ردّ علماء السُنّة على قول ابن تيميّة بالتجسيم
المعروف عن كثير من الحنابلة أنّهم من القائلين بالتجسيم ، بمعنى أنّ لله تعالى يداً ، ووجهاً ، وعيناً ، وساقاً ، وأنّه متربّع على العرش شأنه شأن الملوك والسلاطين ، واستدلّوا على ذلك بآيات من القرآن الكريم ، كقوله تعالى : ( يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) [ الفتح : 10 ] ، و ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) [ القصص : 88 ] ، و ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ) [ القلم : 42 ] ، و ( الرَّحْمَـٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) [ طه : 5 ] ، وغيرها من الآيات.
وقالوا : إنّ اليد والوجه والساق والاستواء ، جاءت في القرآن على وجه الحقيقة في معانيها ، وليست مصروفة إلى معانيها المجازية.
وقالوا : نعم يد الله ليست كيدنا ، ووجهه ليس كوجهنا ، وساقه ليس كساقنا ، بدليل قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [ الشورى : 11 ].
ولا يخفى عليك أنّ ابن تيميّة ومحمّد بن عبد الوهاب يدّعيان أنّهما من الحنابلة !
وأقوال ابن تيميّة في التجسيم كثيرة جدّاً ، وللوقوف على ذلك راجع مثلاً كتابه « الفتوى الحموية الكبرى » ، في « مجموعة الفتاوى : 5 كتاب الأسماء والصفات ».
وإنّ عقيدته في التجسيم كانت واحداً من أهمّ محاور الصراع الذي خاضه مع علماء عصره ؛ فهي السبب الوحيد لما دار بينه وبين المالكيّة من فتن في دمشق ، وهي السبب الوحيد لاستدعائه إلى مصر ثمّ سجنه هناك ، كما كانت سبباً في عدّة مجالس عقدت هنا وهناك لمناقشة أقواله.
ولم تنفرد المالكيّة في الردّ عليه ، بل كان هذا هو شأن الحنفيّة والشافعيّة أيضاً ، وأمّا الحنبليّة فقد نصّوا على شذوذه عنهم.
قال الشيخ الكوثري الحنفي في وصف عقيدة من أثبت الحركة والانتقال والجهة ونحوها : « تجسيمٌ صريح بغير كتاب ولا سُنّة ، وكذا إثبات الحدّ والجلوس والمماسّة ، تعالى الله عن ذلك » (1).
وللشافعيّة دورهم البارز في مواجهة هذه العقيدة ، فقد صنّفوا في بيان أخطأ ابن تيميّة فيها كثيراً ، وربّما يعدّ من أهمّ تصانيفهم تلك : ما كتبه شيخهم شهاب الدين ابن جَهبَل ، المتوفّى سنة 733 هـ (2) ، ويكتسب هذا التصنيف أهميّته لسببين :
أوّلهما : أنّ هذا الشيخ كان معاصراً لابن تيميّة ، وقد كتب ردّه هذا في حياة ابن تيميّة موجّهاً إليه.
والثاني : أنّه ختمه بتحدّ صريح ، قال فيه : « ونحن ننتظر ما يَرفد من تمويهه وفساده ، لنبيّن مدارج زيغه وعناده ، ونجاهد في الله حقّ جهاده » (3). ثمّ لم يذكر لابن تيميّة جواباً عليه رغم أنّه قد وضعه ردّاً على « الحمويّة الكبرى » التي ألقاها الشيخ ابن تيميّة على المنبر في سنة 698 هـ.
وأمّا دفاع ابن تيميّة عن التجسيم ، فهو دفاع المجسّمة الصرحاء !! فيقول ردّاً على القائلين بتنزيه الله تعالى عن الأعضاء والأجزاء : « إنّهم جعلوا عمدتهم في تنزيه الربّ عن النقائص على نفي التجسيم ، ومن سلك هذا المسلك لم ينزّه الله عن شيء من النقائص البتة » (4).
ثمّ طريق إثبات شيء على المتّهم لا يتمّ بإقراره فقط ومن كتبه ؛ فإنّه قد لا يذكر ذلك صريحاً خوفاً من المسلمين ، ولكن هناك طريقة أُخرى ، وهي : شهادة شهود عليه ؛ فإنّ هذا من أقوى أدلّة الإثبات ، خاصّة إذا كانوا كثيرين.
وقد شهد على ابن تيميّة الكثير ، منهم : ابن بطوطة في كتابه « رحلة ابن بطوطة » ؛ إذ يقول تحت عنوان « حكاية الفقيه ذي اللّوثة » ـ اللّوثة بالضمّ : مَسّ جنون ــ : « كان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقيّ الدين بن تيميّة ، كبير الشام ، يتكلّم في الفنون ، إلّا أنّ في عقله شيئاً ! وكان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم ، ويعظهم على المنبر ، وتكلّم مرّة بأمر أنكره الفقهاء ...
ثمّ قال : وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه أن قال : إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجةً من المنبر ! فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلّم به ، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته وظهر على رأسه شاشيّة حرير ، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عزّ الدين بن مسلم قاضي الحنابلة ، فأمر بسجنه ، وعزّره بعد ذلك » (5).
ومقولة ابن تيميّة هذه ذكرها ابن حجر العسقلاني أيضاً في « الدرر الكامنة » (6) ، وابن شاكر في « عيون التواريخ » نقل ذلك عنه الحصني الدمشقي في « دفع شبه من تشبّه وتمرّد » (7).
تلك صورةٌ عن عقيدته في الله تعالى .. فهو يجيز عليه تعالى الانتقال والتحوّل والنزول ، وفي هذا التصوّر من التجسيم ما لا يخفى ، فالذي ينتقل من مكان إلى مكان ، وينزل ويصعد ، فلا بدّ أنّه كان أوّلاً في مكان ثمّ انتقل إلى مكان آخر ، فخلا منه المكان الأوّل ، واحتواه المكان الثاني ، والذي يحويه المكان لا يكون إلّا محدوداً ! فتعالى الله عمّا يصفون.
ودمتم في رعاية الله
الهوامش
1. كتاب الأسماء والصفات للبيهقي بتعليقة الكوثري : 414 الهامش ، باب : ما جاء من قول الله عزّ وجلّ : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّـهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ... ) البقرة 2 : 21.
2. طبقات الشافعية الكبرى 9 : 34 « 1302 » أحمد بن يحيى ، شهاب الدين بن جهبل.
3. طبقات الشافعية الكبرى 9 : 91 « 1302 » أحمد بن يحيى ، شهاب الدين بن جهبل.
4. مجموعة الفتاوى 13 : 413 مقدّمة التفسير ، فصل في أهل البدع مختلفون في الكتاب ومخالفون فيه ، عمدة النفاة في تنزيه الربّ عن النقائص ، وانظر : منهاج السُنّة 2 : 563 كلام ابن المطهّر في أنّ مذهب الإماميّة واجب الاتّباع ، الردّ على قول : سمّوا مشبّهة ؛ لأنّهم يقولون : أنّه جسم.
5. أدب الرحلات « رحلة ابن بطوطة » : 90 قضاة دمشق.
6. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1 : 93 « 409 » أحمد بن عبد الحليم بن تيميّة.
7. دفع شبه من شبّه وتمرّد « دفع الشبه عن الرسول » : 88 ، تاريخ ابن تيميّة كما نقله المؤرّخ ابن شاكر.
المصدر : مركز الأبحاث العقائديّة