الرجعة عند العامّة

طباعة

المصدر : الـرجـعــة أو العودة الى الحياة الدنيا بعد الموت ، تأليف : مركز الرسالة ، ص 65 ـ 78

 

________________________________________ الصفحة 65  ________________________________________


الفصل الرابع


الرجعة عند العامّة


إحياء الموتى


ليس للرجعة في كتب العامّة أثر يذكر سيّما بالمعنى الذي جاء في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام، إلاّ على سبيل بيان آراء الشيعة أو التشنيع عليهم، ولكنهم نقلوا روايات في رجوع الاَموات إلى الحياة الدنيا(1)ولم يستنكروها بل عدوها من المعاجز أو الكرامات.
وقد ألف ابن أبي الدنيا أبو بكر عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان الاَموي القرشي المتوفى سنة (281 هـ)(2)كتاباً في ذلك عنوانه (من عاش بعد الموت) وصدر هذا الكتاب محققاً عن دار الكتب العلمية في بيروت سنة 1987 م.
وأفرد أبو نعيم الاَصفهاني في «الدلائل»، والسيوطي في «الخصائص»


____________
(1) تجد بعض نصوصها في احتجاج الفضل بن شاذان الفصل الخامس.
(2) ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد 10: 89.


________________________________________ الصفحة 66  ________________________________________


باباً في معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إحياء الموتى(1)، وروى الماوردي والقاضي عياض بعض معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم في إحياء الموتى(2)، وذكر السيوطي كرامات في إحياء الموتى لغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ورووا أنَّ زيد بن حارثة(3)والربيع بن خراش(4)ورجلاً من الاَنصار(5)قد تكلموا بعد الموت، وأنَّ ربعي بن حراش الغطفاني تبسّم بعد الموت(6)، وأن أبا القاسم الطلحي إسماعيل بن محمد الحافظ قد ستر سوأته بعد موته(7)، وأن شيبان النخعي ـ وقيل: نباتة بن يزيد ـ أحيا حماره(8)، وأنَّ أبا المعالي سراج الدين الرفاعي المتوفى سنة (885هـ) أحيا شاةً، وأمات رجلاً(9)، وأنَّ الماجشون مات وحيي(10). وغيرها مما يفوق حدّ


____________
(1) دلائل النبوة، لاَبي نعيم: 223. والخصائص الكبرى، للسيوطي 2: 110 ـ 114.
(2) أعلام النبوة، للماوردي: 141. والشفا 1: 614.
(3) الغدير، للاَميني 11: 103 عن الاستيعاب 1: 192. والبداية والنهاية 6: 156 و 158. والروض الاُنف 2: 37. والاصابة 1: 565 و 2: 24. وتهذيب التهذيب 3: 410. والخصائص الكبرى 2: 85. وشرح الشفا للخفاجي 3: 105 و 108.
(4) الغدير، للاَميني 11: 113 عن البداية والنهاية 6: 158. والروض الاُنف 2: 370. وصفة الصفوة 3: 19.
(5) الغدير، للاَميني 11: 105 عن البداية والنهاية 6: 158.
(6) الغدير، للاَميني 11: 119 عن صفة الصفوة 2: 19. وطبقات الشعراني 1: 37. وتاريخ ابن عساكر 5: 298.
(7) الغدير، للاَميني 11: 167 عن المنتظم 10: 90. والبداية والنهاية 12: 217.
(8) الغدير 11: 106 عن البداية والنهاية 6: 153 و 292. والاصابة 2: 169.
(9) الغدير 11: 187 عن روضة الناظرين، للاِمام ضياء الدين الوتري: 112.
(10) الغدير 11: 135 عن وفيات الاَعيان 2: 461. ومرآة الجنان 1: 351. وتهذيب التهذيب 11: 389. وشذرات الذهب 1: 259.


________________________________________ الصفحة 67  ________________________________________


الاحصاء.
ونقل محيي الدين عبدالقادر بن شيخ العيدروسي في النور السافر حوادث سنة (914 هـ) كرامات كثيرة للشيخ أبي بكر بن عبدالله باعلوي المتوفى سنة 914 هـ، منها أنّه لمّا رجع من الحجّ دخل زيلع، وكان الحاكم بها يومئذٍ محمد بن عتيق، فاتّفق أنّه ماتت أُمّ ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها، فكاد عقله يذهب لموتها، قال: فدخل عليه سيدي لما بلغه عنه من شدة الجزع، ليعزيه ويأمره بالصبر والرضا بالقضاء، وهي مسجّاة بين يدي الحاكم بثوب، فعزّاه وصبّره، فلم يفد فيه ذلك، وأكبّ على قدم سيدي الشيخ يقبّلها، وقال: يا سيدي، إن لم يحيي الله هذه متُّ أنا أيضاً، ولم تبق لي عقيدة في أحد !
فكشف سيدي وجهها، وناداها باسمها فأجابته: لبيك، وردَّ الله روحها، وخرج الحاضرون، ولم يخرج سيدي الشيخ حتى أكلت مع سيدها الهريسة، وعاشت مدّة طويلة(1).
ومن يروي مثل هذه الروايات مخبتاً إليها دون أي غمزٍ فيها، لماذا يستحيل القول بالرجعة، وهل الرجعة إلاّ رجوع الحياة للميت بعد زهوق نفسه، والاَخبار التي ذكرناها ما هي إلاّ من مصاديقها وتدلّ على جوهرية إمكانها وجوازها عقلاً.


____________
(1) النور السافر عن أخبار القرن العاشر: 84. وراجع الغدير 11: 190. وشذرات الذهب 8: 63.


________________________________________ الصفحة 68  ________________________________________


السيوطي والصبّان


وفي هذا السياق يقول الاستاذ مروان خليفات : وقد قال الحافظ جلال الدين السيوطي بالرجعة، لكن بمعنى مختلف عن الذي تقول به الاِمامية، فقد ادعى إمكانية رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة، وألّف رسالة في ذلك هي (إمكان رؤية النبي والملك في اليقظة) وادعى السيوطي رؤيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعاً وسبعين مرة كلها في اليقظة.
واعتقاد السيوطي هذا شبيه باعتقاد الشيعة بالرجعة، وقوله برجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة لا يختلف عن قول الشيعة برجوع بعض الاَموات إلى الحياة، فلماذا يشنّع على الشيعة لاعتقادهم الرجعة، ولا يشنع على السيوطي ؟! بل إنّه ما زال محل احترام وتقدير من جميع المذاهب، فكلَّ من يطعن بعقيدة الشيعة في الرجعة، فهو طاعن بالسيوطي الملقب بشيخ الاِسلام.
وحين تكلم محمد بن علي الصبّان في «اسعاف الراغبين ص161» ـ وهو من العامّة ـ عن طرق معرفة عيسى الاَحكام الاِسلامية بعد نزوله، قال: ومنها ـ أي الطرق ـ أنّ عيسى إذا نزل يجتمع به صلى الله عليه وآله وسلم فلامانع من أن يأخذ عنه ما يحتاج إليه من أحكام شريعته(1)، واعتقاد الاجتماع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني رجوعه إلى الدنيا في زمان الظهور.


أشراط الساعة


ونضيف إلى ما تقدم أنّ من تمعّن في أحاديث وأخبار أشراط الساعة


____________
(1) وركبت السفينة: 644.


________________________________________ الصفحة 69  ________________________________________


وعلامات الظهور يجد مزيداً من الاَحاديث والاَخبار تشير إلى أنّ الاِمام المهدي عليه السلام والممهدين له يقاتلون بني أُمية وآل أبي سفيان وبني العباس وغيرهم من الاُسر والبيوتات الغابرة(1)، فلعلّ ذلك يوحي إلى عودتهم إلى الحياة الدنيا، للاقتصاص منهم.
ويشير إلى هذا المعنى ما نقله ابن أبي الحديد، وفقاً لرأي الشيعة الاِمامية، عند شرحه لقول أمير المؤمنين عليه السلام في إخباره عن ظهور الاِمام صاحب الزمان عليه السلام قال: «يُغريه الله ببني أُمية حتى يجعلهم حطاماً ورفاتاً».
قال ابن أبي الحديد: فإن قيل ممّن يكون من بني أُمية في ذلك الوقت موجوداً حتى يقول عليه السلام في أمرهم ما قال من انتقام الرجل منهم، حتى يودّوا لو أنّ عليّاً عليه السلام كان المتولي لاَمرهم عوضاً عنه ؟
قيل: أما الاِمامية فيقولون بالرجعة، ويزعمون أنّه سيعاد قوم بأعيانهم من بني أُمية وغيرهم إذا ظهر إمامهم المنتظر، وأنّه يقطع أيدي أقوام وأرجلهم، ويسمل عيون بعضهم، ويصلب قوماً آخرين، وينتقم من أعداء آل محمد عليهم السلام المتقدمين والمتأخرين(2).
ومما يدلّ على الرجعة من أحاديث أشراط الساعة عند العامّة ما رواه الشيخ يوسف بن يحيى الشافعي عن الثعلبي في تفسيره، قال: إنَّ المهدي يسلّم على أهل الكهف، فيحييهم الله عزَّ وجلَّ(3).


____________
(1) راجع عقد الدرر، للمقدسي الشافعي: 76 و 80 و 110 دار النصايح ـ قم.
(2) شرح بن أبي الحديد 7: 58 ـ 59.
(3) عقد الدرر، للمقدسي الشافعي: 192.


________________________________________ الصفحة 70  ________________________________________


وممّا يدلّ على ذلك أيضاً ما رواه ابن أبي الحديد في شرحه لخطبة أمير المؤمنين عليه السلام: «حتى يظنَّ الظانّ أنّ الدنيا معقولة على بني أُمية» قال: وهذه الخطبة طويلة، وقد حذف الرضي قدس سره منها كثيراً، ومن جملتها: «والله والله، لا ترون الذي تنتظرون حتى لا تدعُون الله إلاّ إشارة بأيديكم وإيماضاً بحواجبكم، وحتى لا تملكون من الاَرض إلاّ مواضع أقدامكم، وحتى يكون موضع سلاحكم على ظهوركم، فيومئذٍ لا ينصرني إلاّ الله بملائكته، ومن كتب على قلبه الاِيمان، والذي نفس عليٍّ بيده لا تقوم عصابة تطلب لي أو لغيري حقاً، أو تدفع عنّا ضيماً، إلاّ صرعتهم البليّة، حتى تقوم عصابةٌ شهدت مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدراً»(1).
وهو واضح الدلالة على رجعة أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحياة الدنيا وقتاله الظالمين مع عصابة من الملائكة.


موقف العامّة من الرجعة


القول بالرجعة يعدُّ عند العامّة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، وكان المؤلفون منهم في رجال الحديث يعدّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها، وكان علماء الجرح والتعديل ولا يزالون إذا ذكروا بعض العظماء من رواة الشيعة ومحدثيهم ولم يجدوا مجالاً للطعن فيه لوثاقته وورعه وأمانته، نبذوه بأنّه يقول بالرجعة، فكأنّهم يقولون يعبد صنماً أو يجعل لله شريكاً، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تُنبز به الشيعة الاِمامية ويُشنّع به عليهم.
ولنأخذ مثالاً على ذلك جابر بن يزيد الجعفي، فالثابت عند أغلب


____________
(1) شرح ابن أبي الحديد 6: 382.


________________________________________ الصفحة 71  ________________________________________


أهل الجرح والتعديل من العامّة أنّ جابراً كان ثقة صدوقاً في الحديث.
قال سفيان: كان جابر ورعاً في الحديث، ما رأيت أورع في الحديث منه(1).
وقال إسماعيل بن عُلية: سمعتُ شعبة يقول: جابر الجعفي صدوق في الحديث(2).
وقال شعبة: لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذي يقعون في جابر الجعفي، هل جاءكم عن أحدٍ بشيءٍ لم يقله(3).
وقال وكيع: مهما شككتم في شيءٍ، فلا تشكّوا في أنَّ جابراً ثقة، حدثنا عنه مسعر، وسفيان، وشعبة، وحسن بن صالح(4).
وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة: لئن تكلّمت في جابر الجعفي لاَتكلمنّ فيك(5).
وقال معلّى بن منصور الرازي: قال لي أبو معاوية: كان سفيان وشعبة ينهياني عن جابر الجعفي، وكنت أدخل عليه فأقول: من كان عندك ؟


____________
(1) تهذيب الكمال 4: 467. وتاريخ الاِسلام، للذهبي (وفيات سنة 121 ـ 140 هـ): 59. وميزان الاعتدال 1: 379. وتهذيب التهذيب 2: 47.
(2) الجرح والتعديل 1: 136. والمصدر السابق.
(3) الجرح والتعديل 1: 136.
(4) تهذيب الكمال 4: 467. وتاريخ الاِسلام، للذهبي (وفيات سنة 121 ـ 140 هـ): 59. وميزان الاعتدال 1: 379. وتهذيب التهذيب 2: 47.
(5) المصدر السابق.


