كلام في النبوة

البريد الإلكتروني طباعة

( كلام في النبوة )

والله سبحانه بعد ما ذكر هذه الحقيقة ( وهي وصف إِرشاد الناس بالوحي ) في كلامه كثيراً عبر عن رجالها بتعبيرين مختلفين فيه تقسيمهم إِلى قسمين أو كالتقسيم : وهما الرسول والنبي ، قال تعالى : « وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ » الزمر ـ 69 ، وقال تعالى : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ » المائدة ـ 109 ، ومعنى الرسول حامل الرسالة ، ومعنى النبي حامل النبأ ، فللرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه وبين خلقه وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده.

وقد قيل أن الفرق بين النبي والرسول بالعموم والخصوص المطلق فالرسول هو الذي يبعث فيؤمر بالتبليغ ويحمل الرسالة ، والنبي هو الذي يبعث سواء أمر بالتبليغ أم لم يؤمر.

لكن هذا الفرق لا يؤيده كلامه تعالى كقوله تعالى : « وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا » مريم ـ 51 ، والآية في مقام المدح والتنظيم ولا يناسب هذا المقام التدرج من الخاص إِلى العام كما لا يخفى.

وكذا قوله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ » الحج ـ 51 ، حيث جمع في الكلام بين الرسول والنبي ثم جعل كلاً منهما مرسلاً لكن قوله تعالى : « وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ » الزمر ـ 69 ، وكذا قوله تعالى : « وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » الاحزاب ـ 40 ، وكذا ما في الآية المبحوث عنها من قوله تعالى : « فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ » إِلى غير ذلك من الآيات يعطي ظاهرها أن كل مبعوث من الله بالارسال الى الناس نبي ولا ينافي ذلك ما مر من قوله تعالى : وكان رسولاً نبياً الآية ، فإِن اللفظين قصد بهما معناهما من غير ان يصيرا اسمين مهجوري المعنى فالمعنى وكان رسولاً خبيراً بآيات الله ومعارفه ، وكذا قوله تعالى : « وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ » الآية لامكان ان يقال : ان النبي والرسول كليهما مرسلان الى الناس ، غير ان النبي بعث لينبىء الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند الله ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على اصل نباء النبوة كما يشعر به امثال قوله تعالى : « وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ » يونس ـ 47 ، وقوله تعالى : « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا » الاِسراء ـ 15 ، وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس الى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على اتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكة أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » النساء ـ 165 ، ولا يظهر من كلامه تعالى في الفرق بينهما أزيد مما يفيده لفظاهما بحسب المفهوم ، ولازمه هو الذي أشرنا اليه من ان للرسول شرف الوساطة بين الله تعالى وبين عباده وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده وسيأتي ما روي عن أئمة أهل البيت « ع » من الفرق بينهما.

ثم ان القرآن صريح في ان الانبياء كثيرون وان الله سبحانه لم يقصص الجميع في كتابه ، قال تعالى : « وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ » المؤمن ـ 78 ، الى غير ذلك والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم بضعة وعشرون نبياً وهم : آدم ، ونوح ، وادريس ، وهود ، وصالح ، وابراهيم ، ولوط ، واسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل ، والياس ، ويونس ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، وداود ، وسليمان وايوب وزكريا ، ويحيى ، واسماعيل صادق الوعد ، وعيسى ، ومحمد صلى لله عليهم أجمعين.

وهناك عدة لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية ، قال سبحانه : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا » البقرة ـ 246 ، وقال تعالى : « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا » البقرة ـ 259 ، وقال تعالى : « إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ » يس ـ 14 ، وقال تعالى : « فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا » الكهف ـ 65 ، وقال تعالى : « وَالْأَسْبَاطِ » البقرة ـ 136 ، وهناك من لم يتضح كونه نبياً كفتى موسى في قوله تعالى : « وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ » الكهف ـ 60 ، ومثل ذي القرنين وعمران أبي مريم وعزير من المصرح بأسمائهم.

وبالجملة لم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده والذي يشتمل من الروايات على بيان عدتهم آحاد مختلفة المتون وأشهرها رواية ابي ذر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : ان الانبياء مئة وأربعة وعشرون الف نبي ، والمرسلون منهم ثلثمائة وثلاثة عشر نبياً.

واعلم : ان سادات الانبياء هم أُولوا العزم منهم وهم : نوح ، وابراهيم ، وموسى وعيسى ، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم ، قال تعالى : « فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » الاحقاف ـ 35 ، وسيجيء ان معنى العزم فيهم الثبات على العهد الاول المأخوذ منهم وعدم نسيانه ، قال تعالى : « وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا » الاحزاب ـ 7 ، وقال تعالى : « وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا » طه ـ 115.

وكل واحد من هؤلاء الخمسة صاحب شرع وكتاب ، قال تعالى : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ » الشورى ـ 13 ، وقال تعالى : « إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ » الاعلى ـ 19 ، وقال تعالى : « إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ـ إِلى أن قال ـ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِوَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ـ إِلى أن قال ـ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ » المائدة ـ 51.

والآيات تبين ان لهم شرائع وان لابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كتباً ، وأما كتاب نوح فقد عرفت ان الآية اعني قوله تعالى : كان الناس أُمة واحدة « الخ » ، بانضمامه إِلى قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً الآية تدل عليه ، وهذا الذي ذكرناه لا ينافي نزول الكتاب على داود عليه السلام ، قال تعالى : « وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا » النساء ـ 163 ، ولا ما في الروايات من نسبة كتب إِلى آدم ، وشيث ، وادريس ، فانها كتب لا تشتمل على الاحكام والشرائع.

واعلم ان من لوازم النبوه الوحي وهو نوع تكليم الهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى : « إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ » النساء ـ 163 ، وسيجيء استيفاء البحث عن معناه في سورة الشورى إِنشاء الله.

( بحث روائي )

في المجمع عن الباقر عليه السلام أنه قال : كان الناس قبل نوح أُمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضالين فبعث الله النبيين.

وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في الآية قال : وكان ذلك قبل نوح فقيل : فعلى هدى كانوا ؟ قال بل كانوا ضلالاً ، وذلك إِنه لما انقرض آدم وصالح ذريته ، وبقي شيث وصيه لا يقدر على اظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذريته وذلك ان قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فصار فيهم بالتقية والكتمان فازدادوا كل يوم ضلالة حتى لم يبق على الارض معهم إِلا من هو سلف ، ولحق الوصي بجزيرة من البحر ليعبد الله فبدا لله تبارك وتعالى ان يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الامر ، وكذبوا ، إِنما هو شيء يحكم الله في كل عام ثم قرء : فيها يفرق كل أمر حكيم ، فيحكم الله تبارك وتعالى : ما يكون في تلك السنة من شدة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك ، ـ قلت أفضلالاً كانوا قبل النبيين أم على هدى ؟ قال : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها ، لا تبديل لخلق الله ، ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله ، أما تسمع بقول ابراهيم : لئن لم يهدني ربي لاكونن من الضالين أي ناسياً للميثاق.

اقول : قوله : لم يكونوا على هدى كانوا على فطرة الله ، يفسر معنى كونهم ضلالاً المذكور في أول الحديث ، وأنهم إِنما خلوا عن الهداية التفصيلية إِلى المعارف الالهية ، واما الهداية الاجمالية فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل كما يشير اليه قوله عليه السلام في رواية المجمع المنقولة آنفاً : على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالاً.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : أي ناسياً للميثاق ، تفسير للضلال فالهداية هي ذكر الميثاق حقيقة كما في الكمل من المؤمنين أو الجرى على حال من هو ذاكر للميثاق وإِن لم يكن ذاكرا له حقيقة وهو حال ساير المؤمنين ولا يخلو إِطلاق الهداية عليه من عناية.

