نصّ خطبة السيّدة زينب في الكوفة
قال بشير بن خزيم الأسدي (1) :
ونظرت إلى زينب بنت علي عليه السلام يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها (2) ، كأنّها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3) ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.
فارتدّت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثمّ قالت :
« الحمد لله والصلاة على أبي : محمّد وآله الطيّبين الأخيار.
أمّا بعد :
يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر !!
أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة.
إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتّخذون أيمانكم دخلاً بينكم.
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ؟ والصدر الشنف ؟ وملق الإماء ؟ وغمز الأعداء ؟
أو كمرعى على دمنة ؟ أو كفضة على ملحودة ؟
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون ؟ وتنتحبون ؟
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً.
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ؟ ومعدن الرسالة ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجّتكم ، ومدرة سنّتكم ؟؟
ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.
وَيلكم يا أهل الكوفة !
أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فَرَيتُم ؟!
وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟!
وأيّ دم له سفكتم ؟!
وأيّ حرمةٍ له هتكتم ؟!
لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء.
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون.
فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد ». (4)
قال الراوي : « فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاًَ واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمّي !! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ». (5)
الهوامش
1. المصادر التي تذكر خطبة السيّدة زينب في الكوفة كثيرة ، ونحن اعتمدنا على كتاب « الملهوف » للسيّد ابن طاووس رضوان الله عليه.
2. خفرةً : المرأة الشديدة الحياء.
3. تفرغ : تصب ، الإفراغ « الصب ، قال تعالى : ( أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا ).
4. كتاب « الملهوف » للسيّد ابن طاووس ، المتوفّى سنة ٦٦٤ هـ ، ص ١٩٢ ـ ١٩٣.
5. كتاب « الملهوف » للسيّد ابن طاووس ، ص ١٩٣ ـ ١٩٤. وسوف نذكر نصّ الخطبة على رواية كتاب « الإحتجاج » للشيخ الطبرسي ، وذلك لوجود بعض الفروق وزيادة بعض الإضافات ، ـ بعد الفراغ من شرح هذه الخطبة ـ إن شاء الله تعالى.
مقتبس من كتاب : [ زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد ] / الصفحة : 283 ـ 286
التعليقات
لم لا يكون هناك لجنة من المحققين المنصفين يقومون بحذف الروايات الضعيفة السند او المدسوسة وخلاصنا منها كما في نهج البلاغه حيث يمدح امير المؤمنين علي ع ابن ابي قحافة ويقول هو احق الناس بها ووو.
او في بحار الانوار من ان الرسول ص كان يقبل فاطمة ع بين ثدييها وهذا لا يليق بالنبي ص
نعم هناك بعض الخطب يمدح فيها الامام عليه السلام بعض الأشخاص بنحو الإجمال ، كقوله : « لله بلاء فلان » ؛ فاستفاد من هذا الاجمال بعض علماء السنّة فذكروا انّه يمدح عمر بن الخطاب ، لكن الشيعة يقولون انّه يمدح سلمان الفارسي ، وهو الصحيح اذ لا يناقض الامام نفسه ؛ فبعد قدحه وذمّه للخلفاء فكيف يمدحهم ؟!
وقد قال عليه السلام يعبّر عن صبره وتحمله : « فصبرت وفي العين قذىً وفي الحلق شجاً أرى تراثي نهباً ».
ثانياً : تقبيل النبي صلّى الله عليه وآله صدر فاطمة لا قبح فيه بعدما علّل ذلك بأنّه يشمّ رائحة الجنّة منها ، وكيف يكون ذلك قبيحاً وهو معصوم يقبّل معصومة ، حيث لا يحتمل في حقّه ولا في حقّها الوقوع في الفساد نعوذ بالله تعالى.
أمّا الروايات التي قد تكون ضعيفة السند أو يخيّل أنّها مخالفة للعقل أو المنطق أو الأخلاق فلا معنى لاسقاطها من الجوامع الحديثية ، اذ الرواية الضعيفة السند يمكن الحكم باعتبارها من تجميع القرائن المقتضية للاطمينان بصدورها او اضافتها الى الروايات الاخرى بحيث يحصل التواتر المعنوي أو الإجمالي ، فيستفاد منها في الاستنباط الفقهي.
ثمّ انّ التعبير بضعف السند في عبارة العلماء ليس معناه بطلان الرواية والقطع بعدم صحّتها ، بل يعبرون عن الرواية التي لم يثبت وثاقة الراوي بالرواية الضعيفة ، مع انّه من المحتمل كونه موثوقاً في الواقع او كون الرواية معتبرة لاعتماد الأصحاب عليها أو عمل المشهور بها.
وامّا ما يتوهّم كونه مخالفاً للعقل أو للضرورة فيمكن أن يكون لها تفسير آخر غير مانفهمه ، فلابدّ من ذكرها في الكتب حتّى تمحّص ويرد حولها تحقيق وتفسير من قبل العلماء يتوافق مع العقل والمنطق ، نظير الآيات التي تكون مجملة تحتاج إلى التفسير والتأويل ؛ فهل نظرحها من القرآن ، كقوله تعالى : ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) [ طه : 5 ] مع انّ الله تعالى ليس جسماً يجلس على السرير ، وقوله تعالى : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) [ يوسف : 82 ] مع انّ القرية جماد لا يسمع ، وقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) [ القيامة : 22 ـ 23 ] مع انّ الله تعالى ليس جسماً قابلاً للرؤية ، وقد قال الله تعالى : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) [ الأنعام : 103 ] فهل يناقض القرآن نفسه ؟!
ولذا المحقّقون من العلماء والمفسّرين فسّروا الآية الاولى بأنّها كناية عن قدرة الله تعالى وتمثيل بالملك الذي يجلس على سرير الملك ، وفسّروا الآية الثانية « واسأل أهل القرية » ، وفسّروا الآية الثالثة « ناظرة الى آثار رحمة الله تعالى » ، وهكذا سائر الآيات التي تحتاج الى تأويل وتفسير.
فالروايات أيضاً من هذا القبيل لابدّ من تفسيرها وتأويلها لما لا يخالف العقل والمنطق.
نعم لو لم يكن هناك مجال للتأويل والتفسير تطرح تلك الروايات ، لكن طرحها يحتاج الى تحقيق شامل وتمحيص دقيق لا يقدر على ذلك الّا المجتهد والمحدّث الخبير المطّلع على مذاق الشرع المقدّس ؛ ولذا قال الامام عليه السلام : « انّا لا نعدّ الرجل منكم فقيهاً حتّى يعرف معاريض كلامنا ».
RSS تغذية للتعليقات على هذه المادة