زواج عليٍّ من فاطمة الزهراء عليها السلام :
في حدود السنة الثانية من الهجرة اجتمع عليٌّ عليه السلام مع الزهراء عليها السلام في بيت الزوجية ، وكان جماعة من المهاجرين قد خطبوها قبله ، لكنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ردَّهم ردَّاً جميلاً ، فكان ينتظر بها القضاء. كما صرَّحت بذلك عدَّة روايات نأتي علىٰ بعضها :
أخرج ابن سعد : أنَّ أبا بكر خطب فاطمة إلىٰ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فقال : « يا أبا بكر انتظر بها القضاء » فذكر ذلك أبو بكر لعمر ، فقال له عمر : ردَّك يا أبا بكر. ثُمَّ إنَّ أبا بكر قال لعمر : أخطب فاطمة إلىٰ النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فخطبها ؛ فقال له مثل ما قال لأبي بكر : « أنتظر بها القضاء » ، أو قال : « انَّها صغيرة » (1).
بل إن الآتي من خبر زواجها عليها السلام يؤكد النصّ الأول « أنتظر بها القضاء » إذ لم يكن زواجها إلّا بأمر من الله تعالى :
عن أنس بن مالك ، قال : كنت عند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فغشيه الوحي ، فلمّا سري عنه قال : « يا أنس ، أتدري ما جاءني به جبرئيل من عند صاحب العرش ؟ » قال : الله ورسوله أعلم ، قال : « إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ » (2).
وعن عبدالله بن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : « إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ، ففعلت » (3).
وعن أبي أيوب الانصاري ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعلي عليه السلام : « أمرت بتزويجك من السماء » (4).
أمَّا عليُّ بن أبي طالب فهو أخو رسول الله وربيبه الذي ما قام ركن الإسلام إلَّا بسيفه ، وهو وزير الرسول ووصيُّه ، فكَّر مراراً بفاطمة ، لكنَّه خالي اليدين ليس لديه ما يقدِّمه مهراً لاجتماعهما الميمون ، في هذه الاثناء تذكَّر صلته بالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فتقدَّم ، ولنقرأ قصته في سطور التاريخ :
قال نفر من الأنصار لعليٍّ عليه السلام : عندك فاطمة. فأتىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فسلَّم عليه ، فقال : « ما حاجة ابن أبي طالب » ؟
[ أجاب بكلِّ ثبات ] :
« ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ».
قال : « مرحباً وأهلاً ». لم يزده عليهما.
فخرج عليٌّ علىٰ أولئك الرهط من الأنصار ينظرونه. قالوا : ما وراءك ؟ قال : « ما أدري غير أنَّه قال لي : مرحباً وأهلاً ».
قالوا : يكفيك من رسول الله إحداهما ، أعطاك الأهل أعطاك المرحب (5).
ثمَّ إنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عرض « خطبة عليٍّ » علىٰ فاطمة ، فقال لها : « إنَّ عليَّاً يذكرك » (6) ، فسكتت ، فخرج يقول : « سكوتها إقرارها ».
وحين وجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم القبول من كلا الطرفين ، سأل عليَّاً عليه السلام : « هل عندك شيء ؟ » وكان لا يملك غير سيفه ودرعه وناضحه.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فأمَّا سيفك فلا غنىٰ بك عنه ، تجاهد في سبيل الله ، وتقاتل به أعداء الله ، وناضحك تنضح به علىٰ نخلك وأهلك ، وتحمل عليه حلَّك في سفرك ، ولكنِّي رضيتُ منه بالدرع » (7).
فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده ، فاجتمع له منها أربعمائة درهم ، فكان هذا مهر فاطمة.
ولمَّا جاء عليُّ بن أبي طالب عليه السلام بالدراهم ، وضعها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأمره أن يجعل ثلثي الدراهم في الطيب ، والثلث الآخر في المتاع ، ففعل (8).
وأرجح الأقوال أنَّ زواجهما كان بعد الهجرة ، وقال اليعقوبي : بعد قدوم عليٍّ بالفواطم بشهرين (9) ، وأرَّخه ابن الأثير في أحداث السنة الثانية من الهجرة في صفر ، وقبل غزوة بدر (10). ووقّته آخرون في شهر ذي الحجة من السنة الثانية (11).
