الجمع في الصلاة

طباعة

الجمع في الصلاة :

لقد أجاز الشرع الحنيف الجمع في صلاة الظهر والعصر ، وكذلك المغرب والعشاء ، وفعل ذلك رسولنا الأكرم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكذلك الصحابة ، إلا أنّه وبعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اختلف المسلمون في ذلك ، وذلك بعد أنْ برزت مسألة الجمع عند أهل البيت وأتباعهم ، فقد أخذ خصوم أهل البيت بمحاربة كلّ ما يظهر ويميّز مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكانت السلطة الحاكمة تفرض على المسلمين ما فيه مخالفة لشيعة أهل البيت عليهم السلام ، حتّى صارت المخالفات بعد تثبيتها وتزويدها بروايات موضوعة ، صارت حقيقة عند العامّة ، ولذلك يسمو غالبا عند العامّة اتّباع أولئك المخالفين على حساب الحكم الشرعي والقرآن والسنّة.

ومن تتبّع ما ذكرت من مسائل وأبحاث في كتابنا هذا ، فإنّه سوف يتبيّن له أنّ الطاعة والاتّباع عند أولئك ليس للقرآن وآياته ، وليس للرسول وتشريعاته ، ولكنّه طاعة أشخاص لم يأمر الله تعالى بطاعتهم ، وهذا هو جوهر الخلاف بين المذهب الحقّ ، وبين المذاهب الأخرى.

ومسألة الجمع في الصلوات من تلك المسائل التي يعترّض عليها العامّة ويشنعون فيها على الشيعة ، مع أنّ كلّ مذاهبهم تجيز الجمع وكتبهم ممتلئة بالأدلّة على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد شرّع الجمع وفعله ، فلماذا الإنكار والجحود ؟.

فالمسألة ليست مختصّة بالشيعة ، بل إنّها من المسائل المقرّرة عند كلّ المذاهب الأخرى ، وإليك بعض من الأحاديث الصحيحة ، وبعض من أقوال علماء العامّة واجتهاداتهم.

روى مسلم في صحيحه ، في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال : جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، بالمدينة ، في غير خوف ولا مطر (1).

( في حديث وكيع ) قال : قلت لابن عبّاس : لمَ فعل ذلك ؟ قال : كي لا يحرج أمّته.

وفي حديث أبي معاوية ، قيل لابن عبّاس : ما أراد إلى ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته.‏ ورواه أبو داود والترمذي وغيرهم كثير ، والحديث بأسانيده المتعدّدة ، ومتونه المختلفة ، مجمع على صحّته ولم ينكره أحد ، ولكنّ بعضهم يقول : إنّه لا يعمل به ، ولا أدري على أيّة قاعدة جرى عدم العمل به.

وروى الترمذي ، عن ابن عبّاس قال : جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. فقيل لابن عبّاس : ما أراد بذلك ؟. قال أراد أن لا يحرج أمّته. قَالَ أَبُو عِيسَى : حَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِن غَيرِ وَجْهٍ : رَوَاهُ جَابِرُ بنُ زَيدٍ ، وَسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ ، وَعَبدُاللهِ ابن شَقِيقٍ العُقَيْلِيُّ (2).

وروي في كنز العمال ، عن عمرو بن شعيب قال : قال عبدالله : جمع لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقيماً غير مسافر بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء فقال رجل لابن عمر : لمَ ترى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك ؟ قال : لأنْ لا يحرج أمّته إنْ جمع رجل (3).

وروى أحمد في مسنده ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال : صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانياً جميعاً ، وسبعاً جميعا ، قلت لابن عبّاس : لمَ فعل ذاك قال : أراد أنْ لا يحرج أمّته (4).‏

وروى مسلم في صحيحه ، عن عبدالله بن شقيق ، قال : خطبنا ابن عبّاس يوماً بعد العصر حتّى غربت الشمس ، وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة ، الصلاة. قال : فجاءه رجل من بني تميم ، لا يفتر ولا ينثني : الصلاة ، الصلاة. فقال ابن عبّاس : أتعلّمني بالسنّة لا أمّ لك ! ثمّ قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء. قال عبدالله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء. فأتيت أبا هريرة ، فسألته ، فصدّق مقالته (5).

وروى مسلم في صحيحه ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : قال رجل لابن عباس : الصلاة ، فسكت ، ثمّ قال : الصلاة ، فسكت ، ثمّ قال : الصلاة ، فسكت ، ثمّ قال : لا أمّ لك ! أتعلّمنا بالصلاة ؟ وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (6).‏

وقال النوويّ في شرح صحيح مسلم قال : وذهب جماعة من الأئمَّة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتَّخذه عادة ، وهو قول ابن سيرين ، وأشهب من أصحاب مالك ، وحكاه الخطَّابيُّ عن القفَّال ، والشاشيّ الكبير من أصحاب الشافعيّ ، عن أبي إسحاق المروزيّ ، عن جماعة من أصحاب الحديث ، واختاره ابن المنذر ، ويؤيِّده ظاهر قول ابن عبَّاس : « أَرَادَ أَنْ لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ » فلم يعلِّله بمرض ولا غيره (7).

وقال في عون المعبود شرح سنن أبي داود عند كلامه « أراد أن لا يحرج أمّته » وقال ابن المنذر : ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار ، لأنّ ابن عبّاس قد أخبر بالعلّة فيه ، وهو قوله : « أراد أن لا يحرج أمته » (8).

وقال في نيل الأوطار : وقد استدلّ بحديث الباب ، القائلون بجواز الجمع مطلقاً ، بشرط أن لا يتّخذ ذلك خلقاً وعادةً. قال في الفتح : وممّن قال به ابن سيرين وربيعة وابن المنذر والقفّال الكبير ، وحكاه الخطّابي عن جماعة من أصحاب الحديث (9).

وكما ترى ، فإنّ كلّ الروايات مطلقة غير مقيّدة لا بسفر ولا بخوف ولا مطر ولا مرض ، وكلّ من حاول تقييد تلك الروايات أو تأويلها بما لا تحتمل ، فإنّ كلّ تلك التقييدات والتأويلات باطلة ؛ لأنّها بدون تخصيص أو تعليل ، وكلّ من فعل ذلك ، فإنّه يجتهد بالرأي مقابل النصّ الواضح ، وهذا لا يجوز ؛ لأنّه تَرْكٌ للسنّة ولفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقريره.

فهل من أنكر الجمع بدون عذر يحاول أنْ يقول لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي لا ينطق ولا يشرّع عن الهوى ، قد فعل الجمع خطأً أو عن الهوى ؟.

وهل الواجب علينا أنْ نلتزم بتلك التأويلات الخاطئة المنبثقة عن الرأي والهوى ، أُم الواجب علينا أنْ نلتزم بفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟. فالمسألة واضحة جليّة ، وهذه الروايات الصحيحة الواضح من عند من ينكر الجمع في الحضر من غير عذر أكثر من أنْ تحصى ، وكلّها صحيحة ، وليست بحاجة لأيّ تأويل أو تقييد.

الهوامش

1. صحيح مسلم 2 : 152 ، سنن أبي داود 1 : 272 ، سسن الترمذي 1 : 121 ، مسند أحمد 1 : 223.

2. سنن الترمذي 1 : 121.

3. كنز العمّال 8 : 246.

4. مسند أحمد 1 : 349.

5. صحيح مسلم 2 : 152 ـ 153.

6. صحيح مسلم 2 : 153.

7. شرح صحيح مسلم 5 : 219.

8. عون المعبود 4 : 56.

9. نيل الأوطار 3 : 264.

مقتبس من كتاب : [ نهج المستنير وعصمة المستجير ] / الصفحة : 467 ـ 471