الجبر الفلسفي

طباعة

 

المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج2، ص 303 ـ 314


(303)


مناهج الجبر
(2)


الجبر الفلسفي


قد عرفتَ حقيقة الجبر الأشعري ، و أنَّه كان يَرُدُّ الاختيار بعوامل غيبية
و سماوية من القضاء و القدر ، و سبق العلم الأزلي ، و المشيئة الإِلهية . و عرفتَ بعض
التشكيكات التي ذكروها في المقام.
و أمَّا الجبر الفلسفي فهو يعتمد على قواعد فلسفية مسلّمة عند الإِلهي
و المادي . و نذكر فيما يلي المهم من أدلته:
الدليل الأوّل : وجود الشيء مقارن لوجوبه
قد ثبت في الفن الأعلى من الفلسفة أنَّ « الشيء ما لم يجب لم 
يوجد » ، و هذه قاعدة مسلّمة عند الكل ، و حاصل برهانها أنَّ الشيء الممكن
في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود و لا العدم ، فنسبة الوجود و العدم إليه
متساوية ، و لا يتسم بهما إلاَّ بلحاظ أمر خارج عن ذاته ، غير أن اتصافه
بالوجود يتوقف على انضمام عامل إلى ماهية الممكن حتى يضفي عليها
الوجود ، في حين أنَّه يكفي في اتصافه بالعدم لحاظ عدم العامل و عدم العلَّة.
و على هذا فلو وجد عامل خارجي يقتضي وجوده اقتضاءً إيجابياً ،
يتحقق . و إلاَّ يكون تطرق العدم إليه جائزاً و ممكناً ، و معه لا يمكن أن يتحقق
و يتلبس بالوجود.
________________________________________


(304)


و بعبارة ثانية : إذا كان هناك ما يقتضي وجوده ، فإمَّا أن يقتضي وجوبه
أيضاً أو لا ، فعلى الأوّل فقد وجب وجوده ، و تثبت القاعدة ، و على الثاني
يعود السؤال بأنّه إذا كان تطرق العدم أمراً ممكناً جائزاً ، فلماذا اتصف
بالوجود دون العدم مع انفتاح طريق كل منهما ؛ إذ المفروض أنَّ العلّة ما
اقتضت وجوبه ، و لم تسد باب العدم على وجه القطع و البت ، بل كان باب كل
مفتوحاً على الشيء ، و إنْ ترجّح جانب الوجود ، ولكنه لم يمتنع بعدُ الجانب
الآخر ، و الأولوية العارضة لجانب الوجود غير كافية ؛ إذ المفروض أنَّ طريق
العدم معها بعد مفتوح ، و مع ذلك اتصف بالوجود و لم يتصف بالعدم.
و عندئذٍ ، ينطرح السؤال التالي :
لماذا تحقق هذا و لم يتحقق ذاك؟ و لأجل ذلك ذهب الحكماء إلى أنَّ
وجود الشيء رهن سد باب العدم على وجه القطع و البت ، و اتصافه بالوجود
على وجه الوجوب حتى ينقطع السؤال بأنّه لِمَ اتصف بهذا دون ذاك.
هذا برهان القاعدة ، و رتب عليها القول بالجبر ؛ لأنّ فعل العبد لا
يصدر منه إلاَّ بالوجوب ، و الوجوب ينافي الاختيار .
يلاحظ عليه:  إنَّ القاعدة قاعدة متقنة لا غبار عليها غير أنَّ استنتاج
الجبر من القاعدة أمر عجيب ؛ لأنّها لا تعطي أزيد من أنَّ المعلول إنّما
يتحقق بالإِيجاب و الإِلزام ، و أمَّا كون الفاعل ، فاعلاً موجباً (بالفتح) ،
و مجبوراً ، فلا يستفاد منها.
توضيح ذلك : إنَّ الفاعل لو كان فاعلا طبيعياً غير شاعر و لا مختار ، أو
شاعراً غير مختار ، يصدر الفعل منه بالوجوب مع امتناع العدم ، و يكون الفعل
واجباً ، و الفاعل موجَباً (بالفتح) . و أمَّا إذا كان الفاعل مدركاً و مختاراً ،
فصدور الفعل منه يتوقف على اتّصاف فعله بالوجوب ، و العامل الذي يضفي
هذا الوصف على المعلول هو نفس الفاعل ، فهو باختياره و حريته يوصل
الفعل إلى حدّ يكون صدوره عنه على نحو الوجوب و اللزوم . فعندئذٍ يكون الفاعل
المدرك المختار فاعلاً موجباً أي معطياً الوجوب لفعله و مَنْ هو كذلك
________________________________________


