تبشير المسيح بالنبي باسم « أحمد »

البريد الإلكتروني طباعة

تبشير المسيح بالنبي باسم « أحمد »

وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى

أخبر القرآن الكريم بأنّ المسيح يوم بعث إلى بني إسرائيل بشّر بالنبي الخاتم باسمه أحمد وقال :

( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... )

ثمّ إنّ رجال الكنائس أمام هذه البشارة على قولين :

تارة يقولون : إنّ المسيح بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد وهذا لا ينطبق على نبي الإسلام ، فإنّ اسمه محمّد بنص القرآن واتّفاق المسلمين.

وأُخرى ينكرون أصل وجود البشارة في الأناجيل ، وإنّه لم يرد أيّ تبشير بهذا.

والوجه الأوّل من السقوط والرداءة بمرحلة لا يستحقّ الجواب ، فقد عرفت أنّ القرآن كما أسماه محمّداً سمّاه أحمد ، وأيضاً كما عرفت انّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يدعى منذ نعومة أظفاره بكلا الاسمين وقد أطراه الشعراء وفي مقدّمتهم عمّه البارّ في قصائدهم واسموه بأحمد (1).

والمهم هو القول الثاني ، ولكن إنكاره لجاج وعناد ، وهنا نذكر مورداً واحداً :

قد وردت هذه البشارة في أبواب إنجيل يوحنّا ونحن ننقلها عن التراجم العربية المطبوعة عام 1821 م وسنة 1831 م وسنة 1844 م في مدينة « لندن » فالباب الرابع عشر من إنجيل يوحنّا يتضمّن العبارات التالية :

1 ـ « إنْ كُنْتُم تُحِبُّونِي فَاحفَظُوا وَصَايَاي » (15).

2 ـ « واَنَا اَطْلبُ مِنَ الأبِ فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معُكمْ إلى الأبد » (16).

3 ـ « روح الحَقّ الَّذي لَنْ يطيق العالم أن يقبله لأنّه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنّه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم » (17).

4 ـ « والفارقليط ، روح القدس ، الذي يرسله الأب بإسمي هو يعلّمكم كل شيء وهو يذكّركم كلّما قلته لكم » (26).

5 ـ « والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون » (30).

وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنّا هكذا :

1 ـ « إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب ، روح الحقّ الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي » (26).

2 ـ « وأنتم تشهدون لأنّكم معي من الإبتداء » (27).

وفي الباب السادس عشر من انجيل يوحنّا جاءت العبارات التالية :

1 ـ « لكنّي أقول لكم الحق انّه خير لكم أن أنطلق لأنّي إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم » (7).

2 ـ « فاذا جاء ذلك فهو يوبّخ العالم على خطيّة وعلى برّ وعلى حكم » (8).

3 ـ « أمّا على الخطية فلأنّهم لم يؤمنوا بي » (9).

4 ـ « وأمّا على البر فلانّي منطلق إلى الأب ولستم تروني بعد » (10).

5 ـ « وأمّا على الحكم فإنّ اركون (2) هذا العالم قددين » (11).

6 ـ « و إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنّكم لستم تطيقون حمله الآن » (12).

7 ـ « وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلّمكم جميع الحق لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي » (13).

8 ـ « وهو يمجّدني لأنّه يأخذ ممّا هو لي ويخبركم » (14).

9 ـ « جميع ما هو للأب فهو لي فمن أجل هذا قلت إنّ ممّا هو لي يأخذ ويخبركم » (15).

قبل تبيين الاستدلال على دلالة هذه الجمل على البشارة بأحمد ، نقدّم ذكر أمرين.

1 ـ أجمع المؤرّخون على أنّ الأناجيل الثلاثة غير « متّي » كتبت من أوّل يومها باللّغة اليونانيّة ، وأمّا إنجيل متّي فكان عبرياً من أوّل إنشائه ، وعلى هذا فالمسيح بشّر بما بشر ـ في إنجيل يوحنّا ـ باللّغة العبرية ، وإنّما نقله إلى اليونانيّة كاتب الإنجيل الرابع يوحنّا وكان عليه التحفّظ على اللفظ الذي تكلّم به المسيح في مورد المبشّر به ، لأنّ القاعدة الصحيحة عدم تغيير الاعلام والإتيان بنصّها الأصلي لا ترجمة معناه ، ولكن « يوحنّا » لم يراجع هذا الأصل وترجمه إلى اليونانيّة ، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح وبقيت ترجمته ، فاللفظ العبراني الذي قاله عيسى ( عليه السلام ) مفقود ، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة.

