مسير الإمام علي عليه السلام إلىٰ البصرة ووقعة الجمل

البريد الإلكتروني طباعة

مسير الإمام إلىٰ البصرة ووقعة الجمل

بينما كان الإمام عليٌّ يجهِّز جيشاً إلىٰ الشام بقيادته ؛ لكسح معاوية وبطانته الفاسدة ، أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكَّة بما عزموا عليه ، فاستعدَّ لحرب الناكثين « وسار عليٌّ من المدينة في تعبئته التي تعبَّاها لأهل الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ستٍّ وثلاثين » (1).

رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط الحكم العريضة ، وكان وسامها : « لا فضل لعربي علىٰ أعجمي » ، أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين علىٰ الحكم ، وكان منهم ما كان من الخروج عليه ، فلمَّا أدرك طلحة والزبير برفض الإمام أن يجعل لهما ميزة علىٰ غيرهما ، فلا ينالان إلَّا ما ينال المسكين والفقير بعطاء متساوٍ ..

بعد أن أدركا كلَّ هذا سكتا علىٰ مضضٍ ، وأخذا يعملان للثورة ضدَّه ، ضدَّ الحكم الجديد ، فانضمَّا إلىٰ الحزب الأُموي ..

لقد كان قرار التسوية « هو السبب الخفي والحقيقي لخروج من خرج علىٰ عليٍّ ، ولنكوث من نكث بيعته ، وإن توارىٰ ذلك تحت دعوىٰ مفتعلة اسمها دم عُثمان » (2) !

واستغلَّ هذا الجانب سخط عائشة علىٰ الإمام عليٍّ عليه السلام ومواقفها العدائية منه .. فلمَّا كانت بمكَّة ، وقد خرجت إليها قبل أن يُقتل عُثمان ، فلمَّا كانت في بعض طريقها راجعةً إلىٰ المدينة لقيها ابن أمِّ كلاب ، فقالت له : ما فعل عُثمان ؟

قال : قُتل !

قالت : بُعداً وسحقاً ، فمن بايع الناس ؟

قال : طلحة.

قالت : إيهاً ذو الإصبع.

ثمَّ لقيها آخر ، فقالت : ما فعل الناس ؟

قال : بايعوا عليَّاً.

قالت : والله ما كنت أُبالي أن تقع هذه علىٰ هذه ، ثُمَّ رجعت إلىٰ مكَّة (3).

فانصرفت إلىٰ مكَّة وهي تقول : قُتل والله عُثمان مظلوماً ، والله لأطلبنَّ بدمه !

قيل لها : ولِمَ ؟ والله إنَّ أوَّل من أمال حَرْفَه لأنتِ ، ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

قالت : إنَّهم استتابوه ، ثُمَّ قتلوه ، وقد قلتُ وقالوا ، وقولي الأخير خيرٌ من قولي الأوَّل.

فقال لها ابن أمِّ كلاب :

فمنكِ البداءُ ومنكِ الغِيرْ

 

ومنكِ الرياحُ ومنكِ المطرْ

وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام

 

وقلتِ لنا : إنَّه قد كفرْ

فَهَبْنا أطعناك في قتلِه

 

وقاتِلُه عندنا مَنْ أمرْ

ولم يسقطِ السقفُ من فوقنا

 

ولم ينكسف شمسنا والقمرْ

وقد بايع الناس ذا تُدرءٍ

 

يزيلُ الشبا ويُقيم الصعرْ

ويلبسُ للحربِ أثوابها

 

وما مَنْ وفىٰ مثلُ من قد غدرْ (4)

وقبل أن يخرج موكب عائشة ويدلو بدلوه ، كان الإمام عليه السلام يقول : « أمرتُ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين » (5) ، فما مضت الأيَّام حتىٰ قاتلهم ، وهذه من جملة الآيات الدالَّة عليه ، وقوله عليه السلام لطلحة والزبير لمَّا استأذناه في الخروج إلىٰ العمرة ، قال : « والله والله ما تريدان العمرة وإنَّما تريدان البصرة » (6) !

وكان من نتائج هذا التمرُّد ـ كما سنأتي عليه ـ معركة البصرة ، أوَّل نكث لبيعة الإمام عليه السلام التي انتهت بفشل موكب عائشة وقتل طلحة والزبير وعشرات الألوف من المسلمين !

