أبو علي محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 255 ـ  260
________________________________________
(255)
5 ـ أبو علي محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي (ت 235 ـ م 303)
هو أحد أئمّة المعتزلة في عصره، وإماماً في كلامه و يعرّفه ابن النديم في فهرسته بقوله: «هو من معتزلة البصرة، ذلّل الكلام و سهّله و يسّر ما صعب منه، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه، لا يدافع في ذلك. وأخذ عن أبي يعقوب الشحّام. ورد البصرة
________________________________________
(256)
و تكلّم مع من بها من المتكلّمين، وصار إلى بغداد، فحضر مجلس أبي...الضّرير و تكلّم فتبيّن فضله و علمه، وعاد إلى العسكر ومولده سنة 235 هـ وتوفّي سنة 303 هـ »(1).
وقال ابن خلّكان: «إنّه أحد أئمّة المعتزلة، كان إماماً في علم الكلام، وأخذ هذا العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبدالله الشحّام البصري رئيس المعتزلة بالبصرة في عصره. له في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة و عنه أخذ الشيخ أبو الحسن الأشعري علم الكلام وله معه مناظرة روتها العلماء»(2).
قال الياقوت: «الجبّائي منسوب إلى «جبّا» بضمّ الجيم و تشديد الباء: بلد أو كورة من خوزستان، و من الناس من جعل عبّادان من هذه الكورة و هي في طرف من البصرة و الأهواز، حتّى جعل من لا خبرة له «جبّا» من أعمال البصرة و ليس الأمر كذلك ـ إلى أن قال ـ: «جبّا» في الأصل عجمي وكان القياس أن ينسب إليها جُبّوي، فنسبوا إليها جبّائي على غير قياس مثل نسبتهم إلى الممدود، وليس فى كلام العجم ممدود، وجبّا أيضاً من أعمال النّهروان»(3).
وقد أثنى عليه ابن المرتضى في «المنية والأمل» بما لا مزيد عليه فقال: «وهو الّذي سهّل علم الكلام و يسّره و ذلّله وكان مع ذلك فقيهاً ورعاً زاهداً جليلاً نبيلاً، ولم يتّفق لأحد من إذعان سائر طبقات المعتزلة له بالتقدّم و الرئاسة بعد أبي الهذيل مثله، بل ما اتّفق له هو أشهر أمراً و أظهر أثراً، وكان شيخه أبا يعقوب الشحّام، ولقى غيره من متكلّمي زمانه و كان على حداثة سنّه معروفاً بقوّة الجدل»(4).
مناظراته
1 ـ حضر من علماء المجبِّرة رجل يقال له صقر. فإذا غلام أبيض الوجه زجّ
________________________________________
1. فهرست ابن النديم الفن الأول من المقالة الخامسة ص 217 ـ 218. 2. لاحظ الجزء الثاني من كتابنا هذا ص 18. 3. معجم البلدان: ج 2 ص 96 ـ 97 طبع التراث العربي. 4. المنية والأمل: ص 45.
________________________________________
(257)
نفسه في صدر صقر و قال له: أسألك؟ فنظر إليه الحاضرون و تعجّبوا من جرأته مع صغر سنّه. فقال له: سل، فقال: هل الله تعالى يفعل العدل؟ قال: نعم، قال: أفتسمّيه بفعله العدل عادلاً ؟ قال: نعم، قال: فهل يفعل الجور؟ قال: نعم، قال: أفتسمّيه جائراً؟ قال: لا، قال: فيلزم أن لا تسمّيه بفعله العدل عادلاً، فانقطع صقر، وجعل الناس يسألون من هذا الصّبي؟ فقيل: هو غلام من جبّاء(1).
يلاحظ على تلك المناظرة: أنّه في وسع المجبِّر أن يقول: إن أسماءه سبحانه توقيفيّة ولا يصحّ لنا تسميته بما لا يسمّي به نفسه.
2 ـ روى ابن المرتضى أنّ أبا عليّ ناظر بعضهم في الإرجاء و أبو حنيفة و الزبير حاضران، فقال أبو حنيفة: إنّ أبا عمرو بن العلاء لقي عمرو بن عبيد، فقال له: يا أبا عثمان إنّك أعجميّ ولست بأعجميّ اللّسان و لكنّك أعجميّ الفهم. إنّ العرب إذا وعدت أنجزت، وإذا أوعدت أخلفت و أنشد شعراً:
إنّـي و إن أوعدتـه و وعدتــه * لمخلف إيعادي، ومنجز موعدي
فقال أبو عليّ: إنّ أبا عثمان أجابه بالمسكت وقال له: إنّ الشاعر قد يكذب وقد يصدق، ولكن حدّثني عن قول الله عزّ و جلّ: (لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(هود/119، السجدة/13) إن ملأها أتقول صدق؟ قال: نعم، وإن لم يملأها أفتقول صدق ؟ فسكت أبو حنيفة.
يلاحظ عليه: أنّه سبحانه إنّما يخلف بما أوعده إذا عفا عن الكافر والمشرك والمسلم جميعاً، وأمّا إذا عفا عن المسلمين خاصّة فلا يلزم الكذب، لأنّه لا يستلزم خلف الايعاد الوارد في الآية المباركة، ولا يلزم خلوّ جهنّم من الجنّة و النّاس الّذي أشار الله إليه بقوله: (لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، لأنّ من يجري عليه العفو أقلّ ممّن يكون محكوماً بدخول الجحيم، وليس القائل بالعفو يقول بأنّ العفو يعمّ كلّ
________________________________________
1. المنية والأمل: ص 46.