(305)


لا يتصف هو و لا فعله بالجبر . فالاستنتاج نبع من المغالطة بين الفاعل
الموجَب و الفاعل الموجِب ، و هو أحد أقسام المغالطة(1).
الدليل الثاني : الإِرادة ليست اختيارية
هذا الدليل الذي لجأ إليه الجبريون من الحكماء ، هو المزلقة
الكبرى ، و الداهية العظمى في المقام ، و لقد زلّت في نقده و تحليله أقدام
الكثير من الباحثين ، و لا عتب علينا لو أسهبنا البحث فيه ، فنقول :
قال المستدل : إنَّ كل فعل اختياري بالإرادة ، ولكنها ليست أمراً
اختيارياً ، و إِلاَّ لزم أن تكون مسبوقة بإرادة أُخرى ، و ينقل الكلام إليها ، فإمَّا أن
تقف السلسلة ، فيلزم الجبر في الإِرادة النهائية ، و إِمَّا أن لا تقف ، فيلزم
التسلسل.
و بعبارة ثانية : إنَّ الفعل الاختياري ما كان مسبوقاً بالإِرادة ، و أمَّا
نفسها ، فلا تكون كذلك ، لأنا ننقل الكلام إلى الثانية منها فهل هي كذلك
أو لا؟ و على الثاني يثبت كونها غير اختيارية لعدم سبق إرادة عليها ، و عدم
نشوئها من إرادة أُخرى . و على الأوّل ينقل الكلام إليها مثل الأولى فإمّا أن
يتوقف في إرادة غير مسبوقة ، أو يتسلسل . و الثاني محال . فيثبت الأوّل.
و قد نقل صدر المتألهين هذا الإِشكال عن المعلّم الثاني الفارابي حيث
قال في نصوصه : « إن ظن ظان أنَّه يفعل ما يريد و يختار ما يشاء ، استكشف
عن اختياره هل هو حادث فيه بعدما لم يكن أو غير حادث؟ ؛ فإن كان غير
حادث فيه ، لزم أن يَصْحَبُهُ ذلك الاختيار منذ أوّل وجوده ، ولزم أن يكون مطبوعاً
على ذلك الاختيار لا ينفك عنه ، و إن كان حادثاً ـ و لكل حادث محدث ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إنّ للمغالطة أقساماً كثيرة ربما تناهز الثلاثة عشر قسماً، و منها هذا القسم الوارد في هذا
البحث. لاحظ قسم المغالطة في شرح المنظومة للحكيم السبزواري : ( ص 105 ـ قسم
المنطق) حيث يقول:
أنواعها الثلاثة عشر كما * قد ضبطوها من كلام القُدَما
________________________________________


(306)


فيكون اختياره عن سبب اقتضاه و محدث أحدثه ، فإمَّا أن يكون هو أوغيره ،
فإن كان هو نفسه ، فإمَّا أن يكون إيجاده للاختيار بالاختيار ، و هذا يتسلسل
إلى غير النهاية ، أو يكون وجوداً لاختيار فيه لا بالاختيار فيكون مجبوراً على
ذلك الاختيار من غيره ، و ينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست
باختياره » (1).
و أنتَ ترى أنَّ هذا البرهان لو صحّ لكان المادي و الإِلهي متساويين
بالنسبة إليه .  و حاصل هذا البرهان أنَّ الإِرادة تعرض للنفس في ظل عوامل
داخلية و خارجية ، فيكون اجتماع تلك العوامل موجباً لظهورها على لوح
النفس . و لأجل ذلك تتصف الإِرادة بالجبر لكون وجودها معلولاً لتلك
العوامل النفسانية و غيرها.  فالفعل الإِختياري ينتهي إلى الإِرادة ، و هي تنتهي
إلى مقدماتها من التصور و التصديق ، و الميل النفساني المنتهية إلى أشياء
خارجة عن ذات المريد ، نعم الإِلهي يرجع هذه المقدمات النفسانية أو
الخارجية ، بعد سلسلة الأسباب و المسببات إلى اللّه سبحانه ، و المادي
يرجعها إلى العوامل الموجودة في عالم المادية ، و لذلك ذكرنا هذا البرهان في
فصل الجبر الفلسفي ، لا في الأشعري الذي ينسب الأشياء إلى اللّه سبحانه
مباشرة ، و لا في فصل الجبر المادي الذي لا يرى علّة للجبر إلاَّ العوامل
المادى ، بل ذكرناه في هذا الفصل الذي يمكن أن يكون مختاراً للإِلهي كما
يمكن أن يكون مختاراً للمادي.
أقول : إنَّ هذا الإِشكال هو من أهم الإِشكالات في هذا الباب ،
و ربما نرى أنّ بعض الماديين لجأوا إلى تنمية هذا الإشكال بشكل يناسب
أبحاثهم ، و يصرون على أنَّ الإِرادة في الإِنسان تحصل باجتماع معدات
و شرائط ، و مقدمات و بواعث يكون الإِنسان مقهوراً في إرادته ، و إن كان يتصور
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار : ج 6 ص 390. و يظهر هذا الإشكال من الشيخ الرئيس في الفن الثالث من
طبيعيات الشفاء . و في أوّل العاشرة من إلهيات الشفاء . و قد نقل صدر المتألهين نصوصه في
المصدر نفسه ، فلاحظ.
________________________________________


(307)


نفسه مختاراً ، و يُرددون في أشداقهم كون الإنسان مسيراً بصورة المختار .
و نحن نأتي ببعض ما ذكر من الأجوبة ، ثمّ نذكر المختار من الجواب عندنا.
الأجوبة المذكورة في المقام
الجواب الأوّل:  هو ما أجاب به صدر المتألهين قال : « المختار ما
يكون فعله بإرادته ، لا ما يكون إرادته بإرادته . و القادر ما يكون بحيث إن
أراد الفعل ، صدر عنه الفعل ، و إلاَّ فلا . لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل
فعل ، و إلاَّ لم يفعل » (1).
يلاحظ عليه : إنَّ ما ذكره من التعريف إنّما هو راجع إلى الأفعال
الجوارحية ، فالمِلاك في كونها أفعالاً اختيارية أو جبرية هو ما ذكره . و أمَّا الأفعال
الجوانحية الصادرة عن النفس و الضمير ، فهي إمَّا أفعال جبرية ، أو إنَّ
لكونها أفعالاً اختيارية مِلاكاً آخر يجب الإيعاز إليه.
و باختصار : إنَّ البحث ليس في التسمية حتى يقال : إنَّ التعريف المذكور
للفعل الاختياري يوجب كون الإرادة و الفعل من الأمور الاختيارية ، بل
البحث في واقع الإِرادة و حقيقتها ، فإِذا كانت ظاهرة في الضمير الإِنساني في
ظل عوامل نفسانية أو أرضية و سماوية ، فلا تكون أمراً اختيارياً . و بالنتيجة ،
لا يكون الفعل أيضاً فعلاً اختيارياً.
الجواب الثاني:  ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية في بحث
التجرّي من أنَّ اختيارية الإرادة و إنَّ لم تكن بالاختيار ، إلاَّ أنَّ مبادئها يكون
وجودها غالباً بالاختيار للتمكن من عدمه بالتأمل في ما يترتب على ما عزم
عليه من اللوم و المذمة أو التبعة و العقوبة (2).
يلاحظ عليه:  إنَّه لا يدفع الإشكال ؛ لأنَّ تلك المبادئ لا تخلو إمَّا أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأسفار : ج 6، ص 388 ، و له جواب آخر عن الإشكال غير متين جدا ً، فمَن أراد ، فليرجع
إلى كتابه ، كما نقل جواباً آخر عن أُستاذه المفخم المحقق الداماد.
(2) كفاية الأصول : للمحقق الخراساني (ت 1255 ـ م 1329) : ج 2، ص 14.
________________________________________


(308)


تكون مسبوقة بالإرادة أو لا ، فعلى الأوّل يلزم عدم كونها أفعالا اختيارية و إن
كانت أفعالاً إرادية ؛ و ذلك لأنّ الإرادة السابقة على تلك المبادئ إرادة غير
اختيارية و غير مسبوقة بإرادة أخرى ، و إلاَّ ينقل الكلام إليها و يلزم التسلسل.
و على الثاني يلزم عدم كونها فعلاً إرادياً للنفس أيضاً ، بل تكون أفعالاً صادرة
عن النفس بلا إرادة.
الجواب الثالث:  ما ذكره شيخ المشايخ العلامة الحائري و حاصله :
إنَّ ما اشتهر من أنَّ الإرادة لا تتعلق بها الإِرادة ، و لا تكون مسبوقة بأخرى أمر
غير صحيح بل تتحقق الإرادة لمصلحة في نفسها.
قال : « الدليل على ذلك هو الوجدان لأنَّا نرى إمكان أن يقصد
الإنسان البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنَّ صحة الصوم
و الصلاة تامة تتوقف على القصد المذكور ، مع العلم بعدم كون هذا الأثر
مرتباً على نفس البقاء واقعاً ، فتتعلق بالإرادة ، إرادة » (1).
يلاحظ عليه : إنَّه لا يقلع الإِشكال أيضاً ، إذ غايته كون الإِرادة الأولى
اختيارية لسبقها بإرادة ثانية ، و أمَّا الإِرادة الثانية فهي بعد باقية على صفة غير
الاختيارية ؛ لأنَّ الميزان في الفعل الاختياري حسب معايير القوم كونه مسبوقاً
بالإرادة ، فلو سلمت هذه القاعدة لصارت الإرادة الثانية غير اختيارية.
الجواب الرابع:  ما ذكره العلامة الطباطبائي في ميزانه و حاصله : إنَّ
الحوادث بالنسبة إلى علتها التامة واجبة الوجود ، و بالنسبة إلى أجزاء عللها
ممكنة الوجود ، فهذا هو المِلاك في أعمال الإنسان و أفعاله ، فلها نسبتان :
نسبة إلى علّتها التامة ، و نسبة إلى أجزائها ، فالنسبة الأولى ضرورية وجوبية ،
و النسبة الثانية نسبة ممكنة . و كل فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة
علله التامة ، و ممكن بملاحظة أجزاء علته (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدُّرَر : للشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم ( ت 1274 ـ م 1355)،
ج 2، ص 15.
(2) الميزان في تفسير القرآن : ج 1، ص 99.
________________________________________


(309)


و بما إنَّ الإِرادة ليست علّة تامة للفعل ، تكون نسبة الفعل إليها نسبة
الإمكان لا نسبة الوجوب.
يلاحظ عليه : بنفس ما لوحظ على كلام صدر المتألهين ؛ إذ المفروض
أنَّ ما وراء الإِرادة أمر خارج عن الاختيار . فإذا كانت الإِرادة مثله في الخروج
عن الاختيار ، فلا يتصف الفعل بالاختيار و لا الإِرادة به . و ما ذكره مجرّد
إصطلاح ؛ إذ لا شكّ أنَّ نسبة الفعل إلى أجزاء العلّة التامة نسبة ضرورية ، و إلى
بعضها إمكانية ، ولكنه لا يشفي العليل و لا يروي الغليل ؛ إذ البحث في أنَّ
مدار اختيارية الفعل هو الإِرادة ، و الإرادة ليست اختيارية ؛ لأنّها تطرأ على
النفس في ظل عوامل خاصة من نفسية و غيرها ، فالنسبتان المذكورتان لا
تدفعان الإشكال.
نعم قد ذكر في ذيل كلامه هنا وفي موضع آخر من تفسيره (1) كلاماً
حاصله : إنَّ إرادته سبحانه لم تتعلق بصدور الفعل عن الإِنسان بأي نحو
اتفق ، وإنّما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه و خصوصياته و منها أنّها فعل اختياري
صادر من فاعل كذا في زمان كذا إلى آخر ما أفاده . فهو جواب عن إشكال
آخر تقدم عند البحث عن الجبر الأشعري (2) ، و ليس هذا جواباً عن الإِشكال
المطروح في المقام.
الجواب الخامس:  ما أجاب به السيّد المحقق الخوئي ـ دام ظله ـ في
محاضراته في كلام مفصل نأخذ المهم منه ، و حاصله : منع كون الإِرادة علّة
تامة للفعل بل الفعل على الرغم من وجوده و تحققه يكون تحت اختيار النفس
و سلطانها ، و لو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات و مؤثرة فيها لم يكن
للنفس تلك السلطنة ، ولكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها..
ثمّ قال : « إنَّ الميزان في الفعل الاختياري ما أوجدته النفس باختيارها ،
و إعمال القدرة و السلطنة المعبر عنها بالاختيار ، و قد خلق اللّه النفس الإِنسانية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ الميزان : ج 11، ص 21.
(2) لاحظ الأصل الثالث من أصول الأشاعرة.
________________________________________


(310)


واجدة لهذه السلطنة و القدرة و هي ذاتية لها ، و ثابتة في صميم ذاتها ، و لأجل
هذه السلطنة تخضع العضلات لها ، و تنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس
في إعمالها لتلك السلطنة و القدرة إلى إعمال سلطنة» (1).
يلاحظ عليه أوّلاً:  إنَّ الإِصرار على أنَّ الفعل بعد الإِرادة تحت اختيار
النفس و سلطانها ، و أنَّ الإِرادة ليست علّة تامة لصدور الفعل ، إصرار غير
لازم ؛ إذ يكفي في ذلك إثبات كون الإِرادة أمراً اختيارياً و إن كان صدور
الفعل بعدها أمراً إلزامياً . فالذي يجب التركيز عليه هو الأوّل ( الإِرادة فعل
اختياري للنفس ) ، لا الثاني ( كون الفعل بعد الإِرادة ممكن الصدور لا
واجبه ) . و سيوافيك توضيحه في الجواب المُختار.
وثانياً : إنَّ القاعدة الفلسفية القائلة بأنَّ ( الشيء ما لم يجب لم يوجد )
غير قابلة لتخصيص ، فكما هي تعم الأفعال الطبيعية ، فهكذا تعم الأفعال
النفسانية . و المِلاك في الجميع واحد ، و هو أنَّ صدور الفعل يتوقف على سد
باب العدم على الشيء ، و مع سدّه يتصف الفعل بالوجوب و لا يبقى لوصف
الإمكان مجال كما أوضحناه.
وثالثاً:  إنَّ اعمال السلطنة و القدرة ، فعل من أفعال النفس . فما هو
المِلاك لكونها اختيارية؟ ، اللازم التركيز عليه بوجه واضح ، و ما جاء في
كلامه لا يزيد عن إشارات إلى البرهان . و سيوافيك تفصيله.
الجواب السادس:  ما أفاده السيّد الأُستاذ الإِمام الخميني ـ دام ظله ـ
بتوضيح و تحرير منا ، و حاصله : إنَّ الكبرى ممنوعة و هي جعل مِلاك الفعل
الاختياري كونه مسبوقاً بالإِرادة حتى تخرج الإِرادة عن إطار الفعل
الاختياري ، بل المناط في اختيارية الفعل سواء أكان فعلاً جوارحياً أو
جوانحياً كونه صادراً عن فاعل مختار بالذات ، غير مجبور في صميم ذاته ،
و لا مضطر في حاق وجوده ، بل الاختيار مخمور في ذاته و واقع حقيقته ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحاضرات : ج 1، ص 59 ـ 60 و قد أخذنا موضع الحاجة منه.
________________________________________


(311)


