العصمة موهبة فلا تكون مفخرة

طباعة

العصمة موهبة فلا تكون مفخرة

الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم وقابليات مصححة لإفاضتها عليهم .

قال الشيخ المفيد : « العصمة تَفَضُّلٌ من الله على من علم أنّه يتمسّك بعصمته » (1) .

وقال السيد المرتضى : « العصمة لطف الله الذي يفعله تعالى ، فيختار العبد عنده الإمتناع عن فعل القبيح » (2) .

وفي الآيات القرآنية تلميحات وإشارات إلى ذلك ، مثل :

قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ) (3) .

وقوله سبحانه : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ ) (4) والضمير يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل .

فإنّ قولَه : ( إِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) ، وقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ، يدلّان على أنّ النبوة والعصمة وإعطاء الآيات لأصحابها ، من مواهب الله سبحانه للأنبياء ومَنْ يقوم مقامهم من الأوصياء .

وإذا كانت موهبة منه ، فلا تُعَدّ كمالاً ومفخرة للمعصوم ، فتعود كصفاء اللؤلؤ ، لا يستحق اللؤلؤ عليه حمداً وتحسيناً ، لأنّ الحمد والثناء إنما يصحّان للفعل الإختياري ، لا لما هو خارج عن الإختيار ، والفرض أنّ المعصوم وغيره في هذا المجال سواء ، لأنّ ذاك الكمال لو أُفيض على فرد آخر غيره لكان مثله .

جوابه

إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على المعصوم إلّا بعد وجود أرضيات صالحة في نفسه ، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه ، وأمّا ما هي تلك الأرضيات ، والقابليات ، فخارج عن موضوع البحث ، غير أنّا نشير إليها إجمالاً .

إنّ القابليات التي تسوغ نزول الموهبة الإلهية على قسمين :

قسم خارج عن اختيار المعصوم ، وقسم واقع في إطار إرادته واختياره .

أمّا الأول ـ فهو عبارة عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة ، فإنّ في ناموس الطبيعة والخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من الصفات الظاهرية والباطنية ، فالشجاع يلد شجاعاً ، والجبان جباناً .

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ هناك عاملاً آخر لتكوُّن تلك القابليات في النفوس هو عامل التربية ، والأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين العاملين ، فيكوّن ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم ، ومنها العصمة والنبوة .

وأمّا الثاني ـ فهو عبارة عن المجاهدات الفردية والإجتماعية التي يقوم بها رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم ، من العبادة والرياضات النفسية إلى مقارعة الطغاة والظالمين (5) .

فهذه العوامل الداخل بعضها في الإختيار ، والخارج بعضها الآخر عنه ، أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم ، فتكون العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم ، يستحق عليها التحسين والتبجيل .

يقول العلامة الطباطبائي : « إنّ الله سبحانه خَلَقَ بعضَ عباده على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤا من باديء الأمر بأذهان وقّادة ، وإدراكات صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس ، من نعمة الإخلاص ، ما ناله غيرهم بالإجتهاد والكسب ، بل أعلى وأرقى ، لطهارة داخلهم من التلوّث بأوساخ الموانع والمزاحمات . والظاهر أنّ هؤلاء هم المُخْلَصون ( بالفتح ) لله في مصطلح القرآن .

وقد نصّ القرآن على أنّ الله اجتباهم أي خلقهم ، قال تعالى : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (6) ، وقال : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (7) » (8) .

وما جاء في كلامه يشير إلى القابليات الخارجة عن الإختيار ، ولكنك عرفت أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم فإذا انضمت تلك إلى هذه ، تتحقق الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية .

إجابة أخرى عن السؤال

وهناك إجابة أخرى وهي أنّ الله سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ، ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم ، وعلم أنّهم ذوات مقدسة لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار . وهذا العلم كافٍ في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدْرجوا في أكفانهم ، بخلاف مَنْ يعلم مَنْ حاله خلاف ذلك .

وهذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ المفيد والسيد المرتضى .

قال الشيخ المفيد : « العصمة تفضُّلٌ من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته » (9) .

وقال السيد المرتضى : « كلُّ من علم الله تعالى أنّ له لطفاً يختارُ عنده الامتناع من القبائح ، فإنّه لا بدّ أن يفعل به ، وإن لم يكن نبياً ولا إماماً ، لأنّ التكليف يقتضي فعل اللُّطف على ما دُلّ عليه في مواضع كثيرة ، غير أنّه لا يمتنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فُعِلَ اختار عنده الإمتناع من القبيح ، فيكون هذا المكلَّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف . وتكليف من لا لطف له يَحْسُنُ ولا يَقْبُحُ ، وإنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف ، مع ثبوت التكليف » (10) .

وحاصل ما أفاد هو أنّ الملاك في إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل ، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الإمتناع من القبائح ، فعندئذٍ تفاض عليه العصمة وإن لم يكن نبياً ولا إماماً وأمّا من علم أنّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الإمتناع عن القبيح ، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها .

وعلى ضوء ذلك فوصفُ العصمة موهبةٌ إلهية تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح ، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ، وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم ، فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة ، أو عدمه والغرق (11) .

ويترتب على ما ذكره السيد عدم انحصار العصمة بالنبي والوحي المنصوص عليه ، بل تشمل كلَّ مَنْ علم الله سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه .

الهوامش

1. تصحيح الإعتقاد ، ص 61 .

2. أمالي المرتضى ، ج 1 ، ص 148 .

3. سورة ص : الآيات 45 ـ 48 .

4. سورة الدخان : الآيتان 32 و 33 .

5. أنظر إلى ما قام به إبراهيم على صغر سنه ، ويوسف في بيت من تملكه ، وموسى في مصر الفراعنة ، والمسيح في بني إسرائيل ، والنبي الأكرم (ص) في عامة فترات حياته .

6. سورة الأنعام : الآية 87 .

7. سورة الحج : الآية 78 .

8. الميزان ، ج 11 ، ص 177 .

9. شرح عقائد الصدوق ، ص 61 .

10. أمالي المرتضى ، ج 2 ، ص 348 ، طبعة إحياء دار الكتب العربية .

11. لاحظ أوائل المقالات ، ص 11 .

متقبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 174 ـ 177