________________________________________ الصفحة 72  ________________________________________


فيقول: شعبة وسفيان(1).
وكان جابر أحد الذين أُخذ عنهم العلم، فقد وصفه الذهبي بأنه أحد أوعية العلم(2).
وقال عبدالرحمن بن شريك: كان عند أبي عن جابر الجعفي عشرة آلاف مسألة(3).
وعن الجراح بن مليح، قال: سمعتُ جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر الباقر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تركوها كلّها(4).
وعن سلام بن أبي مطيع، قال: سمعتُ جابراً الجعفي يقول: إنَّ عندي خمسين ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حدّثت بها أحداً(5).
وروي نحو ذلك عن زهير بن معاوية(6).
إذن فلماذا ترك بعضهم حديث جابر، واتهموه بالكذب في الحديث تارة، وبالرفض أُخرى، وضعفوه، ونهوا عن كتابة حديثه(7)؟
والجواب كما تجده عند أقطابهم لا يعدو أكثر من نقطتين:


____________
(1) تهذيب الكمال 4: 468. وتهذيب التهذيب 2: 47.
(2) تاريخ الاِسلام، للذهبي (وفيات سنة 121 ـ 140 هـ): 59.
(3) ميزان الاعتدال 1: 380.
(4) صحيح مسلم ـ المقدمة: 25. وميزان الاعتدال 1: 383.
(5) ميزان الاعتدال 1: 380. وتهذيب التهذيب 2: 48.
(6) ميزان الاعتدال 1: 379.
(7) راجع تهذيب الكمال 4: 469. وتاريخ الاِسلام (وفيات سنة 121 ـ 140 هـ): 60. وميزان الاعتدال 1: 380. وضعفاء العقيلي 1: 192 ـ 196. وتهذيب التهذيب 2: 47 ـ 49.


________________________________________ الصفحة 73  ________________________________________


الاُولى: اعتقاده الجازم بأولوية أهل البيت عليهم السلام بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جميع الخلق وكونهم أوصياءه وحملة علمه.
فلقد عابوا عليه أن يقول: حدثني وصيّ الاَوصياء(1)، يريد بذلك الاِمام محمد بن علي الباقر عليه السلام.
وذكر شهاب أنّه سمع ابن عيينة يقول: تركت جابراً الجعفي وما سمعتُ منه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً فعلمه مما تعلم، ثم دعا علي الحسن فعلمه مما تعلم، ثم دعا الحسن الحسين فعلمه مما تعلم، ثم دعا ولده... حتى بلغ جعفر بن محمد.
قال سفيان: فتركته لذلك(2).
وسمعه يقول أيضاً: انتقل العلم الذي كان في النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي، ثم انتقل من علي إلى الحسن، ثم لم يزل حتى بلغ جعفراً
(3).
وكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها»(4)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها»(5).


الثانية: قوله بالرجعة، وعليه إجماعهم.
قال أبو أحمد بن عدي: عامّة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة(6).


____________
(1) ضعفاء العقيلي 1: 194. وميزان الاعتدال 1: 383. وتهذيب التهذيب 3: 49.
(2) ميزان الاعتدال 1: 381.
(3) المصدر السابق.
(4) المستدرك على الصحيحين، للحاكم 3: 126 و 127. وجامع الاُصول 9: 473.
(5) سنن الترمذي 5: 637. ومصابيح السُنّة 4: 174.
(6) تهذيب الكمال 4: 469. وتهذيب التهذيب 2: 48.


________________________________________ الصفحة 74  ________________________________________


وقال زائدة: أما جابر الجعفي فكان يؤمن بالرجعة(1).
وقال جرير بن عبدالحميد: لا استحلّ أن أروي عنه، كان يؤمن بالرجعة(2).
وعن ابن قتيبة وابن حبان قال: كان جابر يؤمن بالرجعة(3).
وروى العقيلي بالاسناد عن سفيان، قال: كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلمّا أظهر ما أظهر اتّهمه الناس في حديثه، وتركه بعض الناس. فقيل له: وما أظهر ؟ قال: الاِيمان بالرجعة(4).
وقال أبو أحمد الحاكم: جابر يؤمن بالرجعة(5).
إذن فقد اتضح أن جابراً كان يعتقد بالرجعة، وأن معاصريه من أقطاب الحديث عند العامّة كانوا يعلمون عقيدته تلك جيداً، كما هو مفاد التصريحات السابقة. فمن أين جاءه هذا الاعتقاد، وما هو مصدر روايته ؟
مما لا ريب فيه أن جابراً الجعفي كان معاصراً لثلاثة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهم علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، وكان من خواص الاِمامين الباقر


