التقيّة
التقيّة هي كتمان الحقّ وستر الاعتقاد به ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقّب ضرراً في الدين والدنيا.
ولا يقال : إنّ التقيّة هي عين النفاق ، لا يقال ذلك ؛ لأنّ النفاق هو اظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وهو ما نهى عنه الشارع المقدّس ، وهو عكس التقيّة تماماً ويخالفها كليّاً.
والتقية ليست ممّا يختصّ بالشيعة فقط ، بل إنّها ممّا يعتقد به العامّة أيضا وليس هناك أيّ دليل عند أعداء أهل البيت عليهم السلام يبرّر تشنيعهم على الشيعة بخصوص التقيّة ، بل إنّ الأدلّة من القرآن الكريم ومن عند العامّة تقرّر موضوع التقيّة وتثبته بشكل واضح ومفصّل.
1 ـ قال تعالى في سورة غافر : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) (1). فهذا رجل كتم إيمانه واتّقى قومه ، فأقرّ القرآن أنّه مؤمن.
2 ـ وقال تعالى في سورة آل عمران : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَإِلَى الله الْمَصِيرُ ) (2).
روى القرطبيّ في الجامع قال : قال ابن عبّاس : هو أن يتكلّم بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثما.
وقال الحسن : التقيّة جائزة للإنسان إلى يوم القيامة ، ولا تقيّة في القتل.
وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) وقيل : إنّ المؤمن إذا كان قائما بين الكفّار فله أنْ يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، والتقية لا تحلّ إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (3).
قال السيوطيّ في الدرّ المنثور : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفيّ عن ابن عبّاس في قوله ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) فالتقيّة باللسان من حمل على أمر يتكلّم به وهو معصية لله ، فيتكلّم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإنّ ذلك لا يضرّه ، إنّما التقيّة باللسان (4).
3 ـ وقال تعالى في سورة النحل : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (5).
قال السيوطيّ في الدرّ المنثور : أخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار ، عن أبيه قال : أخذ المشركون عمّار بن ياسر ، فلم يتركوه حتّى سبّ النبيّ وذكر آلهتهم بخير ، ثمّ تركوه ، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ما وراءك شيء ؟ قال : شرّ ، ما تركت حتّى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنٌّ بالإيمان. قال : إن عادوا فعد. فنزلت ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (6).
4 ـ ولقد أقرّ معظم علماء العامّة بجواز المداراة ، وصنّفوا في كتبهم أبوابا أسموها بالمداراة أيّ التقيّة.
قال في النهاية : المداراة : ملاينة الناس وحسن صحبتهم واحتمالهم لئلا ينفروا عنك (7).
روى الترمذي وأبو داود وغيرهم كثير في باب المداراة عن عَائِشَةَ قالت : استأذنَ رجلٌ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عندهُ فقال : بئسَ ابنُ العشيرةِ أو أخو العَشيرةِ ثُمَّ أذِنَ لهُ فألاَنَ لهُ القولَ ، فلمَّا خرجَ قلتُ لهُ : يا رسولَ اللهِ قلتُ لهُ ما قلتَ ثُمَّ ألنْتَ لهُ القولَ ، قال : يا عَائِشَةُ ، إنَّ من شرِّ النَّاسِ من تَرَكَهُ النَّاسُ أو ودعَهُ النَّاسُ اتَّقاءَ فُحشهِ (8).
وروى البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس ، عن أبي الدرداء قال : إنّا لنكشّر في وجوه أقوام ، وإنّ قلوبنا لتلعنهم (9).
وفي فيض القدير ، عن سفيان بن عيينة قال : ما من حديث عن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم صحيح إلا وأصله في القرآن ، فقيل : يا أبا محمّد ، قوله : رأس العقل بعد الإيمان المداراة ، أين المداراة في القرآن ؟ قال : قوله تعالى : ( وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) (10) فهل الهجر الجميل إلا المداراة ومن ذلك ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (11) ، ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) (12) ، ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ) (13) وغير ذلك (14).
وروى البخاري في صحيحه ، في كتاب فضائل الصحابة ، باب هجرة النبيّ ، عن أنس ابن مالك قال : اقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ونبيّ الله شابّ لا يعرف ، قال : فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر ، من هذا الرجل الذي بين يديك ، فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل. قال : فيحسب الحاسب أنّه إنّما يعني الطريق ، وإنّما يعني سبيل الخير. ورواه أحمد في المسند وغيرهم (15).
وروى السيوطي وغيره عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس (16). وروي عنه أنّه قال : مداراة الناس صدقة (17).
وروي عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ الله تعالى تجاوز لي عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه (18).
وهكذا فإنّ التقيّة أمر مشروع ومقرّر من شرعنا الحنيف ، وهي ليست عيباً أو شينا يشنّع به على شيعة أهل البيت عليهم السلام ، بل إنّ الأمر هو الحقّ ، وهو ما عليه أهل البيت وأتباعهم.
الهوامش
1. غافر : 28.
2. آل عمران : 28.
3. تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن ) 4 : 57.
4. الدرّ المنثور 2 : 16.
5. النحل : 106.
6. الدرّ المنثور 4 : 131.
7. النهاية في غريب الحديث 2 : 115.
8. سنن الترمذي 3 : 242 ، سنن أبي داود 2 : 435.
9. صحيح البخاري 7 : 102.
10. المزمل : 10.
11. المؤمنون : 96.
12. البقرة : 83.
13. الشورى : 43.
14. فيض القدير 4 : 4.
15. صحيح البخاري 4 : 259 ، مسند أحمد 3 : 211.
16. الجامع الصغير 2 : 3 ، المصنف لابن أبي شيبة 6 : 102.
17. المعجم الأوسط 1 : 146 ، صحيح ابن حيّان 2 : 216.
18. السنن الكبرى للبييهقي 7 : 356 ، الجامع الصغير 1 : 260.
مقتبس من كتاب : [ نهج المستنير وعصمة المستجير ] / الصفحة : 379 ـ 383