________________________________________
(258)
كافر و مشرك ومسلم، وإنّما يتحقّق في إطار محدود و مضيّق. كيف وقد وعد سبحانه على وجه الجزم و القطع بقوله: (إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ) (النساء/48) وليس المراد من الغفران هو المغفرة لأجل التّوبة، لأنّ الغفران بعد التوبة يعمّ المشرك و غيره، وإنّما المراد هو الغفران و المغفرة بلا توبة و إنابة، والمشرك و المنافق لا يعمّهما العفو أبداً و يكفي ذلك في تحقّق وعيد الربّ و صدق إخباره(لأََمْلأََنَّ جَهَنَّمَ).
وخلاصة القول: أنّ القائل بالعفو في مورد الايعاد يدّعي قضيّة جزئيّة لا قضيّة كلّيّة استيعابيّة، وللبحث صلة تمرّ عليك عند البحث عن اُصول المعتزلة فارتقب.
ثمّ إنّ في وسع أبي عليّ أن يقابل شعر المناظر بشعر شاعر آخر وينشد قوله:
إنّ أبا ثابت لمجتمع الرأي * شـــريـــــف الآبـــاء و الـبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا * يبيت من ثاره على فوت(1)
تأليفاتـه
يظهر ممّا نقله ابن المرتضى أنّه غزير الإنتاج. قال: قال أبو الحسين:«وكان أصحابنا يقولون: إنّهم حرّروا ما أملاه أبو عليّ فوجدوه مائة ألف و خمسين ألف ورقة، قال: وما رأيته ينظر في كتاب إلاّ يوماً نظر في زيج الخوارزمي، ورأيته يوماً أخذ بيده جزءاً من الجامع الكبير لمحمّد بن الحسن و كان يقول: إنّ الكلام أسهل شيء، لأنّ العقل يدلّ عليه»(2) .
يلاحظ عليه: أنّ علم الكلام كما يستمدّ من العقل، يستمدّ من الكتاب و السنّة الصّحيحة خصوصاً فيما يرجع إلى ما بعد الموت، وأنّ الاستبداد بالعقل الشخصي من دون المراجعة لآراء من سبق من الأعاظم لا ينتج شيئاً ناضجاً. فكما أنّ التقاء الأسلاك
________________________________________
1. المنية والأمل: ص 48. 2. نفس المصدر : ص 47.
________________________________________
(259)
الكهربائيّة يوجب تفجّر النور والطاقة، فهكذا التقاء الأفكار والآراء يوجب اكتساح ظلمات الجهل عن أمام المفكّر.
ويظهر من ابن المرتضى في ترجمة الأصمّ أنّ لأبي عليّ تفسيراً، قال: «وكان أبو عليّ لا يذكر أحداً في تفسيره إلاّ الأصمّ»(1) ومن المحتمل أن يكون المقصود أنّه لا يذكر من آراء الرجال في التفسير شيئاً إلاّ عن الأصمّ.
ويظهر أيضاً منه ـ في ترجمة أبي محمّد عبدالله بن العبّاس الرامهرمزي تلميذه ـ أنّ لأبي عليّ كتباً في الردّ على أهل النجوم، ويذكر أنّ كثيراً منها يجري مجرى الأمارات الّتي يغلب الظنّ عندها(2).
كما يظهر منه ـ في ترجمة الخراسانيّين الثّلاثة الّذين خرّجوا على أبي عليّ و أخذوا عنهـ أنّ أبا عليّ أملى كتاب «اللّطيف» لأبي الفضل الخجندي، ثالث الخراسانيّين(3).
ونقل ابن عساكر في «تبيين كذب المفتري» عن الشيخ الأشعري أنّ له كتاباً في الردّ على كتاب «الاُصول» لاُستاذه أبي عليّ الجبّائي(4).
إلى غير ذلك ممّا أهمل أرباب التراجم ذكره في ترجمته.
لمحة من أحواله
روى ابن المرتضى وقال: قال أبو الحسن: «وكان من أحسن الناس وجهاً وتواضعاً ـ إلى أنّ قال ـ: وكان إذا روى عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أنّه قال لعليّ والحسن والحسين وفاطمة: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم» يقول: العجب من هؤلاء النوابت(5)يروون هذا الحديث ثمّ يقولون بمعاوية»(6).
وروى عن عليّ ـ عليه السلام ـ أنّ رجلين أتياه فقالا: ائذن لنا أن نصير إلى معاوية
________________________________________
1. المنية والأمل: ص 33. 2. نفس المصدر : ص 58. 3. نفس المصدر : ص 65. 4. تبيين كذب المفتري: ص 130. 5. تطلق على الحشوية ومن لفّ لفّهم. 6. المنية والأمل: ص 47.
________________________________________
(260)
فنستحلّه من دماء من قتلنا من أصحابه. فقال عليّ ـ عليه السلام ـ : «أما إنّ الله قد أحبط عملكما بندمكما على ما فعلتما»(1).
قال أبو الحسن: «والرافضة لجهلهم بأبي عليّ و مذهبه يرمونه بالنّصب و كيف وقد نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر، ولم ينقض كتاب الاسكافي المسمّى «المعيار والموازنة في تفضيل عليّ على أبي بكر»(2).
إنّ العالم العابد رضي الدين بن طاووس (المتوفّى سنة 664) نقل كثيراً من آرائه في كتاب «سعد السعود» و نقضه، ولو صحّت نسبة تلك الآراء إليه فهو مبغض للشيعة وقد أنكر كثيراً من الحقائق التأريخية فراجعه.
________________________________________
1. المنية والأمل: ص 47. 2. المنية والأمل: ص 47.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية