضعة لموجود آخر فوقها ، وأنّها مسخَّرة لقدرة عليا سخَّرها لإرادته ، وجعلها محكومة لقوانين خاصة تابعة لمشيئته.

ومن المعلوم أنّ المسخَّر لا يمكن أن يكون مدبّراً مطلقاً ، وأنّ الخضوع لقوانين منتظمة آية ضعف هذه الكواكب ، وعلامة واضحة على أنّها لا يمكن أن تحكم على الوجود ، أو تدبّر شؤون الأرض.

وأمّا استفادة الكائنات الأرضية من نور هذه الأجرام فليست دليلاً على ربوبية هذه الأجرام ، بل هي شاهد آخر على أنّ هذه الأجرام تأتمر بأوامر قدرة عليا ، وتخضع لمشيئة مقام أعلى ، وأنّها بالتالي لا تقوم تجاه الأرض إلّا بما حملت من تكاليف.

ج. ما هو الهدف من حركة هذه الموجودات ، ونعني النجوم والكواكب هل الهدف هو السير من النقص إلى الكمال ، أم العكس ؟

أمّا الثاني فليس قابلاً للتصوّر ، وعلى فرض التصوّر فلا معنى لأن يسير « الرب » من الكمال إلى النقص ، والعدم.

إذن لابد أن يكون الأوّل هو الصحيح على حين أنّ ذلك الأمر ، أي السير من النقص إلى الكمال ، أفضل شاهد على وجود مربٍّ آخر ، يوصل هذه الموجودات الضعيفة الناقصة في الحقيقة ، القوية في الظاهر ، إلى مرحلة الكمال الأفضل.

وفي الحقيقة فإنّ ذلك المربّي هو الرب الحقيقي الذي يجر هذه الأجرام وما سواها وما دونها نحو الكمال الذي تسير إليه.

هذا ويمكن تفسير وتصوير استدلال النبي إبراهيم عليه السلام أشكال أُخرى ، بعضها بعيد عن روح استدلاله عليه السلام.

وإليك بعض هذه التفسيرات :

1. انّ الأُفول والغروب في الأجرام والكواكب علامة الحركة.

والحركة ملازمة للتغيّر في المتحرّك.

والتغيّر دليل على حدوث المتحرّك ، لأنّ الموجود المتحرّك يصل بعد الحركة إلى كمال كان فاقداً له قبل ذلك.

لأجل هذا تكون الحركة ملازمة للحدوث.

ومن البيّن أنّ الموجود « الحادث » لكونه غير أزلي ، وغير أبدي لا يمكنه أن يكون رباً.

ونقائص هذا الاستدلال واضحة :

أوّلاً : إذا كان الأُفول والغروب علامة الحدوث ، فإنّ الطلوع والشروق هو أيضاً علامة الحدوث ، فلم استدل الخليل عليه السلام بالأُفول والغروب فقط في حين أنّ الغروب والطلوع من حيث الدلالة على الحدوث سواء ؟!

ثانياً : إذا كان قوم إبراهيم يعتقدون في شأن الأجرام السماوية بأنّها آلهة واجبة الوجود تنتهي إليها سلسلة الممكنات صح أن يقال حينئذ أنّ الحدوث لا يلائم ولا يوافق شأنها قطعاً ، لأنّها في هذا الفرض ، أي كونها آلهة واجبة الوجود تحتل مكان علّة العلل ولابد أن تكون علّة العلل أزلية أبدية.

ولكن قوم إبراهيم كانوا يعتبرون هذه الكواكب مخلوقة لله ، وغاية ما كانوا يعتقدون في حقّها أنّ أمر تربية الموجودات الأرضية وأمر تدبيرها قد فوّض إليها تفويضاً على النحو الذي مر معناهن.

وفي مثل هذه الحالة لايضير الحدوث بها ، كما لا تشترط الأبدية والأزلية في شأنها.

وبناء على هذا لا ربط لطرح مسألة الحدوث وعدم الأبدية والأزلية ببرهان إبراهيم الذي عرضه على قومه.

2. إذا كانت الحركة دليل الحدوث فهي دليل الإمكان أيضاً ، بدليل أنّ كل حادث ممكن أيضاً وكل ممكن لا بد أن ينتهي ـ من حيث الوجود ـ إلى موجود آخر ، منزّه عن صفة الإمكان ، واجب الوجود ـ حسب الاصطلاح العلمي ـ أي غير مستمد وجوده من غيره.

وإشكال هذا الاستدلال بيّن أيضاً : لأنّ قوم إبراهيم لم يعتبروا الكواكب ـ قط ـ إلهاً خالقاً يرتبط به وجود العالم ليكون إمكانه دليلاً على بطلان اعتقادهم وفساد مذهبهم.

3. يعتبر الحكيم صدر المتألّهين استدلال النبي إبراهيم مرتبطاً بإثبات الصانع .. وذهب إلى أنّه ناظر إلى « برهان الحركة » ، وهو البرهان الذي يتوسّل به علماء الطبيعة لأثبات وجود خالق لهذا الكون ، على أساس أنّ الحركة الشاملة في الكون تدلّ على محرّك (4).

فقد تصور صدر المتألّهين لأدلة ثبت بطلانها على أثر الاكتشافات المهمة التي تمت في عالم الفلك والفضاء أنّ حركة الأجرام السماوية لا تعود إلى طبيعتها ، كما أنّ ذلك ليس قسرياً ، إنّما هي حركة نابعة من « شوق وإرادة » في هذه الكواكب والأجرام غير ناشئة عن الغضب أو الشهوة ، لأنّ هذه الأجرام أسمى ـ كما في نظره أي أنّ العالم الطبيعي والناظر في الأجسام الطبيعية يسلك طريق « الحركة » لإثبات وجود الله.

ـ من أن تكون حركتها ناشئة عن الغضب أو الشهوة.

وإذا تبيّـن أنّ حركتها هكذا فلابد أن يكون الغاية التي تتحرك نحوها أمراً قدسياً ، فإن كان ذلك واجب الوجود ثبت بذلك وجود الله الصانع وإن لم يكن كذلك فلابد أن ينتهي إلى واجب الوجود حتماً ، دفعاً للتسلسل والدور.

وهكذا أثبت صدر المتألّهين وجود « الوعي » لدى هذه الأجرام ، واستدل من حركتها على وجود الصانع .. وبذلك تصوّر أنّ استدلال إبراهيم كان لإثبات الصانع.

وإليك نص ما كتبه صدر المتألّهين في كتابه « المبدأ والمعاد » قال :

« وللطبيعيين طريق خاص في الوصول إلى هذا المقصد أي إثبات وجود الصانع وهو أنّهم قالوا في بيانه : إنّ الأجسام الفلكية حركتها ظاهرة ، وهي ليست طبيعية ولا قسرية ، بل نفسانية شوقية لابد لها من غاية.

وإذ ليست الغاية غضبية ولا شهوية لتعاليها عنهما .. ولا الغاية الأجسام التي تحتها أو فوقها .. ولا النفوس التي لشيء منها ـ كما ستطلع على بيان الجميع بالبرهان إن شاء الله ـ.

فتعين أن يكون غايتها أمراً قدسياً مفارقاً عن المادة بالكلية تكون ذا قوة غير متناهية ، لا تكون تحريكاته لها على سبيل الاستكمال .. فإن وجب وجوده فهو المقصود ، وإن لم يجب فينتهي إلى ما يجب وجوده دفعاً للدور التسلسل.

وهذه الطريقة هي التي سلكها واعتمد عليها مقدم المشّائين ، وأُشير إليها في الكتاب الإلهي حكاية عن الخليل » (5).

ولكن هذا الرأي وهذا الاستدلال مضافاً إلى أنّه ثبت بطلانه ـ كما قلنا ـ لبطلان أدلّته ، وثبت أنّ حركة الأجسام الفلكية ليست حركة واعية ، توجيه بعيد عن هدف إبراهيم عليه السلام ، لأنّه ـ كما قيل ـ لم يكن الخليل عليه السلام في مقام إثبات الصانع وإبطال الإلحاد ، بل هو في مقام استنكار الشرك وإبطال فكرة الشريك لله في التدبير.

كلمة أخيرة حول هذه الآيات

وآخر ما يمكن قوله حول هذه الآيات هو أن نقول :

إنّ هذه الآيات تتحدث مباشرة عن محاربة الشرك في التدبير ولكنّها تتعلّق ـ بصورة غير مباشرة ـ بإثبات الصانع أيضاً ، بتقريب أنّ أُفول هذه الكواكب يدلّ على كونها مسخّرة وأنّ هناك مسخّراً هو الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الصورة لا يمكن أن تكون هي مدبّرة ، إنّما التدبير لذلك الخالق الذي خلقها وسخّرها.

وفي هذه الحالة يكون أُفول وغياب هذه الأجرام حين كونها دليلاً على عدم ربوبيتها دليلاً قاطعاً وشاهداً واضحاً على ربوبية مسخّرها ومالك أمرها.

الهوامش

1. الأنعام : 75 ـ 83.

2. البقرة : 260.

3. وقد أثر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ هذا الكوكب كان الزهرة ، من ذلك قول الإمام علي بن موسى أنّ إبراهيم عليه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس ، فلما رأى الزهرة قال هذا ربي على الاستنكار والاستخبار فلما أفل الكوكب قال : لا أحب الآفلين ، لأنّ الأُفول من صفات المحدث لا من صفات القديم.

راجع توحيد الصدوق : 74 ـ 75.

4. من الطبيعي أن يستدل كل فريق بما يناسب تخصّصه العلمي على وجود الله ، وهكذا فعل علماء الطبيعة الذين يبحثون عن خواص المادة وأحوالها ، فهم استدلوا على وجود الله بالحركة فقالوا : لا بد لهذا العالم المتحرّك من محرّك ، ولابد أن ينتهي هذا المحرك إلى محرك غير متحرّك لنتخلص من ورطة الدور والتسلسل ، وفي هذا الصدد يقول الحكيم السبزواري صاحب المنظومة في المنطق والفلسفة :

ثم الطبيعي طريق الحركة

 

يأخذ للحق سبيلاً سلكه

5. المبدأ والمعاد : 11 ، والأسفار : 6 / 44.

مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 139 ـ 151