____________
(1) تهذيب الكمال 4: 468. وتهذيب التهذيب 2: 48. ونحوه في ضعفاء العقيلي 1: 193. وميزان الاعتدال 1: 380.
(2) ميزان الاعتدال 1: 380. وتهذيب التهذيب 2: 49. ضعفاء العقيلي 1: 192 نحوه.
(3) تهذيب الكمال 4: 470 الهامش. وتهذيب التهذيب 2: 50. وميزان الاعتدال 1: 383.
(4) ضعفاء العقيلي 1: 194.
(5) تهذيب التهذيب 2: 50.


________________________________________ الصفحة 75  ________________________________________


والصادق عليهما السلام(1)، وروي أنّه خدم الاِمام الباقر عليه السلام 18 سنة(2)، وبقي ملازماً للاِمام الصادق عليه السلام حتى توفي في أيامه سنة 128 هـ(3).
والروايات عن أئمة الهدى عليهم السلام تدلّ على صدقه وأمانته وجلالته، وأنّ عنده الكثير من أسرارهم عليهم السلام، فقد روي في الصحيح بالاسناد عن الحسين بن أبي العلاء وزياد بن أبي الحلال، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، أنّه قال: رحم الله جابر الجعفي، كان يصدق علينا(4).
وعن يونس بن عبدالرحمن: أن علم الاَئمة عليهم السلام انتهى إلى أربعة أحدهم جابر(5).
وعن ذريح المحاربي، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن جابر الجعفي، فقال لي عليه السلام: «يا ذريح دع ذكر جابر، فإنّ السفلة إذا سمعوا بأحاديثه شنّعوا ـ أو قال ـ أذاعوا»(6).
إذن فالرجل من الثقات الاَجلاّء، وقد شهد له بذلك أعلام الطائفة، كابن قولويه، وعلي بن إبراهيم، والشيخ المفيد في رسالته العددية، وابن الغضائري على ما حكاه العلامة عنه، وقد مرّ ما يؤيد جلالته وثقته وكونه من أوعية العلم فيما تقدّم بمصادر العامّة.


____________
(1) رجال الشيخ: 111 | 6 و 163 | 30. ومستدركات علم الرجال 2: 106 عن المناقب لابن شهر آشوب.
(2) مستدركات علم الرجال 2: 105 و 107 عن أمالي الشيخ الطوسي.
(3) رجال النجاشي: 128 | 332.
(4) رجال الكشي: 191 | 336. ومنتهى المقال 2: 214.
(5) رجال الكشي: 485 | 917.
(6) قاموس الرجال 2: 534.


________________________________________ الصفحة 76  ________________________________________


ونخلص من كلِّ ما تقدم أنّ جابراً كان قد أخذ هذه العقيدة من عترة المصطفى عليهم السلام الذين أُمرنا بالتمسك بهم بدليل حديث الثقلين، ولو كانت هذه العقيدة غير ثابتة عنهم عليهم السلام لوردَ ولو حديث واحد يدل على منع جابر من القول بالرجعة، على أنّه قد أظهر القول بها في حياة الصادقين عليهما السلام، لاَنّه مات في حياة الاِمام جعفر الصادق عليه السلام كما تقدم، وقد كان خلال ذلك متوفّراً على خدمتهم والاَخذ عنهم عليهم السلام.
إذن فالطعن في جابر لقوله بالرجعة هو طعن في عقائد أهل البيت عليهم السلام ومدرسة الاِسلام الاَصيل المتمثلة بالاِمامين محمد الباقر وابنه جعفر الصادق عليهما السلام.
قال السيد ابن طاووس في كتاب (الطرائف): روى مسلم في صحيحه في أوائل الجزء الاَول باسناده إلى الجراح بن مليح، قال: سمعتُ جابراً يقول: عندي سبعون ألف حديث عن أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تركوها كلها، ثم ذكر مسلم في صحيحه باسناده إلى محمد بن عمر الرازي، قال: سمعتُ حريزاً يقول: لقيت جابر بن يزيد الجعفي فلم أكتب عنه لاَنّه كان يؤمن بالرجعة.
ثم قال: انظر رحمك الله كيف حرموا أنفسهم الانتفاع برواية سبعين ألف حديث عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم برواية أبي جعفر عليه السلام الذي هو من أعيان أهل بيته الذين أمرهم بالتمسك بهم، ثم إنّ أكثر المسلمين أو كلّهم قد رووا إحياء الاَموات في الدنيا وحديث إحياء الله تعالى الاَموات في القبور للمساءلة، ورواياتهم عن أصحاب الكهف، وهذا كتابهم يتضمن (ألم ترَ إلى الَّذينَ خَرجُوا مِن ديارِهم وهُم ألوفٌ حَذَرَ الموتِ فقالَ لهُم اللهُ مُوتوا ثُمَّ


________________________________________ الصفحة 77  ________________________________________


أحياهُم)(1) والسبعون الذين أصابتهم الصاعقة مع موسى عليه السلام، وحديث العزير، ومن أحياه عيسى بن مريم عليه السلام، وحديث جريج الذي أجمع على صحته أيضاً. فأيّ فرق بين هؤلاء وبين ما رواه أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من الرجعة، وأي ذنبٍ كان لجابر في ذلك حتى يسقط حديثه(2)؟
ولا ريب أنّ هذا من نوع التهويلات التي تتخذها الطوائف الاِسلامية ذريعة لطعن بعضها في بعض والدعاية ضده، ولا نرى في الواقع ما يبرر هذا التهويل ضد أمرٍ لا يحيطون به علماً.
روى حماد عن زرارة، أنّه قال: سألت أبا عبدالله الصادق عليه السلام عن هذه الاُمور العظام من الرجعة وأشباهها. فقال عليه السلام: «إنّ هذا الذي تسألون عنه لم يجيء أوانه، وقد قال الله عزَّ وجل: (بَل كذّبُوا بِما لم يُحيطُوا بعلمِهِ ولمَا يأتِهِم تأويلُهُ)»(3).
يقول الشيخ محمد جواد مغنية: أما الاَخبار المروية في الرجعة عن أهل البيت عليهم السلام فهي كالاَحاديث في الدجال التي رواها مسلم في صحيحه القسم الثاني من 2: 1316 طبعة سنة 1348 هـ، ورواها أيضاً أبو داود في سننه 2: 542 طبعة سنة 1952 م وكالاَحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أنَّ أعمال الاَحياء تعرض على أقاربهم الاَموات في كتاب مجمع الزوائد للهيثمي 1: 228 طبعة سنة 1352 هـ.
إنَّ هذه الاَحاديث التي رواها العامّة في الدجال وعرض أعمال الاَحياء


____________
(1) سورة البقرة 2: 243.
(2) بحار الاَنوار 53: 140. وحق اليقين، لعبدالله شبر 2: 35.
(3) بحار الاَنوار 53: 40 | 4 والآية من سورة يونس 10: 39.


________________________________________ الصفحة 78  ________________________________________


على الاَموات وما إلى ذلك تماماً كالاَخبار التي رواها الشيعة في الرجعة عن أهل البيت عليهم السلام(1)!
وفي هذا الصدد ينبغي الالتفات إلى أنَّ هناك بعض الخرافات التي تمتزج أحياناً في الحديث عن الرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض حتى من الشيعة الاِمامية، يقول الحرّ العاملي قدس سره في مقدمة كتابه (الايقاظ من الهجعة): قد جمع بعض السادات المعاصرين رسالة (اثبات الرجعة)(2) التي وعد الله بها المؤمنين والنبي والاَئمة الطاهرين عليهم السلام وفيها أشياء غريبة مستبعدة لم يعلم من أين نقلها، ليظهر أنّها من الكتب المعتمدة، فكان ذلك سبباً لتوقف بعض الشيعة عن قبولها حتى انتهى إلى إنكار أصل الرجعة وحاول إبطال برهانها ودليلها، وربما مال إلى صرفها عن ظاهرها وتأويلها، مع أنَّ الاَخبار بها متواترة، والاَدلة العقلية والنقلية على إمكانها ووقوعها كثيرة متظاهرة(3).
إذن يجب أن نعوّل على الاَحاديث الصحيحة في هذا الشأن، وأن نتجنب الاَحاديث المشكوكة أو المطعون فيها.


____________
(1) الشيعة والتشيع، لمحمد جواد مغنية: 56.
(2) وهي للسيد محمود بن فتح الله الحسيني الكاظمي النجفي معاصر الشيخ الحر العاملي. راجع الذريعة، للشيخ آقا بزرك 1: 94.
(3) الايقاظ من الهجعة، للعاملي: 3.