تهيَّأت عائشة للخروج إلىٰ البصرة ، وأتت أُمُّ سلمة فكلَّمتها في الخروج معهم ، فردَّت عليها أُمُّ سلمة قائلةً :

أفأُذكِّرك ؟

قالت : نعم.

قالت أُمُّ سلمة : أتذكرين إذ أقبل رسول الله ونحن معه ، فخلا بعليٍّ يناجيه ، فأطال فأردتِ أن تهجمي عليهما ، فنهيتك فعصيتيني ، فهجمتِ عليهما ، فما لبثت أن رجعتِ باكية ، فقلتُ : ما شأنك ؟ فقلت : إنِّي هجمت عليهما وهما يتناجيان ، فقلتُ لعليٍّ : ليس لي من رسول الله إلَّا يوم من تسعة أيَّام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ! فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليَّ وهو غضبان محمرُّ الوجه ، فقال : « ارجعي وراءك ، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلَّا وهو خارج من الإيمان » ؟

قالت عائشة : نعم أذكر (7).

لكن لم يردعها كلام ولا رادع ، فلم تنثنِ عن عزمها ، ولم ترجع إلىٰ عقلها ، فتجهَّزت ومن معها إلىٰ البصرة لتؤلِّب الناس علىٰ الإمام عليٍّ عليه السلام فكانت أحداث معركة الجمل.

تحرَّك موكب الناكثين بقيادة عائشة وطلحة والزبير نحو البصرة ، وقد حفَّ به الحاقدون علىٰ الإمام عليٍّ عليه السلام تحت شعار : « الثأر لعثمان » ، فلمَّا بلغوا « ذات عرق » لقيهم سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وأصحابه ، فقال لهم : أين تذهبون وتتركون ثأركم علىٰ أعجاز الإبل وراءكم ؟ ـ يعني عائشة وطلحة والزبير ـ اقتلوهم ثُمَّ ارجعوا إلىٰ منازلكم.

فقالوا : نسير لعلَّنا نقتل قتلة عُثمان جميعاً (8).

ومرَّ القوم ليلاً بماء يُقال له : الحوأب ، فنبحتهم كلابه ، فقالت عائشة : ما هذا الماء ؟

قال بعضهم : ماء الحوأب.

فقالت : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، هذا الماء الذي قال لي رسول الله : « لا تكوني التي تنبحكِ كلاب الحوأب ». ثمَّ صرخت بهم : ردُّوني ردُّوني !!

فأتاها القوم بأربعين رجلاً ، فأقسموا بالله أنَّه ليس بماء الحوأب ! وأتىٰ عبد الله بن الزبير ، فحلف لها بالله لقد خلَّفتهِ أوَّل الليل ، وأتاها ببيِّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك (9). فكان ذلك أوَّل شهادة زور أُقيمت في الإسلام.

وبلغوا البصرة ، وعامل الإمام عليها الصحابي عُثمان بن حُنيف الأنصاري ، فمنعهم من الدخول ، وقاتلهم ، ثُمَّ توادعوا ألَّا يحدثوا حدثاً حتىٰ يقدم عليٌّ عليه السلام ، ثُمَّ كانت ليلة ذات ريح وظلمة ، فأقبل أصحاب طلحة فقتلوا حرس عُثمان بن حنيف ، ودخلوا عليه ، فنتفوا لحيته وجفون عينيه ومثَّلوا به ، وقالوا : لولا العهد لقتلناك ، وأخذوا بيت المال (10).

وأمّا الإمام علي فلما بلغه نبأ مسيرهم إلىٰ البصرة ، حمد الله وأثنىٰ عليه ، ثُمَّ قال : « قد سارت عائشة وطلحة والزبير ، كلُّ واحدٍ منهما يدَّعي الخلافة دون صاحبه ، فلا يدَّعي طلحة الخلافة إلَّا أنَّه ابن عمِّ عائشة ، ولا يدَّعيها الزبير إلَّا أنَّه صهر أبيها. والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربنَّ الزبير عنق طلحة ، وليضربنَّ طلحة عنق الزبير ، يُنازع هذا علىٰ الملك هذا.

وقد ـ والله ـ علمتُ أنَّها الراكبة الجمل ، لا تحلُّ عقدةً ولا تسيرُ عقبةً ، ولا تنزلُ منزلاً إلَّا إلىٰ معصيةٍ ، حتىٰ تورد نفسها ومن معها مورداً ، يُقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويرجعُ ثلثهم.

والله إنَّ طلحة والزبير ليعلمان أنَّهما مُخطئان وما يحملان ، ولربَّما عالم قتله جهلُهُ وعلمه معه لا ينفعه. والله لينبحها كلاب الحوأب ، فهل يعتبر معتبرٌ أو يتفكَّر متفكِّرٌ » !

ثمَّ قال : « قد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون » ؟ (11)

ثمَّ دعا علىٰ طلحة والزبير أمام مسلمي الكوفة ، فقال : « قد علمتم ـ معاشر المسلمين ـ أنَّ طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين ، ثُمَّ استأذناني في العمرة فأذنتُ لهما ، فسارا إلىٰ البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر.

اللَّهمَّ إنَّهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألَّبا الناس عليَّ ، فاحلُل ما عقدا ، ولا تُحكمْ ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما عملا » (12).

معركة الجمل :

سُمِّيت بذلك لأنَّ « قائدة الجيش » فضَّلت ركوب الجمل علىٰ البغال والحمير ، وكانت الواقعة في ٤ كانون الأوَّل سنة ٦٤٦ م (13) ، يوم الخميس لعشر خلون من جمادىٰ الآخرة سنة ٣٦ هـ (14).

وكانت الوقعة خارج البصرة ، عند قصر عبيد الله بن زياد (15) وكان عسكر الإمام عشرين ألفاً ، وعسكر عائشة ثلاثين ألفاً (16).

ولمَّا التقىٰ الجمعان قال الإمام لأصحابه : « لا تبدأوا القوم بقتال ، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا علىٰ جريح ، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً ، ولا تكشفوا عورة ، ولا تمثِّلوا بقتيل ، وإذا وصلتم إلىٰ رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ، ولا تدخلوا داراً ، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً .. ولا تهيجوا امرأةً بأذىٰ وإن شتمن أعراضكم ، وسَبَبنَ أمراءكم وصلحاءكم » (17).

وقيل : إنَّ أوَّل قتيل كان يومئذٍ مسلم الجُهني ، أمره عليٌّ عليه السلام فحمل مصحفاً ، فطاف به علىٰ القوم يدعوهم إلىٰ كتاب الله ، فقُتل (18).

ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسكر الإمام بالنبال ، حتىٰ قُتل منهم جماعة ، فقال أصحاب الإمام : عقرتنا سهامهم ، وهذه القتلىٰ بين يديك ..

عند ذلك استرجع الإمام وقال : « اللَّهمَّ اشهد » ، ثُمَّ لبس درع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب ؛ فدفعها إلىٰ ولده محمَّد بن الحنفية.

وتقابل الفريقان للقتال ، فخرج الزبير ، وخرج طلحة بين الصفَّين ، فخرج إليهما عليٌّ ، حتىٰ اختلفت أعناق دوابِّهم ، فقال عليٌّ عليه السلام : « لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً ، فاتَّقيا الله ، ولا تكونا ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) (19).

ألم أكن أخاكما في دينكما ، تُحرِّمان دمي ، وأُحرِّم دمكما ، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي » ؟!

قال طلحة : ألَّبت علىٰ عُثمان.

قال عليٌّ : « ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) ، يا طلحة ، تطلب بدم عُثمان ؟! فلعن الله قتلة عُثمان ، يا طلحة ، أجئت بِعرس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تقاتل بها ، وخبَّأتَ عرسك في البيت ! أما بايعتني ؟! ».

قال : بايعتك والسيف علىٰ عنقي!

فقال عليٌّ عليه السلام للزبير : « يا زبير ، ما أخرجك ؟ قد كنَّا نعدُّك من بني عبد المطَّلب حتىٰ بلغ ابنك ابن السوء (20) ، ففرَّق بيننا » وذكَّره أشياء ، فقال : « أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في بني غنم ، فنظر إليَّ ، فضحك ، وضحكت إليه ، فقلتَ له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه ، فقال لك : ليس به زهوٌ ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له ؟ ».

قال : اللَّهمَّ نعم ، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا ، والله لا أُقاتلك أبداً.

فانصرف الزبير إلىٰ عائشة ، فقال لها : ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلَّا وأنا أعرف فيه أمري ، غير موطني هذا.

قالت : فما تريد أن تصنع ؟

قال : أُريد أن أدعهم وأذهب.

قال له ابنه عبد الله : جمعت بين هذين الغارين ، حتىٰ إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب ؟! لكنَّك خشيت رايات ابن أبي طالب ، وعلمت أنَّها تحملها فتيةٌ أنجاد ، وأنَّ تحتها الموت الأحمر ، فجبنت !

فاحفظه ـ أي : أغضبه ـ ذلك ، وقال : إنِّي حلفتُ ألَّا أُقاتله.

قال : كفِّر عن يمينك ، وقاتله.

فأعتق غلامه ( مكحولاً ) ، وقيل : سرجيس.

فقال عبد الرحمن بن سلمان التميميُّ :

لم أرَ كاليوم أخا إخوانِ

 

عْجَبَ من مُكَفِّرِ الأَيمانِ

بالعتق في معصية الرحمٰن (21)

وقيل : إنَّه عاد ولم يقاتل الإمام عليه السلام (22).

واحتدمت المعركة بين الفريقين ، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة أشدَّ منه ، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحكم رمىٰ طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليه السلام ! يرميه فيرديه ويقول : لا أطلب بثأري بعد اليوم (23).

واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ ، لم يرَ سوىٰ الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي ، فتتهاوىٰ أجساد المسلمين علىٰ الأرض.

ولمَّا رأىٰ الإمام هذا الموقف الرهيب من كلا الطرفين ، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً مادام الجمل واقفاً علىٰ قوائمه قال : « إرشقوا الجمل بالنبل ، واعقروه وإلَّا فنيت العرب ، ولا يزال السيف قائماً حتىٰ يهوي هذا البعير إلىٰ الأرض ». فقطعوا قوائمه ، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف ، فهوىٰ إلىٰ الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث ، وبقيت قائدة المعركة لوحدها في ميدان الحرب ! وانتهت المعركة بهزيمة المتمرِّدين من أصحاب الجمل.

أمَّا الإمام عليه السلام فقد هاله موقف المسلمين منه ، حتىٰ ساقهم هذا العصيان والتمرُّد علىٰ الحقِّ إلىٰ مثل هذا المصير ، فوقف بين قتلاه وقتلىٰ المتمرِّدين ، تحيط به هالة القلق والتمزُّق فقال : « هذه قريشٌ ، جَدَعْتُ أنفي وشفيتُ نفسي ، لقد تقدَّمت إليكم أُحذِّركم عضَّ السيوف ، وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون ، ولكنَّه الحَين (24) ، وسوء المصرع ، فأعوذ بالله من سوء المصرع » (25).

ثمَّ أمر عليٌّ عليه السلام نفراً أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلىٰ ، وأمر أخاها محمَّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبَّةً ، وقال : « انظر هل وصل إليها شيء من جراحة » ؟ فأدخل رأسه في هودجها ، فقالت : من أنت ؟ قال : أبغض أهلك إليك. قالت : ابن الخثعمية ؟ قال : نعم. قالت : يا بأبي ، الحمد لله الذي عافاك (26) !

فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بكر البصرة ، في دار صفية بنت الحارث ، ثمَّ دخل الإمام عليه السلام البصرة فبايعه أهلها علىٰ راياتهم حتىٰ الجرحىٰ والمستأمنة ..

ثمَّ جهَّز عليٌّ عليه السلام عائشة بكلِّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك ، وبعث معها كلَّ من نجا ، ممَّن خرج معها ، إلَّا من أحبَّ المقام ، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات ، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بكر (27).

وقيل : إنَّه لمَّا أُخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل ، فتكلَّم فيه الحسن والحسين عليهما السلام فخلَّىٰ سبيله فقالا له : « يبايعك ، يا أمير المؤمنين ؟ » فقال : « ألم يبايعني بعد قتل عُثمان ، لا حاجة لي في بيعته ، أما إنَّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة ، وستلقىٰ الأُمَّة منه ومن ولده موتاً أحمر ». فكان كما قال عليه السلام (28).

ورُبَّ سائل يسأل : ما هي الآثار التي تركتها فتنة الجمل ؟

فيُجيب الأستاذ محمَّد جواد مغنية بقوله : « لولا حرب الجمل لما كانت حرب صفِّين والنهروان ، ولا مذبحة كربلاء ، ووقعة الحرّة ، ولا رُميت الكعبة المكرَّمة بالمنجنيق أكثر من مرَّة ، ولا كانت الحرب بين الزبيريِّين والأُمويِّين ، ولا بين الأُمويِّين والعباسيِّين ، ولما افترق المسلمون إلىٰ سُنَّة وشيعة ، ولما وجد بينهم جواسيس وعملاء يعملون علىٰ التفريق والشتات ، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكاً يتوارثها الصبيان ، ويتلاعب بها الخدم والنسوان.

لقد جمعت حرب الجمل جميع الرذائل والنقائص ، لأنَّها السبب لضعف المسلمين وإذلالهم ، واستعبادهم وغصب بلادهم ، فلقد كانت أوَّل فتنةٍ ألقت بأس المسلمين بينهم ، يقتل بعضهم بعضاً ، بعد أن كانوا قوَّةً علىٰ أعدائهم ، كما فسحت المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بكيان المسلمين ووحدتهم ، ومهَّدت لحكم الترك والديلم والصليبيِّين وغيرهم. وباختصار لولا فتنة الجمل لاجتمع أهل الأرض علىٰ الإسلام ، لأنَّ رحمته تشمل الناس أجمعين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) وقال النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنَّما أنا رحمة مهداة » » (29).

الهوامش

1. الكامل في التاريخ ٣ : ١١٤.

2. الزيدية / د. أحمد صبحي : ٤٤ ، مؤسَّسة الزهراء للإعلام العربي ـ ١٩٨٤ م.

3. الامامة والسياسة ١ : ٥٢ ، شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٢١٥ ـ ٢١٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٠ ، كتاب الدلائل : ٩٧.

4. الكامل في التاريخ ٣ : ١٠٠ ، الفتوح ١ : ٤٣٤ ، تاريخ الطبري ٥ : ١٧٢ ، الإمامة والسياسة ١ : ٥٢.

5. إعلام الورىٰ ١ : ٣٣٦ ، المستدرك ٣ : ١٥٠ / ٤٦٧٤ و ٤٦٧٥ ، أسد الغابة ٤ : ١٢٤ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٦٢.

6. إعلام الورىٰ ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

7. أنظر : ابن أبي الحديد ٦ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

8. الإمامة والسياسة ١ : ٦٣ ، وانظر الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٢.

9. أنظر قصَّة ماء الحوأب في : تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١ ، ابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٥ ، تاريخ ابن الأثير ٢ : ١٠٣ ، مسند أحمد ٦ : ٥٢ ، ٩٧ ، المستدرك ٣ : ١١٩ ـ ١٢٠ ، كنز العمَّال ١١ ح / ٣١٦٦٧.

10. أنظر : تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١ ، تاريخ ابن الأثير ٢ : ١٠٨ ، الإمامة والسياسة : ٦٩.

11. إرشاد المفيد ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

12. إرشاد المفيد ١ : ٢٥٠ ، الطبعة الحجرية.

13. فضائل الإمام عليٍّ : ١٢٨ ، عن بروكلمن في ( تاريخ الشعوب الإسلامية ).

14. فضائل الإمام عليٍّ : ١٢٨ ، عن الواقدي والمسعودي.

15. سير أعلام النبلاء ( سيرة الخلفاء الراشدين ) : ٢٥٤.

16. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

17. الكامل في التاريخ ٣ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

18. سير أعلام النبلاء ( سيرة الخلفاء الراشدين ) : ٢٥٩.

19. سورة النحل : ٩٢.

20. يريد ابنه عبد الله.

21. تاريخ الطبري ٥ : ٢٠٠ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٣٩ ، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

22. الإمامة والسياسة : ٧٣.

23. سير أعلام النبلاء ( ترجمة الإمام عليٍّ ) : ٢٥٥ ، وانظر ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٢٨.

24. الحين : الهلاك.

25. الإرشاد ١ : ٢٥٤.

26. الكامل في التاريخ ٢ : ١٤٠.

27. الكامل في التاريخ ٢ : ١٤٤.

28. إعلام الورىٰ ١ : ٣٤٠.

29. فضائل الإمام عليٍّ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

مقتبس من كتاب : الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ / الصفحة : 194 ـ 205

 

أضف تعليق

الغزوات والحروب

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية