وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ـ 124.
( بيان )
شروع بجمل من قصص إبراهيم عليه السلام وهو كالمقدمة والتوطئة لآيات تغيير القبلة وآيات أحكام الحج ، وما معها من بيان حقيقة الدين الحنيف الإسلامي بمراتبها : من اصول المعارف ، والأخلاق ، والأحكام الفرعية الفقهية جملاً ، والآيات مشتملة على قصة اختصاصه تعالى إياه بالإمامة وبنائه الكعبة ودعوته بالبعثة.
فقوله تعالى : وإذ إبتلى ابراهيم ربه إلخ ، اشارة الى قصة اعطائه الإمامة وحبائه بها ، والقصة إنما وقعت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد كبره وتولد إسماعيل ، وإسحق له وإسكانه إسماعيل وأمه بمكة ، كما تنبه به بعضهم أيضاً ، والدليل على ذلك قوله عليه السلام على ما حكاه الله سبحانه بعد قوله تعالى له : إني جاعلك للناس إماماً ، قال ومن ذريتي ، فإنه عليه السلام قبل مجیء الملائكة ببشارة إسماعيل ، وإسحق ، ما كان يعلم ولا يظن أن سيكون له ذرية من بعده حتى أنه بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد خاطبهم بما ظاهره اليأس والقنوط كما قال تعالى : « وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ : إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ، قَالُوا : لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ، قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ؟ قَالُوا ، بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ » ، الحجر ـ 55 ، وكذلك زوجته على ما حكاه الله تعالى في قصة بشارته أيضاً إذ قال تعالى : « وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ ، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ، قَالَتْ ، يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ، قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ، رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ » هود ـ 73 ، وكلامهما كما ترى يلوح منه آثار اليأس والقنوط ولذلك قابلته الملائكة بنوع كلام فيه تسليتهما وتطييب أنفسهما فما كان هو ولا أهله يعلم أن سيرزق ذرية ، وقوله عليه السلام : ومن ذريتي ، بعد قوله تعالى : إني جاعلك للناس إماماً ، قول من يعتقد لنفسه ذرية ، وكيف يسع من له ادنى دربة بأدب الكلام وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربه الجليل أن يتفوه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول : ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدي هذا المعنى فالقصة واقعة كما ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.
على أن قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماماً ، يدل على أن هذه الإمامة الموهوبة إنما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات وليست هذه الا أنواع البلاء التي ابتلى عليه السلام بها في حيوته ، وقد نص القرآن على أن من أوضحها بلاء قضية ذبح إسماعيل ، قال تعالى : « قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، الی ان قال : إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ » الصافات ـ 106.
والقضية انما وقعت في كبر إبراهيم ، كما حكى الله تعالى عنه من قوله : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ ، وَإِسْحَاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ » ابراهيم ـ 39.
ولنرجع الى الفاظ الآية فقوله : واذ ابتلى ابراهيم ربه ، الابتلاء والبلاء بمعنى واحد تقول : ابتليته وبلوته بكذا ، أي امتحنته واختبرته ، اذا قدمت اليه أمراً أو أوقعته في حدث فاختبرته بذلك واستظهرت ما عنده من الصفات النفسانية الكامنة عنده كالإطاعة والشجاعة والسخاء والعفة والعلم والوفاء أو مقابلاتها ، ولذلك لا يكون الابتلاء إلا بعمل فإن الفعل هو الذي يظهر به الصفات الكامنة من الإنسان دون القول الذي يحتمل الصدق والكذب قال تعالى : « إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ » ن ـ 17 ، وقال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ » البقرة ـ 249.
فتعلق الابتلاء ، في الاية بالكلمات ان كان المراد بها الأقوال إنما هو من جهة تعلقها بالعمل وحكايتها عن العهود والأوامر المتعلقة بالفعل كقوله تعالى « وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا » البقرة ـ 83 ، أي عاشروهم معاشرة جميلة وقوله : بكلمات فأتمهن ، الكلمات وهي جمع كلمة وإن أُطلقت في القرآن على العين الخارجي دون اللفظ والقول ، كقوله تعالى : « بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » آل عمران ـ 45 ، إلا أن ذلك بعناية إطلاق القول كما قال تعالى : « إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ » آل عمران ـ 59.
وجميع ما نسب إليه تعالى من الكلمة في القرآن اريد بها القول كقوله تعالى : « وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ » الأنعام ـ 34 ، وقوله : « لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ » يونس ـ 64 ، وقوله : « يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ » الأنفال ـ 7 ، وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ » يونس ـ 96 ، وقوله : « وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ » الزمر ـ 71 ، وقوله « وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ » المؤمن ـ 6 ، وقوله : « وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ » الشورى ـ 14 ، وقوله : « وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا » التوبة ـ 40 ، وقوله : « قَالَ فَالْحَقُّ ، وَالْحَقَّ أَقُولُ » ص ـ 84 ، وقوله : « إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ » النحل ـ 40 ، فهذه ونظائرها أُريد بها القول بعناية أن القول توجيه ما يريد المتكلم إعلامه المخاطب ما عنده كما في الأخبار أو لغرض تحميله عليه كما في الانشاء ولذلك ربما تتصف في كلامه تعالى بالتمام كقوله تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ » الأنعام ـ 115 ، وقوله تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ » الأعراف ـ 137 ، كأن الكلمة اذا صدرت عن قائلها فهي ناقصة بعد ، لم تتم ، حتى تلبس لباس العمل وتعود صدقاً.
وهذا لا ينافي كون قوله تعالى فعله ، فإن الحقائق الواقعية لها حكم ، وللعنايات الكلامية اللفظية حكم آخر ، فما يريد الله سبحانه إظهاره لواحد من أنبيائه ، أو غيرهم بعد خفائه ، أو يريد تحميله على أحد قول وكلام له لاشتماله على غرض القول والكلام وتضمنه غاية الخبر والنبأ ، والأمر والنهي ، وإطلاق القول والكلمة على مثل ذلك شائع في الاستعمال اذا اشتمل على ما يؤديه القول والكلمة ، تقول : لأفعلن كذا وكذا ، لقول قلته وكلمة قدمتها ، ولم تقل قولاً ، ولا قدمت كلمة ، وإنما عزمت عزيمة لا تنقضها شفاعة شفيع أو وهن إرادة ، ومنه قول عنترة :
وقولي كلما جشأت وجاشت |
مكانك تحمدي أو تستريحي |
يريد بالقول توطين نفسه على الثبات والعزم ، على لزومها مكانها لتفوز بالحمد إن قتل ، وبالاستراحة إن غلب.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أن المراد بقوله تعالى بكلمات ، قضايا ابتلى بها وعهود إلهية اريدت منه ، كابتلائه بالكواكب والأصنام ، والنار والهجرة وتضحيته بابنه وغير ذلك ولم يبين في الكلام ما هي الكلمات لأن الغرض غير متعلق بذلك ، نعم قوله : قال إني جاعلك للناس إماماً ، من حيث ترتبه على الكلمات تدل على انها كانت أُموراً تثبت بها لياقته ، عليه السلام لمقام الإمامة.
فهذه هي الكلمات وأما إتمامهن فإن كان الضمير في قوله تعالى : أتمهن راجعاً إلى إبراهيم كان معنى إتمامهن إتيانه عليه السلام ما أُريد منه ، وامتثاله لما أمر به ، وإن كان الضمير راجعاً إليه تعالى كما هو الظاهر كان المراد توفيقه لما اريد منه ، ومساعدته على ذلك ، وأما ما ذكره بعضهم : أن المراد بالكلمات قوله تعالى : قال إني جاعلك للناس إماماً ، إلى آخر الآيات فمعنى لا ينبغي الركون اليه اذ لم يعهد في القرآن إطلاق الكلمات على جمل الكلام.
قوله تعالى : إني جاعلك للناس اماماً ، أي مقتدى يقتدى بك الناس ، ويتبعونك في أقوالك وأفعالك ، فالإمام هو الذي يقتدي ويأتم به الناس ، ولذلك ذكر عدة من المفسرين أن المراد به النبوة ، لأن النبي يقتدي به امته في دينهم ، قال تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ ، إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ » النساء ـ 64 ، لكنه في غاية السقوط.
اما اولا : فلأن قوله : إماماً ، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله : جاعلك واسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، وانما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فقوله ، إني جاعلك للناس إماماً ، وعدله عليه السلام بالإمامة في ما سيأتي ، مع أنه وحي لا يكون إلا مع نبوّة ، فقد كان (ع) نبياً قبل تقلده الإمامة ، فليست الإمامة في الآية بمعنى النبوّة ( ذكره بعض المفسرين ).
واما ثانياً : فلأنا بيّنا في صدر الكلام : أن قصة الامامة ، إنما كانت في أواخر عهد إبراهيم عليه السلام بعد مجيء البشارة له بإسحق وإسماعيل ، وإنما جائت الملائكة بالبشارة في مسيرهم الى قوم لوط وإهلاكهم ، وقد كان إبراهيم حينئذ نبياً مرسلاً ، فقد كان نبياً قبل أن يكون إماما ، فإمامته غير نبوته.
ومنشأ هذا التفسير وما يشابهه الابتذال الطاري على معاني الألفاظ الواقعة في القرآن الشريف في أنظار الناس من تكرر الاستعمال بمرور الزمن ومن جملة تلك الألفاظ لفظ الإمامة ، ففسره قوم : بالنبوة والتقدم والمطاعية مطلقاً ، وفسره آخرون بمعنى الخلافة أو الوصاية ، أو الرئاسة في امور الدين والدنيا ـ وكل ذلك لم يكن ـ فإن النبوة معناها : تحمل النبأ من جانب الله ، والرسالة معناها تحمل التبليغ ، والمطاعية والاطاعة قبول الإنسان ما يراه أو يأمره غيره وهو من لوازم النبوّة والرسالة ، والخلافة نحو من النيابة ، وكذلك الوصاية ، والرئاسة نحو من المطاعية وهو مصدرية الحكم في الاجتماع وكل هذه المعاني غير معنى الإمامة التي هي كون الإنسان بحيث يقتدى به غيره بأن يطبق أفعاله وأقواله على أفعاله وأقواله بنحو التبعية ، ولا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إني جاعلك للناس نبياً ، أو مطاعاً فيما تبلغه بنبوتك ، أو رئيساً تأمر وتنهى في الدين ، أو وصياً ، أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مرافعاتهم بحكم الله.
وليست الإمامة تخالف الكلمات السابقة وتختص بموردها بمجرد العناية اللفظية فقط ، إذ لا يصح أن يقال لنبي ـ من لوازم نبوته كونه مطاعاً بعد نبوته ـ إني جاعلك مطاعاً للناس بعد ما جعلتك كذلك ، ولا يصح ان يقال له ما يؤل اليه معناه وان اختلف بمجرد عناية لفظية ، فإن المحذور هو المحذور ، وهذه المواهب الإلهية ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية ، بل دونها حقائق من المعارف الحقيقية ، فلمعنى الإمامة حقيقة وراء هذه الحقائق.