وفي غبّ ذلك حصل الاختلاف في المراد منه ، ثمّ مترجموا العربيّة عرّبوا اللّفظ اليوناني بـ « فارقليط ».

وأمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب يوحنّا مكان اللفظ العبري ، فهو مردّد بين كونه « باراكلي طوس » الذي هو بمعنى المُعزّي والمسلِّي والمعين والوكيل ، أو « بيركلوطوس » الذي هو بمعنى المحمود الذي يرادف أحمد ، ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة ، والتلفّظ ، والسماع ، حصل التردّد في المبشّر به ، ومفسّروا إنجيل يوحنّا يصرّون على الأوّل ، وادعوا أنّ المراد منه هو روح القدس وانّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقد المسيح كما ذكر في كتاب « أعمال الرسل » (3).

وإليك نصّه : « لمّا حضر يوم الخمسين ( بعد عروج المسيح أو صلبه على زعمهم ) كان الجميع معها بنفس واحدة ، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت ، حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار ، واستقرّت على كل واحد منهم ، وامتلأ الجميع من روح القدس وابتدؤا يتكلّمون بألسنة اُخرى ، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ».

ولكن القرائن المفيدة للقطع واليقين تفيد انّ المراد منه هو الأوّل ، وانّ المسيح بصدد التبشير عن ظهور نبي في مستقبل الأيّام وإليك بيان هذه القرائن :

1 ـ إنّ المسيح قال : « إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ».

إنّ هذا الخطاب يناسب أن يكون المبشّر به نبيّاً من الأنبياء ، إذ لو كان « فارقليط » عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كان هناك حاجة إلى هذا التأكيد ، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني ـ كما عرفت من النّص ـ لا يمكن لأحد التخلّف عنه ولا يبقى في القلوب معه شك ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثّر ببيانه وكلامه في القلوب ، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخالفين واستعدادهم ، ولأجل ذلك أصرّ على الإيمان به في بعض جمله وهو :

« والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون به ».

وقد عرفت ممّا نقلناه من كتاب أعمال الرسل انّ تأثير روح القدس كان تأثيراً تكوينيّاً غير خاضع لإرادة الإنسان.

2 ـ إنّه وصف المبشّر به بلفظ « آخر » وهذا لا يناسب كون المبشّر به روح القدس لعدم تعدّده واتّحاده بالأب والابن اتّحاداً حقيقيّاً ، فلا يقال في حقّه « فارقليط » آخر ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر في فترة بعد فترة.

3 ـ إنّ المسيح قال : « هو يذكّركم كلّما قلته لكم ».

إنّ من البعيد نسيان الحواريين تعاليم المسيح في مدة لا تزيد على خمسين يوماً حتى يذكّرهم روح القدس ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد هو النبي الخاتم الذي ظهر بعد مضي قرون ستّة ، وقد لعبت الأهواء بتعاليم الأنبياء وحرّفت الكنائس والرهبان ما جاء به المسيح ( عليه السلام ) .

4 ـ إنّ المسيح قال : « هو يشهد لأجلي » فلو كان المراد هو نزول الروح يوم الدار بعد خمسين يوماً كانت هذه الشهادة لغواً لعدم حاجة التلاميذ إلى شهادته لأنّهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة ، والمنكرون للمسيح لم تحضرهم تلك الروح ، وهذا بخلاف ما إذا اُريد منه النبي المبشّر به فإنّ نبيّنا شهد للمسيح وصدّقه ونزّهه عن ادعاء الالوهيّة كما أبرأ اُمّه من تهمة الزنا ، وهذا واضح لمن تدبّر آيات الذكر الحكيم.

5 ـ إنّ المسيح قال : « إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم ».

