أدلّة الوحدانيّة

طباعة

1 ـ التعدد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، فلابدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، كما هو الحال في كل مِثْلين .  وذلك يستلزم تركب كل منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به
الاشتراك ، والآخر إلى ما به الامتياز . والمركب بما أنّه محتاج إلى أجزائه لا يكون متصفاً بوجوب الوجود ، بل يكون ـ لأجل الحاجة ـ ممكناً ، وهو خلاف الفرض.

وباختصار : لو كان في الوجود واجبان ، للزم إمكانهما ؛ وذلك أنّهما يشتركان في وجوب الوجود ، فإن لم يتميزا لم تحصل الإثنينية ، وإن تميّزا لزم تركب كل واحد منهما ممّا به المشاركة و ما به الممايزة ، وكل مركب ممكن ، فيكونان ممكنين ، وهذا خلاف الفرض.

2 ـ الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدد

هذا البرهان مؤلف من صغرى و كبرى ، والنتيجة هي وحدة الواجب وعدم إمكان تعدده . وإليك صورة القياس حتى نبرهن على كل من صغراه وكبراه.

وجود الواجب غير متناه.

وكل غير متناه واحد لا يقبل التعدد.

فالنتيجة : وجود الواجب واحدٌ لا يقبل التعدد.

وإليك البرهنة على كل من المقدمتين.

أمّا الصغرى : فإنَّ محدودية الموجود ملازمة لتَلَبُّسه بالعدم . ولأجل تقريب هذا المعنى ، لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص ، فإنك إذا نظرت إلى أي طرف من أطرافه ترى أنّه ينتهي إليه وينعدم بعده . ولا فرق في ذلك بين صغير الموجودات وكبيرها ، حتى أنَّ جبال الهملايا مع عظمتها ، محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حده . وهذه خصيصة كل موجود متناه زماناً أو مكاناً او غير ذلك.

فالمحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.

وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذاته سبحانه محدودة ؛ لأنّ لازم المحدودية الانعدام بعد الحد كما عرفت ، وما هو كذلك لايكون حقاً مطلقاً مائة بالمائة ، بل يلابسه الباطل والانعدام. مع أنَّ الله تعالى هو الحق المطلق الذي لا يدخله باطل.

والقرآن الكريم يصف وجوده سبحانه بالحق المطلق ، وغيره بالباطل ، وما هذا إلا لأَنّ وجود غيره وجود متلبس بالعدم والفناء ، وأمّا وجود الله تعالى فطارد لكل عدم وبطلان . قال عَزّ مِنْ قائل : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) (1).

وبتقرير آخر : إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الأمور التالية :

1 ـ كونُ الشيء محدوداً بالماهية ومزدوجاً بها ؛ فإنّها حد وجود الشيء.

والوجود المطلق بلا ماهية غير محدَّد ولا مقيد ،  وإنّما يتحدد بالماهية.

2 ـ كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتصل ( الزمان ) يحدد وجود الشيء في زمان دون آخر.

3 ـ كون الشيء في حيز المكان ، وهو أيضاً يحدد وجود الشيء ويخصه بمكان دون آخر.

وغير ذلك من أسباب التحديد والتضييق. والله سبحانه وجود مطلق غير محدد بالماهية إذ لا ماهية له ، كما سيوافيك البحث عنه. كما لا يحويه زمان ولا مكان. فتكون عوامل التناهي معدومة فيه ، فلا يتصور لوجوده حد ولا قيد ، ولا يصح
أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر ، أو مكان دون آخر. بل وجوده أعلى وأنْبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

وأمّا الكبرى : فهي واضحة بأدنى تأمل ؛ وذلك لأنّ فرض تعدد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. ولا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميزاً عن الآخر ، والتَّمُيّز يستلزم أن لا
يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس. وهذه هي « المحدودية »  ، وعين « التناهي » ، والمفروض أنّه سبحانه غير محدود ولا متناه.

والله سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود ، يصف نفسه في الذكر الحكيم بـ ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (2). وما ذلك إلا لأَنّ المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإِذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكم فيه الحدود ، فكأن اللامحدودية تلازم وصف القاهرية ، وقد عرفت أنَّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدد .  فقوله سبحانه ، وهو الواحد
القهار ، من قبيل ذكر الشيء مع البينة والبرهان.

قال العلامة ( الطباطبائي ) : « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإِله جلَّ ذكره ؛ فإِنّ هذه الوحدة لا تتم إلّا بتميّز هذا الواحد ، من ذلك الواحد ، بالمحدودية التي تقهره .  مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإِناء الآخر ، وإِنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه ، غير مجتمع معه ، وكذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً ؛ لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، وهذا إنْ دلّ فإنّما يدل على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقق بالمقهورية والمسلوبية أي قاهرية الحدود ، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور ،
وغالباً لا يغلبه شيء لم تتصور في حقه وحدة عددية ، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عندما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلاً على الأُولى ـ قال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (3) ، وقال : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (4) ، وقال : ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (5).

وباختصار : إنَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة ، مقهور بالحد الذي يميز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء ، وهو القاهر فوق كل شيء فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحق لا يعرضه بطلان ، وحي لا يخالطه موت ، وعليم لا يدبّ إليه جهل ، وقادر لا يغلبه عجز ، وعزيز لا يتطرق إليه ظلم ، فله تعالى من كل كمال محضه » (6).