أمَّا ابن سعد في طبقاته فقال : تزوَّج عليُّ بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في رجب بعد مقدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة بخمسة أشهر ، وبنىٰ بها مرجعه من بدر (12) ..
وجهزّت فاطمة (13) بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما كان لها غير سرير من جريد النخل ، وسادة من آدم حشوها ليف ، ومنخل ومنشفة ، ورحىٰ للطحن ، وجرّتان وقميص ، وخمار لغطاء الرأس ، وثوب له زغب ، وعباءة قصيرة بيضاء ، وجلد كبش ..
أمَّا عليٌّ عليه السلام قد رشَّ أرض الدار برمل ناعم ، ونصب في البيت خشبة من الحائط إلىٰ الحائط ، لتعليق الثياب ، إذ لا خزانة ولا صندوق لثياب العروس.
عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام قال : « لقد تزوَّجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ، ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها » (14).
خطبة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في التزويج :
عن أنس بن مالك أنَّ النبيَّ ، قال له : « انطلق وادع لي أبا بكر وعمر وعُثمان وطلحة والزبير ، وبعدَّتهم من الأنصار » ، قال فانطلقت فدعوتهم ، فلمَّا أخذوا مجالسهم قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « الحمد لله المحمود بنعمته ، المعبود بقدرته ، المطاع لسلطانه ، المهروب إليه من عذابه ، النافذ أمره في أرضه وسمائه ، الذي خلق الخلق بقدرته ، ونيرهم بأحكامه ، وأعزَّهم بدينه ، وأكرمهم بنبيِّه محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. إنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل المصاهرة نسباً لاحقاً ، وأمراً مفترضاً ، وحكماً عادلاً ، وخيراً جامعاً ، أوشج بها الأرحام ، وألزمها الأنام. فقال الله عزَّ وجلَّ : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) (15) ، وأمر الله يجري إلىٰ قضائه ، وقضاؤه يجري إلىٰ قدره ، ولكلِّ أجلٍ كتاب ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (16) ثُمَّ إنَّ الله تعالىٰ أمرني أن أُزوِّج فاطمة من عليٍّ ، وأُشهدكم أنِّي زوَّجت فاطمة من عليٍّ علىٰ أربعمائة مثقال فضة ، إن رضي بذلك علىٰ السنة القائمة والفريضة الواجبة ، فجمع الله شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما ، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأُمَّة ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ».
قال أنس : وكان عليٌّ عليه السلام غائباً في حاجةٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد بعثه فيها .. ثُمَّ أمر لنا بطبق فيه تمر ، فوضع بين أيدينا ، فقال : « انتبهوا » ، فبينما نحن كذلك إذ أقبل عليٌّ ، فتبسَّم إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال : « يا علي ! إنَّ الله أمرني أن أُزوِّجك فاطمة ، وإنِّي زوَّجتكما علىٰ أربعمائة مثقال فضَّة » ، فقال عليٌّ عليه السلام : « رضيت يا رسول الله » ! ثُمَّ إنَّ عليَّاً عليه السلام خرَّ ساجداً شكراً لله ، فلمَّا رفع رأسه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « بارك الله لكما وعليكما وأسعد جدكما وأخرج منكما الكثير الطيِّب ».
قال أنس : والله لقد أخرج منهما الكثير الطيِّب (17).
وتمَّ عقد القران بين عليٍّ وفاطمة ، وكتب لهما أن يعيشا حياةً مفعمةً بالإيمان ، وكان اجتماعهما يحمل الكثير من المعاني التي ظهر نورها في حياتهما ، وامتدَّ بعدهما في الآفاق من نسلهما المبارك، سادة بني الإنسان !
ورحَّب النبيُّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا الزواج الميمون وباركه وأسبغ عليه أنبل المشاعر وأقام حفلة الزفاف ، ومشىٰ خلفهما ، معه حمزة وعقيل وجعفر ، ونساء النبي يرتجزن فرحات مستبشرات ، وهنَّ يمشين قدَّامها ..
وأُدخلت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلىٰ بيت عليٍّ عليه السلام يتجلَّلها الحياء ، متعثِّرةً بأذيالها وقال أبوها صلوات الله وسلامه عليه : « يا عليُّ لا تحدث شيئاً حتَّىٰ تلقاني ».
فدعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بإناء فتوضَّأ فيه ، ثُمَّ أفرغه علىٰ عليٍّ عليه السلام ثُمَّ قال : « اللَّهمَّ بارك فيهما ، وبارك عليهما ، وبارك لهما في نسلهما » (18).
وقد روي أنَّ فاطمة عليه السلام بكت تلك الليلة ، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مهدّئاً من روعها : « لقد زوَّجتك سيِّداً في الدنيا والآخرة ، وإنَّه أوَّل أصحابي إسلاماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً » (19).
وحقٌّ للزهراء أن تجهش بالبكاء في هذه الليلة الفريدة من العمر ، ليلة تحتاج فيها الفتاة إلىٰ أن تكون بالقرب من أُمِّها ، وعلى الرغم من أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أغدق علىٰ ابنته بالمحبة والحنان حتَّىٰ فاضا ! ولكن لابدَّ من وجود الأمِّ في هذه الليلة الفريدة !
قالت أسماء بنت عميس : فرمقتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، حين اجتمعا يدعو لهما ، لا يشركهما في دعائه أحد ، ودعا له كما دعا لها (20).
في هذا الحديث الشريف : « لقد زوّجتك سيداً في الدنيا والآخرة ... » جملة من المعاني السامية والدرجات العالية المنطوية علىٰ دلالات كبيرة ، فهو :
١) سيِّد في الدنيا والآخرة.
٢) أوَّل الناس إسلاماً.
٣) أكثرهم علماً.
٤) أعظمهم حلماً.
هذه الخصال التي اجتمعت في هذا الرجل « عليٍّ » الذي تنتظره غداً مسؤوليات كبيرة في حفظ الدين وصيانة الأُمَّة.
الهوامش
1. الطبقات الكبرىٰ لابن سعد ٨ : ١٦ ، وانظر أُسد الغابة ٧ : ٢٣٩ ، وفاطمة الزهراء والفاطميون / عباس محمود العقاد ٢٠.
2. كنز العمال ١١ : ٦٠٦ / ٣٣٩٢٩ ، الرياض النضرة ٣ : ١٤٥.
3. المعجم الكبير ، للطبراني ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠٢٠ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٤.
4. ابن شاهين / فضائل فاطمة عليها السلام : ٥٠ / ٣٧.
5. الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٧ ، وانظر أُسد الغابة ٧ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.
6. الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٦.
7. عليُّ بن أبي طالب سلطة الحقِّ : ٢٧.
8. اتحاف السائل : ٤٤.
9. تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١.
10. الكامل في التاريخ ٢ : ١٢ ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ١٣ : ٣٠٢.
11. الاربلي / كشف الغمة ١ : ٣٦٤ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٣٦.
12. الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٨.
13. أنظر جهاز فاطمة في : الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٩ ، فاطمة الزهراء والفاطميون : ٢١ ، فضائل الإمام علي : ٢٤ ـ ٢٥.
14. الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٨.
15. سورة الفرقان : ٥٤.
16. سورة الرعد : ٣٩.
17. أنظر خطبة رسول الله في المصادر التالية : فاطمة الزهراء والفاطميون : ٢١ ـ ٢٢ ، الإمام علي بن أبي طالب ١ : ٦١.
18. الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٧ ، أُسد الغابة ٧ : ٢٤٠.
19. أُسد الغابة ٧ : ٢٣٩ ، تهذيب الكمال ١٣ : ٣٠٢ ، سير أعلام النبلاء ( سير الخلفاء الراشدين ) : ٢٣٠ باختلاف.
20. تهذيب الكمال ١٣ : ٣٠٢ ، عن الهيثمي في مجمع الزوائد باب إسلامه ٩ / ١٠١.
مقتبس من كتاب : الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ / الصفحة : 58 ـ 65