فعلّق مجيئه بذهاب نفسه مع أنّ مجئ الروح غير معلّق على ذهاب المسيح بشهادة أنّه نزل على الحواريين في حضور المسيح ، لمّا أرسلهم إلى الأطراف والأكناف فنزوله ليس مشروط بذهابه ، فلا بد أن يكون المراد منه شخص يكون مجيئه موقوفاً على ذهاب المسيح كما هو الحال في النبي الخاتم لأنّه جاء بعد ذهاب المسيح ، وكان مجيئه موقوفاً على ذهابه لأنّ وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلّتين في زمان واحد غير جائز ، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأوّل أو يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة فيجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان واحد ومكان واحد كما ثبت وجودهم بين زمان « الكليم » و « المسيح ».

6 ـ قال المسيح : « إنّه يوبّخ العالم ».

وهذا لاينطبق إلّا على نبي الإسلام لأنّه وبّخ العالم من المشركين واليهود والنصارى توبيخاً لا يشك فيه إلّا معاند متكبّر ، بخلاف الروح النازل يوم الدار ، إذ لم يكن هناك وجه للتوبيخ لأنّه لم يكن هناك مخالف للمنهج الصحيح.

7 ـ قال المسيح :

« إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنّكم لستم تطيقون حمله الآن ».

هذا يعرب من أنّ فارقليط يأتي بأحكام لم يكونوا يطيقونها زمان تكلّم المسيح ، هذا لا ينطبق على نزول الروح يوم الدار ، لأنّه ما زاد حكماً على أحكام المسيح وأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله إلى زمان صعوده ؟

نعم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج وأحلّوا جميع المحرّمات.

وهذا بخلاف ما إذا اُريد نبي يزيد في شريعته أحكاماً إلى أحكام موروثة من المسيح ويثقل حملها على المكلّفين ، ضعفاء الإيمان.

8 ـ إنّ المسيح قال : « لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي ».

هذا يعرب من أنّ فارقليط سيواجه التكذيب فسوف يكذّبه بنو اسرائيل فأراد دعم دعوته وانّه صادق في كل ما يقول ولا مجال لمظنّة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار ، على أنّ الروح أحد الثلاثة وبوجهٍ نفسه سبحانه ، فلا معنى لقوله بل يتكلّم بما يسمع ، وهذا بخلاف أن يراد منه نبي من الأنبياء الذين لا يتكلّمون إلّا بوحي منه ، قال سبحانه :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) ( النجم / 3 و 4 ).

هذه القرائن وغيرها ممّا يظهر للقارئ بعد التدبّر فيما ورد في الإصحاحات الثلاث ( الرابع عشر ، الخامس عشر ، والسادس عشر ) ، تفيد القطع واليقين بأن المبشّر به هو نبي لا غير (4).

وممّا يؤيد ذلك انّ المراد من « الفارقليط » هو النبي هو ما ذكره مؤرّخوا المسيحيين أنّ بعض الناس قبل ظهور النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ادّعى أنّه هو الفارقليط الموعود قالوا : إنّ « منتنس » المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد وكان مرتاضاً شديداً ادّعى في قرب سنة 177 من الميلاد أنّه هو الفارقليط الموعود الذي وعد بمجيئه عيسى ( عليه السلام ) وتبعه اُناس كثير وهذا يعرب عن أنّ المتبادر من الفارقليط في القرون الاُولى المسيحية هو النبي المبشّر به.

وعن صاحب « لب التواريخ » : إنّ اليهود والمسيحيين من معاصري محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم )كانوا منتظرين لنبي وكان هذا سبباً لرجوع عدّة من المسيحيين إلى محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) الذي ادّعى انّه هو ذاك المنتظر.

الهوامش

1. السيرة النبوية ج 2 ص 667 و 669.

2. وفي الترجمة المطبوعة في بيروت « رئيس هذا العالم ».

3. أعمال الرسل ، الإصحاح الثاني : الجمل1 ـ 4.

4. لاحظ في الوقوف على تلك القرائن وغيرها اظهار الحق ج ٢ ص ٢٨٣ ـ ٢٨٧ ، وانيس الاعلام في نصرة الإسلام ج ٥ ص ١٧٩ ـ ٢٣٩ ، ولمؤلّف الكتاب الأخير قصّة عجيبة حول الوقوف على مفاد « فارقليط » التي صارت سبباً لاستبصاره ، فراجعه.

مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 7 / الصفحة : 68 ـ 74

 

أضف تعليق

النبوة

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية