تعريفان ناقصان للعبادة

طباعة

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2 ، ص 99 ـ 103

 


(99)


تعريفان ناقصان للعبادة


أ ـ العبادة : « خضوع وتذلّل » .
وقد ورد هذا التعريف في كتب اللّغة ، ولكنه لا يعكس المعنى
الحقيقي للعبادة الّذي نردده في قولنا: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وإنّما هو معنى مجازي لمناسبة ما يلازم العبادة الحقيقية عادة من إظهار
الخضوع والتذلّل . وقد استعملت العبادة في هذا المعنى المجازي في
القرآن الكريم في حكايته قول موسى ـ عليه السَّلام ـ : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا
عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(1). ويدلنا على أنَّ هذا المعنى ليس حقيقياً
للعبادة أمران:
الأوّل:  لو كانت العبادة مرادفة في المعنى للخضوع والتذلّل ، لما
أمكننا أنْ نعتبر أي إنسان موحداً لله ؛ لأنّ البشر بفطرته ـ يخضع لمن يتفوق
عليه ، معنوياً أو مادياً ، كالتلميذ يخضع لأُستاذه ، والولد لوالديه ، والمحب
لحبيبه ، والمستعطي لمعطيه.
الثاني:  إنَّ القرآن الكريم يأمر الإِنسان بأنْ يتذلّل لوالديه فيقول:
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيرًا}(2). فلو كان الخضوع والتذلّل معناه عبادة مَنْ تَذَلّلت له ، لاستلزم
الحكم بكفر من يَبرّ والديه ، والحكم بتوحيد من يَعق والديه.
ب ـ العبادةُ « نهاية الخضوع ».
لقد حاول بعض المفسرين بعد أن أدركوا نقصان تعريف اللغويين
للعبادة ـ ترميم هذا النقص وإصلاحه ، فقالوا: « العبادة: نهاية الخضوع
بين يدي من تدرك عظمته وكماله » .  وهذا التعريف يشترك مع سابقه في
النقص والإِشكال ؛ وذلك:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الشعراء: الآية 22.
(2) سورة الإسراء: الآية 24.
________________________________________


(100)


1 ـ لأنَّ الله تعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول : {وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ}(1). والسجود هو نهاية التذلّل
والخضوع للمسجود له ، فإذا كان معنى العبادة هو نهاية الخضوع ؛ فإنّه يستلزم
القول بكفر الملائكة الذين سجدوا لآدم امتثالاً لأمره تعالى مع ما رواه فيه من
الاختصاص بعلم الأسماء كلها.
2 ـ إنَّ إخوة يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على
عرش الملك والسلطنة كما يقول تعالى: { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ
هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا }(2).
والرؤيا الّتي أشار إليها يوسف في الآية هي ما أشار إليه تعالى بقوله:
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ ِلأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}(3).
3 ـ إنَّ كل المسلمين اقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يُقَبّلون
الحجر الأسود المستقر في زاوية الكعبة المُشَرَّفة ، ويتبركون به ، ونفس
العمل هذا يقوم به عُبَّاد الأصنام تجاه أصنامهم مع العلم أَنَّ عملهم ذلك شرك
قطعاً ، وعمل المسلمين توحيد قطعاً.
إذن ليس معنى العبادة نهاية الخضوع والتذلّل ، وإن كان ذلك من
أركانها ، ولكنه ليس الركن الوحيد ؛ لأنّ العبادة كما عرفت هي الخضوع
والتذلّل المقرون بالاعتقاد الخاص « وهو الاعتقاد بألوهية المعبود» على ما
عرفتَ ذلك مفصلاً .
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة: الآية 34.
(2) سورة يوسف: الآية 100.
(3) سورة يوسف: الآية 4.
________________________________________


(101)


