عزّ الأمّة الإسلاميّة وكرامتها في أهداف الثورة الحسينيّة
كان الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام قد عقدا العزم على إعلان الخروج على سلطان بني أميّة ، عندما تسمح الظروف بعد موت معاوية.
وقد أظهرا ذلك لشيعتهم أكثر من مرّة. وكانت خطّة الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام في ذلك واحدة في الموقف من بني اُميّة.
ويضاف انّ مجاميع من شيعة العراق كتبوا إلى الحسين عليه السلام ، بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، يدعونه للخروج على معاوية وإعلان الثورة ، رافضين موقف الإمام الحسن من الصلح ، فكتب إليهم الحسين عليه السلام : صدق أبو محمّد ، فليكن كلّ رجل منكم حِلساً من احلاس بيته ، مادام هذا الإنسان ـ معاوية ـ حيّ.
وشاء الله تعالى ان ينفذ غدر معاوية في الإمام ، ويستشهد الإمام قبل هلاك معاوية ، وتولّي الحسين عليه السلام الإمامة وقيادة المعارضة ومسؤوليّة الثورة والحركة من بعد أخيه.
فكان موقف الحسين عليه السلام بعد وفاة المجتبى هو إستمرار موقف أخيه الحسن من قبل تجاه معاوية.
فكتب إليه أهل العراق ان يخرج بهم على معاوية فلم يستجب الإمام الحسين لرأيهم وكتب إليهم : أمّا أخي فأرجو ان يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض واكمنوا في البيوت واحترسوا من الظنّة مادام معاوية حيّ.
إلّا ان تحرّكاً سياسي كان يجري في الحجاز في الكتمان في جوّ المعارضة يقوده الإمام الحسين عليه السلام ، ويوجّهه لتاليب المسلمين ضدّ سلطان بني اُميّة وتمهيد الأجواء للخروج عليهم بعد موت معاوية.
فقد كان الإمام عليه السلام على اتّصال بوجوه المسلمين من العراق والحجاز ، يزورونه ويأخذون برأيه ، ورغم ان هذه الإجتماعات كان يغلب عليها طابع السريّة إلّا انّها كانت لا تغيب عن عيون بني اُميّة وجواسيسهم ؛ فكتب مروان عامل معاوية على المدينة إلى معاوية :
« انّ عمر بن عثمان ذكر ان رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي ، وانه لا يؤمن وثوبه ، وقد بحثت عن هذا فبلّغني انّه يريد الخلاف يومه هذا ، فاكتب إليّ برأيك ».
فكتب إليه معاوية ان يتجنّب مواجهة الحسين ما أمكنه ذلك.
ومهما يكن من أمر فقد كان الحسين عليه السلام قد عزم على الخروج على سلطان بني اُميّة إذا مات معاوية وكانت الظروف مؤاتية ، وكان قد أعدّ شيعته لذلك التفكير في اإسقاط النظام والاستيلاء على السلطة.
لا نشكّ في انّ الإمام لم يكن يطلب في ثورته الشهيرة ، وخروجه على يزيد بن معاوية إسقاط النظام الاُموي عسكريّاً ، والاستيلاء على السلطة. فلم يكن للإمام من أعوان يعتمد عليهم في حركته وخروجه فيغير العراق. فقد كانت مصر والحجاز بعيدتين كلّ البعد عن ظروف الثورة والحركة ، وكانت الشام القاعدة المتينة التي ينطلق منها يزيد بن معاوية ، ويحتمي بها في حماية ملكه وسلطانه.
ولم يكن هوى أهل العراق معه من غير شيعته ؛ فقد كان الإمام يعلم جيّداً انّ من غير الممكن الإعتماد على الكثرة من أهل العراق ، فهم مع الطرف المنتصر ، ومن الخير له ولثورته الّا يلتحقوا بهم ، فإنّهم سوف ينفرطون عن جيشه كما انفرطوا من جيش أخيه الحسن من قبل ، أو أسرعوا يسر من ذلك ، ويفتّون في عضده وعضد أصحابه وشيعته الذين ثبتوا من قبل في جيش أخيه الحسن عليه السلام ، وهم قلّة لا يكوّنون قوّة عسكريّة تصمد أمام جيوش الشام.
ولقد صدقت نبوءة الفرزدق للإمام حين التقى به في الشقوق فاقبل على الإمام وقبّل يده ، فسأله الإمام كيف خلّفت أهل الكوفة ؟
فقال : خلّفت الناس معك ، وسيوفهم مع بني اُميّة ، فقال له الحسين عليه السلام : صدقت وبررت ، إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء.
ولم تكن تجربة الإمام الحسن (ع) بعيدة عن الحسين ، ولم يكن الإمام الحسين بأقدر من أخيه في تجميع قوّة عسكريّة لضرب سلطان بني اُميّة وإسقاط النظام. إن لم تكن ظروف الحسين (ع) أسوأ من ظروف أخيه الحسن. فقد استقرّ لبني اُميّة السلطان ، وامتدّ نفوذهم ، وعمل معاوية بدهائه المعروف في تحكيم اُصول حكم بني اُميّة ، وامتداد نفوذهم وشراء الضمائر ونشر الرعب والإرهاب في أجواء المعارضة ، واكتساح الأكثريّة التي يتحكّم فيها الإرهاب والإغراء ، ويميلون دائماً إلى الجهة المنتصرة القويّة في الساحة..
فلم يكن حدَث حدث جديد في الساحة السياسيّة والعسكريّة على ما عرفناه في عهد الإمام الحسن (ع) غير أمرين اثنين : أحدهما : استحكام قواعد سلطان الاُمويين وامتداد نفوذهم في البلاد. والثاني : انتشار الفساد في جهاز بني اُميّة إلى حدّ الاستهتار والابتذال في حياة يزيد وحكومته.
والأمر الاوّل : لم يكن لصالح الإمام في التفكير في تحرّك عسكري لإسقاط النظام ؛ فقد كانت تجربة الإمام الحسن بعد حيّة في نفوس الشيعة ، حيث لم يستطع جيش العراق ان يقاوم سلطان بني اُميّة بعد وفاة الإمام أمير المؤمنين (ع).
فما ظنّك بهذه القوّة العسكريّة ، بعد ان استحكم لبني اُميّة الحكم والسلطان ، وامتدّ لهم النفوذ في البلاد واستتب لهم الأمر ؟
وأمّا الأمر الثاني : وإن كان ينفع في تحريك الأقليّة المعارضة الواعية من الشيعة ، إلّا انّه لم يكن ينفع ـ بالتأكيد ـ في تحريك الأكثريّة التي الِفت هذا الفساد واستسلمت له ، بل وأعانت عليه.
فلم يكن يصفو ـ إذن ـ للإمام الحسين من القوّة العسكريّة غير ما صفا لأخيه الحسن (ع) من قبل ، وهم الثابتون من شيعته ومواليه ، ولا يمكن ان يفكّر الإمام ـ بكلّ تأكيد ـ ان يجازف بهذه القوّة المحدودة لإسقاط النظام الاُموي الرهيب بعد ان اخفقت محاولة أخيه الإمام الحسن ، في ظروف أحسن من ظروفه ، وبقوّة عسكريّة أقوى من الجيش الذي كان يعدّه له العراق بعد موت معاوية.
وهذا التشخيص ليس ممّا نضيفه نحن من عندنا إلى الظروف التي رافقت خروج الحسين (ع) وثورته ، وإنما نجده عند كلّ الذين نصحوا الإمام بالإعراض عن الخروج إلى العراق ، ممّن كان يعزّ عليهم ان يواجه الإمام تجربة أخيه الإمام الحسن مرّة اُخرى في العراق ، كعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وغيرهم.
ونجد هذا التشخيص بالذات في كلمات الإمام الحسين (ع) بصورة مؤكّدة ومتكرّرة قبل الخروج إلى العراق وبعده.
ونذكر هنا نموذجين فقط من خطب الإمام التي توحي بصورة قويّة ؛ إلى انّ الإمام كان مُقْدِماً على الشهادة والتضحية ، ولم يكن يفكّر في عمل عسكري لإسقاط النظام عسكريّاً.
أحدهما : في الحجاز قبل ان يفارق مكّة إلى العراق. والثاني : في كربلاء.
أمّا الخطبة الاُولى : فهي يرويها ابن طاووس في اللهوف.
قال : روي انّه (ع) ، لما عزم على الخروج إلى العراق ، قام خطيباً فقال : الحمد لله ، وما شاء الله ، ولا قوّة إلّا بالله ، وصلّى الله على رسوله. خُطّ الموت على ولد آدم ، مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما اولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف. وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كانّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خُطب القلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا اُجور الصابرين ، لن تشذعن رسول الله لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بها عينه ، وينجز به موعده ، فمن كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا فإنّي راحل مصبحاً إنشاء الله.
ولسنا نحتاج إلى التعليق على هذه الخطبة فهي واضحة في انّ الإمام (ع) كان يعدّ أصحابه لحركة مأساويّة ، قوامها التضحية والدم والشهادة ، ولا يطمح فيها إلى أيّ نصر عاجل.
فها هو يبدأ خطابه مع أصحابه بالموت الذي يطوّق ابن آدم ، كما تطوق القلادة جيد الفتاة.
ثمّ يخبر عن مستقبل هذه الحركة المأساويّة فيقول : كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان ـ ذئاب ـ الفلوات.
ثمّ يطلب النصرة من المسلمين ، ولكن بهذه الطريقة الفريدة : فمن كان باذلاً فينا مهجته موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا.
إن الإمام لا يشير في هذه الخطبة إلى أيّ هدف عسكري بالمعنى المعروف في الأعمال العسكريّة ، وإنّما يعدّ أصحابه لتضحية مأساويّة دامية ، ويطلب ممّن يريد ان يرافقه ان يعدّوا أنفسهم للقاء الله ولبذل المهج في سبيل الله.
والخطبة الثانية خطبها الحسين بذي حسم من منازل العراق فقال : ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهي عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما.
ولما سار الإمام بأصحابه من قصر بني مقاتل خفق خفقة ثمّ انتبه ، وهو يقول : ( إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) فأقبل عليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال : يا أبت ، جعلت فداك ، مِمّ حمدت الله واسترجعت ؟
قال : يا بنيّ إنّي خفقت برأسي خفقة فعنّ لي فارس على فرس ، فقال : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم.
فعلمت انّها أنفسنا نُعيت إلينا.
قال له : يا أبت لا أراك الله سوءً ، ألسنا على الحقّ ؟
قال : بلى والذي إليه مرجع العباد.
قال : يا أبت ، إذن لا نبالي ، نموت محقّين.
فقال : جزاك الله من ولد خير ما جزي ولداً عن والده.
ولا يقتصر الأمر على هذه المنامات والخطب التي يرويها أصحاب السير كالطبري « وابن أعثم » « والسيّد ابن طاووس » « والمفيد » وغيرهم بصورة متواترة ، لا تقبل الشكّ. فإنّ كلّ شيء في حركة الحسين (ع) إلى العراق يدلّ على انّ الإمام لم يكن بصدد حركة عسكريّة بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة لإسقاط النظام الاُموي.
إذن فإن الإمام لم يكن يفكّر ، ولا يمكن ان يفكّر في حركة عسكريّة ، وإنّما كان الإمام يُقدم عن علم ووعي على تضحية مأساويّة نادرة ، بنفسه ، وأهل بيته ، وأصحابه ، ليهزّ ضمير الاُمّة الخامل ، ويبعث في نفوسهم الحركة وروح التضحية والإقدام.
ولعلّ في حديث الإمام مع أخيه محمّد بن الحنفيّة ؛ عندما أراد الخروج من مكّة إلى العراق ما يشير إلى هذه الغاية. والرواية يرويها السيّد ابن طاووس في اللهوف.
يقول السيد رحمه الله : إن محمّد بن الحنفيّة عندما علم بخروج الحسين من مكّة أتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها فقال : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ وكان قد سأل الإمام ان يسير إلى اليمن ، وينصرف عن العراق.
قال : بلي.
قال : فماحداك على الخروج عاجلاً ؟
فقال : أتاني رسول الله ـ في المنام ـ بعد ما فارقتك فقال : يا حسين اُخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلاً.
فقال له ابن الحنفيّة : ( إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ، فما معنى حملك هؤلاءالنساء ، وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟
فقال له : إنّ الله شاء ان يراهنّ سبايا. وسلّم عليه ومضي.
إذن ، فالنتيجة التي ننتهي إليها في هذه الجولة السريعة : انّ الإمام الحسين كان يفكّر في الإقدام على تضحية مأساويّة دامية ، ولم يكن يفكّر في عمل عسكري على الإطلاق لمواجهة سلطان بني اُميّة ، وهذان نحوان من الخروج ، كلّ منهما يحقّق هدفاً محدوداً ، والخلط فيما بينهما يؤدّي إلى الوقوع في أخطاء تاريخيّة كبيرة ، تشوّش علينا فهم الثورة الحسينيّة وغايتها ونتائجها.
وألن نتساءل عمّا كان يمكن ان يقصده الإمام من أهداف وغايات من وراء هذه التضحية المأساويّة ، التي أقدم عليها الإمام عن علم ووعي.
1 ـ تحرير إرادة الاُمّة :
يستخدم الطغاة عادة سلاحين مؤثّرين فيوجه تحرّك الاُمّة وتمرّدها ورفضها للظلم.
وهما سلاح « الإرهاب » و « الإفساد » ، ومن خصائص هذين السلاحين ، انّهما يسلبان الاُمّة الإرادة والقدرة على التحرّك والوعي والإدراك.
ومن أولى مستلزمات كلّ حركة « الوعي » و « الإرادة » ، وعندما يفقد الإنسان بصيرته وإرادته يفقد كلّ قدرة للتحرّك ، ويستسلم للواقع الفاسد ، ويتكيّف معه ، وعند ذلك يسيطر الطاغية وفئته على إرادة الاُمّة ووعيها ومصيرها ، وحتّى على ذوقها وأخلاقها واعرافها ، ويتمّ مسخ شخصيّة الاُمّة بصورة كاملة في كلّ أبعادها ، ويتحكّم الطاغية في كلّ شيء في حياة الاُمّة ، ولا تملك الاُمّة تجاه الطاغية غير الطاعة والإنقياد والإستسلام.
وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم في علاقة فرعون بقومه وعلاقتهم بفرعون : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ).
إنّ فرعون تمكّن من ان يستخفّ قومه ، وان يسلبهم وعيهم وإرادتهم وقيمهم بالإرهاب والإفساد ؛ وبذلك تمكّن من ان يمسخ شخصيّتهم مسخاً كاملاً ، واستأصل من نفوسهم كلّ قدرة على الوعي والتفكير ، فضلاً عن الإرادة والمقاومة والرفض. وبهذه الصورة استطاع فرعون ان يكسب طاعتهم ، « فأطاعوه ».
وهذه الطريقة هي الطريقة المفضّلة لائمّة الضلال في اكتساب طاعة الناس وولائهم ، ويقوم هذا الولاء والطاعة عادة على حطام شخصيّة الاُمّة.
عند ذلك يعيش الحكّام من أئمّة الضلال في راحة تامّة من ناحية الرعيّة ، لا يقلقهم شيء من جانبهم ، ويتحوّل الناس إلى قطيع من المتملّقين والمتزلّفين والراضخين ، وينقلب في نفوسهم الوعي والإرادة إلى الإتّجاه الذي يطلبه الحكّام ، فيحبّون ما أحبّوا ويريدون ما أرادوا ، وهكذا تتمّ عمليّة المسخ والإنقلاب في شخصيّة الاُمّة. وبهذه الصورة تتكوّن في الاُمّة طبقتان :
1 ـ طبقة المستكبرين : وهم الحكّام من أئمّة الضلال ومن يرتبط بهم ومن ينتفع منهم من المل ، الذين يستعلون على الناس ، ويستكبرون في الأرض ، ويتحكّمون في حياة الناس وإرادتهم ومصيرهم ، وحتّى أذواقهم وأخلاقهم ، ويضعون أنفسهم في مركز السيادة والحاكميّة من حياة الإنسان من دون الله ، ويستعلون على الناس ويفسدون في الأرض ، وهؤلاء هم الطاغوت ، الذين يتجاوزون حدود العبوديّة والطاعة لله تعالى إلى الإستكبار والسيادة والحاكميّة من دون الله ، والإفساد في حياة الناس.
2 ـ طبقة المستضعفين : الذين يستخفّهم الطاغوت ـ يسلبهم ثقلهم في موازين الإنسانيّة ـ ، ويستضعفهم ـ يسلبهم القدرات والإمكانات والكفاءات التي منحهم الله تعالى لهم ـ ، وتتحوّل هذه الطبقة الواسعة إلى طبقة تابعة ، ومنقادة ، ومستسلمة للأمر الواقع ، وتفقد خصائصها وقيمها الإنسانيّة كافّة ، وتتحوّل إلى أداة طيّعة لتنفيذ كلّ ما يمليه عليها الطاغوت.
وأوّل ما تفقد هذه الطبقة وعيها وإرادتها ، ومن ثمّ تفقد كلّ شيء في حياتها ممّا منحها الله تعالى من القيم والكفاءات.
( خَتَمَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ).
ولإنقاذ هؤلاء لابدّ من تحرير وعيهم وإرادتهم من أسر الطاغوت ، أن الطاغوت يسلبهم « الوعي » و « الاءرادة » عن طريق « الاءرهاب» و « الإفساد » ، ولإنقاذهم من قبضة الطاغوت وأسره لابدّ من إعادة « الوعي » و « الإرادة » إليهم قبل كلّ شيء ، حتّى ينظروا إلى الاُمور والأشخاص بوعيهم الذي أعطاهم الله ، لا من خلال ما يحبّه الطاغوت ويكرهه ، وحتّى يتمكّنوا من ان يأخذوا القرار لأنفسهم بأنفسهم ، لا ان يتّخذ الطاغوت القرار بالنيابة عنهم ولهم.
ولقد واجه الحسين (ع) واقعاً إجتماعيّاً وسياسيّاً سيّئاً من مثل هذا الواقع ، تمكّن فيه بنو اُميّة من مسخ شخصيّة الاُمّة مسخاً كاملاً ، ومصادرة قيمها وقدراتها ووعيها وإرادتها. وأسوأ ما كان في هذا المسخ والتحويلان القدرة والقوّة التي منحهم الإسلام إيّاها تحوّلت في نفوس هؤلاء ، وبفعل بني اُميّة إلى قوّة للقضاء على الإسلام ، والسيف الذي سلّحهم به رسول الله لقتال أعداء الإسلام ، تحوّل في أيديهم إلى أداة لمحاربة أبناء رسول الله وأوليائهم دون أعدائهم.
وكان هذا هو جوهر المسخ الحضاري ، الذي تمّ على يد بني اُميّة في حياة هذه الاُمّة.
وإلى هذا المعنى يشير الإمام الحسين (ع) في خطبته الثانية يوم عاشوراء أمام جمهور جيش ابن سعد : سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم ، وحششتم علينا نار اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم الباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل افشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم.
فكيف جرت ـ يا ترى ـ هذه الانتكاسة الخطيرة في نفوس هؤلاء الناس ، حتى عادت سيوفهم التي مكّنهم الإسلام منها لمحاربة البغاة الظالمين في وجه ابن رسول الله (ص) ، الزكي الطاهر الأمين ، ولصالح سلطان ابن معاوية الفاسق السكّير ، الذي كان لا يشكّ في فجوره وفسقه وشربه وفحشه أحد من المسلمين ؟
وكيف جرت ـ يا ترى ـ هذه الانتكاسة الخطيرة في حياة الناس ، حتى تخالفت قلوب هؤلاء الناس وسيوفهم ، كما قال الفرزدق الشاعر رحمه الله للحسين (ع) : « إنّ قلوبهم معك وسيوفهم عليك » ؟ ثمّ توافقت قلوبهم وسيوفهم على ابن رسول الله ، وأهل بيته وأصحابه المقيمين للصلاة ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وكيف تحوّلت هذه القوّة التي منحهم الإسلام إيّاها ، والمركزيّة والسيادة ، والموقع الممتاز الذي اكتسبوه بالإسلام ، إلى قوّة ضاربة لصالح أعدائهم ضدّ أوليائهم ؟
فقد جعل منهم الإسلام قوة كبرى بين الاُمم ، ومنحهم موقعاً ممتازاً على وجه الأرض ، واخرجهم من دائرة الخمول ، وسلّط عليهم الضوء.
ولكن لست أدري ماذا حلّ بهذه الاُمّة من سوء حتّى تحوّلت هذه القوّة والمركزيّة ، كلّها لصالح أعدائهم على أوليائهم ؟ وعاد من جديد اُولئك الذين كانوا يحاربون هذا الدين إلى مراكزهم القياديّة في المجتمع ، مستفيدين من كلّ هذه القوّة ، والمركزيّة والنفوذ ، والسلطان ، الذي جاء به الإسلام ، وأصبح دعاة هذا الدين وقادته ، الذين حملوا هذا الدين في موضع الاتّهام والمحاربة من قبل الاُمّة ، تقاتلهم بالسيف الذي وضعه الإسلام في أيديهم.
وما أروع تعبير الإمام وأصدقه بهذا الصدد سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم !.
وذلك كلّه من غير ان ينقلب هؤلاء الذين كانوا يحاربون الإسلام في الأمس القريب ، عن مواقعهم العدائيّة من الإسلام ومن هذه الاُمّة. فلا زالوا يحملون بين جنبيهم روح الجاهليّة ، ويمارسون أخلاقها وعاداتها ويعملون على استئصال القيم الإسلاميّة ، في هذه الاُمّة الناشئة ، ونشر الظلم والرعب والفساد في أوساطها بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم.
وكانت هذه الاُمّة في جاهليّتها ضعيفة ، خاملة الذكر ، منسيّة ، راكدة ، لا تكاد تجد في حياتها حركة أو عزماً أو قوّة على المواجهة ، فاستثار الإسلام كوامن الحركة ، والقوّة ، والعزم ، والانطلاق والبناء في نفوس هؤلاء الناس ، واستخرج الإسلام كنوز القدرة والحركة والثورة في نفوسهم.
وتحوّلت هذه الاُمّة الراكدة إلى حركة حضاريّة على وجه الأرض في التاريخ ، تحرق الجبابرة والطغاة ، ولكن ما أسرع ما انتكست هذه الاُمّة ؛ فتحوّلت هذه الحركة ، والقوّة ، والانطلاقة التي استثارها الإسلام باتّجاه عكسي تماماً ، للقضاء على حَمَلة هذا الدين ، ودعاته ، وأوليائه ، ولصالح الطبقة المترفة التي كانت تحارب هذا الدين بالأمس القريب ، وتحمل حتّى اليوم ، معها إلى الإسلام رواسب الجاهليّة ، وأفكارها ، وعاداتها ، وسلوكها !وحششتم علينا ناراً اقتـدحناها على عدوّنا وعدوّكم.
ولا نعرف فيما يصيب الاُمم من المسي ، مأساة لم وأفجع من ان ينقلب الإنسان على نفسه ؛ فيؤثر ضرّه على نفعه ، وفساده علي صلاحه،ويحارب اولياءه ويتحبّب الي اعدائه.
ولقد أصاب المسلمين في هذه الفترة مأساة من مثل هذه المأساة.
والإمام يعبّر عن ألمه العميق بهذه الكلمة المشجية : وَيْحَكم ! أهؤلاء تعضدون ، وعنّا تتخاذلون ؟
إنّنا لا نشكّ في انّ الاُمّة قد تعرّضت في هذه الفترة لردّة حضاريّة عجيبة ، من قبيل ما يقول تعالى : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ).
وية هذه الردّة الحضاريّة التي تنتكس فيها الاُمّة هو ان يتحوّل ألاولياء في حياة الاُمّة إلى موضع الأعداء ، ويتحوّل الأعداء إلى موضع الأولياء.
وعندما يتبادل هذان القطبان : « الولاية والبراءة » في حياة الناس مواضعهما ، ويأخذ كلّ منهما موضع الخر ، فإن هذه الاُمّة تواجه أمراً يختلف عن أيّ أمر خر ، وهذا الأمر هو الانقلاب الحضاري الشامل « أو الردّة الحضاريّة إذا كان هذا الانقلاب باتّجاه رجعي ».
والاُمّة في هذه تتنكر لنفسها وتنقلب عمّا هي عليه إلى شيء خر ؛ فإن هويّة الاُمّة وشخصيّتها بالولاء والبراءة ، وعندما يتحوّل الولاء إلى موضع البراءة والبراءة إلى موضع الولاء ؛ فإن هذه الاُمّة تواجه حالة انتكاسة خطيرة.
وهذا هو ما يشير إليه الإمام في خطابه لجيش بني اُميّة يوم عاشوراء : فأصبحتم الباً لأعدائكم على أوليائكم.
وهذه الحالة التي يصح ان نعبّر عنها بانّ الإنسان يتنكّر فيها لنفسه ، أو يعادي نفسه. فإن الإنسان عندما يتودّد إلى عدوّه ، ويساعده ويعينه فإنما يعينه على نفسه ، ولا يمكن ان يقدم الإنسان على مثل ذلك ، إلا إذا تنكّر لنفسه ونسي نفسه.
والتعبير القرني بهذا الصدد دقيق ومعبّر :
( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ).
إن الذي ينسي الله يُنسيه نفسه ، والذي يتنكّر لله ينكر الله نفسه عليه.
والإنسان في هذه الحالة ، من السقوط والتردّي ، إنّما يخسر نفسه ، وشر أنواع الخسارة ان يخسر الإنسان نفسه. فإذا خسر الإنسان نفسه يفقد كلّ رأس ماله ، ولا يبقى له شيء بعد ذلك يرجو منه خيراً.
يقول تعالى : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ).
ويقول عزّ شأنه : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
وخسارة النفس تختلف عن أيّة خسارة اُخرى ، فإن الربح والخسارة هما الزيادة والنقصان فيما يملك الإنسان مع بقاء المحور : « الانا ». فكلما يكتسب الإنسان من فائدة ماديّة أو معنويّة يدخل في حساب « الربح » ، وكلّما يفقد الإنسان من المواهب الماديّة والمعنويّة التي تاه الله تعالى يدخل في حساب « الخسارة » ، وتزيد الخسارة كلّما تهبط درجة الخسارة أكثر تحت الصفر.
ولكن في هذه الأحوال جميعاً يحتفظ الإنسان بـ « الانا » الذي هو المحور الذي تدور حوله الأرباح والخسائر.
فإذا خسر الإنسان هذا المحور أيّ : خسر نفسه ، لا ما يملك من مواهب ماديّة ومعنويّة ، وسقط هذا المحور كان هو الخسران الأكبر ، الذي لا تشبهه خسارة اُخرى.
وإلى هذا المعنى من الخسارة يشير القرآن الكريم بكلمة ( خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ) في أكثر من آية ونلتقي في القرآن تعبير خر عن هؤلاء الناس الذين يخسرون أنفسهم في الحياة الدنيا وهو « ظلم النفس ».
وقد يستغرب الإنسان من هذه الكلمة ، فهل يمكن ان يعادي الإنسان نفسه ويظلمها ويعتدي عليها ؟ يجيب القرآن على هذا السؤال بالإيجاب :
( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).
والذين يعاقبهم الله بظلمهم ، لم يظلمهم الله ، وإنّما كانوا هم الذين اقدموا على ظلم أنفسهم : ( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ).
وأخيراً إن ملء الخير والشرّ هو النفس ، وإن الذي يهتدي فإنما يهتدي لنفسه ، والذي يضلّ فإنّما يضلّ على نفسه.
( فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ).
أيّ يستقرّ الضلال والغي على نفسه ، هؤلاء يضلّون على أنفسهم ، ويضلّ سعيهم وعملهم وتحرّكهم.
ذلك هو الخسارة والضياع الكبير : ان يضلّ الإنسان على نفسه ، ويضلّ سعيه وعمله : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ).
( وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ).
فإن الإنسان إذا تنكّر لنفسه وظلمها وعاداها خسرها ، وعندما يخسر الإنسان نفسه يضلّ سعيه وعمله ، ويذهب هباءً كلّ جهدٍ وعمل له.
وإلى هذه الخسارة يشير الإمام الحسين (ع) في خطابه الذي وجّهه إلى أصحاب الحرّ في منزل البيضة : فأنا الحسين بن علي واُمّي فاطمة بنت رسول الله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهلكم ، ولكم في اُسوة ... وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم.
إن هذه الظاهرة من أغرب ما يلتقيه الإنسان من ظواهر غريبة في حياته على ظهر الأرض.
إن الإنسان بهذا التحوّل الذي يشرح خطواته ومراحله القرآن الكريم يظلم نفسه ، ويتنكر لها ، فيخسرها ، ويعود شيئاً خر يختلف اختلافاً كلياً عمّا كان عليه ، يمشي ويتحرّك بين الناس ، ولكن من دون إرادة ووعي ، بل بما يُملي عليه ويراد منه.
يتحرّك لا بإرادته ، وإنّما بإرادة الطاغوت الذي يستعبده ويحرّكه ، لا بالإتّجاه الذي ينفعه ويخدمه ، وإنّما بالإتّجاه الذي يخدم عدوّه.
هؤلاء هم الذين تنتكس قلوبهم ويختم الله عليها ، وصدق الله تعالى :
( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ).
( خَتَمَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ).
ولن تعود لهم إرادة ، ووعي ، وفهم ، ونور يتحرّكون به في الناس.
وعندما يفقد الإنسان الوعي ، والنور ، والإرادة ، والعزم في حياته ينقلب إلى أداة طيّعة وسهلة بيد الطاغوت ، يستخدمه في تحقيق اطماعه بالشكل الذي يريد ، ويوجّهه إلى ضرب أوليائه بأعدائه ، وهذا التحوّل العجيب في حياة الناس هو الذي حدث في هذه الفترة من التاريخ على يد حكّام بني اُميّة في هذه الاُمّة وواجهه الحسين (ع) بمرارة وألم.
لقد جرى ـ بالتأكيد ـ تحوّل خطير في نفوس هؤلاء الناس ؛ حتّى عاد أسفلهم أعلاهم ، وأعلاهم أسفلهم ، في انتكاسة رهيبة يقل نظيرها في التاريخ ، حتى يخرج ثلاثون ألفاً منهم أو أكثر من الكوفة عاصمة أمير المؤمنين لمحاربة سيّد شباب أهل الجنّة ، وابن رسول الله (ص) ، ونجل أمير المؤمنين (ع).
والتفسير الوحيد الذي يستطيع ان يفسّر لنا سرّ هذه الانتكاسة والمسخ الحضاري في شخصيّة الاُمّة ـ أو طائفة كبيرة من الاُمّة على أقلّ التقادير ـ ، يكمن في الجهد البليغ الذي بذله بنو اُميّة في إرهاب الناس وإفسادهم لغرض سيطرتهم على المسلمين ، ومسخ معالم شخصيّتهم ؛ حتّى عادت ضمائرهم وإدراكاتهم وإراداتهم في قبضة بني اُميّة ، يتحكّمون فيها بالطريقة التي تعجبهم ، وتخدم أهدافهم.
وكان لابدّ من هزّة قويّة عنيفة لضمير الاُمّة تعيد إليها وعيها ، وإرادتها ، وقيمها ، وتشعرها بعمق الكارثة التي حلّت بها ، وتبعث الندم في نفوسهم ، وحتّى لو لم تكن هذه الهزّة تنفع هذا الجيل ، فقدكانت تعتبر ضرورة من ضرورات المرحلة لإنقاذ الجيل الذي يأتي من بعد هذا الجيل ؛ لئلّا يسري إليه هذا الإنحطاط الحضاري الذي لزم هذا الجيل.
وكانت تضحية الإمام الحسين (ع) وتحرّّكه المأساوي يكوّن في وجدان الاُمّة هذه الهزّة العميقة ، كالتي كانت تتطلبها ضرورات الساحة والحالة الإجتماعيّة.
لقد نبّهت شهادة الحسين وأهل بيته وأصحابه بالطريقة المفجعة التي تمّت بها ضمائر المسلمين ، وأشعرتهم بالندم ، ومكّنتهم من ان يستعيدوا وعيهم وإرادتهم من جديد ، فيفكّروا ويقرّروا مصيرهم بأنفسهم.
لقد شعروا ـ بعد الإنتباه ـ بالكابوس الرهيب الذي كان يلقي بثقله على صدورهم ، وقلوبهم ، وعقولهم ، وعادت إليهم إرادتهم وحريّتهم ووعيهم.
فقد هزّت تضحية الإمام الحسين (ع) ضمائر المسلمين ، هزّة عنيفة ، وأشعرتهم بفداحة الإثم ، وضخامة الجريمة ، وعمق الردّة والانتكاسة في نفوسهم وحياتهم ؛ فكانت هذه التضحية المأساوية مبدأ ومنطلقاً لحركات كثيرة في التاريخ الإسلامي ، ومصدراً كبيراً للتحريك في التاريخ الإسلامي.
2 ـ سلب الشرعيّة من النظام :
رغم فداحة الخسائر التي لحقت بالمسلمين والإنحراف والإنحطاط الذي لزمهم في هذه الفترة من حكم بني اُميّة ، فقد كان هناك خطر أكبر بكثير من كلّ ذلك يلحق الإسلام مباشرة وليس المسلمين فقط ، وهو ان ينسحب هذا الإنحراف على الإسلام نفسه ، ويتعرّض الإسلام لما تعرض له المسلمون من تحريف.
وذلك ان هذا الإنحراف كان ينحدر من موقع الخلافة الإسلاميّة ، التي كانت تمتلك في نفوس المسلمين رصيداً كبيراً من الشرعيّة والقدسيّة ، وقد كان بنو اُميّة يعتمدون كثيراً عنصر الشريعة في موقعهم السياسي والإجتماعي ، وكانوا يوحون إلى الناس بطريق أو خر ان موقع الخلافة أقوى من موقع الرسالة ، فيقول قائلهم : « إن خليفة أحدكم أفضل من رسول الله ».
وكانوا يرون في هذا الموقع أداة لتنفيذ طموحاتهم ورغباتهم ، بأيسر الطرق ، وأسهلها ؛ فلذلك دأب معاوية على تحكيم هذا الموقع الشرعي لنفسه ولابنه يزيد من بعده.
وكان هذا الموقع الشرعي الذي حرص عليه حكّام بني اُميّة يكوّن أكبر الاخطار التي تلحق الإسلام من جانب حكومة بني اُميّة ، فقد كان الإنحراف ينحدر إلى الناس من قصور الخلفاء في إطار من الشرعيّة.
وكان هناك في قصور الخلفاء من يبرّر ويوجّه هذا الإنحراف ، ويعطيه الصبغة الشرعيّة من علماء البلاط ، وبالتالي كان هذا الإنحراف ينعكس وينسحب على الإسلام ، ويفقد الإسلام اصالته ونقاءه على أوسع صعيد وهو وسط الاُمّة.
وقد حرص الإمام (ع) في حركته على كسر هذا الإطار الشرعي ، الذي كان يحتمي به حكّام بني اُميّة ، وسلب صفة الشرعيّة من حكومة بني اُميّة ، وتجريدها عن القدسيّة والشرعيّة التي كان يحرص عليها بنو اُميّة كل الحرص ، وبالتالي تفويت الفرصة على الحكم الاُموي في تحريف الإسلام.
وقد كان الإمام يجهر بهذه الحقيقة إجهاراً ، ويعلن عن رأيه في يزيد ، وعدم أهليّته للخلافة ، وينال منه كلّما وأتته فرصة.
وقد أعلن رأيه هذا في يزيد عندما دعاه الوليد بن عتبة للبيعة ، ومروان حاضر ، قال (ع) له بعد كلام طويل ، وهو يريد ان يسمع مروان رأيه في يزيد وموقفه من البيعة : أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، ومهبط الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب خمر ، قاتل نفس ، معلن بالفسق ، فمثلي لا يبايع مثله.
وقد كان لخروج الإمام على يزيد ، ومحاربته لجيش ابن زياد بعد رفض البيعة ليزيد ، وإستشهاده هو وأهل بيته وأصحابه بتلك الصورة المفجعة على يد جيش الخلافة ؛ كان لذلك كلّه أثر كبير في إسقاط شرعيّة الخلافة ، وتجريدها عن الشرعيّة والقدسيّة التي كانت الخلافة تتمتّع بها.
لقد أثار استشهاد الإمام الحسين ، بالصورة المفجعة التي حدثت في كربلاء مشاعر المسلمين جميعاً ، « من الجيل الذي تعقّب جيل القتلة في كربلاء » ، وفي جيل القتلة على صعيد واسع ، واستشعروا جسامة الجريمة وبشاعتها في وجدانهم وضمائرهم ، ونقموا على يزيد ، ومن لحقه من خلفاء بني اُميّة الذين خلّفوا يزيد على السلطان والحكم. وسقطت القيمة الشرعيّة للخلافة ، ولم تعد الخلافة تكوّن موقعاً شرعيّاً ، يمتلك رصيداً من الشرعيّة والقدسيّة في نفوس المسلمين.
وكيف يمكن ان يتمتّع هذا الموقع الرسمي بنفس القدسيّة والشرعيّة وقد تلوّث أصحابه بهذه الجريمة النكراء التي يقل نظيرها في التاريخ ؛ حيث أقدموا على قتل ابن رسول الله ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، والكوكبة المؤمنة الصالحة من أهل بيته وأصحابه المقيمين للصلاة ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؟
ولا يمكن ان يشكّ أحد في انّ هذه الجريمة التي اقترفها جهاز الخلافة الاُمويّة في عهد يزيد في العراق تركت أثراً عميقاً في ضمائر المسلمين جميعاً « إن لم يكن في نفس الجيل ، ففي الجيل الذي تعقّب هذا الجيل مباشرة » ، وأسقطت مكانة الخلافة الاُمويّة في نفوس المسلمين ، وعادت الخلافة الاُمويّة موقعاً سلطويّاً يمتلكه الأقوى ، كما في سائر المواقع التي يمتلكها أصحاب السلطة في دنيا الناس.
وعلاقة الناس بهذا الموقع لم تعد كما كانت علاقة دينيّة خالصة نابعة من إيمان الناس بشرعيّة هذا الموقع.
ولذلك فلم يعد للإنحرافات التي يرتكبها جهاز الخلافة الاُمويّة تأثير تحريفي على الإسلام.
وسلم الإسلام من تحريفات الحكّام بنسبة كبيرة ، وأصبح المسلمون بعد هذا التاريخ يرجعون في اُمور دينهم إلى طبقة اُخرى غير طبقة الحكّام ، الذين يُرجع إليهم في اُمور دنياهم بحكم الضرورة والإضطرار.
ومن هذا التاريخ بدأ يتكوّن في المجتمع خط خر غير خط الخلافة ، وهوخط الفقهاء والعلماء الذين يضع المسلمون ثقتهم الدينيّة فيهم ، وبقدر ما كان يبتعد هؤلاء الفقهاء والعلماء عن الحكّام والسلاطين كانت تزداد ثقة المسلمين بهم.
والذي يواكب قراءة التاريخ الإسلامي يجد فارقاً نوعيّاً واضحاً في موقع الخلافة قبل موقعة الطفّ وبعدها ، وجوهر هذا الفرق هو افتقاد الخلافة بعد معركة كربلاء للصيغة الشرعيّة والإطار الديني الذي كانت تمتلكه من قبل.
وبهذه الطريقة نستطيع ان نفهم كيف ان قيام الإمام الحسن (ع) بالحرب كان يؤدّي إلى نتائج معاكسة تماماً لما أدّى إليه قيام الإمام الحسين (ع).
فقد ذكرنا ان مواصلة الإمام الحسن للحرب كان يؤدّي إلى انتصار عسكري ساحق في جيش بني اُميّة ، وإثارة نقمة بني اُميّة على شيعة أهل البيت ، ويحملهم على القيام بتصفية واسعة في صفوف الشيعة وإنهاء البقيّة الباقية من هذا الخطّ الإسلامي ، الذي استعصى على عوامل الإنحراف والخضوع لسلطان بني اُميّة.
امّا قيام الحسين (ع) فقد كان له أثر معكوس تماماً ؛ فقد أثار سخط المسلمين ضدّ سلطان بني اُميّة ودفع الناس للخروج على سلطان بني اُميّة ، ووسّع دائرة المعارضة.
وذلك لاختلاف طبيعة ظروف الإمام الحسن عن الإمام الحسين (ع) ، واختلاف نوع وطبيعة قتال الإمام الحسن عن قتال الإمام الحسين.
فقد كان الإمام الحسن في مواجهة عسكريّة مع معاوية ، وقد تخلّى عنه أكثر جيشه ، ولم يبق معه إلّا شيعته الذين كانوا يعدون جزءاً ضئيلاً من جيش العراق ، وكانت نتيجة هذا القتال هزيمة عسكريّة ، تتيح الفرصة لمعاوية للقضاء على البقيّة الباقية من شيعة الإمام.
بينما كان قتال الحسين (ع) ليزيد « خروجاً » وليس « مواجهة عسكريّة » ، تستهدف إسقاط النظام ، وكان كلّ شيء من أوضاع العراق والشام يؤكّد هذا المعنى ، ولم يكن يفكّر الحسين ان بإمكان العراق ان يقاوم الشام ، ولا ان يصفو له العراق ، ولا ان يقاوم أهل العراق إرهاب بني اُميّة وإغراءهم ، فما كانوا ليصفو في أحسن الأحوال للإمام من العراق غير قلّة قليلة من شيعته يخرج بهم على يزيد.
إذن لم يكن الإمام يطلب فتحاً عسكريّاً ، وإنّما كان يطلب في خروجه تحريك ضمائر المسلمين ، وإثارة الضمائر والنفوس والعواطف والعقول بقوّة بفعل المأساة المفجعة ، التي واجهها الحسين (ع) على يد جيش بني اُميّة في كربلاء. وكانت غاية الإمام الحسين في هذه المأساة الدامية والمفجعة هي تحريك المسلمين ضدّ سلطان بني اُميّة ، والنيل من شرعيّة جهاز الخلافة الاُمويّة ، وعزلهم سياسيّاً وإجتماعياً في أوساط العالم الإسلامي ، سيّما في الحجاز والعراق اللذين كانا يعتبران حينذاك قلب العالم الإسلامي ، وتجريدهم من الشرعيّة التي كانوا يحرصون عليها كثيراً كلّ ذلك يتمّ نتيجة اختلاف موقع الإمامين ، وظروفهما واختلاف ظرف معاوية من يزيد.
فلم يكن معاوية قد اسقط الاقنعة كلّها عن وجهه كما اسقطها يزيد ، ولم يكن معاوية قد كشف عن سرّه ونيّته ، واسفر عن وجهه كما فعل يزيد.
وبالتالي فقد كان تحريك المسلمين ضدّ سلطان بني اُميّة ، ومحاولة النيل من شرعيّة الخلافة الاُمويّة في عهد يزيد أمراً ممكناً ، وبالطريقة التي أقدم عليها الحسين (ع) ، بينما لم تكن هذه الظروف متوفّرة للإمام الحسن (ع) في الصورة التي توفّرت في عهد يزيد.
مجمع العالمي لأهل البيت ـ قم المقدّسة