غزوة حنين

البريد الإلكتروني طباعة

غزوة حنين

لمّا فتح رسول الله مكّة سارت أشراف هوازن بعضها إلى بعض ، وثقيف بعضها إلى بعض ، وقالوا : والله ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال ، فاجمعوا أمركم ، فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم ، فأجمعت هوازن أمرها و تولّى قيادة حشودها « مالك بن عوف النصري » وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلمّا أجمع « مالك » المسير بالناس إلى رسول الله ، أمر الناس أن يجيئوا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا باوطاس ، واجتمع الناس به ، فعسكروا وأقاموا بها ، والإمداد تأتيهم من كل ناحية.

فلمّا سمع بهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بعث إليهم « عبد الله الأسلمي » ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبرهم ، فجاء الرجل بخبر اجتماعهم على حرب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأجمع رسول الله السير إلى هوازن ليلقاهم ، وذكر له أنّ عند صفوان ابن اُميّة أدراعاً له وسلاحاً ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ، فاستعار منه مائة درع ليتقوّى بها على حرب الكفّار ، فأجابه إلى ذلك.

ثمّ خرج رسول الله معه ألفان من أهل مكّة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، وفتح الله بهم مكّة فكانوا اثنى عشر ألفاً ، واستعمل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عتّاب بن اسيد على مكّة أميراً على من تخلّف عنه من الناس ، ثمّ مضى رسول الله يريد لقاء هوازن ، وصادف في الطريق شجرة عظيمة خضراء ذات أنواط يأتيها الناس كل سنة فيعلّقون أسلحتهم عليها ، ويذبحون ويعكفون عندها ، قال الرواي : فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى : ( اجْعَل لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إنّها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.

يقول الواقدي : « خرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة ، وألفين من أهل مكّة ، فلمّا ابتعد عن مكّة ، قال رجل من أصحابه : « لو لقينا بني شيبان ما بالينا ولا يغلبنا اليوم أحد من قلّة » ولكن لم تغن هذه الكثرة شيئاً ، وهزم المسلمون وفرّوا عن ساحة المعركة ، كما يوافيك ذكره عمّا قريب.

بعث مالك بن عوف عيوناً من هوازن إلى معسكر رسول الله ، فأتوا بخبر كثرة جيش رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأراد اصطناع خديعة تمكّنه منهم ، فعبّأ أصحابه في وادي حنين ، وهو واد أجوف ذو شعب ومضائق ، وفرّق الناس فيه وأوعز إليهم أن يحملوا على محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وأصحابه حملة واحدة عند ما ينحدرون من مضيق الوادي.

يقول جابر بن عبد الله لمّا استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه ومضائقه ، وقد أجمعوا وتهيّئوا فما عدوا فوالله ما راعنا ونحن إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانطلق الناس وقد بقي مع النبيّ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

بقى رسول الله على دابّته لم ينزل ، إلّا أنّه جرّد سيفه ، وقد ذكر التاريخ أسماء الذين صمدوا مع رسول الله ، أمثال علي والعباس والفضل بن العباس وأبي سفيان ابن الحارث ، وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيد الخزرجي ، واُسامة بن زيد.

قال البرّاء بن عازب : والله الذي لا إله إلّا هو ما ولّى رسول الله ولكنّه وقف واستنصر ثمّ نزل و هو يقول :

أنا النبي لا كذب

 

أنا ابن عبد المطلب

وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء فيها رأس رمح له طويل أمام الناس إذا أدرك طعن ، قد أكثر في المسلمين القتل ، فشدّ عليه عليّ وأبو دجانة فقطع عليّ يده اليمنى ، وأبو دجانة يده الاُخرى ، وأقبلا يضربانه بسيفيهما فسقط صريعاً.

وزاد الهول مصيبة شماتة أبي سفيان وغيره بالمسلمين ، فقد تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغائن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لاتنتهي هزيمتهم دون البحر ، وانّ الأزلام لمعه في كنانته.

وصرخ في تلك الاثناء جبلة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم.

الانتصار بعد الهزيمة :

أمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في تلك الآونة عمَّه العباس أن يصرخ و يقول : يا معشر الانصار يا معشر أصحاب السمرة (1) فصار ذلك سبباً لرجوع الفارين من أصحاب الرسول إليه والقتال بين يديه ، فاجتمع جمع غفير حوله ، حاموا رسول الله وقاتلوا العدو بضراوة ، فنظر رسول الله إلى ساحة المعركة ، وأصحابه يقاتلون ، فقال : الآن حمى الوطيس ، وصارت الحرب طاحنة حتى رأى العدو جمعاً غفيراً من الأسرى مكتّفين عند رسول الله ، فعند ذلك انقلبت كفّة النصر لصالح المسلمين.