وفي التوحيد عن هشام بن الحكم قال : سأل الزنديق الذي أتى أبا عبد الله فقال : من أين أثبت أنبياء ورسلاً ؟ قال أبو عبد الله عليه السلام : إِنا لما أثبتنا : ان لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز ان يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، فثبت ان له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما فيه بقائهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون الناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك ان له معبرين وهم الانبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبون بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في احوالهم ، على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من احياء الموتى ، وابراء الاكمه والابرص فلا يخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته.

اقول : والحديث كما ترى مشتمل على حجج ثلث في مسائل ثلث من النبوة.

إِحداها : الحجة على النبوة العامة وبالتأمل فيما ذكره صلّى الله عليه وآله وسلّم تجد انه منطبق على ما استفدنا من قوله تعالى : كان الناس أُمة واحدة الآية.

وثانيتها : الحجة على لزوم تأييد النبي بالمعجزة ، وما ذكره عليه السلام منطبق على ما ذكرناه في البحث عن الاعجاز في بيان قوله تعالى : « وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ » البقرة ـ 23.

وثالثتها : مسئلة عدم خلو الارض عن الحجة وسياتي بيانه إِنشاء الله.

وفي المعاني والخصال عن عتبة الليثي عن أبي ذر رحمه الله قال : قلت يا رسول الله كم النبيون ؟ قال : مأة وأربعة وعشرون الف نبي ، قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال : ثلثمأة وثلاثة عشر جماً غفيراً ، قلت من كان أول الانبياء ؟ قال : آدم ، قلت : وكان من الانبياء مرسلاً ؟ قال : نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم قال : يا أبا ذر أربعة من الانبياء سريانيون : آدم ، وشيث ، وأُخنوخ وهو ادريس وهو أول من خط بالقلم ، ونوح ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأول نبي من بني إِسرائيل موسى وآخرهم عيسى وستمأة نبي ، قلت : يا رسول الله ! كم أنزل الله تعالى من كتاب ؟ قال : مأة كتاب وأربعة كتب ، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى إِدريس ثلثين صحيفة ، وعلى إِبراهيم عشرين صحيفة ، وانزل التوراة ، والانجيل ، والزبور ، والفرقان.

اقول : والرواية وخاصة صدرها المتعرض لعدد الانبياء والمرسلين من المشهورات روتها الخاصة والعامة في كتبهم ، وروى هذا المعنى الصدوق في الخصال والامالي عن الرضا عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وعن زيد بن علي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام ورواه ابن قولويه في كامل الزيارة ، والسيد في الاقبال عن السجاد عليه السلام ، وفي البصائر عن الباقر عليه السلام.

وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى : وكان رسولاً نبياً الآية قال : النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين.

اقول : وفي هذا المعنى روايات أُخر ، ومن الممكن ان يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى : « فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ » الشعراء ـ 13 ، وليس معناها ان معنى الرسول هو المرسل اليه ملك الوحي بل المقصود ان النبوة والرسالة مقامان خاصة أحدهما الرؤيا وخاصة الآخر مشاهدة ملك الوحي ، وربما اجتمع المقامان في واحد فاجتمعت الخاصتان ، وربما كانت نبوة من غير رسالة ، فيكون الرسالة أخص من النبوة مصداقاً لا مفهوماً كما يصرح به الحديث السابق عن ابي ذر حيث يقول : قلت : كم المرسلون منهم ؟ فقد تبين ان كل رسول نبي ولا عكس ، وبذلك يظهر الجواب عما اعترضه بعضهم على دلالة قوله تعالى : « وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ » الاحزاب ـ 40 ، أنه انما يدل على ختم النبوة دون ختم الرسالة مستدلاً بهذه الرواية ونظائرها.

والجواب : أن النبوة أعم مصداقاً من الرسالة وارتفاع الاعم يستلزم ارتفاع الاخص ولا دلالة في الروايات كما عرفت على العموم من وجه بين الرسالة والنبوة بل الروايات صريحة في العموم المطلق.

وفي العيون عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : إِنما سمي أُولوا العزم أولي العزم لانهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إِلى زمن إِبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إِبراهيم كان على شريعة إِبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إِلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه الى أيام عيسى وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على شريعة عيسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه الى زمن نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فهؤلاء الخمسة أُولوا العزم ، وهم أفضل الانبياء والرسل عليهم السلام وشريعة محمد لا تنسخ الى يوم القيامة ، ولا نبي بعده الى يوم القيامة فمن ادعى بعده النبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه.

اقول : وروي هذا المعنى صاحب قصص الانبياء عن الصادق عليه السلام.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : فأصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل الآية ، وهم نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى بن مريم عليهم السلام ، ومعنى أُولي العزم أنهم سبقوا الانبياء إِلى الاقرار بالله وأقروا بكل نبي كان قبلهم وبعدهم : وعزموا على الصبر مع التكذيب لهم والاذى.

أقول : وروي من طرق أهل السنة والجماعة عن ابن عباس وقتادة أن أُولي العزم من الأنبياء خمسة : نوح ، وإِبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كما رويناه من طرق أهل البيت ، وهناك أقوال أُخر منسوبة إِلى بعضهم : فذهب بعضهم إِلى أنهم ستة : نوح ، وإِبراهيم ، وإِسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وذهب بعضهم إِلى أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين ، وذهب بعضهم ( 2 ـ الميزان ـ 10 )

إِلى أنهم أربعة : ابراهيم ، ونوح ، وهود ، ورابعهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهذه أقوال خالية عن الحجة وقد ذكرنا الوجه في ذلك.

وفي تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام ، قال ؟ كان ما بين آدم وبين نوح من الانبياء مستخفين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الانبياء الحديث.

أقول : وروي هذا المعنى عن أهل بيت العصمة عليهم السلام بطرق كثيرة.

وفي الصافي عن المجمع عن علي عليه السلام بعث الله نبياً أسود لم يقص علينا قصته.

وفي النهج قال عليه السلام في خطبة له يذكر فيها آدم عليه السلام : فأهبطه إِلى دار البلية وتناسل الذرية ، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إِليهم ، فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله ، وواتر اليهم أنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسيّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة : من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع ، ومعايش تحييهم ، وآجال تفنيهم ، وأوصاب تهرمهم ، واحداث تتابع عليهم ، ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجة لازمة أو محجة قائمة ، رسل لا يقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم : من سابق سمي له من بعده ، أو غابر عرّفه من قبله ، على ذلك نسلت القرون ، ومضت الدهور ، وسلفت الآباء ، وخلفت الابناء ، الى ان بعث الله سبحانه محمداً لإنجاز عدته ، وتمام نبوته الخطبة.

اقول : قوله : اجتالتهم أي حملتهم على الجولان الى كل جانب ، وقوله : واتر اليهم ، أي ارسل واحداً بعد واحد ، والاوصاب جمع وصب وهو المرض ، والأحداث جمع الحدث وهو النازلة ، وقوله نسلت القرون اي مضت ، وإِنجاز العدة تصديق الوعد ، والمراد به الوعد الذي وعده الله سبحانه بإِرسال رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبشر به عيسى عليه السلام وغيره من الانبياء عليهم السلام ، قال تعالى : « وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا » الأنعام ـ 115.

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : قال الله تعالى لموسى عليه السلام : وكتبنا له في الالواح من كل شيء فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشيء كله ، وقال تعالى لعيسى : لابين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، وقال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم : وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء.

اقول : وروي في بصائر الدرجات هذا المعنى عن عبد الله بن الوليد بطريقين ، وقوله عليه السلام قال الله لموسى « الخ » إشارة الى ان قوله تعالى في الالواح من كل شيء يفسر قوله تعالى في حق التوراة : « وتفصيل كل شيء » اذ لو كان المراد به استيعاب البيان لجميع جهات كل شيء لم يصح قوله : في الالواح من كل شيء فهذا الكلام شاهد على أن المراد من تفصيل كل شيء تفصيله بوجه لا من جميع الجهات فافهم.

مقتبس من كتاب : الميزان في تفسير القرآن / الجزء : 2 / الصفحة : 139 ـ 147

 

أضف تعليق

النبوة

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية

ستة + تسعة =