ومن عجيب البيان ما نقل عن الإِمام الثامن ( علي بن موسى الرضا ) ـ عليه السَّلام ـ في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء ، وقال في ضمن تحميده سبحانه:

« لَيْسَ لَهُ حَدٌّ ينتهي إلى حَدِّه ، ولا له مِثْلٌ فيُعرَف مثله » (7).

ترى إِنَّ الإِمام ـ عليه السَّلام ـ بعدما نفى الحد عن الله ، أتى بنفي المِثْل له سبحانه ، لارتباط وملازمة بين اللامحدودية ونفي المثيل ، والتقرير ما قد عرفتَ.

3 ـ صِرف الوجود لا يتثنى ولا يتكرر

إِنَّ هذا البرهان مركب من صغرى وكبرى على الشكل التالي :

الله سبحانه وجود صِرْف.

وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.

فالنتيجة : الله سبحانه واحدٌ لا يتثنِّى ولا يتكرَّر.

أمّا الصغرى فإليك بيانها :

أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده. وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول :  كل ما يقع في أُفق النظر من الموجودات الإمكانية ، فهو مؤلف من وجود هو رمز عينيته في الخارج ، وماهية تحد الوجود ، وتبين مرتبته في عالم الشهود والخارج.

مثلاً : الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا ، لها وجود به تتمثل أمام نظرنا ، ولها ماهية تحددها بحد النباتية ، وتميزها عن الجماد والحيوان. ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم الحيوان. وبذلك تعرف أنّ واقعية الماهية هي واقعية التحديد.  هذا من جانب. ومن جانب آخر ، الماهية إذا لوحظت من حيث هي هي ، فهي غير
الوجود كما هي غير العدم. بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة ، وبالثاني أُخرى ، ويقال :  النبات موجود ، كما يقال : غير موجود. وهذا يوضح أنّ مقام الحد والماهية مقام التخلية عن الوجود والعدم ، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم. ثمّ يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما .  وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم ؛ فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً ـ سواء أكان الوجود جُزْءَه أو عَيْنه ـ يكون الوجود نابعاً من ذاته ، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود ، يمتنع عروض العدم عليه ، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ـ سواء
أكان العدم جزءه أو عينه ـ يكون العدم نفس ذاته ، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود . فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصح كونه معروضاً لأحدهما . وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة : « الماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة ». ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إمّا أنْ
تكون موجودة أو معدومة. فالنبات والحيوان والإنسان في خارج الذهن لا تفارق أحد الوصفين. وبهذا تبين أنَّ اتصاف الماهية بأحد الأَمرين يتوقف على علة ، لكن اتصافها بالوجود يتوقف على علة موجودة ، ويكفي في اتصافها بالعدم ، عدم العلة الموجودة. فاتصاف الماهيات بالأَعدام الأزلية خفيف المؤونة ، بخلاف اتصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علة حقيقية خارجية.

وعلى ضوء هذا البيان يتضح أنّه سبحانه منزَّهٌ عن التحديد والماهية ، وإلّا لزم أنْ يحتاج في اتصاف ماهيته بالوجود إلى علة (8). و ما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً . وهذا يجرّنا إلى القول بأنَّه سبحانه صرف الوجود المنزه عن كل حد.
وأماّ الكبرى فإليك بيانها :

إن كل حقيقة من الحقائق إذا تجردت عن أي خليط ، وصارت صِرفَ الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدد ، من غير فرق بين أن تكون صِرفَ الوجود ، أو تكون وجوداً مقروناً بالماهية كالماء والتراب وغيرهما . فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرر ولا يتعد . فالماء بما هو ماء ، لا يتصور له التعدد إلاّ إذا تعدد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل
التعدد والتميز.

فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف ، و كل شيء صرف ، في هذا الأمر سواسية . فالتعدد وإلاثنَيْنِيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

وعلى هذا ، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهية له ـ وجوداً صِرفاً ، لا يتطرق إليه التعدد ؛ لأنّه فرع التميز ، والتميز فرع وجود غَيْرِيّة فيه ، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه ، فالوجود المطلق والتحقق بلا لون ولا تحديد ، والعاري عن كل خصوصية ومغايرة ، كلما فرضْتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل ، لا شيئاً غيره ، فالله سبحانه ، بحكم الصغرى صِرف الوجود ،
والصِرف لا يتعدد ولا يتثنَّى.  فينتج أنَّ الله سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتعدّد.

 

الهوامش

1. سورة الحج : الآية 62.

2. سورة الرعد : الآية 16.

3. سورة يوسف : الآية 39.

4. سورة ص : الآية 65.

5. سورة الزمر : الآية 4.

6. الميزان : ج 6 ، ص 88 ـ 89 بتلخيص.

7. توحيد الصدوق : ص 33.

8. وهنا يبحث عن العلة ماهي ؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر . فإن كان الأوّل لزم الدور ، وإن كان الثاني لزم التسلسل . والتفصيل يؤخذ من محله . لاحظ الأسفار : ج 1 ، فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.

 

مقتبس من كتاب الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل الجزء 2