ومن لطيف ما قيل في تلك الفترة ما أنشدته امرأة مسلمة بقولها :

غلبت خيل الله خيل اللات

 

وخيله أحق بالثبات

ثمّ إنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) طلب من العباس ، ليناوله حفنة من الحصى ، فألقى بها في وجوه العدو قائلاً : شاهت الوجوه ، وقد استنهض بذلك عزائم أصحابه إلى حد ما لبث هوازن ولا ثقيف حتى فرّوا منهزمين لا يلوون على شيء تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم غنيمة للمسلمين ، وقد ذكر أصحاب السير احصاء الغنائم وعدّتها التي استولى عليها المسلمون ، فمن الإبل اثنان وعشرون ألف بعير ، ومن الشياء أربعون الفاً ، ومن الفضة أربعة آلاف اُوقية ، وقد بلغ عدد الأسرى ستة آلاف ، وقد أمر رسول الله أن تنقل إلى وادي الجعرانة حتى يأمن المسلمون من مطاردة العدو لهم (2).

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء :

إنّ انهزام المسلمين في بادئ الأمر كان ناجماً عن غرور المسلمين بكثرتهم أوّلاً ، واصطحاب ألفين من المسلمين الجدد الذين أسلموا في فتح مكّة ولم يرسخ إيمانهم بعد ، فانّ فرارهم عن ساحة الحرب ثبّط عزائم المسلمين القدامى.

أضف إلى ذلك انّهم لم يتّبعوا الخطط العسكرية من إرسال الطلائع والعيون مقدمة الزحف لاستطلاع أحوال العدو ومواقعه ، كيف وهم دخلوا في مضيق حنين في غلس الصباح ، والعدو ترصّد في ثكنات خاصة ، ففاجأوهم بالهجوم عليهم من مكامنهم ، وهم على غفلة من أمرهم ، فلو كانوا قد استعانوا بالعيون والجواسيس لما وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكان ذلك ناتجاً عن تقصير من اُمراء السرايا ، وحمَلَة اللواء ، وقصور منهم في أداء وظائفهم التي أوكلها النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إليهم الذي كان يرقب الاُمور عن كثب في مؤخّرة الجند ، وإلى ما أشرنا لك يشير قوله سبحانه : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّـهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 25 ـ 27 ).

محاصرة الطائف :

لمّا انهزم العدو بعد انتصار مؤقّت ، التجأ البقية الباقية من جماعة مالك بن عوف إلى حصن لبني ثقيف بالطائف ، وكان حصناً منيعاً يصعب اختراقه ، فتعقّبهم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حتى ذلك الحصن ، وأحاط بهم غير أنّ رجال ثقيف المتحصّنين كانوا من مهرة الرماة ، فتمكّنوا من إصابة جمع من المسلمين بلغ عددهم ثمانية عشر رجلاً ، فأمر النبي قوّاته بالتراجع عن مرمى النبل ، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ، وقد أجهد النبي نفسه في خلال تلك المدة في اعمال فنون الحرب المختلفة لاختراق الحصن بالنحو التالي :

1 ـ أمر أصحابه نقب جدار الطائف بالاحتماء بالدبابات المصنوعةً من جلود البقر ، لكن تلك المحاولة لم تتكلّل بالنجاح ، لأنّ ثقيف ألقت بحمم من الحديد على تلك الدبابات فأحرقتها ، ففرّ من كان تحتها من المسلمين ، فرشقتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالاً.

2 ـ نصب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المنجنيق بإشارة من سلمان الفارسي بقوله : يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، وقد عمل المنجنيق بيده ، فنصبه النبي تجاه حصن الطائف ، أو قدّم المنجنيق يزيد بن زمعة إلى النبي بعد مضي أربعة أيام من قبيلة بني دوس ، إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكّة ، فرماهم من دون جدوى لأنّهم قد أعدّوا حصونهم إعداداً يقاوم كل أمثال تلك الأسلحة.

3 ـ أمر رسول الله بقطع شجر الكروم ( العنب ) ، وقد كانت قبيلة ثقيف تفتخر بكروم أرضها على جميع العرب ، فانّها جعلت الطائف واحة كأنّها الجنة وسط هذه الصحارى ، كل ذلك رجاء أن يستسلموا و يتركوا التحصّن في حصونهم ، فلمّا رأى ذلك رجال ثقيف نادوا : يا محمد لِمَ تقطع أموالنا ، فأمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا ، وأمّا أن تدعها لله وللرحم ، فتركها ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).

4 ـ نادى منادى رسول الله أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ ، فخرج من الحصن بضعة عشر رجلاً ، وعلم منهم انّ بالحصون من الذخيرة والمؤنة ما يكفل أمداً طويلاً ، فاستشار النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال : يا رسول الله : ثعلب في حجر ، إنْ أقمت عليه أخذته ، و إن تركته لم يضرّك ، فأذن الرسول بالرحيل ، وقيل : إنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) رأى أنّ الحصار سيطول أمده وانّ الجيوش تودّ الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوه والذي تركوه في الجعرانة ، والأشهر الحرم قد أذنت ولا يجوز فيها قتال ، لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقعه ، وكان ذو القعدة قد هلّ ، فرجع بجيشه معتمِراً وذكر انّه متجهّز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وفد هوازن في الجَعرّانة

وأقفل راجعاً إلى مكة حتى نزل هو والمسلمون الجَعرّانة لاقتسام الغنائم ، وفي تلك الأثناء أتتهم وفد من هوازن وقد أسلموا فقالوا : إنّا أصل وعشيرة وقد أصابنا ما لم يخف عليك ، فامنن علينا منّ الله عليك ، وقال زهير : يا رسول الله إنّ بين الاُسارى عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو إنّا أرضعنا الحرث بن أبي شمر الغساني ، أو النعمان بن المنذر ليرجونا عطفه وأنت خير المكفولين ، فخيّرهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بين نسائهم وأبنائهم ، وبين أموالهم ، فاختاروا نساءهم وأبناءهم.

فقال : أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صلّيت بالناس ، فقولوا : إنّا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله ، في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم وأسأل فيكم ، فلمّا صلّى الظهر فعلوا ما أمرهم به ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله ، وقال الأقرع بن حابس : ما كان لي ولبني تميم فلا ، وقال عيينة بن حصن : ما كان لي ولفزارة فلا ، وقال عباس بن مرداس : ما كان لي ولسليم فلا ، فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول الله فقال : وهّنتموني.

فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : من تمسّك بحقّه من السبي فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل شيء نصيبه ، فردّوا على الناس أبناءهم ونساءهم.

وسأل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن مالك بن عوف فقيل : إنّه بالطائف. فقال : أخبِروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة بعير ، فاُخبر مالك بذلك ، فخرج من الطائف سرّاً ولحق برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف ، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير ، وكان يقاتل بمن أسلم معه من « ثمالة » و « فهم » و « سلمة » ، فكان يقابل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه حتى ضيّق عليهم (3).

لمّا فرغ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب جواده واتّبعه الناس يقولون : يا رسول الله قسّم علينا فيأنا من الإبل والغنم ، فقام رسول الله إلى جنب بعير ، فاجتزّ وبرة من سنامه ، فجعلها بين اصبعيه ثم رفعها قائلاً : والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدّوا الخياط والمخيط ، فانّ الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة.

ثم إنّه أعطى المؤلّفة قلوبهم شيئاً كثيراً من الخمس المتعلّق به ، فأعطى أبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية لكلّ مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وهكذا وعندما فرغ من القسمة بينهم ، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة ، فوقف عليه ، فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم. فقال رسول الله : أجل فكيف رأيت ؟ فقال : لم أرك عدلت. فغضب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ثم قال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله ؟ فقال : لا ، دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (4).

وقد نزل بهذا الصدد عدة آيات منها :

( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ سَيُؤْتِينَا اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّـهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 58 ـ 60 ).

وقد اختلف المفسّرون في سبب نزولها فمن قائل بأنّها نزلت في حقّ ذي الخويصرة وأمثاله ، إلى قائل من أنّها نزلت في حقّ المؤلّفة قلوبهم.

مشادة الأنصار مع النبي

ولمّا أعطى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ما أعطى من تلك العطايا لقريش ولقبائل العرب ولم يحظ الأنصار بمثل عطيّتهم وجد جمع من الأنصار في أنفسهم شيئاً ، فأرسلوا منهم سعد بن عبادة إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) يستطلع صدق الأمر ، فقال : قسّمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ما أنا إلّا من قومي ، قال : فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة ، قال : فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردّهم فلمّا اجتمعوا له أتاه سعد فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فحمد الله وأثنىٰ عليه بما هو أهله ثم قال : يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلّالاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم ؟

قالوا : بلى ، الله ورسوله أمنّ وأفضل ، ثمّ قال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟

قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المنّ والفضل.

قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصدّقتم : أتيتنا مكذّباً فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللّهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

قال : فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظّاً ثم انصرف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وتفرّقوا (5).

