مع الغدير الذي لا ينضب
جاء في كتاب الغدير (1) للعلامة الشيخ أحمد الأميني النجفي رحمه الله زيارة مشاهد العترة الطاهرة والدعاء عندها ، والصلاة فيها ، والتوسل والتبرك بها :
قد جرت السيرة المطّردة في صدر الإسلام منذ عصر الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان على زيارة قبور ضمنت في كنفها : إمّا نبيّاً مرسلاً ، أو إماماً طاهراً ، أو ولياً صالحاً ، أو عظيماً من عظماء الدين ، وفي مقدّمتها قبر النبيّ الأقدس صلّى الله عليه وآله.
وكانت الصلاة لديها ، والدعاء عندها ، والتبرك والتوسل بها إلى الله ، وابتغاء الزلفة لديه بإتيان تلك المشاهد من المتسالم عليه بين فرق المسلمين ، من دون أي نكير من آحادهم ، وأي غميزة من أحد منهم على اختلاف مذاهبهم.
حتى ولد الدهر ابن تيمية الحرّاني فجاء كالمغمور مستهتراً يهذي ولا يبالي فترة ، وأنكر تلكم السنّة الجارية ، سنّة الله التي لا تبديل لها ، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ، وخالف هاتيك السيرة المتّبعة ، وشذّ عن تلكم الآداب الإسلامية الحميدة ، وشدّد النكير عليها بلسانٍ بذيء ، وبيان تافه ، ووجوه خارجة عن نطاق العقل السليم ، بعيداً عن : أدب العلم ، أدب الدين ، أدب الكتابة ، أدب العفّة ، وأفتى بحرمة شدّ الرحال لزيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وعَدّ السفر لأجل ذلك سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة ، فخالفه أعلام عصره ورجالات قومه ، فقابلوه بالطعن والردّ الشديد ، فأفرد هذا بالوقيعة عليه تأليفاً حافلاً « كشف السقام في زيارة خير الأنام » لتقي الدين السبكي ، و « الدرّة المضيّة في الردّ على ابن تيمية » للسبكي أيضاً ، و « المقالة المرضية » لقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبد الله الإخنائي ، و « نجم لمهتدي ورجم المقتدي » للفخر بن المعلّم القرشي ، و « دفع الشبهة » لتقي الدين الحصني ، و « التحفة المختارة في الردّ على منكر الزيارة » لتاج الدين الفاكهاني المتوفّىٰ ( 834 هـ ) وتأليف بن عبدالله محمد بن عبد المجيد القاسي المتوفّىٰ ( 1229 هـ ).
وجاء بعد ذلك من يزيّف آراءه ومعتقداته في طيّ تآليفه القيّمة « كالصواعق الإلهية في الردّ على الوهّابية » للشيخ سليمان بن عبد الوهاب في الردّ على أخيه محمد بن عبد الوهاب النجدي ، وتلاه « الفتاوى الحديثية » لإبن حجر ، و « المواهب اللدنّية » للقسطلاني ، و « شرح المواهب » للزرقاني ، وكتب اُخرى كثيرة ، وهناك ثالث يترجمه بعُجره وبُجره ، ويعرفه للملأ ببدعه وضلالاته.
وقد أصدر الشاميون فتياً ، وكتب عليها البرهان بن الفركاخ الفزاري نحو أربعين سطراً بأشياء ، إلى أن قال بتكفيره ، ووافقه على ذلك الشهاب ابن جهبل ، وكتب تحت خطّه كذلك المالكي ، ثم عرضت الفتيا لقاضي قضاة الشافعية بمصر البدر بن جماعة ، فكتب على ظاهر الفتوى :
الحمد لله ، هذا المنقول باطنها جواب على السؤال عن قوله : إنّ زيارة الأنبياء والصالحين بدعة ، وما ذكره من نحو ذلك ومن أنّه لا يرخّص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه ، وقد نقل جماعة من العلماء أنّ زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله فضيلة وسنّة مجمع عليها ، وهذا المفتي المذكور ـ يعني ابن تيمية ـ ينبغي أن يزجر من مثل هذه الفتاوى الباطلة عند أئمة العلماء ، ويمنع من الفتاوى القريبة ، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك ، ويشهَّر أمره ليتحفّظ الناس من الاقتداء به.
وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي : لكن يحبس الآن جزماً مطلقاً.
وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي : ويبالغ في زجره حسب ما تندفع تلك المفسدة وغيرها من المفاسد.
وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي : راجع دفع الشبهة « 45 ـ 47 ». وهؤلاء الأربعة هم قضاة المذاهب الأربعة بمصر أيام تلك الفتنة في سنة (726) (2).
أخي في الإسلام ، أيها القارئ العزيز :
الآن عرفت حقيقة الأمر ، وكيف أفتى قضاة المذاهب بما جاء بفتوى ابن تيمية ، فلا تكن ظالماً لنفسك ولغيرك ، وأعرض عن فكرة طعن زوّار القبور ، فإنّ أهل الإسلام لا يرون في زيارة القبور بأساً ، بل حثّ وأمر ، كما مرّ بنا سلفاً.
فراجع ما بعده ، فإنّ ماء الغدير نافع ، وإنّ على ضفاف الغدير أمر عظيم ، يفوتنّك ، فإنّ غداً لناظره قريب ، فأين الآباء والأجداد ؟ وأين المؤالف والمخالف ؟
فالكلّ شاخص بين يدي ربه ، بعد أن يزور القبر ، ويُسأَل فيه عمّا كسبت يداه ، ولفظ لسانه ، وجرى لسنانه وجوارحه ، وجنانه ، فإلى أين المفرّ ؟ ومن أين المهرَب ؟
فالقبر صندوق العمل ، وما سهل فيه من القيامة استقرّ.
وقد ذكر صاحب الغدير شطراً من الأحاديث التي وردت في الصحاح المسندة في باب زيارة قبر النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله نذكر منها :
الأوّل : عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : « من زار قبري وجبت له شفاعتي ».
أخرجته اُمّة من الحفّاظ وأئمة الحديث ، منهم :
1 ـ عبيد بن محمد أبو محمد الورّاق النيسابوري المتوفّىٰ ( 225 هـ ).
2 ـ ابن أبي الدنيا أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي المتوفّىٰ ( 281 هـ ).
3 ـ الدولابي أبو بشر محمد الرازي المتوفّىٰ (310) ، في « الكنى والأسماء » 2 / 264.
4 ـ محمد بن إسحاق ، أبو بكر النيسابوري المتوفّىٰ (311) ، الشهير بابن خزيمة ، أخرجه في صحيحه.
5 ـ الحافظ محمد بن عمرو أبو جعفر العقيلي المتوفّىٰ (322) ، في كتابه : « الضعفاء الكبير » : 4 / 170 ، رقم 1744.
6 ـ الحافظ أبو أحمد بن عدي المتوفّىٰ (365) ، في الكامل « الكامل في ضعفاء الرجال » : 6 / 351 ، رقم 1834.
7 ـ الحافظ أبو الحسن عليّ بن عمر الدارقطني المتوفّىٰ (385) ، في سننه « سنن الدارقطني » : 2 / 278 ، ج 194.
8 ـ أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي المتوفّىٰ (450) ، في « الأحكام السلطانية » 2 / 109.
9 ـ الحافظ أبو القاسم عليّ بن عساكر المتوفّىٰ (571) ، في تاريخه في باب من زار قبره صلّى الله عليه وآله : « مختصر تاريخ دمشق » : 2 406.
10 ـ الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفّىٰ (458) ، في السنن وغيره : « السنن الكبرى » : 5 / 245.
11 ـ الحافظ إبن الديبع أبو محمد الشيباني المتوفّىٰ (944) ، في « تمييز الطيّب من الخبيث » : 184 / 1395.
12 ـ زين الدين عبد الرؤوف المنّاوي المتوفّىٰ (1031) ، في « كنوز الحقائق » : 141 ، وشرح الجامع الصغير للسيوطي : 6 / 140.
الثاني : عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : « من جاءني زائراً لا تحمله إلّا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ».
وفي لفظ : « لا تحمله إلّا زيارتي ».
وفي آخر : « لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ».
وفي رابع : « لا ينزعه إلّا زيارتي كان حقاً على الله عزّ وجلّ ».
وفي خامس للغزالي : « لا يهمّه إلّا زيارتي » ، أخرجه جمع من الحفّاظ لا يستهان بهم وبعدّتهم ، منهم (3) :
1 ـ الحافظ الطبراني أبو القاسم المتوفّىٰ (360) ، أخرجه في معجمه الكبير.
2 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفّىٰ (385) ، أخرجه في أماليه.