والذي نجده في كلامه تعالى : إنه كلما تعرض لمعنى الإمامة تعرض معها للهداية تعرض التفسير ، قال تعالى في قصص إبراهيم عليهالسلام : « وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا » الانبياء ـ 73 ، وقال سبحانه : « وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ » السجدة 24 ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ، ثم قيدها بالأمر ، فبين أن الإمامة ليست مطلق الهداية ، بل هي الهداية التي تقع بأمر الله ، وهذا الأمر هو الذي بين حقيقته في قوله : « إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » يس ـ 83 ، وقوله : « وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » القمر ـ 50 ، وسنبين في الايتين ان الأمر الالهي وهو الذي تسميه الاية المذكورة بالملكوت وجه آخر للخلق ، يواجهون به الله سبحانه ، طاهر مطهر من قيود الزمان والمكان ، خال من التغير والتبدل وهو المراد بكلمة ـ كن ـ الذي ليس إلا وجود الشيء العيني ، وهو قبال الخلق الذي هو وجه آخر من وجهي الأشياء ، فيه التغير والتدريج والانطباق على قوانين الحركة والزمان ، وليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله إنشاء الله العزيز.
وبالجملة فالامام هاد يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه ، فالإمامة بحسب الباطن نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها إيصالها إياهم الى المطلوب بأمر الله دون مجرد إرائة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول وكل مؤمن يهدي الى الله سبحانه بالنصح والموعظة الحسنة ، قال تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ » ابراهيم ـ 4 ، وقال تعالى : في مؤمن آل فرعون ، « وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ » مؤمن ـ 38 ، وقال تعالى : « فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » التوبة ـ 122 ، وسيتضح لك هذا المعنى مزيد اتضاح.
ثم انه تعالى بين سبب موهبة الإمامة بقوله : « لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ الاية » فبين ان الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله ـ وقد أطلق الصبر ـ فهو في كل ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديته ، وكونهم قبل ذلك موقنين ، وقد ذكر في جملة قصص إبراهيم عليه السلام قوله : « وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » الأنعام ـ 75 ، والآية كما ترى تعطي بظاهرها : أن إرائة الملكوت لإبراهيم كانت مقدمة لإفاضة اليقين عليه ، ويتبيَّن به أنَّ اليقين لا ينفك عن مشاهدة الملكوت كما هو ظاهر قوله تعالى : « كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ » التكاثر ـ 6 وقوله تعالى : « كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ـ إلى أن قال ـ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ » المطففين 21 وهذه الآيات تدل على ان المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم بحجاب قلبيّ وهو المعصية والجهل والريب والشك ، فهم أهل اليقين بالله ، وهم يشهدون عليين كما يشهدون الجحيم.
وبالجملة فالإمام يجب أن يكون إنساناً ذا يقين مكشوفاً له عالم الملكوت ـ متحققاً بكلمات من الله سبحانه ـ وقد مرّ أن الملكوت هو الأمر الذي هو الوجه الباطن من وجهي هذا العالم ، فقوله تعالى : يهدون بأمرنا ، يدل دلالة واضحة على أن كل ما يتعلق به أمر الهداية ـ وهو القلوب والأعمال ـ فللإمام باطنه وحقيقته ، ووجهه الأمريّ حاضر عنده غير غائب عنه ، ومن المعلوم أن القلوب والأعمال كسائر الأشياء في كونها ذات وجهين ، فالإمام يحضر عنده ويلحق به أعمال العباد ، خيرها وشرّها ، وهو المهيمن على السبيلين جميعاً ، سبيل السعادة وسبيل الشقاوة.
وقال تعالى أيضاً : « يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ » الاسراء ـ 71 وسيجيء تفسيره بالإمام الحق دون كتاب الاعمال ، على ما يظن من ظاهرها ، فالإمام هو الذي يسوق الناس الى الله سبحانه يوم تبلى السرائر ، كما أنه يسوقهم إليه في ظاهر هذه الحيوة الدنيا وباطنها ، والآية مع ذلك تفيد أن الإمام لا يخلو عنه زمان من الأزمنة ، وعصر من الأعصار ، لمكان قوله تعالى : كل اناس ، على ما سيجيء في تفسير الآية من تقريبه.