إلى هنا تمّ الحديث عن فتح مكّة وما أعقبه من الأحداث وقد وصفه سبحانه هكذا : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّـهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّـهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 1 ـ 4 ).

وفي الآيات سؤال يستحثّ الجواب عنه وهو أنّه سبحانه جعل فتح مكّة علّة لغفران ما تقدّم من ذنوب النبي وما تأخّر منها ، فيقال :

1 ـ ما هي المناسبة بين العلّة والمعلول : فتح مكّة وغفران الذنوب ، مع أنّه يجب أن يكون بينهما مناسبة ذاتية أو اعتبارية ؟

2 ـ إنّ النبي الأكرم معصوم من اجتراح الذنوب فما المراد من هذا الذنب ؟ ويجاب عنه : بأنّ النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كان متّهماً عند رجال قريش وحلفائها منذ سابق عهدهم به بالكهانة والسحر والجنون والألقاب المزرية المشينة الاُخرى ، وقد سبق أن قلنا بأنّ هذه التهم كانت بمثابة الحرب النفسية لإظهار العداء المقيت بالرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكان يصعب على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مجابهتها والقضاء عليها وكفّ ألسنة الناس عن التفوّه بها بأي نحو من أنحاء الإعلام المضادّ إلّا لمن عايشه عن قرب واختبره عن كثب.

ولكنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قد منحه الله سبحانه ببركة هذا الفتح المبين حيث تمكّن بعد هدم حصون الشرك والوثنية وتطهير الكعبة من آلهة المشركين والاستيلاء علىٰ مراكز قوّتهم من الظهور بمظهر العظمة إلى أن تلاشت معه جميع قلاع الشرك وخضعت له الرقاب التي تنصب غروراً وكبرياءً في وجهه.

فأثبت بذلك أنّه منزّه عن الكهانة والسحر والجنون لأنّ المنتسب إلى أحد تلك الأصناف أعجز من أن يقوىٰ على تدبير اُمور نفسه الخاصّة. فكيف يقوم بقيادة جيش جرّار عرمرم يخترق الفيافي والصحارى والقفار على الرغم من كثرة العيون والجواسيس المترصّدة في أنحاء الطرق والمعابر ، ثمّ يباغت العدو في عقر داره وهو في غفلة من أمره فما يلبثوا إلّا يسيراً حتّى يسلّموا له وتذلّل له أعناق رؤسائهم ، ويبلغ به الأمر إلى أكثر من ذلك فيواصل زحفه إلى ماوراء مكّة على ثبات من أمره وقوّة و شكيمة.

فالمتصدّي لقيادة تلك الجيوش والتسلّط على ما تمكّن منه بالنحو المتقدّم لا بدّ وأن يعد من الرعيل الأوّل من قوّاد الجيوش في العالم وأشدّهم حنكة وحكمة ، فكيف يتبادر إلى الأذهان أمثال تلك الأراجيف إذا كان حاله على ما شاهده الناس به من العظمة والبسالة والحكمة ؟

وتمكّن من خلال هذا الفتح من إزالة كل فرية وتهمة مشينة ألصقها كفّار قريش به أو يمكن أن توصف شخصيته بها في المستقبل ، ولذلك وردت الإشارة إلى ذلك بقوله : ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّـهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ).

وبذلك يندفع ما تمّ إيراده في السؤالين ، وفي ذلك غنى عن المزيد من الإطالة حيث تبيّن وجود الصلة بين الفتح ومغفرة الذنوب ، كما تبيّن عدم منافاة المغفرة مع العصمة ، فلاحظ.

وفي الختام نقول : إنّه سبحانه قد بشّر النبي الأكرم بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر بإنزال سورة النصر. قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّـهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّـهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) ( النصر / 1 ـ 3 ).

لمّا فتح رسول الله مكّة قالت العرب : اما اذا أظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به طاقة ، فكان يدخلون في دين الله أفواجاً واحداً واحداً ، اثنين اثنين وربّما تدخل القبيلة بأسرها في الإسلام (6).

الهوامش

1. السمرة : شجرة الرضوان.

2. المغازي : ج 3 ص 889 ـ 899 ، البداية و النهاية : ج 4 ص 352.

3. السيرة النبويّة : ج 2 ص 489 و 490.

4. السيرة النبويّة : ج 2 ص 496 ، البداية والنهاية : ج 4 ص 336 وفيه : دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

5. السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 500 ، البداية و النهاية ج 4 ص 358.

6. مجمع البيان ، ج 5 ص 553 ـ 554.

مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 7 / الصفحة : 445 ـ 455

 

أضف تعليق

غزوات النبي صلّى الله عليه وآله

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية

ستة + ثلاثة =