3 ـ الحافظ ابن عساكر المتوفّىٰ (571) ، صاحب « تاريخ الشام ».
4 ـ الحافظ يحيى بن علي القرشي الاُموي المالكي ، المتوفّىٰ (622).
5 ـ تقيّ الدين السبكيّ الشافعيّ المتوفّىٰ (756) ، فَصَّل القول في طرق هذا الحديث ، وأخرجه من طرقٍ شتّىٰ ، وصحّحه في « شفاء السقام » : 13 ـ 16.
الثالث : عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : « من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي ».
وفي غير واحدٍ من طرقه زيادة : « وصحبني ».
أخرجه جمع من الحفّاظ ، منهم (4) :
1 ـ الحافظ عبد الرزاق أبوبكر الصنعاني المتوفّىٰ (211).
2 ـ الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان الشيباني المتوفّىٰ (303).
3 ـ الحافظ أبو أحمد بن عدي المتوفّىٰ (365) ، في الكامل.
4 ـ الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفّىٰ (911) ، في الجامع الكبير كما في ترتيبه : 8 / 99.
5 ـ قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي ، المتوفّىٰ ( 1069 ) في « شرح الشفا » للقاضي عياض : 3 / 567.
أخي القارئ العزيز :
أنت ترى هؤلاء الحفّاظ هم من عليّة العلماء ، ومن ذوي المؤلّفات القيّمة والمعتبرة ، وهم جميعاً من إخواننا ، ومن الصعب بمكان أن يوجَّه إليهم إصبع الاتّهام ؛ إذ لا مصلحة لهم في إيراد مثل هذه الأحاديث غير تثبيت الحق والتعريف بالحقيقة ليس إلّا ، أمّا أن يكون هناك من توسوس له النفس الأمّارة بالسوء على الوضع والحذف والتغيير ، فهذا ما لا اعتبار له ، وإنّ علماء الحديث والرجال ما تركوا شاردةً ولا واردةً في هذا الباب إلّا ورصدوها ، ونحن لا نقول كما قال الذهبي وهو يترجم أحد رجال الحديث بقوله : كان من رجال الصحاح ، وكان ثقة ، وكان صدوقاً ، وكان متديناً عفَّاً ورعاً ، يصوم النهار ويقوم الليل ، صادق اللسان ، ولكن يطرح قوله لأنّه شيعي (5).
الرابع : عن عبد الله بن عمر مرفوعاً : « من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني ».
أخرجه جمع ، منهم :
1 ـ الحافظ أبو حاتم محمد بن حبّان التميمي البستي ، المتوفّىٰ (354) ، في الضعفاء.
2 ـ الحافظ الدارقطني المتوفّىٰ (358) في كتابه « أحاديث مالك التي ليست في الموطّأ ».
3 ـ السيد نور الدين السمهودي (6) المتوفّىٰ (911) ، في « وفاء الوفا » : 2 / 398.
4 ـ أبو العباس شهاب الدين القسطلاني (7) المتوفّىٰ (1162) ، في « المواهب اللدنّية » ، نقلاً عن ابن عدي ، وإبن حبّان ، والدارقطني.
5 ـ الشيخ محمد الشوكاني المتوفّىٰ (1250) ، في « نيل الأوطار » : 4 / 325.
عزيزي القارئ :
إقرع الحجّةَ بالحجّةِ ، والدليلَ بالدليلِ ، ولا تستسلم للنفس الأمّارة بالسوء ، ولا تتعصّب إلّا للحقّ وبالحقّ ، تجد راحةً في النفس واطمئناناً ، ودَعِ التعصّب للتعصّب ، ولا تجتهد مع النصّ فتكن من الظالمين.
نحن بأمسّ الحاجة إلى الاعتصام بحبل الله ؛ لأنّ العدوَّ يريد بنا السوء ، ويتربّص بنا الدوائر.
الخامس : عن عمر مرفوعاً : « من زار قبري ـ أو من زارني ـ كنت له شفيعاً ـ أو شهيداً ـ ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عزّ وجلّ في الآمنين يوم القيامة ».
أخرجه (8) :
1 ـ الحافظ أبو داود الطيالسي المتوفّىٰ (204) ، في مسنده : 1 / 12.
2 ـ الحافظ البيهقي المتوفّىٰ (458) ، في « السنن الكبرى » : 5 / 245.
3 ـ الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل الدمشقي ، المتوفّىٰ (648).
4 ـ الحافظ ابن الديبع المتوفّىٰ (944) : في تمييز الطيب : « 162 ».
5 ـ زين الدين عبد الرؤوف المناوي المتوفّىٰ (1031) ، في « كنوز الحقائق » : 141.
6 ـ الشيخ إسماعيل العجلوني المتوفّىٰ (1162) ، في « كشف الخفاء » : 2 / 278.
السادس : عن حاطب بن أبي بلتعة مرفوعاً : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة من الآمنين ».
أخرجه (9) :
1 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفّىٰ (385) ، في السنن.
2 ـ الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفّىٰ (458).
3 ـ الحافظ ابن عساكر الدمشقي المتوفّىٰ (571).
4 ـ الحافظ أبو محمد عبد المؤمن الدمياطي المتوفّىٰ (705).
5 ـ أبو عبد الله العبدري المالكي ابن الحجّاج المتوفّىٰ (737) ، في المدخل.
6 ـ تقي الدين السبكي المتوفّىٰ (756) ، في « شفاء السقام » : 25.
7 ـ نور الدين السمهودي المتوفّىٰ (911) ، في « وفاء الوفا » : 2 / 399.
8 ـ الجرّاحي العجلوني المتوفّىٰ (1162) ، في « كشف الخفاء » : 2 / 551.
عن ابن عساكر والذهبي ، وحكي عن الأخير أنّه قال : إنّ هذا الحديث من أجود أحاديث الباب إسناداً.
السابع : عن أبي هريرة مرفوعاً : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ ، ومن زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة ».
أخرجه (10) :
1 ـ الحافظ أبوبكر أحمد بن موسى بن مردويه المتوفّىٰ (416).
2 ـ أبو الفتوح سعيد بن محمد اليعقوبي المتوفّىٰ (552) ، في فوائده.
3 ـ الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني الشافعي المتوفّىٰ (562).
4 ـ ابن الأغاطي إسماعيل بن عبد الله الأنصاري المالكي المتوفّىٰ (619).
5 ـ السيد نور الدين السمهودي المتوفّىٰ (911) ، في « وفاء الوفا » : 2 / 400.
عزيزي القارئ :
ما تقدّم ويأتي أحاديث من كتب إخواننا روته ثقاتهم ، وثبتت في مؤلفاتهم وصحاحهم ، نوردها لك لبيان الحقيقة.
الثامن : عن أنس بن مالك مرفوعاً : « من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً ».
وفي رواية اُخرى عنه أيضاً : « من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ، ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة ».
وفي لفظ ثالث له زيادة : « وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة » ، أخرجته اُمّة من الحفّاظ ، منهم (11) :
1 ـ ابن أبي فُديك محمد بن إسماعيل المتوفّىٰ (200).
2 ـ الحافظ ابن عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفّىٰ (405).
3 ـ الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفّىٰ (458) ، عن « شعب الإيمان ».
4 ـ الحافظ ابن الجوزي المتوفّىٰ (597) ، في « مثير الغرام الساكن ».
5 ـ شمس الدين أبو عبد الله الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيّم الجوزية ، المتوفّىٰ (751) ، في « زاد المعاد » : 2 / 47.
6 ـ الشيخ منصور علي ناصيف في « التاج » : 2 / 216.
عزيزي القارئ :
وكذلك تجد بين يديك اُمّةً من المحدّثين ، منهم :
عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك ، وهم من الصحابة ، وكل اُولئك يجوِّز ابن تيمية عليهم الوضع والكذب ، مع اُولئك العلماء الحفّاظ الذين نقلوا الأحاديث في زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله حيث قال ابن تيمية : إنّ أغلب هذه الأحاديث موضوعة.
وهو بكلّ جهالةٍ يصدّق نفسه ، فيحرِّم زيارة القبور وهي حلال ، والعجب في الأمر أنّ ابن تيمية لا يورد ولو دليلاً واحداً نقلاً ولا عقلاً على صدق ما ادّعاه ، لا من الكتاب ولا من السنّة ، مع وجود هذا العدد الهائل من الأحاديث والرواة والصحابة والعلماء ، والعشرات من المؤلّفات والصحاح المعتبرة ! وإنّي لعلىٰ ثقةٍ أنّ ابن تيمية ومن سلك مسلكه من الأولين والآخِرِين يعلمون الحقيقة ، وأنّ ما ورد هو الصواب ، ولكن يغالطون أنفسهم ، ويغالطون الناس بدوافع خارجة عن إرادتهم ، وخير ما يمكن أن يقال : خالِفْ تُعرف.
نحن نزور القبور لأنّها تذكّرنا بالموت ، والموت حق ، وتذكرنا بالآخرة ، والآخرة حق.
ونقرأ من خلال زيارتنا للقبور صفحة الماضين ، فنتّعظ ؛ لئلّا نكون عوناً للجبابرة ، وهو حقّ ، والحقّ أحقّ أن يتبع.
بل لنا بالأنبياء والأولياء والصلحاء اُسوة حسنة ، تردّ عنّا الشرَّ والظلم.
التاسع : عن أنس بن مالك مرفوعاً : « من زارني ميّتاً فكأنّما زارني حيّاً ، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، وما من أحدٍ من اُمّتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر » أخرجه (12) كلّ من :
1 ـ الحافظ أبو القاسم الطبراني المتوفّىٰ (360).
2 ـ الحافظ أبو الحسن الدارقطني المتوفّىٰ (385).
3 ـ الحافظ أبوبكر البيهقي المتوفّىٰ (458).
4 ـ القاضي عياض المالكي المتوفّىٰ (544).
5 ـ قاضي القضاة الخفاجي الحنفي المتوفّىٰ (1062) ، في « شرح الشفا » : 3 / 565 ، ونقله عن البيهقي والدارقطني والطبراني وابن منصور.
6 ـ زين الدين عبد الرؤوف المنّاوي المتوفّىٰ (1031) ، في « كنوز صلّى الله عليه وآله الحقائق » : 141 ، بلفظ : « من زار قبري بعد موتي ».
أيّها القارئ الكريم :
ها هي الأحاديث تنبئ عن حقيقة ، وهي : أنّ زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله بعد وفاته كزيارته ولقائه في حياته ، ولا يخفى أنّ الكثير ينتابهم الفخر بأنّهم رأوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّموا عليه وكلّموه ... ولنا أن نفخر حين زيارة قبره صلّى الله عليه وآله.
العاشر : عن ابن عباس مرفوعاً : « من حجّ إلى مكة ، ثم قصدني في مسجدي كتبت له حَجّتان مبرورتان ».
أخرجه الديلمي في مسنده ، كما في « وفاء الوفا » : 4 / 1374 ، و « نيل الأوطار » : 5 / 109.
نحن نفهم من هذا الحديث أنّ زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله تعدل حجّتان مبرورتان ، كما هو النصّ فلا تصدّنّك نفسك أن لا تحصل على حجّتين مبرورتَين ، وكن على اُهبة الاستعداد ودع ما لا دليل عليه.
الحادي عشر : روي عن الرسول صلّى الله عليه وآله قال : « من وجد سعةً ولم يَفِدْ ـ يغدُ ـ إليَّ فقد جفاني » (13).
ذكره إبن فرحون في مناسكه ، والغزالي في الإحياء : 1 / 231 ، والقسطلاني في « المواهب اللدنّية » : 4 / 571 ، والعجلوني في « كشف الخفاء » : 2 / 278.
نعم ، ونحن نرى أنّ من يستطيع ولا يتشرّف لزيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله فقد جفاه ، ومن استطاع وزاره فقد فاز فوزاً عظيماً ، أقلّها حجّة مبرورة.
أمّا شفاعته فعند الله تعالى حسابها.
الثاني عشر : عن أبي عبد الله محمد بن العلاء ، قال : دخلت المدينة وقد غلب عليَّ الجوع ، فزرت قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وسلّمت عليه وعلى الشيخين رضي الله عنه ، وقلت : يا رسول الله جئتُ وبي من الفاقة والجوع ما لا يعلمه إلّا الله تعالى ، وأنا ضيفك في هذه الليلة ، ثمّ غلبني النوم فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وآله في المنام فأعطاني رغيفاً فأكلت نصفه ، ثم انتبهت من المنام وفي يدي نصفه الآخر ، فتحقق عندي قول النبيّ صلّى الله عليه وآله :
« مَن رآني في المنام فقد رآني حقّاً ، فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي ».
ثمّ نوديت : « يا أبا عبد الله ، لا يزور قبري أحد إلّا غُفر له ونال شفاعتي غداً ».
ذكره الشيخ شعيب الحريفيش في « الروض الفائق » : 2 / 381 ، فقال في المعنى :
مَن زارَ قبرَ محمدٍ |
نالَ الشفاعةَ في غَدِ |
|
باللهِ كرِّر ذِكرَهُ |
وحديتَهُ يا مُنشِدي |
|
واجعَلْ صلاتَكَ دائماً |
جَهراً عليهِ تهتَدي |
|
فهوَ الرسولُ المصطفى |
ذو الجودِ والكفِّ الندي |
|
وهو المشفَّعُ في الورى |
مِن هَولِ يومِ الموعِدِ |
|
والحوضُ مخصوصٌ بِهِ |
في الحشرِ عذبُ المورِدِ |
|
صلّى عليهِ ربّنا |
ما لاحَ نَجمُ الفَرقَدِ (14) |
الهوامش
1. الغدير : 5 / 133 ـ 135.
2. راجع تكملة السيف الصقيل للشيخ محمد زاهد الكوثري : 155.
3. المعجم الكبير : 12 / 225 ، ح 13149 ، إحياء علوم الدين : 1 / 231 ، مختصر تاريخ دمشق : 2 / 406 ، شفاء السقام : 16 ـ 20 ، وفاء الوفا : 4 / 1340 ، المواهب اللدنّية : 4 / 571 ، مُغني المحتاج : 1 / 512.
4. المعجم الكبير : 12 / 310 / 13497 ، الكامل في ضعفاء الرجال : 2 / 382 ، رقم 505 ، سنن الدارقطني : 2 / 278 ، ح 192 ، مختصر تاريخ دمشق : 2 / 406 ، الدرّة الثمينة : 397 ، مشكاة المصابيح : 2 / 128 / 2756 ، شفاء السقام : 20 ـ 27 ، الروض الفائق : 380 ، وفاء الوفا : 4 / 1340 ، كنز العمال : 15 / 651 / 42582 ، نسيم الرياض : 3 / 511 ، نيل الأوطار : 5 / 108.
5. من محاضرات الشيخ أحمد الوائلي رحمه الله.
6. نسبةً إلىٰ سمهود ، وهي قرية كبيرة أو ناحية في غربي النيل بمصر. ( معجم البلدان : 3 / 255 ).
7. وهي نسبة إلىٰ قسطلة ، بلدة بالأندلس. ( معجم البلدان : 4 / 347 ).
8. مختصر تاريخ دمشق : 2 / 407 ، شفاء السقام : 6 / 29 ، وفاء الوفا : 4 / 1343 ، المواهب اللدنّية : 4 / 571 ، تمييز الطيب من الخبيث : 1395 / 184 ، كنوز الحقائق : 2 / 107 ، كشف الخفاء : 2 / 251 / 2489.
9. سنن الدارقطني : 2 / 278 / 193 ، السنن الكبرى : 5 / 245 ، مختصر تاريخ دمشق : 2 / 406 ، المدخل : 1 / 261 ، شفاء السقام : 8 / 32 ـ 33 ، الروض الفائق : 380 ، وفاء الوفا : 4 / 1344 ، المواهب اللدنّية : 4 / 571 ، كشف الخفاء : 2 / 280 / 2619.
10. شفاء السقام : 35 ، وفاء الوفا : 4 / 1345.
11. شعب الإيمان : 3 / 490 / 4158 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وآله : 2 / 195 ، مختصر تاريخ دمشق : 2 / 406 ، شفاء السقام : 31 ، وفاء الوفا : 4 / 1345 ، المواهب اللدنّية : 4 / 572 ، كنز العمال : 12 / 272 / 3500 ، وج 15 / 652 / 42584 ، نيل الأوطار : 5 / 195 ، مختار الأحاديث النبويّة : 179 ، مصباح الظلام : 2 / 35 / 630 ، التاج الجامع للاُصول : 2 / 190.
12. الدرّة الثمينة : 397 ، شفاء السقام : 37 ، المواهب اللدنّية : 4 / 572 ، وفاء الوفا : 4 / 1346 ، كشف الخفاء : 2 / 250 / 2489.
13. سنن الدارقطني : 2 / 278 / 194 ، وفاء الوفا : 4 / 1342.
14. انظر الغدير في الكتاب والسنّة والأدب : 5 / 164 ، طبع مركز الغدير للدراسات الإسلامية ، الطبعة الاُولى ، 1416 هـ ( 1995 م ).
مقتبس من كتاب : نافذة على زيارة القبور / الصفحة : 187 ـ 200