الخبر المروي عن المفضل بن عمر في التوحيد المشتهر بالاهليلجة

طباعة

الخبر المروي عن المفضل بن عمر في التوحيد المشتهر بالاهليلجة

حدّثني محرز بن سعيد النحويّ بدمشق قال : حدّثني محمّد بن أبي مسهر (1) بالرملة ، عن أبيه عن جدّه قال : كتب المفضّل بن عمر الجعفيّ إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام يُعلمه أنّ أقواماً ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الربوبيّة ، ويجادلون على ذلك ، ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ، ويحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم. فكتب أبو عبد الله عليه السلام :

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ أمّا بعد وفّقنا الله وإيّاك لطاعته ، وأوجب لنا بذلك رضوانه برحمته ؛ وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملّتنا ، وذلك من قوم من أهل الإلحاد بالربوبيّة قد كثرت عدّتهم واشتدّت خصومتهم ، وتسأل أن أصنع للردّ عليهم والنقض لما في أيديهم كتاباً على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والاختلاف ، ونحن نحمد الله على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصّة والعامّة فكان من نعمه العظام وآلائه الجسام الّتي أنعم بها تقريره قلوبهم بربوبيّته ، وأخذه ميثاقهم بمعرفعته ، وإنزاله عليهم كتاباً فيه شفاء لما في الصدور من أمراض الخواطر ومشتبهات الاُمور ، ولم يدع لهم ولا لشيء من خلقه حاجة إلى من سواه ، واستغنى عنهم ، وكان الله غنيّاً حميداً.

ولعمري ما اُتي الجهّال من قبل ربّهم وأنّهم ليرون الدلالات الواضحات والعلامات البيّنات في خلقهم ، وما يعاينون من ملكوت السماوات والأرض والصنع العجيب المتقن الدالّ على الصانع ، ولكنّهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهّلوا لها سبيل الشهوات ، فغلبت الأهواء على قلوبهم ، واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم ، وكذلك يطبع الله على قلوب المعتدين . والعجب من مخلوق يزعم أنّ الله يخفى على عباده وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله ، وتأليف يبطل حجّته (2) ولعمري لو تفكّروا في هذه الاُمور العظام لعاينوا من أمر التركيب البيّن ، ولطف التدبير الظاهر ، ووجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن ، ثمّ تحوّلها من طبيعة إلى طبيعة ، وصنيعة بعد صنيعة ، ما يدلّهم ذلك على الصانع فإنّه لا يخلو شيء منها من أن يكون فيه أثر تدبير وتركيب يدلّ على أنّ له خالقاً مدبّراً ، وتأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم.

وقد وافاني كتابك ورسمت لك كتاباً كنت نازعت فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار وذلك أنّه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند ، وكان لا يزال ينازعني في رأيه ، ويجادلني على ضلالته ، فبينا هو يوماً يدقّ إهليلجةً ليخلطها دواءاً احتجت (3) إليه من أدويته ، إذ عرض له شيء من كلامه الّذي لم يزل ينازعني فيه من ادّعائه أنّ الدنيا لم تزل ولا تزال شجرة تنبت واُخرى تسقط ، نفس تولد واُخرى تتلف ، وزعم أنّ انتحالي المعرفة لله تعالى دعوى لا بيّنة لي عليها ، ولا حجّة لي فيها ، وأنّ ذلك أمر أخذه الآخر عن الأوَّل ، والأصغر عن الأكبر ، وأنّ الأشياء المختلفة والمؤتلفة والباطنة والظاهرة إنّما تعرف بالحواسّ الخمس : نظر العين ؛ وسمع الاُذن ؛ وشمُّ الأنف ؛ وذوق الفم ؛ ولمس الجوارح ؛ ثمَّ قاد (4) منطقه على الأصل الّذي وضعه فقال : لم يقع شيء من حواسّي على خالق يؤدّي إلى قلبي ، إنكاراً لله تعالى.

ثمَّ قال : أخبرني بِمَ تحتجُّ في معرفة ربّك الذي تصف قدرته وربوبيّته ، وإنّما يعرف القلب الأشياء كلّها بالدلالات الخمس الّتي وصفت لك ؟ قلت : بالعقل الّذي في قلبي ، والدليل الّذي أحتجُّ به في معرفته.

قال : فأنّي يكون ما تقول وأنت تعرف أنّ القلب لا يعرف شيئاً بغير الحواسّ الخمس ؟ فهل عاينت ربّك ببصر ، أو سمعت صوته باُذن ، أو شممتة بنسيم ، أو ذقتة بفم ، أو مسسة بيد فأدّى ذلك المعرفة إلى قلبك ؟ قلت : أرأيت إذ أنكرت الله وجحدته (5) ـ لأنّك زعمت أنّك لا تحسّه بحواسّك الّتي تعرف بها الأشياء ـ وأقررت أنا به هل بدٌّ من أن يكون أحدنا صادقاً والآخر كاذباً ؟ قال : لا.

قلت : أرأيت إن كان القول قولك فهل يخاف عليَّ شيء ممّا اُخوّفك به من عقاب الله ؟ قال : لا.

قلت : أفرأيت إن كان كما أقول والحقّ في يدي ألست قد أخذت فيما كنت اُحاذر من عقاب الخالق بالثقة وأنّك قد وقعت بحجودك وإنكارك في الهلكة ؟ قال : بلى.

قلت : فأيّنا أولى بالحزم وأقرب من النجاة ؟ قال : أنت ، إلّا أنّك من أمرك على ادّعاء وشبهة ، وأنا على يقين وثقة ، لأنّي لا أرى حواسّي الخمس أدركته ، وما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود.

قلت : إنّه لمّا عجزت حواسّك عن إدراك الله أنكرته ، وأنا لمّا عجزت حواسّي عن إدراك الله تعالى صدّقت به.

قال : وكيف ذلك ؟ قلت : لأنّ كلّ شيء جرى فيه أثر تركيب لَجسم ، أو وقع عليه بصر لَلون فما أدركته الأبصار ونالته الحواسّ فهو غير الله سبحانه لأنّه لا يشبه الخلق ، وأنّ هذا الخلق ينتقل بتغيير وزوال ، وكلّ شيء أشبهه التغيير والزوال فهو مثله ، وليس المخلوق كالخالق ولا المحدَث كالمحدِث.

شرح : قوله عليه السلام : والبلاء المحمود عنه الخاصّة والعامّة أي النعمة الّتي يحمدها ويقرُّ بها الخاصُّ والعامُّ لنا وهو العلم ، أو النعم الّتي شملت الخاصَّ والعامَّ كما سيفصّله عليه السلام بعد ذلك. قوله عليه السلام : ما اُتى الجهّال أي ما أتاهم الضرر والهلاك إلّا من قبلهم. قال الفيروزآباديُّ : أتى كعنى أشرف عليه العدوّ. وقال الجزريّ : في حديث أبي هريرة : في العدوى إنّي قلت أتيت . أي دهيت وتغيّر عليك حسّك فتوهّمت ما ليس بصحيح صحيحاً. قوله عليه السلام : استحوذ الشيطان أي غلب واستولى. قوله عليه السلام : وصنيعة أي احسان ، ويحتمل أن يراد بها هنا الخلقة المصنوعة. قوله عليه السلام : لجسم بفتح اللّام أي ألبتّة هو جسم. وكذا قوله : للون .ويدلّ على أنّ التركيب الخارجيّ إنّما يكون في الجسم وأنَّ المبصر بالذات هو اللّون. قوله عليه السلام : أشبه التغيير أي المتغيّر ، أو ذا التغيير بتقدير مضاف.

متن : قال : إنَّ هذا لقول ، ولكنّي لمنكر ما لم تدركه حواسّي فتؤدّيه إلى قلبي ؛ فلمّا اعتصم بهذه المقالة ولزم هذه الحجّة قلت : أمّا إذ أبيت إلّا أن تعتصم بالجهالة ، وتجعل المحاجزة حجّة فقد دخلت في مثل ما عبت وامتثلت ما كرهت ، حيث قلت : إنّي اخترت الدعوى لنفسي لأنَّ كلّ شيء لم تدركه حواسّي عندي بلا شيء.

قال : وكيف ذلك ؟ قلت : لأنّك نقمت على الادِّعاء ودخلت فيه فادّعيت أمراً لم تحط به خبراً ولم تقله علماً فكيف استجزت لنفسك الدعوى في إنكارك الله ، ودفعك أعلام النبوَّة والحجّة الواضحة وعبتها عليَّ ؟ أخبرني هل أحطت بالجهات كلّها وبلغت منتهاها ؟ قال : لا : قلت : فهل رقيت إلى السماء الّتي ترى ؟ أو انحدرت إلى الأرض السفلى فجلت في أقطارها ؟ (6) أو هل خضت في غمرات البحور (7) واخترقت نواحي الهواء فيما فوق السماء وتحتها إلى الارض وما أسفل منها فوجدت ذلك خلاءً من مدبّر حكيم عالم بصير ؟ قال : لا. قلت : فما يدريك لعل الّذي أنكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسّك ولم يحط به علمك.

قال : لا أدري لعلّ في بعض ما ذكرت مدبّراً ، وما أدري لعلّه ليس في شيء من ذلك شيء ! قلت : أمّا إذ خرجت من حدّ الإنكار إلى منزلة الشكّ فإنّي أرجو أن تخرج إلى المعرفة.

قال : فإنّما دخل عليَّ الشكّ لسؤالك إيّاي عمّا لم يحط به علمي ، ولكن من أين يدخل عليَّ اليقين بما لم تدركه حواسّي ؟ قلت : من قبل إهليلجتك هذه.

قال : ذاك إذاً أثبت للحجّة ، لأنّها من آداب الطبّ الّذي اُذعن بمعرفته (8) قلت : إنّما أردت آن آتيك به من قبلها لأنّها أقرب الأشياء إليك ، ولو كان شيء أقرب إليك منها لأتيتك من قبله ، (9) لأنَّ في كلّ شيء أثر تركيب وحكمة ، وشاهداً يدلّ على الصنعة الدالّة على من صنعها ولم تكن شيئاً ، ويهلكها حتّى لا تكون شيئاً. قلت : فأخبرني هل ترى هذه إهليلجة ؟ قال : نعم.

قلت : أفترى غيب ما في جوفها ؟ قال : لا. قلت : أفتشهد أنّها مشتملة على نواة ولا تراها ؟ قال : ما يدريني لعلّ ليس فيها شيء. قلت : أفترى أنّ خلف هذا القشر من هذه الإهليلجة غائب لم تره من لحم أو ذي لون ؟ قال : ما أدري لعلّ ما ثَمَّ غير ذي لون ولا لحم. قلت : أفتقرُّ أنّ هذه الإهليلجة الّتي تسمّيها الناس بالهند موجودة ؟ لاجتماع أهل الاختلاف من الاُمم على ذكرها. قال : ما أدري لعلّ ما اجتمعوا عليه من ذلك باطل ! قلت : أفتقرُّ أنَّ الإهليلجة في أرض تنبت ؟ قال : تلك الأرض وهذه واحدة وقد رأيتها. قلت : أفما تشهد بحضور هذه الإهليلجة على وجود ، ما غاب من أشباهها ؟ قال : ما أدري لعلّه ليس في الدنيا إهليلجة غيرها. فلمّا اعتصم بالجهالة قلت : أخبرني عن هذه الإهليلجة أتقرُّ أنّها خرجت من شجرة ، أو تقول : إنّها هكذا وجدت ؟ قال : لا بل من شجرة خرجت. قلت : فهل أدركت حواسّك الخمس ما غاب عنك من تلك الشجرة ؟ قال : لا. قلت : فما أراك إلّا قد أقررت بوجود شجرة لم تدركها حواسّك. قال : أجل ولكنّي أقول : إنَّ الإهليلجة والأشياء المختلفة (10) شيء لم تزل تدرك ، فهل عندك في هذا شيء تردّ ، به قولي ؟ قلت : نعم أخبرني عن هذه الإهليلجة هل كنت عاينت شجرتها وعرفتها قبل أن تكون هذه الإهليلجة فيها ؟ قال : نعم . قلت : فهل كنت تعاين هذه الإهليلجة ؟ قال : لا. قلت : أفما تعلم أنّك كنت عاينت الشجرة وليس فيها الإهليلجة ، ثمَّ عدت إليها فوجدت فيها الإهليلجة أفما تعلم أنّه قد حدث فيها ما لم تكن ؟ قال : ما أستطيع أن اُنكر ذلك ولكنّي أقول : إنّها كانت فيها متفرّقة . قلت : فأخبرني هل رأيت تلك الإهليلجة الّتي تنبت منها شجرة هذه الإهليلجة قبل أن تغرس ؟ قال : نعم. قلت : فهل يحتمل عقلك أنَّ الشجرة الّتي تبلغ أصلها وعروقها وفروعها ولحاؤها وكلّ ثمرة جنيت ، (11) وورقة سقطت ألف ألف رطل كانت كامنة في هذه الإهليلجة ؟ قال : ما يحتمل هذا العقل ولا يقبله القلب. قلت : أقررت أنّها حدثت في الشجرة ؟ قال : نعم ولكنّي لا أعرف أنّها مصنوعة فهل تقدر أن تقرّرني بذلك ؟ قلت : نعم أرأيت أنّي إن أريتك تدبيراً أتقرُّ أنَّ له مدبّراً ، وتصويراً أنَّ له مصوِّراً ؟ . قال : لا بدّ من ذلك.

قلت : ألست تعلم أنَّ هذه الإهليلجة لحم ركّب على عظم فوضع في جوف متّصل (12) بغصن مركّب على ساق يقوم على أصل فيقوى بعروق من تحتها على جرم متّصل بعض ببعض ؟ قال : بلى. قلت : ألست تعلم أنَّ هذه الإهليلجة مصوّرة بتقدير وتخطيط ، وتأليف و تركيب وتفصيل متداخل بتأليف شيء في بعض شيء ، به طبق بعد طبق وجسم على جسم ولون مع لون ، أبيض في صفرة ، ولين على شديد ، (13) في طبائع متفرّقة ، وطرائق مختلفة ، وأجزاء مؤتلفة مع لحاء تسقيها ، وعروق يجري فيها الماء ، وورق يسترها وتقيها من الشمس أن تحرقها ، ومن البرد أن يهلكها ، والريح أن تذبلها ؟ (14) قال : أفليس لو كان الورق مطبقاً عليها كان خيراً لها ؟ قلت : الله أحسن تقديراً لو كان كما تقول لم يصل إليها ريح يروّحها ، ولا برد يشدّدها ، ولعفنت عند ذلك ، ولو لم يصل إليها حرّ الشمس لما نضجت ، ولكن شمسٌ مرّةً وريحٌ مرَّةً وريحٌ وبردٌ مرَّة قدّر الله ذلك بقوَّة لطيفة ودبّره بحكمة بالغة.

قال : حسبي من التصوير فسّر لي التدبير الّذي زعمت أنّك ترينه. قلت : أرأيت الإهليلجه قبل أن تعقد إذ هي في قمعها ماء بغير نواة ولا لحم ولا قشر ولا لون ولا طعم ولا شدّه ؟ قال : نعم . قلت : أرأيت لو لم يرفق الخالق ذلك الماء الضعيف الّذي هو مثل الخردلة في القلّة والذلّة ولم يقوّه بقوّته ويصوّره بحكمته ويقدّره بقدرته هل كان ذلك الماء يزيد على أن يكون في قمعه غير مجموع بجسم وقمع وتفصيل ؟ فإن زاد زاد ماءاً متراكباً غير مصوّر ولا مخطّط ولا مدبّر بزيادة أجزاء ولا تأليف أطباق . قال : قد أريتنى من تصوير شجرتها وتأليف خلقتها وحمل ثمرتها وزيادة أجزائها وتفصيل تركيبها أوضح الدلالات ، وأظهر البيّنه على معرفة الصانع ولقد صدّقت بانَّ الأشياء مصنوعة ، ولكنّي لا أدري لعلّ الإهليلجة والأشياء صنعت أنفسها ؟ قلت : أولست تعلم أنَّ خالق الأشياء والإهليلجة حكيم عالم بما عاينت من قوَّة تدبيره ؟ قال : بلى. قلت : فهل ينبغي للّذي هو كذلك أن يكون حدثاً ؟ قال : لا. قلت : أفلست قد رأيت الإهليلجة حين حدثت وعاينتها بعد أن لم تكن شيئاً ثمَّ هلكت كأن لم تكن شيئاً ؟ قال : بلى ، وإنّما أعطيتك أنَّ الإهليلجة حدثت ولم أعطك أن الصانع لا يكون حادثاً لا يخلق نفسه. قلت : ألم تعطني أنَّ الحكيم الخالق لا يكون حدثاً ، وزعمت أنَّ الإهيلجة حدثت ؟ فقد أعطيتني أنَّ الإهليلجة مصنوعة ، فهو عزَّوجلَّ صانع الإهليلجة ، وإن رجعت إلى أن تقول : إنَّ الإهليلجة صنعت نفسها ودبّرت خلقها فما زدت أن أقررت بما أنكرت ، ووصفت صانعاً مدبّراً أصبت صفته ، ولكنّك لم تعرفه فسمّيته بغير اسمه. قال : كيف ذلك ؟ قلت : لإنّك أقررت بوجود حكيم لطيف مدبّر ، فلمّا سألتك من هو ؟ قلت : الإهليلجة. قد أقررت بالله سبحانه ، ولكنّك سمّيته بغير اسمه ، ولو عقلت وفكّرت لعلمت أنَّ الإهليلجة أنقص قوَّة من أن تخلق نفسها ، وأضعف حيلةً من أن تدبّر خلقها.