ثم إن هذا المعنى أعني الإمامة ، على شرافته وعظمته ، لا يقوم إلا بمن كان سعيد الذات بنفسه ، إذ الذي ربَّما تلبَّس ذاته بالظلم والشقاء ، فإنما سعادته بهداية من غيره ، وقد قال الله تعالى : « أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ » يونس ـ 35 . وقد قوبل في الآية بين الهادي إلى الحق وبين غير المهتدي إلا بغيره ، أعني المهتدي بغيره ، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحق مهتدياً بنفسه ، أن المهتدي بغيره لا يكون هادياً إلى الحق البتة.
ويستنتج من هنا أمران : أحدهما : أن الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الضلال والمعصية ، والا كان غير مهتد بنفسه ، كما مرَّ ، كما يدل عليه أيضاً قوله تعالى : « وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ » الأنبياء ـ 73 فأفعال الإمام خيرات يهتدى إليها لا بهداية من غيره بل باهتداء من نفسه بتأييد إلهي ، وتسديد رباني والدليل عليه قوله تعالى : « فِعْلَ الْخَيْرَاتِ » بناء على أن المصدر المضاف يدل على الوقوع ، ففرق بين مثل قولنا : وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات فلا يدل على التحقق والوقوع ، بخلاف قوله « وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ » فهو يدل على أن ما فعلوه من الخيرات إنما هو بوحي باطني وتأييد سماوي . الثاني : عكس الأمر الأول وهو أن من ليس بمعصوم فلا يكون اماماً هادياً إلى الحق البتة.
وبهذا البيان يظهر : ان المراد بالظالمين في قوله تعالى ، « قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » مطلق من صدر عنه ظلم ما ، من شرك أو معصية ، وان كان منه في برهة من عمره ، ثم تاب وصلح.
وقد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه : عن تقريب دلالة الآية على عصمة الامام.
فأجاب : ان الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : من كان ظالماً في جميع عمره ، ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره ، ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره ، ومن هو بالعكس هذا. وإبراهيم عليه السلام أجل شأناً من أن يسئل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذريته ، فبقي قسمان وقد نفى الله أحدهما ، وهو الذي يكون ظالماً في أول عمره دون آخره ، فبقي الآخر ، وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره إنتهى وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور : الاول : أن الإمامة لمجعولة.
الثاني : أن الامام يجب أن يكون معصوماً بعصمة إلهية.
الثالث : أن الأرض وفيه الناس ، لا تخلو عن إمام حق.
الرابع : أن الإمام يجب أن يكون مؤيداً من عند الله تعالى.
الخامس : أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.
السادس : أنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما يحتاج اليه الناس في امور معاشهم ومعادهم.
السابع : أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.
فهذه سبعة مسائل هي امهات مسائل الإمامة ، تعطيها الآية الشريفة بما ينضم اليها من الآيات والله الهادي.
فان قلت : لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى ، وهي الهداية إلى الحق الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى : « أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ الآية » كان جميع الأنبياء أئمة قطعاً ، لوضوح أن نبوة النبي لا يتم إلا باهتداء من جانب الله تعالى بالوحي ، من غير أن يكون مكتسباً من الغير ، بتعليم أو إرشاد ونحوهما ، حينئذ فموهبة النبوة تستلزم موهبة الإمامة ، وعاد الإشكال إلى أنفسكم.
قلت : الذي يتحصَّل من البيان السابق المستفاد من الآية أن الهداية بالحق وهي الإمامة تستلزم الاهتداء بالحق ، وأما العكس وهو أن يكون كل من اهتدى بالحق هادياً لغيره بالحق ، حتى يكون كل نبي لاهتدائه بالذات إماماً ، فلم يتبين بعد ، وقد ذكر سبحانه هذا الاهتداء بالحق ، من غير أن يقرنه بهداية الغير بالحق في قوله تعالى : « وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ، وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ » الأنعام ـ 90 ، وسياق الآيات كما ترى يعطي أن هذه الهداية أمر ليس من شأنه أن يتغير ويتخلف ، وأن هذه الهداية لن ترتفع بعد رسول الله عن أمته ، بل عن ذرية إبراهيم منهم خاصة ، كما يدل عليه قوله تعالى : « وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » الزخرف ـ 28 ، فأعلم قومه ببرائته في الحال وأخبرهم بهدايته في المستقبل ، وهي الهداية بأمر الله حقاً ، لا الهداية التي يعطيها النظر والاعتبار ، فإنها كانت حاصلة مدلولاً عليها بقوله : إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني ، ثم أخبر الله : أنه جعل هذه الهداية كلمة باقية في عقب إبراهيم ، وهذا أحد الموارد التي أطلق القرآن الكلمة فيها على الأمر الخارجيّ دون القول ، كقوله تعالى : « وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا » الفتح ـ 26.
وقد تبين بما ذكر : أن الإمامة في ولد إبراهيم بعده ، وفي قوله تعالى : « قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي. قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » إشاره إلى ذلك ، فإن إبراهيم عليه السلام إنما كان سئل الإمامة لبعض ذريته لا لجميعهم ، فاجيب : بنفيها عن الظالمين من ولده ، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفياً لها عن الجميع ، ففيه إجابة لما سئله مع بيان أنها عهد ، وعهده تعالى لا ينال الظالمين.
قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، في التعبير إشارة إلى غاية بعد الظالمين عن ساحة العهد الإلهي ، فهي من الإستعارة بالكناية.
( بحث روائي )
في الكافي عن الصادق عليه السلام : إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، وإن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، وأن الله اتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً ، فلما جمع له الأشياء قال : « إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا » قال عليه السلام : فمن عظمها في عين إبراهيم قال : ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال : لا يكون السفيه إمام التقيّ.
أقول : وروي هذا المعنى أيضاً عنه بطريق آخر وعن الباقر عليه السلام بطريق آخر ، ورواه المفيد عن الصادق عليه السلام.
قوله : إن الله اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، يستفاد ذلك من قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ـ إلى قوله ـ مِّنَ الشَّاهِدِينَ » الأنبياء ـ 56 ، وهو اتخاذ بالعبودية في أول أمر إبراهيم.
واعلم ان اتخاذه تعالى أحداً من الناس عبداً غير كونه في نفسه عبداً ، فإن العبدية من الوازم الإيجاد والخلقة ، لا ينفك عن مخلوق ذي فهم وشعور ، ولا يقبل الجعل والاتخاذ وهو كون الإنسان مثلاً مملوك الوجود لربه ، مخلوقاً مصنوعاً له ، سواء جرى في حيوته على ما يستدعيه مملوكيته الذاتية ، واستسلم لربوبية ربه العزيز ، أو لم يجر على ذلك ، قال تعالى : « إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا » مريم ـ 93 ، وإن كان إذا لم يجر على رسوم العبودية وسنن الرقية استكباراً في الارض وعتواً كان من الحري أن لا يسمى عبداً بالنظر الى الغايات ، فإن العبد هو الذي أسلم وجه لربه ، وأعطاه تدبير نفسه ، فينبغي أن لا يسمى بالعبد إلا من كان عبداً في نفسه وعبداً في عمله ، فهو العبد حقيقة ، قال تعالى : « وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا » الفرقان ـ 63. وعليهذا فاتخاذه تعالى إنساناً عبداً ـ وهو قبول كونه عبداً والإقبال عليه بالربوبية ـ هو الولاية ، وهو تولي أمره كما يتولى الرب أمر عبده ، والعبودية مفتاح للولاية ، كما يدل عليه قوله تعالى : « إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ » الأعراف ـ 196 ، أي اللائقين للولاية ، فإنه تعالى سمَّى النبي في آيات من كتابه بالعبد ، قال تعالى : « الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ » الكهف ـ 1 ، وقال تعالى : « يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ » الحديد ـ 9 ، وقال تعالى : « قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ » الجن ـ 19 ، فقد ظهر أن الاتخاذ للعبودية هو الولاية.