و الإِنسان من مصاديق تلك الضابطة في أفعاله الاختيارية (1).
و إليك بيانه : إن ما يصدر من الإِنسان من الأفعال على قسمين ، قسم
منه يصدر عن طريق الآلات و الأسباب الجسمانية كالخياطة و البناء ، و هذا
القسم من الفعل يكون مسبوقاً بالتصور و التصديق ، و الشوق إلى الفعل ، و العزم
و الجزم الذي يلازم تحريك العضلات نحو المراد . و هذا ما يسمّى بالأفعال
الجوارحية.
و قسم يصدر منه بلا آلة بل بخلاقية منها ، و هذا كالأجوبة التي تصدر
من العالم النحوي الذي له ملكة علم النحو عند السؤال عن مسائله ؛ فإنَّ
هذه الأجوبة تصدر واحدة بعد الأخرى لا بتصور و لا بتصديق ، و لا بشوق ، و لا
بعزم سابق على الأجوبة . و ليس صدور تلك الأجوبة عن النفس كصدور
الأفعال الجوارحية من الأكل و الشرب مسبوقة بمبادئها ، بل هي تظهر في
لوح النفس ، و تصدر عنها بدون هذه التفاصيل.
و هذه الأجوبة التي تعد صوراً علمية ، موجودة للنفس مخلوقة لها ،
خلقاً اختيارياً بحيث لو شاء ترك ، مع أنّها ليست مسبوقة بالإِرادة و لا
بمبادئها ، بل كفى في كونها اختيارية كون النفس « فاعلاً مختاراً بالذات »
بحيث تكون حقيقتها كونها مختارة ، و كونها مختارة نفس حقيقتها.
و بذلك يظهر أن وِزان الإرادة بالنسبة إلى النفس وزان الصور العلمية .
فكما أنَّ صدور الصور العلمية لا يتوقف على المبادئ السابقة ، فكذلك
ظهور الإِرادة في الضمير.
و كما أنَّ ظهور تلك الأجوبة ، ظهور اختياري لدى النفس ، فكذلك
الإِرادة ، وليس مناط اختياريتها سبق إرادة أخرى ، لما عرفت من عدم كونها
مسبوقة بها ، بل المِلاك في اختياريتها كون النفس فاعلاً مختاراً بالذات ، و ليس
الاختيار مفصولاً عن ذاتها و هويتها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لبّ الأثر في الجبر و القَدَر : تقرير لدرس السيّد الإِمام بقلم الأُستاذ دام ظله ، مخطوط.
________________________________________


(312)


و إن شئتَ فاستوضح الحال بأفعاله سبحانه ، فإنّها كلها اختيارية ، لكن لا
بمعنى كونها مسبوقة بالإرادة التفصيلية الجزئية الحادثة لكونه سبحانه منزّهاً
عن مثل هذه الإرادة ، و قد عرفتَ أنَّ حقيقة إرادته و واقع كونه مريداً هو كونه
فاعلاً مختاراً بالذات ، فلأجل ذلك تصبح أفعاله سبحانه في ظل هذا
الاختيار الذاتي ، أفعالاً اختيارية و النفس الإِنسانية في خلاقيتها بالنسبة إلى
الصور العلمية و الإِرادة التفصيلية مثال للواجب سبحانه ، { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1).
و ما اشتهر من أنَّ ملاك الفعل الاختياري السبق بالإِرادة ، فإنَّما هو ناظر
إلى الأفعال الجوارحية الصادرة من الإنسان عن طريق الأسباب و الآلات ، و لا
يعم كل فعل اختياري .
و يمكن أن يقال : إنَّ تعريف الفعل الاختياري بسبق الإِرادة من قبيل
جعل ما بالعرض مكان ما بالذات ، بل المِلاك في كونه فعلاً اختيارياً للإِنسان
هو انتهاء الفعل إلى فاعل مختار بالذات ، و صدوره عنه بالإرادة . غير أنَّا
لتسهيل الأمر على الطلاّب نتوافق على هذا التعريف في مورد الأفعال
الجوارحية لا مطلقاً.
إلى هنا خرجنا بهذه النتائج :
1ـ إنَّ الأفعال النفسانية تصدر عن النفس لا بإرادة مسبقة بل يكفي في
صدورها الإِختيار الذاتي الثابت للنفس.
2ـ إنّ هذه الأفعال كما هي غير مسبوقة بالإِرادة غير مسبوقة بمبادئها
أيضاً ، فليس قبل صدورها تصوّر ، و لا تصديق ولا شوق ، و لا عزم و لا جزم.
3ـ إنَّ الأفعال القلبية اختيارية للنفس بمِلاك الاختيار الذاتي الثابت
لها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النحل: الآية 60.
________________________________________


(313)


و أمَّا الدليل على ثبوت اختيار ذاتي للنفس فيكفي في ذلك :
أوّلاً:  قضاء الفطرة و البداهة بذلك ؛ فإنّ كل نفس كما تجد ذاتها
حاضرة لديها فهكذا تجد كونها مختارة ، و أنَّ سلطان الفعل و الترك بيدها ،
و لها أن تقْدم على عمل و أن لا تقدم عليه ، و لا شيء أظهر عند النفس من
هذا الاختيار ، و إنَّ أنكره الإِنسان فإنّما ينكره باللسان و هو معتقد به.
وثانياً:  إنَّ فاقد الكمال لا يكون معطيه ، فالنفس واجدة للاختيار في مقام
الفعل و يعد فعلها فعلاً اختيارياً لأجل كونه مسبوقاً بالإرادة . فمفيض الاختيار
في مقام الفعل واجد له في مقام الذات . و هذا نظير ما يقال : إنَّ الصور
التفصيلية الظاهرة في الضمير من أفعال النفس ، و هي واجدة لها في مقام
الذات ، فمَن كانت له ملكة علم النحو ، ثمّ سئل مسائل كثيرة ، فأجاب عنها
واحدة بعد الأخرى بأجوبة تفصيليلة فهي كانت موجودة في صميم الملكة
و ذات النفس بوجود بسيط إجمالي ، لا بوجود تفصيلي . و هذا يدلنا على أنَّ
كل ما يظهر للنفس في مقام الفعل والتفصيل ، و منه الاختيار ، فهي واجدة له
في مقام الذات بوجه بسيط إجمالي مناسب لمقام الذات .
إذا عرفتَ ذلك فنحن في غنى عن إيضاح الجواب ، و لعل ما ذكرناه هو
مقصود صاحب المحاضرات كما نقلنا عنه .  ولكنه دام ظله يصرّ على أمر لا
دخالة له في الإِجابة ، و هو أنَّه ليست الإِرادة علّة تامة للفعل بل الفعل ـ على
الرغم من وجوده و تحققه ـ يكون تحت اختيار النفس و سلطانها ، و لو كانت
الإِرادة علّة تامة لحركة العضلات و مؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة ،
و كانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها.
أقول : لو كانت الإِرادة علّة تامة للفعل ، أو كانت جزءاً أخيراً من العِلة
التامة كما هو الحق بحيث يكون تحقق الفعل معها ضرورياً ، فلا ينافي
ذلك سلطان النفس و اختيارها قبل الإِرادة ؛ إذ لها أن تتأمل فيما يترتب على الفعل
و الإِرادة من الآثار السيئة و لا تريدها ، ولكنها باختيارها أوجدت الإرادة
و حققتها ، و معها وجب صدور الفعل من النفس.  و مثل هذا لا يوجب خروج
________________________________________


(314)


الفعل عن كونه اختيارياً . فالإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، و الفعل و إن كان
يتحقق وجوده بعدها ، لكن لا يخرجه اللزوم عن كونه فعلاً اختيارياً ، وهذا
كالملقي نفسه من شاهق باختيار ، لا يعد هبوطه و سقوطه فعلاً خارجاً عن
الاختيار ، لكون مبادئه بالاختيار . فالذي يجب التركيز عليه هو اختيارية
الإرادة ، ولا يضر وجوب الفعل بعد حصولها إذا كانت الإرادة اختيارية .
فالتركيز على عدم وجوب الفعل بعد الإِرادة ـ فراراً عن اضطرارية الفعل ـ
ليس بأولى من التركيز على وجوب الفعل بعد الإرادة ، إذا كانت الإِرادة فعلاً
اختيارياً للنفس باختيار ذاتي لها.
فالذي تنحل به العقدة هو كون الإِرادة تحت سلطان النفس لا كون
الفعل غير واجب بعد حصول الإرادة.


***