قال : هل عندك غير هذا ؟ قلت : نعم ؛ أخبرني عن هذه الإهليلجة الّتي زعمت أنّها صنعت نفسها ودبّرت أمرها كيف صنعت نفسها صغيرة الخلقة ، صغيرة القدرة ، ناقصة القوَّة ، لا تمتنع أن تكسر وتعصر وتؤكل ؟ وكيف صنعت نفسها مفضولة مأكولة مرّة قبيحة المنظر لا بهاء لها ولا ماء ؟ قال : لأنّها لم تقو إلّا على ما صنعت نفسها أو لم تصنع إلّا ما هويت. قلت : أمّا إذ أبيت إلّا التمادي في الباطل فأعلمني متى خلقت نفسها ودبّرت خلقها قبل أن تكون أو بعد أن كانت ؟ فإن زعمت أنَّ الإهليلجة خلقت نفسها بعد ما كانت فإنَّ هذا لَمن أبين المحال ! كيف تكون موجودة مصنوعة ثمَّ تصنع نفسها مرَّة اُخرى ؟ فيصير كلامك إلى أنّها مصنوعة مرّتين ؛ ولإن قلت : إنّها خلقت نفسها ودبّرت خلقها قبل أن تكون إنَّ هذا من أوضح الباطل وأبين الكذب ! لأنّها قبل أن تكون ليس بشيء فكيف يخلق لا شيء شيئاً ؟ وكيف تعيب قولي : إنَّ شيئاً يصنع لا شيئاً ولا تعيب قولك : إنَّ لا شيء يصنع لا شيئاً ؟ فانظر أيّ القولين أولى بالحقّ ؟ قال : قولك. قلت : فما يمنعك منه ؟ قال : قد قبلته واستبان لي حقّه وصدقه بأنَّ الأشياء المختلفة والإهليلجة لم يصنعن أنفسهنّ ، ولم يدبّرن خلقهنّ ، ولكنّه تعرّض لي أنَّ الشجرة هي الّتي صنعت الإهليلجة لأنّها خرجت منها . قلت : فمن صنع الشجرة ؟ قال : الإهليلجة الاُخرى ! قلت : اجعل لكلامك غاية أنتهي إليها فإمّا أن تقول : هو الله سبحانه فيقبل منك ، وإمّا أن تقول : الإهليلجة فنسألك.

قال : سل. قلت : أخبرني عن الإهليلجة هل تنبت منها الشجرة إلّا بعد ما ماتت وبليت وبادت ؟ قال : لا. قلت : إنَّ الشجرة بقيت بعد هلاك الإهليلجة مائة سنة ، فمن كان يحميها ويزيد فيها ، ويدبّر خلقها ويربّيها ، وينبت ورقها ؟ ما لك بدٌّ من أن تقول : هو الّذي خلقها ، ولإن قلت : الإهليلجة وهي حيّة قبل أن تهلك وتبلى وتصير تراباً ، وقد ربّت الشجرة وهي ميتة أنَّ هذا القول مختلف . قال : لا أقول : ذلك . قلت أفتقرُّ بأنَّ الله خلق الخلق أم قد بقي في نفسك شيء من ذلك ؟ قال : إنّي من ذلك على حدّ وقوف ما أتخلّص إلى أمر ينفذ لي فيه الأمر . قلت : أمّا إذ أبيت إلّا الجهالة وزعمت أنَّ الأشياء لا يدرك إلّا بالحواسّ فإنّي اُخبرك إنّه ليس للحواسّ دلالة على الأشياء ، ولا فيها معرفة إلّا بالقلب ، فإنّه دليلها ومعرّفها الأشياء الّتي تدَّعي أنَّ القلب لا يعرفها إلّا بها.

شرح : قوله عليه السلام : وامتثلت قال الفيروزآباديُّ : امتثل طريقته : تبعها فلم يعدها. قوله : نقمت عليَّ أي عبت وكرهت . قوله : من لحم قال الفيروزآباديّ : لحم كلّ شيء لبّه. قوله تلك الأرض أي أشار إلى الأرض ، وقال اُقرُّ بوجود هذه الأرض الّتي أرى ، والإهليلجة الواحدة الّتي في يدي. قوله : كانت فيها متفرِّقة لعلّه اختار مذهب إنكساغورس ومن تبعه من الدهريّة القائلين بالكمون والبروز ، وأنَّ كلّ شيء كامن ؛ ويؤمي إليه جوابه. قوله عليه السلام : في قمعها قال الفيروزآباديّ : القمع محرّكة : بثرة تخرج في اُصول الأشفار ، وقال : القمع بالفتح والكسر وكعنب : ما التزق بأسفل التمرة والبسرة ونحوهما انتهى . وعلى التقديرين اُستعير لما يبدو من الإهليلجة ابتداءاً في شجرها من القشرة الرقيقة الصغيرة الّتي فيها ماء ، والأوّل أبلغ. قوله عليه السلام : غير مجموع بجسم أي هل كان يزيد بغير أن يضمّ إليه جسم آخر من خارج ، أو قمع آخر مثله ، أو بغير قمعه أي قلعه وتفصيله أي تفريقه ليدخل فيه شيء أو يضمّ إلى شيء. قوله عليه السلام : فإن زاد أي فإن سلم أنّه كان يمكن أن يزيد بطبيعته بغير ما ذكر كانت زيادته ماءاً متراكباً بعضه فوق بعض فقط كما كان أوّلاً لا بتخطيط وتصوير وتدبير وتأليف إذ يحكم العقل بديهة أنّ مثل تلك الأفاعيل المختلفة المنطبقة على قانون الحكمة لا تصدر عن طبيعة عادمة للشعور والإرادة. قوله عليه السلام : فهل ينبغى إشارة إلى ما يحكم به الوجدان من أنَّ من كان على هذا المبلغ من العلم والحكمة والتدبير لا يكون ممكناً محدَثاً محتاجاً في العلم وسائر الاُمور إلى غيره ، إلّا أن يفيض عليه من العالم بالذات ، وهو إقرار بالصانع. قوله : ولم أعطك. غفل الهندي عمّا كان يلزم من اعترافيه. قوله عليه السلام : وإن رجعت أي إن قلت : إنَّ الصانع القديم الحكيم هو طبيعة ، الإهليلجة صنعت هذا الشخص منها فقد أقررت بالصانع وسمّيته الطبيعة ، إذ هي غير حكيم ولا ذات إرادة فقد أقررت بالصانع وأخطأت في التسمية ، أو المراد أنّك بعد الاعتراف بالخالق الحكيم القديم لو قلت : إنّه هذه الإهليلجة فقد أقررت بما أنكرت أي نقضت قولك الأوَّل ، وقلت بالنقيضين ، ولا محمل لتصحيحه إلّا أن تقول : سمّيت ما أقررت به بهذا الاسم وهذا لا يضرّنا بعد ما تيسّرلنا من إقرارك ؛ ويحتمل أن يكون هذا كلاماً على سبيل الاستظهار في المجادلة أي إن تنزّلنا عمّا أقررت به من قدم الحكيم وحدوث الإهليجة يكفينا إقرارك بكون الخالق حكيماً ، إذ معلوم أنّها ليست كذلك ، فقد سمّيت الصانع الحكيم بهذا الاسم. قوله عليه السلام : مفضولة إذ ظاهر أنَّ كثيراً من المخلوقات أفضل وأشرف منها. قوله عليه السلام : هو الّذي خلقها أي لا بدّ أن يكون مربّيها هو خالقها ، فإن قلت : إنَّ الخالق والمربّي واحد وهي الإهليلجة خلقت عند كونها حيّة ، وربّت بعد موتها فالقول مختلف إذ خلقها تدريجيٌّ ، وعند خلق أيّ مقدار من الشجرة لا بدّ من انقلاب بعضها شجرة فلم تكن الإهليلجة باقية بعد تمام خلق ذلك المقدار ، والخلق والتربية ممزوجان لا يصلح القول بكونها حيّة عند أحدهما ميتة عند الآخر ؛ ويحتمل أن يكون المراد أنّ القول بأنَّ الخالق والمربّي واحد والقول بأنَّ الإهليلجة بعد موتها ربّت متنافيان ؛ لأنَّ موتها عبارة عن استحالتها بشيء آخر ، فالمربّي شيء آخر سوى الإهليلجة . وفي بعض النسخ : وقد رأيت الشجرة. قوله : ما أتخلّص أي ما أصل إلى أمر يجري فيه أمرى أي حكمي ، ويمكنني أن أحكم بصحّته. ثمَّ لمّا علم عليه السلام أنَّ سبب توقّفه اقتصاره على حكم الحواسّ بيّن عليه السلام أنَّ الحواسّ داخلة تحت حكم العقل ، ولا بدّ من الرجوع إلى العقل في معرفة الأشياء.

متن : فقال : أمّا إذ نطقت بهذا فما أقبل منك إلّا بالتخليص والتفحّص منه بإيضاح وبيان وحجّة وبرهان. قلت : فأوَّل ما أبدأ به أنّك تعلم أنّه ربّما ذهب الحواسّ ، أو بعضها ودبّر القلب الأشياء الّتي فيها المضرَّة والمنفعة من الاُمور العلانية والخفيّة فأمر بها ونهى فنفذ فيها أمره وصحّ فيها قضاؤه.

قال : إنّك تقول في هذا قولاً يشبه الحجّة ، ولكنّي اُحبُّ أن توضحه لي غير هذا الإيضاح. قلت : ألست تعلم أنَّ القلب يبقى بعد ذهاب الحواسّ ؟ قال : نعم ولكن يبقى بغير دليل على الأشياء الّتي تدلّ عليها الحواسّ. قلت : أفلست تعلم أنَّ الطفل تضعه اُمّه مضغة ليس تدلّه الحواسّ على شيء يسمع ولا يبصر ولا يذاق ولا يلمس ولا يشمّ ؟ قال : بلى. قلت : فأيّة الحواسّ دلّته على طلب اللّبن إذا جاع ، والضحك بعد البكاء إذا روى من اللّبن ؟ وأيّ حواسّ سباع الطير ولاقط الحبّ منها دلّها على أن تلقي بين أفراخها اللّحم والحبّ فتهوى سباعها إلى اللّحم ، والآخرون إلى الحبّ ؟ وأخبرني عن فراخ طير الماء ألست تعلم أنّ فراخ طير الماء إذا طرحت فيه سبحت ، وإذا طرحت فيه فراخ طير البرّ غرقت والحواسُّ واحدة : فكيف انتفع بالحواسّ طير الماء وأعانته على السباحة ولم تنتفع طير البرّ في الماء بحواسّها ؟ وما بال طير البرّ إذا غمستها في الماء ساعة ماتت وإذا أمسكت طير الماء عن الماء ساعة ماتت ؟ فلا أرى الحواسّ في هذا إلّا منكسرة عليك ، ولا ينبغي ذلك أن يكون إلّا من مدبّر حكيم جعل للماء خلقاً وللبرّ خلقاً.

أم أخبرني ما بال الذرَّة الّتي لا تعاين الماء قطّ تطرح في الماء فتسبح ، وتلقى الإنسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال وأعقلهم لم يتعلّم السباحة فيغرق ؟ كيف لم يدلّه عقله ولبّه وتجاربه وبصره بالأشياء مع اجتماع حواسّه وصحّتها أن يدرك ذلك بحواسّه كما أدركته الذرَّة إن كان ذلك إنّما يدرك بالحواسّ ؟ أفليس ينبغي لك أن تعلم أنَّ القلب الّذي هو معدن العقل في الصبيّ الّذي وصفت وغيره ممّا سمعت من الحيوان هو الّذي يهيّج الصبيّ إلى طلب الرضاع ، والطير اللّاقط على لقط الحبّ ، والسباع على ابتلاع اللّحم ؟.

قال : لست أجد القلب يعلم شيئاً إلّا بالحواسّ ! قلت : أمّا إذ أبيت إلّا النزوع إلى الحواسّ فإنّا لنقبل نزوعك إليها بعد رفضك لها ، ونجيبك في الحواسّ حتّى يتقرّر عندك أنّها لا تعرف من سائر الأشياء إلّا الظاهر ممّا هو دون الربّ الأعلى سبحانه وتعالى ، فأمّا ما يخفى ولا يظهر فليست تعرفه ، وذلك أنّ خالق الحواسّ جعل لها قلباً احتجّ به على العباد ، وجعل للحواسّ الدلالات على الظاهر الّذي يستدلّ بها على الخالق سبحانه ، فنظرت العين إلى خلق متّصل بعضه ببعض فدلّت القلب على ما عاينت ، وتفكّر القلب حين دلّته العين على ما عاينت من ملكوت السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد يرى ، ولا دعائم تمسكها لا تؤخّر مرّة فتنكشط ، ولا تقدّم اُخرى فتزول ولا تهبط مرّة فتدنو ، ولا ترتفع اُخرى فتنأى ، (15) لا تتغيّر لطول الأمد ولا تخلق (16) لاختلاف اللّيالي والأيّام ، ولا تتداعى منها ناحية ، ولا ينهار منها طرف ، مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيرها لدوران الفلك ، وتنقّلها في البروج يوماً بعد يوم ، وشهراً بعد شهر وسنة بعد سنة ، منها السريع ، ومنها البطيىء ، ومنها المعتدل السير ، ثمَّ رجوعها واستقامتها ، وأخذها عرضاً وطولاً ، وخنوسها عند الشمس وهي مشرقة وظهورها إذا غربت ، وجري الشمس والقمر في البروج دائبين لا يتغيّران في أزمنتهما وأوقاتهما يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع وأمر معلوم بحكمة يعرف ذووا الألباب أنّها ليست من حكمة الإنس ، ولا تفتيش الأوهام ، ولا تقليب التفكّر ، فعرف القلب حين دلّته العين على ما عاينت أنَّ لذلك الخلق والتدبير والأمر العجيب صانعاً يمسك السماء المنطبقة أن تهوى إلى الأرض وأنَّ الّذي جعل الشمس والنجوم فيها خالق السماء ، ثمَّ نظرت العين إلى ما استقلّها من الأرض فدلّت القلب على ما عاينت فعرف القلب بعقله أنَّ ممسك الأرض الممتدّة (17) أن تزول أو تهوى في الهواء ـ وهو يرى الريشة يرمى بها فتسقط مكانها وهي في الخفّة على ما هي عليه ـ هو الّذي يمسك السماء الّتي فوقها ، وأنّه لولا ذلك لخسفت بما عليها من ثقلها وثقل الجبال والأنام والأشجار والبحور والرمال ، فعرف القلب بدلالة العين أنّ مدبّر الأرض هو مدبّر السماء. ثمَّ سمعت الاُذن صوت الرياح الشديدة العاصفة واللّيّنة الطيّبة ، وعاينت العين ما يقلع من عظام الشجر ويهدم من وثيق البنيان ، وتسفى (18) من ثقال الرمال ، تخلّى منها ناحية وتصبّها في اُخرى ، بلا سائق تبصره العين ، ولا تسمعه الاُذن ، ولا يدرك بشيء من الحواسّ ، وليست مجسّدة تلمس ولا محدودة تعاين ، فلم تزد العين والاُذن وسائر الحواسّ على أن دلّت القلب أنَّ لها صانعاً ، وذلك أنَّ القلب يفكّر بالعقل الّذي فيه ، فيعرف أنَّ الريح لم تتحرّك من تلقائها وأنّها لو كانت هي المتحرّكة لم تكفف عن التحرّك ، ولم تهدم طائفة وتعفّي اُخرى ، (19) ولم تقلع شجرة وتدع اُخرى إلى جنبها ، ولم تصبّ أرضاً وتنصرف عن اُخرى فلمّا تفكّر القلب في أمر الريح علم أنَّ لها محرِّكاً هو الّذي يسوقها حيث يشاء ، ويسكنها إذا شاء ويصيب بها من يشاء ، ويصرفها عمّن يشاء ، فلمّا نظر القلب إلى ذلك وجدها متّصلة بالسماء ، وما فيها من الآيات فعرف أنَّ المدبّر القادر على أن يمسك الأرض والسماء هو خالق الريح ومحرِّكها إذا شاء وممسكها كيف شاء ، ومسلّطها على من يشاء. وكذلك دلّت العين والاُذن القلبَ على هذه الزلزلة ، وعرف ذلك بغيرهما من حواسّه حين حركته فلمّا دلّ الحواسُّ على تحريك هذا الخلق العظيم من الأرض في غلظها وثقلها ، وطولها وعرضها وما عليها من ثقل الجبال والمياه والأنام وغير ذلك ، وإنّما تتحرّك في ناحية ولم تتحرّك في ناحية اُخرى (20) وهي ملتحمة جسداً واحداً ، وخلقاً متّصلاً بلا فصل ولا وصل ، تهدم ناحية وتخسف بها وتسلم اُخرى ؛ فعندها عرف القلب أنَّ محرِّك ما حرِّك منها هو ممسك ما اُمسك منها ، وهو محرّك الريح وممسكها ، وهو مدبّر السماء والأرض وما بينهما ، وأنَّ الأرض لو كانت هي المزلزلة لنفسها لما تزلزلت ولما تحرّكت ، ولكنّه الّذي دبّرها وخلقها حرّك منها ما شاء. ثمَّ نظرت العين إلى العظيم من الآيات من الحساب المسخّر بين السماء والأرض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشيء من الأرض والجبال ، يتخلّل الشجرة فلا يحرّك منها شيئاً ، ولا يهصر منها غصناً ، ولا يعلّق منها بشيء يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ، ويحتمل من ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته ، مع ما فيه من الصواعق الصادعة ، والبروق اللّامعة ، والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الأوهام صفته ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه ، فيخرج مستقلّاً في الهواء يجتمع بعد تفرّقه (21) ويلتحم بعد تزايله ، تفرِّقه الرياح (22) من الجهات كلّها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربّها ، يسفل مرّة ويعلو اُخرى ، متمسّك بما فيه من الماء الكثير الّذي إذا أزجاه (23) صارت منه البحور ، يمرّ على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة ، (24) حتّى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرةً بعد قطرة ، وسيلاً بعد سيل ، متتابع على رسله حتّى ينقع البرك (25) وتمتلي الفجاج ، وتعتلي الأودية بالسيول كأمثال الجبال غاصّة بسيولها ، مصمخة الآذان لدويّها وهديرها (26) فتحيى بها الأرض الميتة فتصبح مخضرّة بعد أن كانت مغبرّة ، ومعشّبة بعد أن كانت مجدبة ، قد كسيت ألواناً من نبات عشب ناضرة زاهرة مزيّنة معاشاً للناس والأنعام ، فإذا أفرغ الغمام ماءه أقلع وتفرَّق وذهب حيث لا يعاين ولا يدرى أين توارى ، فأدّت العين ذلك إلى القلب فعرف القلب أنَّ ذلك السحاب لو كان بغير مدبّر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء ، وإن كان هو الّذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر ، ولأرسله فيما هو أقرب من ذلك ، ولما أرسله قطرة بعد قطرة ، بل كان يرسله إرسالاً فكان يهدم البنيان ويفسد النبات ، ولما جاز إلى بلد وترك آخر دونه ؛ فعرف القلب بالأعلام المنيرة الواضحة أنَّ مدبّر الاُمور واحد ، وأنّه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلاف في التدبير وتناقض في الاُمور ولتأخّر بعض وتقدّم بعض ولكان تسفّل بعض ما قد علا ، ولعلا بعض ما قد سفل ، ولطلع شيء وغاب فتأخّر عن وقته أو تقدّم ما قبله فعرف القلب بذلك أنَّ مدبّر الأشياء ما غاب منها وما ظهر هو الله الأوَّل ، خالق السماء وممسكها ، وفارش الأرض وداحيها ، وصانع ما بين ذلك مما عدّدنا وغير ذلك ممّا لم يحص.

وكذلك عاينت العين اختلاف اللّيل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرّهما ، ولا يتغيّران لكثرة اختلافهما ، ولا ينقصان عن حالهما ، النهار في نوره وضيائه ، واللّيل في سواده وظلمته ، يلج أحدهما في الآخر حتّى ينتهي كلّ واحد منهما إلى غاية محدودة معروفة في الطول والقصر على مرتبة واحدة ومجرى واحد ، مع سكون من يسكن في اللّيل ، وانتشار من ينتشر في اللّيل ، وانتشار من ينتشر في النهار ، وسكون من يسكن في النهار ، ثمَّ الحرّ والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخر حتّى يكون الحرّ برداً ، والبرد حرّاً في وقته وإبّانه ، فكلّ هذا ممّا يستدلّ به القلب على الربّ سبحانه وتعالى ، فعرف القلب بعقله أنَّ من دبّر هذه الأشياء هو الواحد العزيز الحكيم الّذي لم يزل ولا يزال ، وأنَّه لو كان في السماوات والأرضين آلهة معه سبحانه لذهب كلّ إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ، ولفسد كلّ واحد منهم على صاحبه.

وكذلك سمعت الأذن ما أنزل المدبِّر من الكتب تصديقاً لما أدركته القلوب بعقولها ، وتوفيق الله إيّاها ، وما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك فأدّت الاُذن ما سمعت من اللّسان بمقالة الأنبياء إلى القلب.

شرح : قوله عليه السلام : ربّما ذهب الحواسّ إمّا بالنوم كما سيأتي أو بآفة فإنَّ العقل لا محالة يدلّه على أن يشير إلى بعض ما يصلحه ، ويطلب ما يقيمه بأيّ وجه كان ، على أنَّ ذهاب الحواسّ الخمس لا ينافي بقاء النطق. قوله عليه السلام : إلّا النزوع إلى الحواسّ أي الاشتياق إليها ، والحاصل أنّا نوافقك ونستدلّ لك بما تدلّ عليه الحواسّ ؛ وإن كنت رفضتها وتركيتها وسلّمت فيها مضى كونها معزولة عن بعض الأشياء فنقول : إنَّ حكم العقل بوجود الصانع إنّما هو من جهة ما دلّته الحواسُّ عليه ممّا نشاهده من آثار صنعه تعالى. قوله عليه السلام : فتنكشط الانكشاط : الانكشاف. وقوله تعالى : وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (27) أي قلعت كما يقلع السقف ، ولعلّ المراد بالتأخّر تأخّر ما يحاذي رؤوسنا بحيث يرى ما وراءه ، وبالتقدّم أن يتحرّك جميعها حركة أينيّة حتّى يخرج من بينها ، ويحتمل أن يكون المراد فيهما معاً إمّا الأوَّل أو الثاني ، ويكون التعبير عن أحدهما بالانكشاط وعن الآخر بالزوال لمحض تفنّن العبارة ، وعلى التقادير المراد بالزوال الزوال عنّا وعن محاذتنا. قوله عليه السلام : ولا يتداعى قال الجوهريّ : تداعت الحيطان للخراب أي تهادمت. وقال : انهار أي انهدم قوله عليه السلام : ثمَّ رجوعها إشارة إلى ما يعرض للمتحيّرة من الرجعة والاستقامة والإقامة. وقوله عليه السلام : وأخذها عرضاً وطولاً إشارة إلى كونها تارة عن جنوب المعدّل ، وتارة عن شمالها ، وكون بعضها تارة عن جنوب منطقة البروج وتارة عن شمالها ، وإلى حركة المائل في السفليّين وعرض الوراب والانحراف والاستواء فيهما ، (28) وإلى ميل الذروة والحضيض في المتحيّرة. وخنوسها : غيبتها واستتارها تحت شعاع الشمس. قوله عليه السلام : المنطبقة أي المحيطة بجميع الخلق ، وفي بعض النسخ المظلّة. واستقلّها أي حملها ورفعها. قوله عليه السلام : متّصلة بالسماء أي داخلة في ذلك النظام شبيهة بها فيه. قوله عليه السلام : يلمس بشيء لعلّ المراد الاصطكاك الّذي يحصل منه صوت ، وفي بعض النسخ كشيء ، ويحتمل أن يكون تصحيف يشبه بشيء. وقال الفيروزآبادىّ : الهصر : الجذب. والإمالة. والكسر. والدفع. والإدناء. وعطف شيء رطب كغصن ونحوه وكسره من غير بينونة. وقال : الجليد : ما يسقط على الأرض من الندى فيجمد. انتهى. وقوله عليه السلام : أزجاه أي دفعه. والرسل بالكسر : التأنّي والرفق. وينقع بالياء على المعلوم أو بالتاء على المجهول. والبرك كعنب جمع بركة وهي معروفة. والفجاج بالضمّ : الطريق الواسع بين جبلين ، وبالكسر جمع الفجّ بمعناه. والاعتلاء : الارتفاع. وقوله عليه السلام : غاصّة أي ممتلئة. والمصمخة لعلّها مشتقّة من الصماخ أي تؤدّي الصماخ ؛ والأظهر مصمّمة. قوله عليه السلام : من نبات بالإضافة على أن يكون مصدراً ، أو بالتنوين ليكون عشب بدل بعض له. والإقلاع عن الأمر : الكّفّ عنه. والكرّ : الرجوع. قوله عليه السلام : مع سكون من يسكن في اللّيل أي جعل في معظم المعمورة طول كلّ منهما وقصره على حدّ محدود لا يتجاوزه لئلّا تفوت مصلحة كلّ منهما من السكون في اللّيل والانتشار في النهار ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أصل الحكمة في حصول اللّيل والنهار. قوله عليه السلام : وانتشار من ينتشر في اللّيل كالخفّاش والبعوضة وسائر ما ينتشر في اللّين من الهوامّ ، وكالخائف والمسافر الّذي تصلحه حركة اللّيل. قوله : إذاً لذهب أي لو كان معه آلهة كما يقولون لذهب كلُّ إله منهم بما خلقه واستبدّ به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ؛ ووقع بينهم التجاذب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا إذ يستحيل كونهما واجبين كاملين وهذا شأن الناقص ؛ ويحتمل أن يكون الغرض نفي الآلهة الناقصة الممكنة الّتي جعلوها شريكاً للواجب تعالى شأنه ؛ وسيأتي الكلام فيه في باب التوحيد. وفي بعض النسخ هكذا : « ولعلا بعضهم على بعض ، ولأفسد كلُّ واحد منهم على صاحبه ، وكذلك سمعت الاُذن ما أنزل الله من كتبه على ألسن أنبيائه تصديقاً لما أدركته العقول بتوفيق الله إيّاها وعونه لها إذا أرادت ما عنده أنّه الأوَّل لا شبيه له ، ولا مثل له ، ولا ضدّ له ، ولا تحيط به العيون ، ولا تدركه الأوهام كيف هو لأنّه لا كيف له وإنّما الكيف للمكيّف المخلوق المحدود المحدَث غير أنّا نوقن أنّه معروف بخلقه موجود بصنعه فتبارك الله وتعالى اسمه لا شريك له فعرف القلب بعقله أنّه لو كان معه شريك كان ضعيفاً ناقصاً ، ولو كان ناقصاً ما خلق الإنسان ولاختلفت التدابير وانتقضت الاُمور ، مع النقص الّذي يوصف به الأرباب المتفرّدون والشركاء المتعانتون . قال : قد أتيتني ».

متن : فقال : قد أتيتني من أبواب لطيفة بما لم يأتني به أحد غيرك إلّا أنّه لا يمنعني من ترك ما في يدي إلّا الإيضاح والحجّة القويّة بما وصفت لي وفسّرت . قلت : أمّا إذا حجبت عن الجواب (29) واختلف منك المقال فسيأتيك من الدلالة من قبل نفسك خاصّة ما يستبين لك أنَّ الحواسّ لا تعرف شيئاً إلّا بالقلب ؛ فهل رأيت في المنام أنّك تأكل وتشرب حتّى وصلت لذَّة ذلك إلى قلبك ؟ قال : نعم . قلت : فهل رأيت أنّك تضحك وتبكي وتجول في البلدان الّتي لم ترها والّتي قد رأيتها حتّى تعلم معالم ما رأيت منها ؟ قال : نعم ما لا اُحصي. قلت : هل رأيت أحداً من أقاربك من أخ أو أب أو ذي رحم قد مات قبل ذلك حتّى تعلمه وتعرفه كمعرفتك إيّاه قبل أن يموت ؟ قال : أكثر من الكثير. قلت : فأخبرني أيّ حواسّك أدرك هذه الأشياء في منامك حتّى دلّت قلبك على معاينة الموتى وكلامهم ، وأكل طعامهم ، والجولان في البلدان ، والضحك والبكاء وغير ذلك ؟ قال : ما أقدر أن أقول لك أيّ حواسّي أدرك ذلك أو شيئاً منه ، وكيف تدرك وهي بمنزلة الميّت لا تسمع ولا تبصر ؟ قلت : فأخبرني حيث استيقظت ألست قد ذكرت الّذي رأيت في منامك تحفظه وتقصّه بعد يقظتك على إخوانك لا تنسى منه حرفاً ؟ قال : إنّه كما تقول وربّما رأيت الشيء في منامي ثمَّ لا أمسي حتّى أراه في يقظتي كما رأيته في منامي. قلت : ;فأخبرني أيّ حواسّك قرّرت علم ذلك في قلبك حتّى ذكّرته بعد ما استيقظت ؟ قال : إنَّ هذا الأمر ما دخلت فيه الحواسّ . قلت : أفليس ينبغي لك أن تعلم حيث بطلت الحواسّ في هذا أنَّ الّذي عاين تلك الأشياء وحفظها في منامك قلبك الّذي جعل الله فيه العقل الّذي احتجّ به على العباد ؟ قال : إنَّ الّذي رأيت في منامي ليس بشيء إنّما هو بمنزلة السراب الّذي يعاينه صاحبه وينظر إليه لا يشكُّ فيه أنّه ماء فإذا انتهى إلى مكانه لم يجده شيئاً فما رأيت في منامي فبهذه المنزلة !.

قلت : كيف شبّهت السراب بما رأيت في منامك من أكلك الطعام الحلو والحامض ، وما رأيت من الفرح والحزن ؟ قال : لأنَّ السراب حيث انتهيت إلى موضعه صار لا شيء ، وكذلك صار ما رأيت في منامي حين انتبهت ! قلت : فأخبرني إن أتيتك بأمر وجدت لذَّته في منامك وخفق لذلك قلبك ألست تعلم أنَّ الأمر على ما وصفت لك ؟ قال : بلى.

قلت : فأخبرني هل احتلمت قطّ حتّى قضيت في امرأة نهمتك (30) عرفتها أم لم تعرفها ؟ قال : بلى ما لا اُحصيه. قلت : ألست وجدت لذلك لذَّةً على قدر لذَّتك في يقظتك فتنتبه وقد أنزلت الشهوة حتّى تخرج منك بقدر ما تخرج منك في اليقظة ، هذا كسر لحجّتك في السراب. قال : ما يرى المحتلم في منامه شيئاً إلّا ما كانت حواسّه دلّت عليه في اليقظة. قلت : ما زدت على أن قوّيت مقالتي ، وزعمت أنَّ القلب يعقل الأشياء ويعرفها بعد ذهاب الحواسّ وموتها فكيف أنكرت أنَّ القلب يعرف الأشياء وهو يقظان مجتمعة له حواسّه ، وما الّذي عرّفه إيّاها بعد موت الحواسّ وهو لا يسمع ولا يبصر ؟ ولكنت حقيقاً أن لا تنكر له المعرفة وحواسّه حيّة مجتمعة إذا أقررت أنَّه ينظر إلى الامرأة بعد ذهاب حواسّه حتّى نكحها وأصاب لذَّته منها ؛ فينبغي لمن يعقل حيث وصف القلب بما وصفه به من معرفته بالأشياء والحواسُّ ذاهبة أن يعرف أنَّ القلب مدبّر الحواسّ ومالكها ورائسها (31) والقاضي عليها ، فإنّه ما جهل الإنسان من شيء فما يجهل أنّ اليد لا تقدر على العين أن تقلعها ، ولا على اللّسان أن تقطعه ، وأنّه ليس يقدر شيء من الحواسّ أن يفعل بشيء من الجسد شيئاً بغير إذن القلب ودلالته و تدبيره لأنَّ الله تبارك وتعالى جعل القلب مدبّراً للجسد ، به يسمع وبه يبصر وهو القاضي والأمير عليه ؛ لا يتقدّم الجسد إن هو تأخّر ، ولا يتأخّر إن هو تقدّم ، وبه سمعت الحواسّ وأبصرت ، إن أمرها ائتمرت ، وإن نهاها انتهت ، وبه ينزل الفرح والحزن ، وبه ينزل الألم ، إن فسد شيء من الحواسّ بقي على حاله ، وإن فسد القلب ذهب جميعاً حتّى لا يسمع ولا يبصر.

قال : لقد كنت أظنّك لا تتخلّص من هذه المسألة وقد جئت بشيء لا أقدر على ردّه قلت : وأنا اُعطيك تصاديق ما أنبأتك به وما رأيت في منامك في مجلسك الساعة . قال : افعل فإنّي قد تحيّرت في هذه المسألة. قلت : أخبرني هل تحدّث نفسك من تجارة أو صناعة أو بناء أو تقدير شيء وتأمر به إذا أحكمت تقديره في ظنّك ؟ قال : نعم. قلت : فهل أشركت قلبك في ذلك الفكر شيئاً من حواسّك ؟ قال : لا. قلت : أفلا تعلم أنَّ الّذي أخبرك به قلبك حقٌّ ؟ قال : اليقين هو ؛ فزدني ما يذهب الشكّ عنّي ويزيل الشبه من قلبي.

شرح : خفق القلب : اضطرابه. والنهمة : بلوغ الهمّة في الشيء ، والنهم بالتحريك إفراط الشهوة في الطعام. أقول : قد عرفت أنَّ القلب يطلق في مصطلح الأخبار على النفس الناطقةَ ، ولمّا كان السائل منكراً لإدراك ما سوى الحواسّ الظاهرة نبّهه عليه السلام على خطائه بمدركات الحواسّ الباطنة الّتي هي آلات النفس.

أقول : ذكر السيّد ابن طاووس قدّس الله روحه في كتاب النجوم من هذه الرسالة جملة ليست فيما عندنا من النسخ فلنذكرها :

« قلت : أخبرني هل يعرف أهل بلادك علم النجوم ؟ قال : إنّك لغافل عن علم أهل بلادي بالنجوم ! قلت : وما بلغ من علمهم بها ؟ فقال : إنّا نخبرك عن علمهم بخصلتين تكتفي بهما عمّا سواهما. قلت : فأخبرني ولا تخبرني إلّا بحقّ. قال بديني لا اُخبرك إلّا بحقّ وبما عاينت. قلت : هات.

قال : أمّا إحدى الخصلتين فإنّ ملوك الهند لا يتّخذون إلّا الخصيان. قلت : ولمَ ذاك ؟ قال : لأنّ لكلّ رجل منهم منجّماً حاسباً فاذا أصبح أتى باب الملك فقاس الشمس وحسب فأخبره بما يحدث في يومه ذلك ، وما حدث في ليلته الّتي كان فيها ، فإن كانت امرأة من نسائه قارفت شيئاً يكرهه أخبره ، فقال : فلان قارف كذا وكذا مع فلانة ، ويحدث في هذا اليوم كذا وكذا.

قلت : فأخبرني عن الخصلة الاُخرى. قال : قوم بالهند بمنزلة الخنّاقين عندكم يقتلون الناس بلا سلاح ولا خنق ويأخذون أموالهم . قلت : وكيف يكون هذا ؟ قال : يخرجون مع الرفقة والتجّار بقدر ما فيها من الرجالة فيمشون معهم أيّاماً ليس معهم سلاح ، ويحدّثون الرجال ويحسبون حساب كلّ رجُل من التجّار فإذا عرف أجمعهم موضع النفس من صاحبه وكز كلُّ واحد منهم صاحبه الّذي حسب به في ذلك الموضع فيقع جميع التجّار موتى ! قلت : إنَّ هذا أرفع من الباب الأوَّل إن كان ما تقول حقّاً قال : أحلف لك بديني إنّه حقّ ولربّما رأيت ببلاد الهند قد اُخذ بعضهم واُمر بقتله.

قلت : فأخبرني كيف كان هذا حتّى اطّلعوا عليه ؟ قال : بحساب النجوم. قلت : فما سمعت كهذا علماً قطّ ، وما أشكُّ أنَّ واضعه الحكيم العليم ، فأخبرني من وضع هذا العلم الدقيق الّذي لا يدرك بالحواسّ ولا بالعقول ولا بالفكر ؟ قال : حساب النجوم وضعته الحكماء وتوارثه الناس ». (32)

متن : قلت : أخبرني هل يعلم أهل بلادك علم النجوم ؟ قال : إنّك لغافل عن علم ;أهل بلادي بالنجوم فليس أحد أعلم بذلك منهم. قلت : أخبرني كيف وقع علمهم بالنجوم وهي ممّا لا يدرك بالحواسّ ولا بالفكر ؟ قال : حساب وضعته الحكماء وتوارثته الناس فإذا سألت الرجل منهم عن شيء قاس الشمس ونظر في منازل الشمس والقمر وما للطالع من النحوس ، وما للباطن من السعود ، ثمَّ يحسب ولا يخطىء ؛ ويحمل إليه المولود فيحسب له ويخبر بكلّ علامة فيه بغير معاينة وما هو مصيبه إلى يوم يموت. قلت : كيف دخل الحساب في مواليد الناس ؟ قال : لأنَّ جميع الناس إنّما يولدون بهذه النجوم ، ولولا ذلك لم يستقم هذا الحساب فمن ثمَّ لا يخطىء إذا علم الساعة واليوم والشهر والسنة الّتي يولد فيها المولود. قلت : لقد توصّفت علماً عجيباً (33) ليس في علم الدنيا أدقّ منه ولا أعظم إن كان حقّاً كما ذكرت ، يعرف به المولود الصبيّ وما فيه من العلامات ومنتهى أجله وما يصيبه في حياته ، أوليس هذا حساباً تولد به جميع أهل الدنيا من كان من الناس ؟ قال : لا أشكّ فيه. قلت : فتعال ننظر بعقولنا كيف علم الناس هذا العلم وهل يستقيم أن يكون لبعض الناس إذا كان جميع الناس يولدون بهذه النجوم ، وكيف عرفها بسعودها ونحوسها ، وساعاتها وأوقاتها ، ودقائقها ودرجاتها ، وبطيئها وسريعها ، ومواضعها من السماء ، ومواضعها تحت الأرض ، ودلالتها على غامض هذه الأشياء الّتي وصفت في السماء وما تحت الأرض ، فقد عرفت أنَّ بعض هذه البروج في السماء ، وبعضها تحت الأرض ، وكذلك النجوم السبعة منها تحت الأرض ومنها في السماء فما يقبل عقلي أنَّ مخلوقاً من أهل الأرض قدر على هذا. قال : وما أنكرت من هذا ؟ قلت : إنّك زعمت أنَّ جميع أهل الأرض إنّما يتوالدون بهذه النجوم ، فأرى الحكيم الّذي وضع هذا الحساب بزعمك من بعض أهل الدنيا ، ولا شكَّ إن كنت صادقاً أنّه ولد ببعض هذه النجوم والساعات والحساب الّذي كان قبله ، إلّا أن تزعم أنّ ذلك الحكيم لم يولد بهذه النجوم كما ولد سائر الناس. قال : وهل هذا الحكيم إلّا كسائر الناس ؟ قلت : أفليس ينبغي أن يدلّك عقلك على أنّها قد خلقت قبل هذا الحكيم الّذي زعمت انّه وضع هذا الحساب ، وقد زعمت أنّه ولد ببعض هذه النجوم ؟ قال : بلى.

قلت : فكيف اهتدى لوضع هذه النجوم ؟ وهل هذا العلم إلّا من معلّم كان قبلهما وهو الّذي أسّس هذا الحساب الّذي زعمت أنّه أساس المولود ، والأساس أقدم من المولود ، والحكيم الّذي زعمت أنّه وضع هذا إنّما يتبع أمر معلّم هو أقدم منه ، وهو الّذي خلقه مولوداً ببعض هذا النجوم ، وهو الّذي أسّس هذه البروج الّتي ولد بها غيره من الناس فواضع الأساس ينبغي أن يكون أقدم منها ، هب إنّ هذا الحكيم عمّر مذ كانت الدنيا عشرة أضعاف ، هل كان نظره في هذه النجوم إلّا كنظرك إليها معلّقة في السماء أو تراه كان قادراً على الدنوّ منها وهي في السماء حتّى يعرف منازلها ومجاريها ، نحوسها وسعودها ، ودقائقها ، وبأيّتها تكسف الشمس والقمر ، وبأيّتها يولد كلّ مولود ، وأيّها السعد وأيّها النحس ، وأيّها البطيىء وأيّها السريع ، ثمّ يعرف بعد ذلك سعود ساعات النهار ونحوسها ، وأيّها اسعد وأيّها النحس ، وكم ساعة يمكث كلّ نجم منها تحت الأرض ، وفي أيّ ساعة تغيب ، وأيّ ساعة تطلع ، وكم ساعة يمكث طالعاً ، وفي أيّ ساعة تغيب ، وكم استقام لرجل حكيم كما زعمت من أهل الدنيا أن يعلم علم السماء ممّا لا يدرك بالحواسّ ، ولا يقع عليه الفكر ، ولا يخطر على الأوهام ؟ وكيف اهتدى أن يقيس الشمس حتّى يعرف في أيّ برج ، وفي أيّ برج القمر ، وفي أيّ برج من السماء هذه السبعة السعود والنحوس وما الطالع منها وما الباطن ؟ وهي معلّقة في السماء وهو من أهل الأرض لا يراها إذا توارت بضوء الشمس إلّا أن تزعم أنّ هذا الحكيم الّذي وضع هذا العلم قد رقى إلى السماء ، وأنا أشهد أنّ هذا العالم لم يقدر على هذا العلم إلّا بمن في السماء ، لأنّ هذا ليس من علم أهل الأرض.

قال : ما بلغني أنّ أحداً من أهل الأرض رقى إلى السماء. قلت : فلعلّ هذا الحكيم فعل ذلك ولم يبلغك ؟ قال : ولو بلغني ما كنت مصدّقاً. قلت : فأنا أقول قولك ، هبه رقى إلى السماء هل كان له بدّ من أن يجري مع كلّ برج من هذه البروج ، ونجم من هذه النجوم من حيث يطلع إلى حيث يغيب ، ثمّ يعود إلى الآخر حتّى يفعل مثل ذلك حتّى يأتي على آخرها ؟ فإنّ منها ما يقطع السماء في ثلاثين سنة ، ومنها ما يقطع دون ذلك ، وهل كان له بدّ من أن يجول في أقطار السماء حتّى يعرف مطالع السعود منها والنحوس ، والبطيىء والسريع ، حتّى يحصي ذلك ؟ أوهبه قدر على ذلك حتّى فرغ ممّا في السماء هل كان يستقيم له حساب ما في السماء حتّى يحكم حساب ما في الأرض وما تحتها وأن يعرف ذلك مثل ما قد عاين في السماء ؟ لأنّ مجاريها تحت الأرض على غير مجاريها في السماء ، فلم يكن يقدر على أحكام حسابها ودقائقها وساعاتها إلّا بمعرفة ما غاب عنه تحت الأرض منها ، لأنّه ينبغي أن يعرف أيّ ساعة من اللّيل يطلع طالعها ، وكم يمكث تحت الأرض ، وأيّة ساعة من النهار يغيب غائبها لأنّه لا يعاينها ، ولا ما طلع منها ولا ما غاب ، ولا بدّ من أن يكون العالم بها واحداً وإلّا لم ينتفع بالحساب إلّا تزعم أنّ ذلك الحكيم قد دخل في ظلمات الأرضين والبحار فسار مع النجوم والشمس والقمر في مجاريها على قدر ما سار في السماء حتّى علم الغيب منها ، وعلم ما تحت الأرض على قدر ما عاين منها في السماء.

قال : وهل أريتني أجبتك إلى أنّ أحداً من أهل الأرض رقى إلى السماء وقدر على ذلك حتّى أقول : إنّه دخل في ظلمات الأرضين والبحور ؟ قلت : فكيف وقع هذا العلم الّذي زعمت أنّ الحكماء من الناس وضعوه وأنّ الناس كلّهم مولدون به وكيف عرفوا ذلك الحساب وهو أقدم منهم ؟.

أقول : في نسخة السيّد ابن طاووس هنها زيادة :

« قال : أرأيت إن قلت لك : إنّ البروج لم تزل وهي الّتي خلقت أنفسها على هذا الحساب ما الّذي تردُّ عليَّ ؟ (34) قلت : أسألك كيف يكون بعضها سعداً وبعضها نحساً ، وبعضها مضيئاً وبعضها مظلماً ، وبعضها صغيراً وبعضها كبيراً ؟.

قال : كذلك أرادت أن تكون بمنزلة الناس ، فإنَّ بعضهم جميل ، وبعضهم قبيح ، وبعضهم قصير ، وبعضهم طويل ، وبعضهم أبيض ، وبعضهم أسود ، وبعضهم صالح ، وبعضهم طالح . قلت : فالعجب منك إنّي اُراودك منذ اليوم على أن تقرَّ بصانع فلم تجبني إلى ذلك حتّى كان الآن أقررت بأنَّ القردة والخنازير خلقن أنفسهنّ !.

قال : لقد بهتّني بما لم يسمع الناس منّي ! قلت : أفمنكر أنت لذلك ؟ قال : أشدَّ إنكار . قلت : فمن خلق القردة والخنازير إن كان الناس والنجوم خلقن أنفسهنّ ؟ فلا بدّ من أن تقول : إنّهنّ من خلق الناس ، أو خلقن أنفسهنّ ، أفتقول : إنّها من خلق الناس ؟ قال : لا. قلت : فلا بدّ من أن يكون لها خالق أو هي خلقت أنفسها ؛ فإن قلت : إنّها من خلق الناس أقررت أنَّ لها خالقاً ، فإن قلت : لا بدّ أن يكون لها خالق فقد صدقت وما أعرفنا به ، ولئن قلت : إنّهنّ خلقن أنفسهنّ فقد أعطيتني فوق ما طلبت منك من الإقرار بصانع. ثمَّ قلت : فأخبرني بعضهنّ قبل بعض خلقن أنفسهنّ أم كان ذلك في يوم واحد ؟ فإن قلت : بعضهنّ قبل بعض فأخبرني السماوات وما فيهنّ والنجوم قبل الأرض والإنس والذرّ خلقن أم بعد ذلك ؟ فإن قلت أنَّ الأرض قبل أفلا ترى قولك : إنَّ الأشياء لم تزل قد بطل حيث كانت السماء بعد الأرض ؟.

قال : بلى ولكن أقول : معاً جميعاً خلقن. قلت : أفلا ترى أنّك قد أقررت أنّها لم تكن شيئاً قبل أن خلقن ، وقد أذهبت حجّتك في الأزليّة ؟ قال : إنّي لعلى حدّ وقوف ، ما أدري ما اُجيبك فيه لأنّي أعلم أنَّ الصانع إنّما سمّي صانعاً لصناعته ، والصناعة غير الصانع ، والصانع غير الصناعة لأنّه يقال للرجل : الباني لصناعته البناء ، والبناء غير الباني والباني غير البناء ، وكذلك الحارث غير الحرث والحرث غير الحارث. قلت : فأخبرني عن قولك : إنَّ الناس خلقوا أنفسهم فبكمالهم خلقوها أرواحهم وأجسادهم وصورهم وأنفاسهم أم خلق بعض ذلك غيرهم ؟ قال : بكمالهم لم يخلق ذلك ولا شيئاً منهم غيرهم.

قلت : فأخبرني الحياة أحبّ إليهم أم الموت ؟ قال : أو تشكُّ أنّه لا شيء أحبّ إليهم من الحياة ، ولا أبغض إليهم من الموت ؟ قلت فأخبرني من خلق الموت الّذي يخرج أنفسهم الّتي زعمت أنّهم خلقوها ؟ فإنّك لا تنكر أنَّ الموت غير الحياة ، وأنّه هو الّذي يذهب بالحياة . فإن قلت : إنَّ الّذي خلق الموت غيرهم ، فإنَّ الّذي خلق الموت هو الّذي خلق الحياة ؛ ولئن قلت : هم الّذين خلقوا الموت لأنفسهم أن هذا لمحال من القول ! وكيف خلقوا لأنفسهم ما يكرهون إن كانوا كما زعمت خلقوا أنفسهم ؟ هذا ما يستنكر من ضلالك أن تزعم أنَّ الناس قدروا على خلق أنفسهم بكمالهم وأنَّ الحياة أحبّ إليهم من الموت وخلقوا ما يكرهون لأنفسهم !.

قال : ما أجد واحداً من القولين ينقاد لي ولقد قطعته عليَّ قبل الغاية الّتي كنت اُريدها. قلت : دعني فإنَّ من الدخول في أبواب الجهالات ما لا ينقاد من الكلام ، وإنّما أسألك عن معلّم هذا الحساب الّذي علّم أهل الأرض علم هذه النجوم المعلّقة في السماء. »

اقول : رجعنا إلى ما في النسخ المشهورة :

قال : ما أجد يستقيم أن أقول : إنّ أحداً من أهل الأرض وضع علم هذه النجوم المعلّقة في السماء. قلت : فلا بدّ لك أن تقول : إنّما علّمه حكيم عليم بأمر السماء والأرض ومدبّرهما . قال : إن قلت هذا فقد أقررت لك بإلهك الّذي تزعم إنّه في السماء. قلت : أمّا أنك فقد أعطيتني أنَّ حساب هذه النجوم حقّ ، وأنّ جميع الناس ولدوا بها. قال : الشكّ في غير هذا.

قلت : وكذلك أعطيتني أنَّ أحداً من أهل الأرض لم يقدر على أن يغيب مع هذه النجوم والشمس والقمر في المغرب حتّى يعرف مجاريها ويطلع معها إلى المشرق. قال : الطلوع إلى السماء دون هذا. قلت : فلا أراك تجد بدّاً من أن تزعم أنَّ المعلّم لهذا من السماء. قال : لئن قلت أن ليس لهذا الحساب معلّم لقد قلت إذاً غير الحقّ ، ولئن زعمت أنّ أحداً من أهل الأرض علم ما في السماء وما تحت الأرض لقد أبطلت لأنَّ أهل الأرض لا يقدرون على علم ما وصفت لك من حال هذه النجوم والبروج بالمعاينة والدنوّ منها (35) فلا يقدرون عليه لأنّ علم أهل الدنيا لا يكون عندنا إلّا بالحواسّ ، وما يدرك علم هذه النجوم الّتي وصفت بالحواسّ لأنّها معلّقة في السماء وما زادت الحواسّ على النظر إليها حيث تطلع وحيث تغيب ، فأمّا حسابها ودقائقها ونحوسها وسعودها وبطيئها وسريعها وخنوسها ورجوعها فأنّى تدرك بالحواسّ أو يهتدى إليها بالقياس ؟.

قلت : فأخبرني لو كنت متعلّماً مستوصفاً لهذا الحساب من أهل الأرض أحبّ إليك أن تستوصِفه وتتعلّمه ، أم من أهل السماء ؟ قال : من أهل السماء ، إذ كانت النجوم معلّقة فيها حيث لا يعلمها أهل الأرض.

قلت : فافهم وأدقّ النظر وناصح نفسك ألست تعلم أنّه حيث كان جميع أهل الدنيا إنّما يولدون بهذه النجوم على ما وصفت في النحوس والسعود أنّهنّ كنّ قبل الناس ؟ قال : ما أمتنع أن أقول هذا. قلت : أفليس ينبغي لك أن تعلم أنّ قولك : إنَّ الناس لم يزالوا ولا يزالون قد انكسر عليك (36) حيث كانت النجوم قبل الناس ؛ فالناس حدث بعدها ، ولئن كانت النجوم خلقت قبل الناس ما تجد بدّاً من أن تزعم أنَّ الأرض خلقت قبلهم.

قال : ولم تزعم أنَّ الأرض خلقت قبلهم ؟ قلت : ألست تعلم أنّها لو لم تكن الأرض جعل الله لخلقه فراشاً ومهاداً ما استقام الناس ولا غيرهم من الأنام ، ولا قدروا أن يكونوا في الهواء إلّا أن يكون لهم أجنحة ؟ قال : وماذا يغني عنهم الأجنحة إذا لم تكن لهم معيشة ؟ قلت : ففي شكّ أنت من أنَّ الناس حدث بعد الأرض والبروج ؟ قال : لا ولكن على اليقين من ذلك.

قلت : آتيك أيضاً بما تبصره . قال : ذلك أنفى (37) للشكّ عنّي. قلت : ألست تعلم أنَّ الّذي تدور عليه هذه النجوم والشمس والقمر هذا الفلك ؟ قال : بلى. قلت : أفليس قد كان أساساً لهذه النجوم ؟ قال : بلى. قلت : فما أرى هذه النجوم الّتي زعمت أنّها مواليد الناس إلّا وقد وضعت بعد هذا الفلك لأنّه به تدور البروج وتسفل مرّة وتصعد اُخرى.

قال : قد جئت بأمر واضح لا يشكل على ذي عقل أنّ الفلك الّذي تدور به النجوم هو أساسها الّذي وضع لها لأنّها إنّما جرت به. قلت أقررت أنّ خالق النجوم الّتي يولد بها الناس سعودهم ونحوسهم هو خالق الأرض لأنّه لو لم يكن خلقها لم يكن ذرءٌ. قال : ما أجد بدّاً من إجابتك إلى ذلك. قلت : أفليس ينبغي لك أن يدلّك عقلك على أنّه لا يقدر على خلق السماء إلّا الّذي خلق الأرض والذرء والشمس والقمر والنجوم ، وأنّه لولا السماء وما فيها لهلك ذرء الأرض.

شرح : أن يكون لبعض الناس أي هذا العلم . اعلم أنّ كلامه واحتجاجه عليه السلام مبنيٌّ على أحد أمرين : الأوَّل ما يحكم به الوجدان من أنَّ العلم بدقائق حركات هذه الكواكب وخواصّ آثارها والمناسبة بينها وبين ما هي علامة لحدوثها لا يتأتّى إلّا لخالقها الّذي جعلها كذلك ، أو من ينتهي علمه إليه ، ومعلوم أنّ ما هو الحقّ من هذه العلوم إنّما وصل إلى الخلق من الأنبياء كما اعترفوا به ، ولمّا لم يحيطوا بجميع ذلك وضاع عنهم بعض ما استفادوا من الأنبياء عليهم السلام أيضاً فلذا ترى الرياضيّين يتحيّرون في بعض الحركات الّتي لا تستقيم على اُصولهم ، ويسمّونها ما لا ينحلّ ، وترى المنجّمين يخطؤون في كثير من أحكامهم لذلك. ثمَّ ذكر عليه السلام على سبيل التنزّل أنّه لو سلّمنا أنّه يمكن أن يتيسّر ذلك لمخلوق من البشر فلا يتأتّى ذلك إلّا لمن كان معها في حركاتها ويعاشرها مدّة طويلة ليعلم كيفيّة حركاتها وجرَّب بكثرة المعاشرة خواصّها وآثارها.

والثاني : أن يكون المراد أنّك إذا اعترفت أنّ كلّ الخلق يولدون بهذه النجوم فلا يكون أحد منهم علّة لها ولآثارها لتقدّمها عليهم ، ولا شكّ في أنّه لا بدّ من حكيم عالم بجميع الاُمور قادر عليها ، أسّس ذلك الأساس وبنى عليها تلك الآثار والأحكام الّتي أمكن للخلق بها استعلام ما لم يأت من الاُمور ، فقد أقررت بالصانع فهو أوَّل عالم بهذا العلم لا الحكيم الّذي تزعم أنّه يولد بتلك النجوم. (38) ويحتمل أن يكون المقصود من الكلام الإشارة إلى كلا الدليلين كما لا يخفى بعد التأمّل. قوله عليه السلام : مواضعها من السماء أي عند كونها فوق الأرض ، ومواضعها تحت الأرض أي بعد غروبها واستتارها عنّا بالأرض. قوله عليه السلام : إلّا بمن في السماء أي بمن أحاط علمه وقدرته وحكمه بالسماء وما فيها. قوله عليه السلام : فأنا أقول قولك أي أنا أعتقد ما قلت من أنّ الحكماء الّذين تزعمهم عالمين به لم يرقوا إلى السماء ، أو أعتقد أنّه لا يمكنهم أن يرقوا إلى السماء بأنفسهم بدون تعلّق إرادة الربّ تعالى به ، ومع ذلك فإن سلّمناه فلا يكفي محض الصعود للإحاطة بذلك. قوله عليه السلام : مع كلّ برج أي فيه أو بالحركة السريعة قوله عليه السلام : في ثلاثين سنة وهو زحل ، وهو أبطأ السيّارات ، وإنّما لم يتعرّض عليه السلام للثوابت مع كونها أبطأ لأنّ مبنى أحكامهم على السيّارات. قوله عليه السلام : لأنّ مجاريها تحت الأرض لمّا ذكر عليه السلام سابقاً سيره مع الكواكب من الطلوع إلى الغروب أشار عليه السلام ههنا إلى أنّه لا يكفي ذلك للعلم بجميع الحركات حتّى يسير معها بعد الغروب فيحاذي ما تحت الأرض من البحار والمواضع المظلمة بالبخارات ، أو يسير مع سائر الكواكب عند كون الشمس فوق الأرض حتّى يحاذي ما تحتها الظلمة ، ثمَّ بيّن عليه السلام الحاجة إلى ذلك بأنّه لا تكفي الإحاطة ببعض مسيرها للعلم بحركاتها لأنّ حركاتها الخاصّة عندهم مختلفة بالنسبة إلى مركز العالم بسبب التداوير والأفلاك الخارجة المراكز وغيرها ، فتارة تسرع وتارة تبطىء فلا تتأتّى مقايسة بعض حركاتها ببعض.

قوله عليه السلام : كيف يكون بعضها سعداً أي يرجع قولك إلى أنّها مع صفاتها وجدت من غير صانع فكيف صار بعضها هكذا وبعضها هكذا ، فترجّح هذه الأحوال الممكنة وحصولها من غير علّة ممّا يحكم العقل باستحالته ، أو المراد أنّها لو كانت خالقة لأنفسها لكان كلٌّ منها يختار لنفسه أفضل الأحوال وأشرفها فكان جميعها على حالة واحدة هي أفضل الأحوال ؛ وهذا أظهر. ثمَّ لمّا لم يفهم السائل ذلك غيّر الكلام وصرفه إلى ما هو أوضح. وقوله عليه السلام : قد أقررت أنّها لم تكن شيئاً إمّا مبنيٌّ على أنّ الصنع والخلق لا يتعلّقان إلّا بالحادث ، أو على ما كان ظاهر كلام السائل أنّ لوجودها مبدءاً ، ثمَّ إنَّ السائل لمّا تفطّن بفساد كون الشيء صانعاً لنفسه رجع وأقرَّ بأنّ العقل يحكم بديهة بأنَّ المصنوع غير الصانع ، والباني غير البناء ؛ وما ذكره عليه السلام من أنّ خالق الحياة والموت لا بدّ أن يكون واحداً ممّا يحكم به الوجدان مع أنّ الظاهر من خالق الحياة من يكون مستقلّاً فيه ، والموت ليس إلّا رفع الحياة ، فلو كان مستنداً إلى غيره لم يكن خالق الحياة مستقلّاً فيه.

قوله عليه السلام : دون هذا أي أنا اُنكر الصعود إلى السماء الّذي هو أسهل ممّا ذكرت فكيف اُقرُّ به ، أو المراد أنّ الصعود إلى السماء أسهل عليَّ من الإقرار بما ذكرت. قوله عليه السلام : إنّهنّ كنّ قبل الناس أي بالعلّيّة والسببيّة كما ظنَّ السائل ، أو بالزمان أي تقدّمها على كلّ شخص ، أو على الجميع بناءاً على لزوم التقدّم على كلّ من الأشخاص التقدّم على الجميع كما قيل ، أو على أنّه عليه السلام كان يعلم أنّ السائل كان قائلاً بذلك فذكره عليه السلام إلزاماً عليه كما اعترف به ؛ وعلى الأوّل يكون المراد بقوله : لم يزالوا ولا يزالون عدم استنادهم إلى علّة ، وعلى الثاني فالمراد إمّا قدم مادَّتهم أو صورهم أيضاً بناءاً على القول بالكمون ، وعلى الثالث فالمراد قدم نوعهم. قوله عليه ‌السلام : بعد هذا الفلك أي هي محتاجة إلى الفلك ، والفلك متقدّمة عليها بالعلّيّة فلا يصحّ كون النجوم علّة لها للزوم الدور. قوله عليه السلام : لم يكن ذرءٌ أي مذروء ومخلوق من الإنس.

ثمَّ اعلم أنّ حاصل استدلاله على ما ظهر لهذا القاصر هو أنّه عليه السلام ـ لمّا قرّر السائل سالفاً على أنّ النجوم ليست خالقة لأنفسها ، وآنفاً على أنّها ليست مخلوقة للناس وغيرها ممّا يحدث بزعمه بتأثيرها لتأخّرها عنها ، وعلى أنّ الأرض أيضاً متقدّمة على ما عليها من الخلق فلا تكون مخلوقة لما عليها ، وعلى أنّ الفلك لتقدّمه على النجوم المتقدّمة على الناس لا يجوز كونه مخلوقاً لشيء منها ـ استدلّ عليه السلام ههنا على أنّه لا بدّ أن يكون خالق السماء والأرض وما في السماء من الشمس والقمر والنجوم وما على الأرض من الخلق واحداً.

أمّا اتّحاد خالق الأرض والنجوم فيمكن تقريره بوجهين : الأوّل : أنَّ الناس محتاجون إلى الأرض كما عرفت ، وظاهر أنّها من أعظم مصالحهم فالوجدان الصحيح يحكم بأنّ من خلق شيئاً يعدُّ له ما يصلحه ، ويهيّىء له ما سيحتاج إليه فظهر أنّه لا بدّ أن يكون خالق الناس وخالق الأرض واحداً ، والناس بزعمك مخلوقون للنجوم ولزمك القول بوجود خالق للنجوم ، فلا بدّ من القول بكون الأرض منسوبة إلى خالق النجوم إمّا بلا واسطة أو بواسطة النجوم أو غيرها فثبت المطلوب.

الثاني : أنّا نرى التلازم بين الناس والأرض لحكم العقل بأنّ كلّاً منهما يرتفع عند ارتفاع الآخر إذ الظاهر أنّ غاية خلق الأرض هو الإنسان ونحوه وهم محتاجون في اُمورهم إليها ، وقد تقرِّر أنَّ المتلازمين إمّا أن يكون أحدهما علّة للآخر ، أو كلٌّ منهما معلول علّة ثالثة ، ولا يجوز أن يكون الناس عللاً للأرض لما عرفت ، ولا معلولة لها لانتسابها عندك إلى النجوم فلا بدّ من أن يكونا معلولي علّة واحدة. وبأحد هذين التقريرين يثبت اتّحاد خالق السماء وخالق هذه الاُمور السابقة لاحتياج ما على الأرض من الخلق إلى السماء وما فيها من النجوم ؛ وإليه أشار عليه السلام بقوله : وإنَّه لولا السماء وما فيها لهلك ذرء الأرض. هذا ما أحاط به نظري العاثر ، وسيأتي في تضاعيف كلامه عليه السلام توضيح ما قلناه ، والتصريح ببعض ما قرّرناه ، والله يعلم وحججه عليهم السلام حقائق كلامهم ودقائق مرامهم ؛ ثمَّ لا يتوهّم متوهّم من كلامه عليه السلام أنّ للنجوم تأثيراً فإنّه ظاهر أنّه عليه السلام إنّما ذكرها إلزاماً عليه ، ومماشاة معه لإتمام الحجّة عليه (39) بل لا يمكن الاستدلال على سعودها ونحوسها وكونها علامات للكائنات أيضاً بهذا الوجه لكن ظاهره أنَّ لها سعادة ونحوسة وأنّها علامات ، وسيأتي القول في ذلك مفصّلاً في كتاب السماء والعالم.

متن : قال : أشهد أنَّ الخالق واحد من غير شكّ لأنّك قد أتيتني بحجّة ظهرت لعقلي وانقطعت بها حجّتي ، وما أرى يستقيم أن يكون واضع هذا الحساب ومعلّم هذه النجوم واحداً من أهل الأرض لأنّها في السماء ، ولا مع ذلك يعرف ما تحت الأرض منها إلّا معلّم ما في السماء منها ، ولكن لست أدرى كيف سقط أهل الأرض على هذا العلم الّذي هو في السماء حتّى اتّفق حسابهم على ما رأيت من الدقّة والصواب فإنّي لو لم أعرف من هذا الحساب ما أعرفه لأنكرته ولأخبرتك أنّه باطل في بدء الأمر فكان أهون عليَّ.

قلت : فأعطني موثقاً إن أنا أعطيتك من قبل هذه الإهليلجة الّتي في يدك وما تدّعي من الطبّ الّذي هو صناعتك وصناعة آبائك حتّى يتّصل الإهليلجة وما يشبهها من الأدوية بالسماء لتذعننَّ بالحقّ ، ولتنصفنَّ من نفسك. قال : ذلك لك. قلت : هل كان الناس على حال وهم لا يعرفون الطبّ ومنافعه من هذه الإهليلجة وأشباهها ؟ قال : نعم.

قلت : فمن أين اهتدوا له ؟ قال : بالتجربة وطول المقايسة. قلت : فكيف خطر على أوهامهم حتّى همّوا بتجربته ؟ وكيف ظنّوا أنّه مصلحة للأجساد وهم لا يرون فيه إلّا المضرّة ؟ أو كيف عزموا على طلب ما لا يعرفون ممّا لا تدلّهم عليه الحواسّ ؟ قال : بالتجارب.

قلت : أخبرني عن واضع هذا الطبّ وواصف هذه العقاقير المتفرقّة بين المشرق والمغرب ، هل كان بدٌّ من أن يكون الّذي وضع ذلك ودلّ على هذه العقاقير رجل حكيم من بعض أهل هذه البلدان ؟.

قال : لا بدّ أن يكون كذلك ، وأن يكون رجلاً حكيماً وضع ذلك وجمع عليه الحكماء فنظروا في ذلك وفكّروا فيه بعقولهم. قلت : كأنّك تريد الإنصاف من نفسك والوفاء بما أعطيت من ميثاقك فأعلمني كيف عرف الحكيم ذلك ؟ وهبه قد عرف بما في بلاده من الدواء ، والزعفران الّذي بأرض فارس ، أتراه اتّبع جميع نبات الأرض فذاقه شجرة شجرة حتّى ظهر على جميع ذلك ؟ وهل يدلّك عقلك على أنَّ رجالاً حكماء قدروا على أن يتّبعوا جميع بلاد فارس ونباتها شجرة شجرة حتّى عرفوا ذلك بحواسّهم ، وظهروا على تلك الشجرة الّتي يكون فيها خلط بعض هذه الأدوية الّتي لم تدرك حواسّهم شيئاً منها ؟ وهبه أصاب تلك الشجرة بعد بحثه عنها وتتبّعه جميع شجر فارس ونباتها ، كيف عرف أنّه لا يكون دواء حتّى يضمّ إليه الإهليلج من الهند ، والمصطكي من الروم ، والمسك من التبّت ، والدارصيني من الصين ، وخصي بيدستر من الترك ، والأفيون من مصر ، والصبر من اليمن ، (40) والبورق من أرمنيّة ، (41) وغير ذلك من أخلاط الأدوية الّتي تكون في أطراف الأرض ؟ وكيف عرف أنّ بعض تلك الأدوية وهي عقاقير مختلفة يكون المنفعة باجتماعها ولا يكون منفعتها في الحالات بغير اجتماع ؟ أم كيف اهتدى لمنابت هذه الأدوية وهي ألوان مختلفة وعقاقير متبائنة في بلدان متفرّقة ؟ فمنها عروق ، ومنها لحاء (42) ومنها ورق ، ومنها ثمر ، ومنها عصير ، ومنها مائع ، ومنها صمغ ، ومنها دهن ، ومنها ما يعصر ويطبخ ، ومنها ما يعصر ولا يطبخ ، ممّا سمّي بلغات شتّى لا يصلح بعضها إلّا ببعض ولا يصير دواءاً إلّا باجتماعها ؛ ومنها مرائر السباع والدوابّ البرّيّة والبحريّة ، وأهل هذه البلدان مع ذلك متعادون مختلفون متفرّقون باللّغات ، متغالبون بالمناصبة ، (43) ومتحاربون بالقتل والسبي أفترى ذلك الحكيم تتبّع هذه البلدان حتّى عرف كلّ لغة وطاف كلّ وجه ، وتتبع هذه العقاقير مشرقاً ومغرباً آمناً صحيحاً لا يخاف ولا يمرض ، سليماً لا يعطب ، حيّاً لا يموت ، هادياً لا يضلّ ، قاصداً لا يجور (44) حافظاً لا ينسى ، نشيطاً لا يملّ ، حتّى عرف وقت أزمنتها ، ومواضع منابتها مع اختلاطها واختلاف صفاتها وتباين ألوانها وتفرّق أسمائها ، ثمَّ وضع مثالها على شبهها وصفتها ، ثمَّ وصف كلّ شجرة بنباتها وورقها وثمرها وريحها وطعمها ؟ أم هل كان لهذا الحكيم بدّ من أن يتّبع جميع أشجار الدنيا وبقولها وعروقها شجرة شجرة ، وورقة ورقة ، شيئاً شيئاً ؟ فهبه وقع على الشجرة الّتي أراد فكيف دلّته حواسّه على أنّها تصلح لدواء ، والشجر مختلف منه الحلو والحامض والمرّ والمالح ؟.

وإن قلت : يستوصف في هذه البلدان ويعمل بالسؤال ، فأنّى يسأل عمّا لم يعاين ولم يدركه بحواسّه ؟ أم كيف يهتدي إلى من يسأله عن تلك الشجرة وهو يكلّمه بغير لسانه وبغير لغته والأشياء كثيرة ؟ فهبه فعل كيف عرف منافعها ومضارّها ، وتسكينها وتهييجها ، وباردها وحارّها ، وحلوها ومرارتها وحرافتها ، (45) ولينها وشديدها (46) ؟ فلئن قلت : بالظنّ إنَّ ذلك ممّا لا يدرك ولا يعرف بالطبائع والحواسّ ، ولئن قلت : بالتجربة والشرب لقد كان ينبغي له أن يموت في أوَّل ما شرب وجرَّب تلك الأدوية بجهالته بها وقلّة معرفته بمنافعها ومضارّها وأكثرها السمّ القاتل. ولئن قلت : بل طاف في كلّ بلد ، وأقام في كلّ اُمّة يتعلّم لغاتهم ويجرّب بهم أدويتهم تقتل الأوَّل فالأوَّل منهم ما كان لتبلغ معرفته الدواء الواحد إلّا بعد قتل قوم كثير ، فما كان أهل تلك البلدان الّذين قتل منهم من قتل بتجربته بالّذين ينقادونه بالقتل ولا يدعونه أن يجاورهم ، وهبه تركوه وسلّموا لأمره ولم ينهوه كيف قوي على خلطها ، وعرف قدرها ووزنها وأخذ مثاقيلها وقرط قراريطها ؟ وهبه تتبّع هذا كلّه ، وأكثره سمّ قاتل ، إن زيد على قدرها قتل ، وإن نقص عن قدرها بطل ، وهبه تتبّع هذا كلّه وجال مشارق الأرض ومغاربها ، وطال عمره فيها تتبّعه شجرة شجرة وبقعة بقعة كيف كان له تتبّع ما لم يدخل في ذلك من مرارة الطير والسباع ودوابّ البحر ؟ هل كان بدٌّ حيث زعمت أنّ ذلك الحكيم تتبّع عقاقير الدنيا شجرة شجرة وثمرة ثمرة حتّى جمعها كلّها فمنها ما لا يصلح ولا يكون دواءاً إلّا بالمرار ؟ هل كان بدٌّ من أن يتبع جميع طير الدنيا وسباعها ودوابّها دابّة دابّة وطائراً طائراً يقتلها ويجرّب مرارتها ، كما بحث عن تلك العقاقير على ما زعمت بالتجارب ؟ ولو كان ذلك فكيف بقيت الدوابّ وتناسلت وليست بمنزلة الشجرة إذا قطعت شجرة نبتت اُخرى ؟ وهبه أتى على طير الدنيا كيف يصنع بما في البحر من الدوابّ الّتي كان ينبغي أن يتّبعها بحراً بحراً ودابّة دابّة حتّى أحاط به كما أحاط بجميع عقاقير الدنيا الّتي بحث عنها حتّى عرفها وطلب ذلك في غمرات الماء ؟ فإنّك مهما جهلت شيئاً من هذا فإنّك لا تجهل أنَّ دوابَّ البحر كلّها تحت الماء فهل يدلّ العقل والحواسّ على أنَّ هذا يدرك بالبحث والتجارب ؟.

قال : لقد ضيّقت عليَّ المذاهب ، فما أدري ما اُجيبك به ! قلت : فإنّي آتيك بغير ذلك ممّا هو أوضح وأبين ممّا اقتصصت عليك ، ألست تعلم أنَّ هذه العقاقير الّتي منها الأدوية والمرار من الطير والسباع لا يكون دواءاً إلّا بعد الاجتماع ؟ قال. هو كذلك.

قلت : فأخبرني كيف حواسّ هذا الحكيم وضعت هذه الأدوية مثاقيلها وقراريطها ؟ فإنّك من أعلم الناس بذلك لأنَّ صناعتك الطبّ ، وأنت تدخل في الدواء الواحد من اللّون الواحد زنة أربع مائة مثقال ، ومن الآخر مثاقيل وقراريط فما فوق ذلك ودونه حتّى يجيىء بقدر واحد معلوم إذا سقيت منه صاحب البطنة بمقدار عقد بطنه ، وإن سقيت صاحب القولنج أكثر من ذلك استطلق بطنه وألان (47) فكيف أدركت حواسّه على هذا ؟ أم كيف عرفت حواسّه أنَّ الّذي يسقى لوجع الرأس لا ينحدر إلى الرجلين ، والانحدار أهون عليه من الصعود ؟ والّذي يسقى لوجع القدمين لا يصعد إلى الرأس ، وهو إلى الرأس عند السلوك أقرب منه ؟ وكذلك كلّ دواء يسقي صاحبه لكلّ عضو لا يأخذ إلّا طريقه في العروق الّتي تسقى له ، وكلّ ذلك يصير إلى المعدة ومنها يتفرَّق ؟ أم كيف لا يسفل منه ما صعد ولا يصعد منه ما انحدر ؟ أم كيف عرفت الحواسّ هذا حتّى علم أنَّ الّذي ينبغي للاُذن لا ينفع العين وما ينتفع به العين لا يغني من وجع الاُذن ، وكذلك جميع الأعضاء يصير كلّ داء منها إلى ذلك الدواء (48) الّذي ينبغي له بعينه ؟ فكيف أدركت العقول والحكمة والحواسّ هذا وهو غائب في الجوف ، والعروق في اللّحم ، وفوقه الجلد لا يدرك بسمع ولا ببصر ولا بشمّ ولا بلمس ولا بذوق ؟.

قال : لقد جئت بما أعرفه (49) إلّا أنّنا نقول : إنّ الحكيم الّذي وضع هذه الأدوية وأخلاطها كان إذا سقى أحداً شيئاً من هذه الأدوية فمات شقّ بطنه وتتبّع عروقه ونظر مجاري تلك الأدوية وأتى المواضع الّتي تلك الأدوية فيها. قلت : فأخبرني ألست تعلم أنّ الدواء كلّه إذا وقع في العروق اختلط بالدم فصار شيئاً واحداً ؟ قال : بلى.

قلت : أما تعلم أنَّ الإنسان إذا خرجت نفسه برد دمه وجمد ؟ قال : بلى. قلت : فكيف عرف ذلك الحكيم دواءه الّذي سقاه للمريض بعد ما صار غليظاً عبيطاً ليس بأمشاج يستدلّ عليه بلون فيه غير لون الدم ؟ قال : لقد حملتني على مطيّة صعبة ما حمّلت على مثلها قطّ ، ولقد جئت بأشياء لا أقدر على ردّها.

شرح : قوله عليه السلام : خلط بعض هذه الأدوية الخلط بالكسر : ما يخلط بالشيء أي ما يدخل في بعض هذه الأدوية المركّبة. قوله عليه السلام : ثمّ وضع مثالها على شبهها أي ضمّ كلّما وجد من كلّ نوع إلى مثله لأنّه يشبهه ويوافقه في الصفة أو ترك الأشياء الّتي تشبه ما يريده ، وإن كانت موافقة له في الصفات فإنَّ كثيراً من العقاقير تشتبه بغيرها لاتّفاقهما في كثير من الصفات. قوله عليه السلام : فكيف بقيت لعلَّ المفروض أنَّ ذلك كان في مبادي خلق العالم لقدم ذلك العلم فيلزم من التجارب الكثيرة فناء الحيوانات لقلّتها في تلك الأزمنة. قوله عليه السلام : ليس بأمشاج أي أشياء مختلطة متمايزة.

أقول : كلامه عليه السلام يدلّ على أنّ خواصّ الأدوية وأجناسها ومنافعها ومناسبتها للأمراض إنّما وصل إلى الخلق بإخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولم يصل الخلق إليها بعقولهم وتجاربهم.

متن : قلت : فأخبرني من أين علم العباد ما وصفت من هذه الأدوية الّتي فيها المنافع لهم حتّى خلطوها وتتبّعوا عقاقيرها في هذه البلدان المتفرّقة ، وعرفوا مواضعها ومعادنها في الأماكن المتبائنة ، وما يصلح من عروقها وزنتها من مثاقيلها وقراريطها ، وما يدخلها من الحجارة ومرار السباع وغير ذلك ؟ قال : قد أعييت عن إجابتك (50) لغموض مسائلك وإلجائك إيّاي إلى أمر لا يدرك علمه بالحواسّ ، ولا بالتشبيه ، والقياس ، ولا بدّ أن يكون وضع هذه الأدوية واضع ، لأنّها لم تضع هي أنفسها ، ولا اجتمعت حتّى جمعها غيرها بعد معرفته إيّاها ، فأخبرني كيف علم العباد هذه الأدوية الّتي فيها المنافع حتّى خلطوها وطلبوا عقاقيرها في هذه البلدان المتفرّقة ؟.

قلت : إنّي ضاربٌ لك مثلاً وناصبٌ لك دليلاً تعرف به واضع هذه الأدوية والدالّ على هذه العقاقير المختلفة وباني الجسد وواضع العروق الّتي يأخذ فيها الدواء إلى الداء. قال : فإن قلت ذلك لم أجد بدّاً من الانقياد إلى ذلك. قلت : فأخبرني عن رجل أنشأ حديقة عظيمة ، وبنى عليها حائطاً وثيقاً ، ثمَّ غرس فيها الأشجار والأثمار والرياحين والبقول ، وتعاهد سقيها وتربيتها ، ووقاها ما يضرّها ، حتّى لا يخفى عليه موضع كلّ صنف منها فإذا أدركت أشجارها وأينعت أثمارها (51) واهتزّت بقولها دفعت إليه (52) فسألته أن يطعمك لوناً من الثمار والبقول سمّيته له أتراه كان قادراً على أن ينطلق قاصداً مستمرّاً لا يرجع ، ولا يهوي إلي شيء يمرّ به من الشجرة والبقول حتّى يأتي الشجرة الّتي سألته أن يأتيك بثمرها ، والبقلة الّتي طلبتها حيث كانت من أدنى الحديقة أو أقصاها فيأتيك بها ؟ قال : نعم. قلت : أفرأيت لو قال لك صاحب الحديقة حيث سألته الثمرة : ادخل الحديقة فخذ حاجتك فإنّي لا أقدر على ذلك ، هل كنت تقدر أن تنطلق قاصداً لا تأخذ يميناً ولا شمالاً حتّى تنتهي إلى الشجرة فتجتني منها ؟ قال : وكيف أقدر على ذلك ولا علم لي في أيّ مواضع الحديقة هي ؟ قلت : أفليس تعلم أنّك لم تكن لتصيبها دون أن تهجم عليها بتعسّف وجولان في جميع الحديقة حتّى تستدلّ عليها ببعض حواسّك بعد ما تتصفّح فيها من الشجرة شجرة شجرة وثمرة ثمرة حتّى تسقط على الشجرة الّتي تطلب ببعض حواسّك إن تأتيها ، وإن لم ترها انصرفت ؟.

قال : وكيف أقدر على ذلك ولم اُعاين مغرسها حيث غرست ، ولا منبتها حيث نبتت ، ولا ثمرتها حيث طلعت. قلت : فإنّه ينبغي لك أن يدلّك عقلك حيث عجزت حواسّك عن إدراك ذلك إنّ الّذي غرس هذا البستان العظيم فيما بين المشرق والمغرب وغرس فيه هذه الأشجار والبقول هو الّذي دلّ الحكيم الّذي زعمت أنّه وضع الطبّ على تلك العقاقير ومواضعها في المشرق والمغرب ؛ وكذلك ينبغي لك أن تستدلّ بعقلك على أنّه هو الّذي سمّاها وسمّى بلدتها وعرف مواضعها كمعرفة صاحب الحديقة الّذي سألته الثمرة ، وكذلك لا يستقيم ولا ينبغي أن يكون الغارس والدالّ عليها إلّا الدالّ على منافعها ومضارّها وقراريطها ومثاقيلها.

قال : إنَّ هذا لكما تقول . قلت : أفرأيت لو كان خالق الجسد وما فيه من العصب واللّحم والأمعاء والعروق الّتي يأخذ فيها الأدوية إلى الرأس وإلى القدمين وإلى ما سوى ذلك غير خالق الحديقة وغارس العقاقير ، هل كان يعرف زنتها ومثاقيلها وقراريطها وما يصلح لكلّ داء منها ، وما كان يأخذ في كلّ عرق ؟.

قال : وكيف يعرف ذلك أو يقدر عليه وهذا لا يدرك بالحواسّ ، ما ينبغي أن يعرف هذا إلّا الّذي غرس الحديقة وعرف كلّ شجرة وبقلة وما فيها من المنافع والمضارّ قلت : أفليس كذلك ينبغي أن يكون الخالق واحداً ؟ لأنّه لو كان إثنين أحدهما خالق الدواء والآخر خالق الجسد والداء لم يهتد غارس العقاقير لإيصال دوائه إلى الداء الّذي بالجسد ممّا لا علم له به ، ولا اهتدى خالق الجسد إلى علم ما يصلح ذلك الداء من تلك العقاقير ، فلمّا كان خالق الداء والدواء واحداً أمضى الدواء في العروق الّتي برأ وصوّر إلى الداء الّذي عرف ووضع فعلم مزاجها من حرّها وبردها وليّنها وشديدها وما يدخل في كلّ دواء منه من القراريط والمثاقيل ، وما يصعد إلى الرأس وما يهبط إلى القدمين منها وما يتفرّق منه فيما سوى ذلك.

قال : لا أشكّ في هذا لأنّه لو كان خالق الجسد غير خالق العقاقير لم يهتد واحد منهما إلى ما وصفت. قلت : فإنّ الّذي دلّ الحكيم الّذي وصفت أنّه أوّل من خلط هذه الأدوية ودل على عقاقيرها المتفرِّقة فيما بين المشرق والمغرب ، ووضع هذا الطبّ على ما وصفت لك هو صاحب الحديقة فيما بين المشرق والمغرب ، وهو باني الجسد ، وهو دلّ الحكيم بوحي منه على صفة كلِّ شجرة وبلدها ، وما يصلح منها من العروق والثمار والدهن والورق والخشب واللّحاء ؛ وكذلك دلّه على أوزانها من مثاقيلها وقراريطها وما يصلح لكلِّ داء منها ، وكذلك هو خالق السباع والطير والدوابّ الّتي في مرارها المنافع ممّا يدخل في تلك الأدوية فإنّه لو كان غير خالقها لم يدر ما ينتفع به من مرارها وما يضرّ وما يدخل منها في العقاقير ؛ فلمّا كان الخالق سبحانه وتعالى واحداً دلَّ على ما فيه من المنافع منها فسمّاه باسمه حتّى عرف وترك ما لا منفعة فيه منها ، فمن ثمَّ علم الحكيم أيّ السباع والدوابّ والطير فيه المنافع ، وأيّها لا منفعة فيه ، ولولا أنَّ خالق هذه الأشياء دلّه عليها ما اهتدى بها.

قال : إنَّ هذا لكما تقول وقد بطلت الحواسّ والتجارب عند هذه الصفات. قلت : أمّا إذا صحّت نفسك فتعال ننظر بعقولنا ونستدلّ بحواسّنا ، هل كان يستقيم لخالق هذه الحديقة وغارس هذه الأشجار وخالق هذه الدوابّ والطير والناس الّذي خلق هذه الأشياء لمنافعهم أن يخلق هذا الخلق ويغرس هذا الغرس في أرض غيره ممّا إذا شاء منعه ذلك ؟.

قال : ما ينبغي أن تكون الأرض الّتي خلقت فيها الحديقة العظيمة وغرست فيه الأشجار إلّا لخالق هذا الخلق وملك يده. قلت : فقد أرى الأرض أيضاً لصاحب الحديقة لاتّصال هذه الأشياء بعضها ببعض. قال : ما في هذا شكٌّ. قلت : فأخبرني وناصح نفسك ألست تعلم أنَّ هذه الحديقة وما فيها من الخلقة العظيمة من الإنس والدوابّ والطير والشجر والعقاقير والثمار وغيرها لا يصلحها إلّا شربها وريّها من الماء الّذي لا حياة لشيء إلّا به ؟ قال : بلى. قلت : أفترى الحديقة وما فيها من الذرء خالقها واحد . وخالق الماء غيره يحبسه عن هذه الحديقة إذا شاء ويرسله إذا شاء فيفسد على خالق الحديقة ؟.