وقوله عليه السلام : وإن الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، الفرق بين النبي والرسول على ما يظهر من الروايات المروية عن أئمة أهل البيت : أن النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحي به اليه ، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلمه ، والذي يظهر من قصص إبراهيم هو هذا الترتيب ، قال تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ ، وَلَا يُبْصِرُ ، وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا » مريم ـ 42 ، فظاهر الآية أنه (ع) كان صدّيقاً نبياً حين يخاطب أباه بذلك ، فيكون هذا تصديقاً لِما أخبر به ابراهيم (ع) في أول وروده على قومه : « إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ » الزخرف ـ 27 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ » هود ـ 69 ، والقصة ـ وهي تتضمن مشاهدة الملك وتكليمه ـ واقعة في حال كبَر إبراهيم عليه السلام بعد ما فارق أباه وقومه.
وقوله (ع) : إن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، يستفاد ذلك من قوله تعالى : « وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا » النساء ـ 125 ، فإن ظاهره انه إنما اتخذه خليلاً لهذه الملة الحنيفية التي شرعها بأمر ربه إذ المقام مقام بيان شرف ملة إبراهيم الحنيف ، التي تشرف بسببها إبراهيم (ع) بالخلة والخليل أخص من الصديق فإن أحد المتحابين يسمى صديقاً إذا صدق في معاشرته ومصاحبته ثم يصير خليلاً اذا قصر حوائجه على صديقه ، والخلة الفقر والحاجة.
وقوله (ع) : وان الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتخذه اماماً ، الخ يظهر معناه مما تقدم من البيان.
وقوله : قال لا يكون السفيه امام التقى اشارة الى قوله تعالى ، « وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ » البقره ـ 131 ، فقد سمى الله سبحانه الرغبة عن ملة ابراهيم وهو الظلم سفهاً ، وقابلها بالاصطفاء ، وفسر الاصطفاء بالإسلام ، كما يظهر بالتدبّر في قوله : « إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ » ثم جعل الإسلام والتقوى واحداً أو في مجرى واحد في قوله : « اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ » آل عمران ـ 102 فافهم ذلك.
وعن المفيد عن درست وهشام عنهم (ع) قال : قد كان ابراهيم نبياً وليس بإمام ، حتى قال الله تبارك وتعالى : « إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي » فقال الله تبارك وتعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، من عببد صنماً أو وثناً أو مثالاً ، لا يكون اماماً.
أقول : وقد ظهر معناه مما مر.
وفي أمالي الشيخ مسنداً ، وعن مناقب ابن المغازلي مرفوعاً عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآية عن قول الله لإبراهيم : من سجد لصنم دوني لا أجعله اماماً. قال (ع) وانتهت الدعوة الي والى أخي عليّ ، لم يسجد أحدنا لصنم قط.
وفي الدر المنثور : أخرج وكيع وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن النبي في قوله : « لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » قال : لا طاعة الا في المعروف.
وفي الدرّ المنثور أيضاً : أخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين سمعت النبي يقول : لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
أقول : معانيها ظاهرة مما مر.
وفي تفسير العياشي ، بأسانيد عن صفوان الجمال قال : كنا بمكة فجرى الحديث في قول الله : « وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ » قال : فأتمهن بمحمد وعلي والأئمة من ولد علي في قول الله : « ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ».
أقول : والرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الإمامة كما فسرت بها في قوله تعالى : « فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ الآية » فيكون معنى الاية : واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات ، هن امامته ، وامامة اسحق وذريته ، واتمهن بإمامة محمد ، والأئمة من أهل بيته من ولد اسمعيل ثم بين الأمر بقوله : قال إني جاعلك للناس اماماً الى آخر الآية.
مقتبس من كتاب : الميزان في تفسير القرآن / الجزء : 1 / الصفحة : 266 ـ 279