نتائج البحث
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي : إنَّ العبادة ليست سوى إظهار
الخضوع أمام موجود يعتقد بأنَّه إله أو ربّ ، أو مُفَوَّض إليه الأفعال الإِلهية ، فلو
كان الخضوع خالياً عن هذا الإِعتقاد فلا يعد عبادة ولا شركاً فيها.  وأمَّا كونه
جائزاً أولا ، نافعاً أوْلا ، فالكل خارج عن إطار البحث . وبذلك يتضح أنَّ
كثيراً من الموضوعات الّتي تُعَرّفها فرقة الوَهابية عبادة لغير الله وشركاً به ،
ليس صحيحاً على إطلاقه ، وإنّما هو شرك وعبادة على وجه ، وخضوع
عقلائي على وجه آخر ، ولا يكون شركاً إلاَّ إذا كان المخضوع له معنوناً بأحد
العناوين الثلاثة الآتية:
أ ـ إنَّه إله .  ب ـ إنّه رب .  ج ـ إنّه مفوَّض إليه فعل الإِله.
ومن تلك الموضوعات
1 ـ التوسل بأولياء الله.
2ـ الإِستعانة بأولياء الله في حياتهم.
3 ـ الإِستعانة بأرواحهم بعد مماتهم.
4 ـ طلب الشفاعة منهم في الحياة والممات.
5 ـ استحلاف الله سبحانه بحق الأولياء.
6 ـ الاستغاثة بأولياء الله.
7 ـ الحلف بغير الله.
8 ـ الاعتقاد بالقدرة الغيبية لأولياء الله.
9 ـ التبرك والاستشفاء بآثارهم.
10 ـ النذر لأهل القُبور.
وغير ذلك ما أوجد به الوهابيّون صخباً وهياجاً بين السطحيين من المسلمين
المتأثرين بأفكارهم.
فإنّ الكلمة الحاسمة في هذه الموضوعات من وجهة التوحيد والشرك
هي محاسبة عقيدة القائم بهذه الأفعال والدقة فيما يعتقد به . فلو قام بها على
________________________________________


(102)


أنَّ أولياء الله آلهة ( آلهة صغيرة وإن كان فوقها إله كبير) ، أو أنّهم أرباب
مدبرون ومديرون للكون كله أو بعضه ، أو أنّهم مُفَوّض إليهم أفعال الله
سبحانه ، فلا شك أنَّ أقل عمل صادر من أي شخص بهذه النية ، حتى ولو
كان كتقبيل الضريح ولمس القبر ، يتصف بالعبادة ، ويكون العامل مشركاً
غير موحد في العبادة.
وأمَّا إذا قام بها مجردة عن تلك العقيدة ، بل بما أنّهم عباد مُخْلَصون
مكرّمون ، كرّسوا حياتهم في طريق رضا الله سبحانه ، وقاموا ببذل النفس
والنفيس في سبيله ، فلا يعد عبادة حتى ولو ركعوا وسجدوا لهم . وقد
عرفت أنّ سجود الملائكة لآدم ويعقوب وأبناءه ليوسف كان مجسداً لأعظم
خضوع وتعظيم ، ولم يكن شركاً في العبادة . وأنَّ العرب الجاهليين كانوا
واقعين في حبائل الشرك ، لا لأجل الخضوع المجرد للأصنام والأوثان ، بل
لأجل اعتقاد الألوهية والربوبية في حقهم ، واعتقادهم باستقلالهم بالنفع ، ونفوذ
المشيئة . يقول سبحانه موبخاً إيَّاهم يوم القيامة على ما اعتقدوه للأصنام من
الاستقلال في إيصال النفع ، ودفع الضرر: { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ
اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}(1) . ويقول حاكياً اختصامهم يوم القيامة إنّهم
يخاطِبون من اعتقدوا فيهم الربوبية وخصائصها :{ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ
مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(2). فانظر إلى هذه التسوية الّتي اعترفوا
بها حيث يصدق الكذوب ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم . فالتسوية
المذكورة هي الّتي صيّرتهم مشركين ، سواء أكانت تسوية في جميع الصفات
أو في بعضها.
وممَّا يدل على اعتقادهم الربوبية في معبوداتهم ، قوله سبحانه:
{ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ }(3). وغير
ذلك من الآيات الدّالة على أنّهم كانوا يعتقدون في الأوثان والأصنام شيئاً من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الشعراء: الآيتان 92 ـ 93.
(2) سورة الشعراء: الآيتان 97 ـ 98.
(3) سورة البقرة: الآية 165.
________________________________________


(103)


الأُلوهية والربوبية ولمعة من التفويض . فلولا هذا الاعتقاد لما اصطبغ العمل
بالشرك بل صار بين كونه أمراً عقلائياً مفيداً ، كما إذا كان الخضوع عن حق
كالخضوع للأنبياء والأولياء ، والعلماء والصلحاء ، والآباء والمُرَبّين ، وكونه عملاً
لاغياً غير مفيد إذا وقع في غير محله على ما عرفتَ.
فأنت بعدما وقفت على تحديد العبادة تقدر على القضاء في المسائل
السابقة المطروحة من جانب الوهابية.


* * *