قال : ما ينبغي أن يكون خالق هذه الحديقة وذارء هذا الذرء الكثير وغارس هذه الأشجار إلا المدبّر الأوّل وما ينبغي أن يكون ذلك الماء لغيره ، وإنَّ اليقين عندي لهو أنَّ الّذي يجري هذه المياه من أرضه وجباله لغارس هذه الحديقة وما فيها من الخليقة لأنّه لو كان الماء لغير صاحب الحديقة لهلك الحديقة وما فيها ، ولكنّه خالق الماء قبل الغرس والذرء وبه استقامت الأشياء وصلحت. قلت : أفرأيت لو لم يكن لهذه المياه المنفجرة في الحديقة مغيض (53) لما يفضل من شربها يحبسه عن الحديقة أن يفيض عليها أليس كان يهلك ما فيها من الخلق على حسب ما كانوا يهلكون لو لم يكن لها ماء ؟ قال : بلى ولكنّي لا أدري لعلَّ هذا البحر ليس له حابس وأنّه شيء لم يزل . قلت : أمّا أنت فقد أعطيتني أنّه لولا البحر ومغيض المياه إليه لهلكت الحديقة . قال : أجل. قلت : فإنّي اُخبرك عن ذلك بما تستيقن بأنَّ خالق البحر هو خالق الحديقة وما فيها من الخليقة ، وأنّه جعله مغيضاً لمياه الحديقة مع ما جعل فيه من المنافع للناس.

قال : فاجعلني من ذلك على يقين كما جعلتني من غيره. قلت : ألست تعلم أنّ فضول ماء الدنيا يصير في البحر ؟ قال : بلى. قلت : فهل رأيته زائداً قطّ في كثرة الماء وتتابع الأمطار على الحدّ الّذي لم يزل عليه ؟ أو هل رأيته ناقصاً في قلّة المياه وشدّة الحرّ وشدّة القحط ؟ قال : لا . قلت : أفليس ينبغي أن يدلّك عقلك على أنّ خالقه وخالق الحديقة وما فيها من الخليقة واحد ، وأنّه هو الّذي وضع له حدّاً لا يجاوزه لكثرة الماء ولا لقلّته ، وأنّ ممّا يستدلّ على ما أقول أنّه يقبل بالأمواج أمثال الجبال يشرف على السهل والجبل فلولم تقبض أمواجه ولم تحبس في المواضع الّتي اُمرت بالاحتباس فيها لأطبقت على الدنيا حتّى إذا انتهت على تلك المواضع الّتي لم تزل تنتهي إليها ذلّت أمواجه وخضع أشرافه.

قال : إنَّ ذلك لكما وصفت ولقد عاينت منه كلّ الّذي ذكرت ، ولقد أتيتني ببرهان ودلالات ما أقدر على إنكارها ولا جحودها لبيانها. قلت : وغير ذلك سآتيك به ممّا تعرف اتّصال الخلق بعضه ببعض ، وأنَّ ذلك من مدبّر حكيم عالم قدير ، ألست تعلم أنّ عامّة الحديقة ليس شربها من الأنهار والعيون وأنّ أعظم ما ينبت فيها من العقاقير والبقول الّتي في الحديقة ومعاش ما فيها من الدوابّ والوحش والطير من البراري الّتي لا عيون لها ولا أنهار إنّما يسقيه السحاب ؟ قال : بلى. قلت : أفليس ينبغي أن يدلّك عقلك وما أدركت بالحواسّ الّتي زعمت أنّ الأشياء لا تعرف إلّا بها أنّه لو كان السحاب الّذي يحتمل من المياه إلى البلدان والمواضع الّتي لا تنالها ماء العيون والأنهار وفيها العقاقير والبقول والشجر والأنام لغير صاحب الحديقة لأمسكه عن الحديقة إذا شاء ، ولكان خالق الحديقة من بقاء خليقته الّتي ذرأ وبرأ على غرور ووجل ، خائفاً على خليقته أن يحبس صاحب المطر الماء الّذي لا حياة للخليقة إلّا به ؟.

قال : إنّ الّذي جئت به لواضح متّصل بعضه ببعض ، وما ينبغي أن يكون الّذي خلق هذه الحديقة وهذه الأرض ، وجعل فيها الخليقة وخلق لها هذا المغيض ، وأنبت فيها هذه الثمار المختلفة إلّا خالق السماء والسحاب ؛ يرسل منها ما شاء من الماء إذا شاء أن يسقي الحديقة ويحيي ما في الحديقة من الخليقة والأشجار والدوابّ والبقول وغير ذلك ، إلّا أنّي اُحبّ أن تأتيني بحجّة أزداد بها يقيناً وأخرج بها من الشكّ . قلت : فإنّي آتيك بها إن شاء الله من قبل إهليلجتك واتّصالها بالحديقة ، وما فيها من الأشياء المتّصلة بأسباب السماء لتعلم أنّ ذلك بتدبير عليم حكيم.

قال : وكيف تأتيني بما يذهب عنّي الشكّ من قبل الإهليلجة ؟ قلت : فيما اُريك فيها من إتقان الصنع ، وأثر التركيب المؤلّف ، واتّصال ما بين عروقها إلى فروعها ، واحتياج بعض ذلك إلى بعض حتّى يتّصل بالسماء . قال : إن أريتني ذلك لم أشكّ ، قلت : ألست تعلم أنّ الإهليلجة نابتة في الأرض وأنَّ عروقها مؤلّفة إلى أصل ، وأنّ الأصل متعلّق بساق متّصل بالغصون ، والغصون متّصلة بالفروع ، والفروع منظومة بالأكمام والورق ، وملبس ذلك كلّه الورق ، ويتّصل جميعه بظلّ يقيه حرّ الزمان وبرده ؟.

قال : أمّا الإهليجة فقد تبيّن لي اتّصال لحائها وما بين عروقها وبين ورقها ومنبتها من الأرض ، فأشهد أنّ خالقها واحد لا يشركه في خلقها غيره لإتقان الصنع واتّصال الخلق وايتلاف التدبير وإحكام التقدير. قلت : إن أريتك التدبير مؤتلفاً بالحكمة والإتقان معتدلاً بالصنعة ، محتاجاً بعضه إلى بعض ، متّصلاً بالأرض الّتي خرجت منه الإهليلجة في الحالات كلّها أتقرُّ بخالق ذلك ؟ قال : إذن لا أشكّ في الوحدانيّة . قلت : فافهم وافقه ما أصف لك : ألست تعلم أنّ الأرض متّصلة بإهليلجتك وإهليلجتك متّصلة بالتراب ، والتراب متّصل بالحرّ والبرد ، والحرّ والبرد متّصلان بالهواء والهواء متّصل بالريح ، والريح متّصلة بالسحاب ، والسحاب متّصل بالمطر ، والمطر متّصل بالأزمنة ، والأزمنة متّصلة بالشمس والقمر ، والشمس والقمر متّصلتان بدوران الفلك ، والفلك متّصل بما بين السماء والأرض صنعة ظاهرة ، وحكمة بالغة ، وتأليف متقن ، وتدبير محكم ، متّصل كلّ هذا ما بين السماء والأرض ، لا يقوم بعضه إلّا ببعض ، ولا يتأخّر واحد منهما عن وقته ، ولو تأخّر عن وقته لهلك جميع من في الأرض من الأنام والنباتات ؟ قال : إنّ هذه لهي العلامات البيّنات ، والدلالات الواضحات الّتي يجري معها أثر التدبير ، بإتقان الخلق والتأليف مع إتقان الصنع ، لكنّي لست أدري لعلّ ما تركت غير متّصل بما ذكرت. قلت : وما تركت ؟ قال : الناس . قلت : ألست تعلم أنّ هذا كلّه متّصل بالناس ، سخّره لها المدبّر الّذي أعلمتك أنّه إن تأخّر شيء مما عددت عليك هلكت الخليقة ، وباد جميع ما في الحديقة ، وذهبت الإهليلجة الّتي تزعم أنّ فيها منافع الناس ؟.

قال : فهل تقدر أن تفسّر لي هذا الباب على ما لخّصت لي غيره ؟ قلت : نعم اُبيّن لك ذلك من قبل إهليلجتك ، حتّى تشهد أنّ ذلك كلّه مسخّر لبني آدم . قال : وكيف ذلك ؟ قلت : خلق الله السماء سقفاً مرفوعاً ، ولولا ذلك اغتمّ خلقه لقربها ، وأحرقتهم الشمس لدنوّها ، وخلق لهم شهباً ونجوماً يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر لمنافع الناس ، ونجوماً يعرف بها أصل الحساب ، فيها الدلالات على إبطال الحواسّ ، ووجود معلّمها الّذي علّمها عباده ، ممّا لا يدرك علمها بالعقول فضلاً عن الحواسّ ، ولا يقع عليها الأوهام ولا يبلغها العقول إلّا به لأنّه العزيز الجبّار الّذي دبّرها وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً ، يسبحان (54) في فلك يدور بهما دائبين ، (55) يطلعهما تارة ويؤفلهما اُخرى ، فبنى عليه الأيّام والشهور والسنين الّتي هي من سبب الشتاء والصيف والربيع والخريف ، أزمنة مختلفة الأعمال ، أصلها اختلاف اللّيل والنهار اللّذين لو كان واحد منهما سرمداً على العباد لما قامت لهم معايش أبداً ، فجعل مدبّر هذه الأشياء وخالقها النهار مبصراً واللّيل سكناً ، وأهبط فيهما الحرَّ والبرد متبائنين لو دام واحد منهما بغير صاحبه ما نبتت شجرة ولا طلعت ثمرة ، ولهلكت الخليقة لأنّ ذلك متّصل بالريح المصرّفة في الجهات الأربع ، باردة تبرّد أنفاسهم ، وحارّة تلقح أجسادهم وتدفع الأذى عن أبدانهم ومعايشهم ، ورطوبة ترطب طبائعهم ، ويبوسة تنشف رطوباتهم وبها يأتلف المفترق وبها يتفرّق الغمام المطبق حتّى ينبسط في السماء كيف يشاء مدبّره فيجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله بقدر معلوم لمعاش مفهوم ، وأرزاق مقسومة وآجال مكتوبة ، ولو احتبس عن أزمنته ووقته هلكت الخليقة ويبست الحديقة ، فأنزل الله المطر في أيّامه ووقته إلى الأرض الّتي خلقها لبني آدم ، وجعلها فرشاً ومهاداً ، وحبسها أن تزول بهم ، وجعل الجبال لها أوتاداً ، وجعل فيها ينابيع تجري في الأرض بما تنبت فيها لا تقوم الحديقة والخليقة إلّا بها ، ولا يصلحون إلّا عليها مع البحار الّتي يركبونها ، ويستخرجون منها حلية يلبسونها ولحماً طريّاً وغيره يأكلونه ؛ فعلم أنّ إله البرّ والبحر والسماء والأرض وما بينهما واحدٌ حيٌّ قيّوم مدبّر حكيم ، وأنّه لو كان غيره لاختلفت الأشياء.

وكذلك السماء نظير الأرض الّتي أخرج الله منها حبّاً وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ، وفاكهةً وأبّاً ، بتدبير مؤلّف مبيّن ، بتصوير الزهرة والثمرة حياة لبني آدم ، ومعاشاً يقوم به أجسادهم ، وتعيش بها أنعامهم الّتي جعل الله في أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ، والانتفاع بها والبلاغ على ظهورها معاشاً لهم لا يحيون إلّا به ، وصلاحاً لا يقومون إلّا عليه ، وكذلك ما جهلت من الأشياء فلا تجهل أنّ جميع ما في الأرض شيئان : شيء يولد ، وشيء ينبت ، أحدهما آكل ، والآخر مأكول ، وممّا يدلّك عقلك أنّه خالقهم ما ترى من خلق الإنسان وتهيئة جسده لشهوة الطعام ، والمعدة لتطحن المأكول ، ومجاري العروق لصفوة الطعام ، وهيّأ لها الأمعاء ، ولو كان خالق المأكول غيره لما خلق الأجساد مشتهية للمأكول وليس له قدرة عليه.

قال : لقد وصفت صفة أعلم أنّها من مدبّر حكيم لطيف قدير عليم ، قد آمنت وصدّقت أنّ الخالق واحد سبحانه وبحمده ، غير أنّي أشكّ في هذه السمائم القاتلة أن يكون هو الّذي خلقها لأنّها ضارّة غير نافعة ! قلت : أليس قد صار عندك أنّها من غير خلق الله ؟ قال : نعم لأنّ الخلق عبيده ولم يكن ليخلق ما يضرّهم . قلت : ساُبصّرك من هذا شيئاً تعرفه ولا اُنبّئك إلّا من قبل إهليلجتك هذه وعلمك بالطبّ ، قال : هات. قلت : هل تعرف شيئاً من النبت ليس فيه مضرّة للخلق ؟ قال : نعم . قلت : ما هو ؟ قال : هذه الأطعمة. قلت : أليس هذا الطعام الّذي وصفت يغيّر ألوانهم ، ويهيّج أوجاعهم حتّى يكون منها الجذام والبرص والسلال (56) والماء الأصفر ، وغير ذلك من الأوجاع ؟ قال : هو كذلك ؟ قلت : أمّا هذا الباب فقد انكسر عليه . قال : أجل . قلت : هل تعرف شيئاً من النبت ليس فيه منفعة ؟ قال : نعم.

قلت : أليس يدخل في الأدوية الّتي يدفع بها الأوجاع من الجذام والبرص والسلال وغير ذلك ، ويدفع الداء ويذهب السقم ممّا أنت أعلم به لطول معالجتك قال : إنّه كذلك.

قلت : فأخبرني أيّ الأدوية عندكم أعظم في السمائم القاتلة ؟ أليس الترياق ؟ (56) السل بالكسر في اللغة الهزال ، وفي الطب القديم قرحة في الرية ، وانما سمى المرض به لان من لوازمه هزال البدن ، ولان الحمى الدقية لازمة لهذه القرحة.

قال : نعم هو رأسها وأوَّل ما يفرغ إليه عند نهش الحيّات (57) ولسع الهوامّ وشرب السمائم.

قلت : أليس تعلم أنّه لا بدّ للأدوية المرتفعة والأدوية المحرقة في أخلاط الترياق إلّا أن تطبخ بالأفاعي القاتلة ؟ قال : نعم هو كذلك ولا يكون الترياق المنتفع به الدافع للسمائم القاتلة إلّا بذلك ، ولقد انكسر ، عليَّ هذا الباب ، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّه خالق السمائم القاتلة والهوامّ العادية ، وجميع النبت والأشجار ، وغارسها ومنبتها ، وبارئ الأجساد ، وسائق الرياح ، ومسخّر السحاب ، وأنّه خالق الأدواء الّتي تهيج بالإنسان كالسمائم القاتلة الّتي تجري في أعضائه وعظامه ، ومستقرّ الأدواء وما يصلحها من الدواء ، العارف بالروح ومجرى الدم و أقسامه في العروق واتّصاله بالعصب والأعضاء والعصب والجسد ، وأنّه عارف بما يصلحه من الحرّ والبرد ، عالم بكلّ عضو بما فيه ، وأنّه هو الّذي وضع هذه النجوم وحسابها والعالم بها ، والدالّ على نحوسها وسعودها وما يكون من المواليد ، وأنَّ التدبير واحد لم يختلف متّصل فيما بين السماء والأرض وما فيها ؛ فبيّن لي كيف قلت ، هو الأوّل والآخر وهو اللّطيف الخبير وأشباه ذلك ؟ قلت : هو الاوَّل بلا كيف ، وهو الآخر بلا نهاية ، ليس له مثل ، خلق الخلق والأشياء لا من شيء ولا كيف بلا علاج ولا معاناة ولا فكر ولا كيف ، كما أنّه لا كيف له ، وإنّما الكيف بكيفيّة المخلوق لأنّه الأوَّل لا بدءَ له ولا شبه ولا مثل ولا ضدّ ولا ندّ ، لا يدرك ببصر ولا يحسُّ بلمس ، ولا يعرف إلا بخلقه تبارك وتعالى.

قال : فصف لي قوَّته . قلت : إنّما سمّي ربّنا جلَّ جلاله قويّاً للخلق العظيم القويّ الّذي خلق مثل الأرض وما عليها من جبالها وبحارها ورمالها وأشجارها وما عليها من الخلق المتحرّك من الإنس ومن الحيوان ، وتصريف الرياح والسحاب المسخّر المثقّل بالماء الكثير ، والشمس والقمر وعظمهما وعظم نورهما الّذي لا تدركه الأبصار بلوغاً ولا منتهاً ، والنجوم الجارية ، ودوران الفلك ، وغلظ السماء ، وعظم الخلق العظيم والسماء المسقّفة فوقنا راكدة في الهواء ، وما دونها من الأرض المبسوطة ، وما عليها من الخلق الثقيل ، وهي راكدة لا تتحرّك ، غير أنّه ربّما حرّك فيها ناحية ، والناحية الاُخرى ثابتة ، وربّما خسف منها ناحية والناحية الاُخرى قائمة ؛ يرينا قدرته ويدلّنا بفعله على معرفته ، فلهذا سمّي قويّاً لا لقوَّة البطش المعروفة من الخلق ، ولو كانت قوَّته تشبه قوَّة الخلق لوقع عليه التشبيه ، وكان محتملاً للزيادة ، وما احتمل الزيادة كان ناقصاً وما كان ناقصاً لم يكن تامّاً ، وما لم يكن تامّاً كان عاجزاً ضعيفاً ، والله عزَّوجلَّ لا يشبه بشيء ، وإنّما قلنا : إنّه قويٌّ للخلق القويّ ؛ وكذلك قولنا ، العظيم والكبير ؛ ولا يشبّه بهذه الأسماء الله تبارك وتعالى.

قال : أفرايت قوله : سميع بصير عالم ؟ قلت : إنّما يسمّى تبارك وتعالى بهذه الأسماء لأنّه لا يخفى عليه شيء ممّا لا تدركه الأبصار من شخص صغير أو كبير ، أو دقيق أو جليل ، ولا نصفه بصيراً بلحظ عين كالمخلوق ؛ وإنّما سمّي سميعاً لأنّه ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم ، ولا خمسة إلّا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلّا هو معهم أينما كانوا ، يسمع النجوى ، ودبيب النمل على الصفا ، (57) وخفقان الطير في الهواء (58) لا تخفى عليه خافية ولا شيء ممّا أدركته الأسماع والأبصار وما لا تدركه الأسماع والأبصار ، ما جلّ من ذلك وما دقّ ، وما صغر وما كبر ؛ ولم نقل سميعاً بصيراً كالسمع المعقول من الخلق ؛ وكذلك إنّما سمّي عليماً لأنّه لا يجهل شيئاً من الأشياء ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، علم ما يكون وما لا يكون ، وما لو كان كيف يكون ، ولم نصف عليماً بمعنى غريزة يعلم بها ، كما أنَّ للخلق غريزة يعلمون بها ، فهذا ما أراد من قوله : عليم ؛ فعزَّ من جلَّ عن الصفات ، ومن نزَّه نفسه عن أفعال خلقه فهذا هو المعنى ، ولولا ذلك ما فصل بينه وبين خلقه فسبحانه وتقدّست أسماؤه.

قال : إنَّ هذا لكما تقول ولقد علمت أنّما غرضي أن أسأل عن ردّ الجواب فيه عند مصرف يسنح عنّي ، فأخبرني لعلّي اُحكمه فيكون الحجّة قد انشرحت للمتعنّت المخالف ، أو السائل المرتاب ، أو الطالب المرتاد ، مع ما فيه لأهل الموافقة من الازدياد . فأخبرني عن قوله : لطيف ، وقد عرفت أنّه للفعل ، ولكن قد رجوت أن تشرح لي ذلك بوصفك. قلت : إنّما سمّيناه لطيفاً للخلق اللّطيف ، ولعلمه بالشيء اللّطيف ممّا خلق من البعوض والذرّة ، (59) وممّا هو أصغر منهما لا يكاد تدركه الأبصار والعقول ، لصغر خلقه من عينه وسمعه و صورته ، لا يعرف من ذلك لصغره الذكر من الاُنثى ، ولا الحديث المولود من القديم الوالد ، (60) فلمّا رأينا لطف ذلك في صغره وموضع العقل فيه والشهوة للسفاد (61) والهرب من الموت ، والحدب على نسله من ولده ، ومعرفة بعضها بعضاً ، وما كان منها في لجج البحار ، وأعنان السماء ، والمفاوز والقفار ، وما هو معنا في منزلنا ، ويفهم بعضهم بعضاً من منطقهم ، وما يفهم من أولادها ، ونقلها الطعام إليها والماء ، علمنا أنَّ خالقها لطيف وأنّه لطيف بخلق اللّطيف ، (62) كما سمّيناه قويّاً بخلق القويّ.

قال : إنَّ الّذي جئت به لواضح ، فكيف جاز للخلق أن يتسمّوا بأسماء الله تعالى ؟ قلت : إنَّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أباح للناس الأسماء ووهبها لهم ، وقد قال القائل من الناس للواحد : واحد ، ويقول لله : واحد ويقول قويّ والله تعالى قويّ ، ويقول : صانع والله صانع ، ويقول : رازق والله رازق ، ويقول : سميع بصير والله سميع بصير ، وما أشبه ذلك ، فمن قال للإنسان : واحد فهذا له اسم وله شبيه ، والله واحد وهو له اسم ولا شيء له شبيه وليس المعنى واحداً ؛ وأمّا الأسماء فهي دلالتنا على المسمّى لأنّا قد نرى الإنسان واحداً وإنّما نخبر واحداً إذا كان مفرداً فعلم أنَّ الإنسان في نفسه ليس بواحد في المعنى لأنَّ أعضاءه مختلفة وأجزاءه سواءاً ، ولحمه غير دمه ، وعظمه غير عصبه ، وشعره غير ظفره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر الخلق والإنسان واحد في الاسم ، وليس بواحد في الاسم والمعنى والخلق ، فإذا قيل لله فهو الواحد الّذي لا واحد غيره لأنّه لا اختلاف فيه ، وهو تبارك وتعالى سميع وبصير وقويٌّ وعزيز وحكيم وعليم فتعالى الله أحسن الخالقين.

قال : فأخبرني عن قوله : رؤوفٌ رحيم ، وعن رضاه ومحبّته وغضبه وسخطه. قلت : إنَّ الرحمة وما يحدث لنا منها شفقّة ومنها جود ، وإنَّ رحمة الله ثوابه لخلقه ؛ والرحمة من العباد شيئان : أحدهما يحدث في القلب الرأفة والرقّة لما يرى بالمرحوم من الضرِّ والحاجة وضروب البلاء ، والآخر ما يحدث منّا من بعد الرأفة واللّطف على المرحوم والرحمة منّا ما نزل به ، وقد يقول القائل : انظر إلى رحمة فلان وإنّما يريد الفعل الّذي حدث عن الرقّة الّتي في قلب فلان ، وإنّما يضاف إلى الله عزَّوجلَّ من فعل ما حدث عنّا من هذه الأشياء ؛ وأمّا المعنى الّذي هو في القلب فهو منفيٌّ عن الله كما وصف عن نفسه فهو رحيم لا رحمة رقّة ؛ وأمّا الغضب فهو منّا إذا غضبنا تغيّرت طبائعنا وترتعد أحياناً مفاصلنا وحالت ألواننا ، ثمَّ نجيىء من بعد ذلك بالعقوبات فسمّي غضباً ، فهذا كلام الناس المعروف ؛ والغضب شيئان : أحدهما في القلب ، وأمّا المعنى الّذي هو في القلب فهو منفيٌّ عن الله جلّ جلاله ، وكذلك رضاه وسخطه ورحمته على هذه الصفة جلّ وعزّ لا شبيه له ولا مثل في شيء من الأشياء.

قال : فأخبرني عن إرادته . قلت : إنَّ الإرادة من العباد الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله عزَّوجلَّ فالإرادة للفعل إحداثه إنّما يقول له : كن فيكون بلا تعب ولا كيف.

قال : قد بلغت حسبك فهذه كافية لمن عقل ؛ والحمد لله ربّ العالمين ، الّذي هدانا من الضلال ، وعصمنا من أن نشبّهه بشيء من خلقه ، وأن نشكّ في عظمته وقدرته ولطيف صنعه وجبروته ، جلّ عن الأشباه والأضداد ، وتكبّر عن الشركاء والأنداد.

شرح : قوله عليه السلام : دفعت إليه على بناء المجهول أي دفعتك الحاجة والضرورة إليه ، وفي الأساس : دفع فلان إلى فلان : انتهى إليه. قوله عليه السلام : مغيض هو بفتح الميم وكسر الغين المعجمة : موضع يجري إليه الماء ويغيب أو يجتمع فيه ، وفي الثاني مصدر ميميٌّ قوله عليه السلام : في الجهات الأربع أي الشمال والجنوب والصبا والدبور ، ويحتمل أن يكون المراد المتغيّرة بسب الصفات الأربعة الّتي فسّرها عليه السلام. قوله عليه السلام : تلقح أجسادهم أي تنميها ، مستعاراً من لقاح الشجر ، كما قال تعالى : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ. وفي أكثر النسخ بالفاء وهو بمعنى الإحراق ، فيكون كناية عن نضجها. والودق : المطر. قوله : وقضباً يعني الرطبة ، سمّيت بمصدر قبضه إذا قطعه لأنّها تقضب مرَّة بعد اُخرى . وحدائق غلباً أي عظاماً ، وصفت به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها ، أو لأنّها ذات أشجار غلاظ مستعار من وصف الرقاب. وأبّاً : مرعىً ، من أبّ إذا أمَّ لأنّه يؤمُّ وينتجع ، أو من أبَّ لكذا : إذا تهيّأ له لأنّه متهيّأ للرعي ، وفاكهة يابسة تؤبُّ للشتاء. وقال الجوهريّ : الأثاث : متاع البيت قال الفرّاء : لا واحد له ، وقال أبو زيد : الأثاث المال أجمع ، الإبل والغنم والعبيد والمتاع ، الواحدة : أثاثة. انتهى. ومتاعاً أي شيئاً ينتفع به. إلى حين إلى أن تقضوا منه أوطاركم أو إلى أن يبلى ويفنى أو إلى أن تموتوا. قوله عليه السلام : والانتفاع عطف على أصوافها ، أو في أصوافها. قوله عليه السلام : ومستقرّ اسم مكان معطوف على الأدواء. قوله عليه السلام : هو الأوّل بلا كيف أي كان أزليّاً من غير اتّصاف بكيفيّه ، أو من غير أن تعرف كيفيّة أوّليّته بمقارنة زمان قديم بل بلا زمان. قوله عليه السلام : لا من شيء ولا كيف أي لا من مادّة ولا من شبه ومثال وتصوّر وخيال تمثّل فيه كيفيّة الخلق ثمّ خلق على مثال ذلك كما في المخلوقين. قوله عليه السلام ثانياً : ولا كيف أي ليس لخلقه وإيجاده كيفيّه كما في المخلوقين من حركة ومزاولة عمل فكما أنّه لا كيف لذاته لا كيف لإيجاده ، وإذا وصف خلقه وإيجاده بالكيف فهو يرجع إلى كيفيّة مخلوقة فإذا قيل : كيف خلق الأشياء فالمعنى الصحيح له كيف مخلوقاته لا أنّه كيف كان فعله وإيجاده ، وإليه أشار عليه السلام بقوله : وإنّما الكيف بكيفيّة المخلوق ، ثمَّ علّل ذلك بأنَّ هذه صفات المحدَثين ، وهو الأوَّل لا بدء له ولا شبه فكيف يتّصف بها. قوله عليه السلام : الّذي خلق خبر مبتداء محذوف أي هو الّذي. وقوله عليه السلام : وتصريف الرياح عطف على الخلق العظيم ويحتمل العطف على قوله : مثل الأرض. قوله عليه السلام : بلوغاً ولا منتهى لعلّ المراد أنّه لا يبلغ الأبصار إليهما ، ولا إلى منتهى نورهما ، أو منتهى جسمهما.

قوله عليه السلام : وعظم الخلق العظيم أي السماء أو ما عليها من الملائكة. قوله : ولا يشبّه بهذه الأسماء على بناء المجهول من باب التفعيل أي لا يصير إطلاق هذه الأسماء عليه سبباً لأن يظنّ أنّه شبيه بخلقه. قوله : إنّما غرضي أي غرضي من السؤال أن تجيب عمّا يعرض لي من إشكال يصرّفني عن الحقّ ، يسنح ويظهر عنّي ، وفي بعض النسخ عن ردّ الجواب فيه عند متعرّف غبيّ . أي إنّي قد آمنت وأيقنت ، وإنّما المقصود من السؤال أن أقدر على أن اُجيب عن سؤال متعرّف غبيّ جاهل أحمق لأهديه إلى الحقّ ؛ وهو أظهر. والحدب : العطف والشفقة ، ولعلّ المراد بما في أعنان السماء ما يطير في الهواء. وقد مرَّ تفسير بعض الفقرات وسيأتي تفسير بعضها.

الهوامش

1. وفي نسخة : محمد بن أبي مشتهر.

2. وفي نسخة : وتاليف يبطل جحوده.

3. وفي نسخة : احتاج.

4. قاد الدابة : مشى أمامها آخذاً بقيادها.

5. وفي نسخة : إذا أنكرت الله وجحدته.

6. وفي نسخة : فدرت في أقطارها.

7. وفي نسخة : هل غصت في غمرات البحور.

8. وفي نسخة : لانها من أداة الطب الذي أدعى معرفته.

9. وفي نسخة : لانبأتك من قبله.

10. وفي نسخة : والاشياء المؤتلفة .

11. جنى الثمر : تناوله من شجرته.

12. وَفي نسخه : موضوع على جرم متصّل.

13. في نسخه : ولين مع لين ولين على شدة.

14. ذبل النبات : قل ماؤه وذهبت نضارته.

15. أي فتبعد . وفي نسخة : فتنأى فلا ترى.

16. أي لا تبلى ولا ترثّ.

17. وفي نسخة : أن ممسك الارض الممهدة.

18. سفت وأسفت الريح التراب : ذرته أو حملته.

19. عفّت الريح المنزل : درسته ومحته . ويمكن أن يكون من أعفى إعفاءاً أي تركه.

20. وفي نسخة : وإنها تحرك ناحية وتمسك عن اخرى.

21. وفي نسخة : ينفجر بعد تمسكه.

22. وفي نسخة : تصفقه الرياح.

23. ازجاه أي دفعه برفق.

24. وفي نسخة : لا تقطر منه قطرة.

25. بكسر الباء وفتح الراء جمع بركة : مستنقع الماء الحوض.

26. وفي نسخة : ومصممة الاذان لدويّها وهديرها.

27. التكوير : 11.

28. في نسخة : وعرض الوراب والانحراف والالتواء فيهما.

29. في نسخة : أما إذ حجبت عن الجواب.

30. قضى منه نهمته أي شهوته.

31. الرائس : الوالي ، في مقابلة المرؤوس للمستولي عليه.

32. الى هنا انتهى ما يختص به كتاب النجوم ، ويشترك سائر النسخ من قوله : فاذا سألت الرجل منهم ....

33. وفي نسخة : لقد وصفت علماً عجيباً.

34. في نسخة : ما الذى يرد على.

35. وفي نسخة : فاما الدنو.

36. وفي نسخة : قد أنكر عليك.

37. وفي نسخة : قال : ذلك أنقى للشك عنى.

38. وبعبارة اخرى إنك بعد ما اعترفت بأن جميع الناس يولدون بهذه النجوم ولم يمكن أن يولد أحد من أهل الارض الا بهذه النجوم لانها علته ، فقد اعترفت بأن واضع هذه النجوم غير أهل الدنيا لانهم معلولون لها ، وهذا تسليم واذعان منك بالصانع تعالى.

39. ما ذكره رحمه الله بمعنى التأثير بنحو الاستقلال حق ؛ وأما أصل التأثير بمعنى وجود رابطة السببية والمسببية بين هذه الاشياء فهو مما بنى عليه كلامه عليه ‌السلام من أوله الى آخره كما هو ظاهر. ط

40. الصبر وزان كتف : عصارة شجر مر.

41. البورق بالفتح معرب بوره : شيء يتكون مثل الملح في شطوط الانهار والمياه.

42. اللحاء : قشر العود أو الشجر.

43. في نسخة : متقلبون بالمناصبة.

44. في نسخة : قاصداً لا يجوز.

45. الحرافة : طعم يلذع اللسان بحرارته.

46. في نسخة : ولينها ويابسها.

47. استطلق البطن : مشى . وألان أي جعله ليناً

48. في نسخة : يصير كل دواء منها إلى ذلك الداء.

49. في نسخة : لقد جئت بما أعرف.

50. أي قد اعجزت عن إجابتك.

51. اينع الثمر : أدرك وطاب وحان قطافه. وفي بعض النسخ : ايفع أثمارها. فهو من أيفع الغلام : ترعرع وناهز البلوغ.

52. في نسخة : ذهبت اليه.

53. المغيض : مجتمع الماء ومدخله في الارض وفي نسخة : المفيض بالفاء وكذا فيما يأتي بعده.

54. سبح في الماء وبالماء : عام وانبسط فيه. ويستعار لمرّ النجوم وجرى الفرس وما شاكل.

55. أي مستمرين.

56. نهش الحية : تناوله بفمه ليعضّه فيؤثر فيه ولا يجرحه.

57. الصفا : الحجر الصلد الضخم.

58. خفق الطير : ضرب بجناحيه.

59. الذر : صغار النمل.

60. هذا تنبيه منه عليه السلام على وجود الحيوانات الحية والميكروبات المخفية عن الانظار و العقول ، قبل وجود المكبّرات واختراع الميكروسكوب والمنظار بقرون ، وغير خفى أن العلم بذلك في أحد عشر قرنا قبل زماننا لم يك يحصل إلا لذوي النفوس الكاملة والانظار الثاقبة ، الذين خصهم الله من بريته بفضله ، وأيدهم بحكمته ، وانتجبهم لولايته من بين خلقه ، وعلّمهم ما لا يعلّم غيرهم من عبيده.

61. وفي نسخة : والشهوة للبقاء.

62. وفي نسخة : لطيف يخلق اللطيف.

مقتبس من كتاب : [ بحار الأنوار ] / المجلّد : 3 / الصفحة : 152 ـ 198