ماهو مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة الخلافة بعد الرسول

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج6 ، ص 41 ـ 75
________________________________________
(41)
الفصل الثالث
ماهو مقتضى الكتاب والسنّة
في صيغة الخلافة بعد الرسول
________________________________________
(42)
________________________________________
(43)
إنّ مقتضى الكتاب والسنّة في صيغة القيادة بعد الرسول هو التنصيص لا التفويض إلى الاُمّة ولا ترك الأمر إلى الظروف والصدف، فنقدّم الكلام في السنّة فإنّها صريحة في التعيين وأمّا الكتاب فسيأتي البحث عنه.
فنقول: إنّ سيرة النبي الأكرم ونصوصه في مواقف مختلفة تثبت بوضوح أنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ غرس النواة الاُولى في أمر القيادة منذ أن أصحر بالدعوة وتعاهدها إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.
وهذه النصوص من الكثرة والوفرة بحيث إنّه لا يمكن استيعابها ولا ذكر كثير منها، ويكفينا مؤونة ذلك، الموسوعات الحديثية في المناقب والفضائل والمؤلّفات الكلامية في أمر الولاية، ونحن نكتفي بالقليل من الكثير .
1- التنصيص على الخليفة في حديث بدء الدعوة:
بُعث الرسول الأكرم لهداية الناس وإخراجهم من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرّ إلى الخير، ومن الشقاء إلى السعادة، و كانت الظروف المحدقة به قاسية جدّاً، لأنّه بعث في اُمّة عريقة في الوثنية، ويخاطبهم سبحانه: (لِتُنْذِرَ قَوْماً)
________________________________________
(44)
ما أُنذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ))(1)، فأخذ بالدعوة سرّاً ونشر دينه خفاءً سنوات عديدة إلى أن نزل قوله سبحانه: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(2) فعند ذلك أمر الرسول علي بن أبي طالب وهو شاب يافع يتراوح عمره بين (13 سنة إلى 15) أمره رسول اللّه أن يعد طعاماً ولبناً ثم دعا (45) رجلا من سُراة بني هاشم ووجوههم، وبعد أن فرغوا من الطعام قال رسول اللّه: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، واللّه الّذي لا إله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة، واللّه لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وانّها الجنّة أبداً والنار أبداً ـ ثم قال: - يا بني عبدالمطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، انّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، وقد أمرني اللّه عزّوجل أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي وخليفتي فيكم» .
ولمّا بلغ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى هذا الموضع وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم، قام علي ـ عليه السلام ـ فجأة وقال: أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه، فقال له رسول اللّه: اجلس، ثم كرّر دعوته ثانية وثالثة، ففي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته ويقوم علي ويعلن استعداده لمؤازرة النبي ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتّى إذا كان في المرّة الثالثة، أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين وقال: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»(3) .
________________________________________
1 . يس / 6 .
2 . الشعراء / 214 .
3 . مسند أحمد 1 / 111، تاريخ الطبري 2 / 62 ـ 63، تاريخ الكامل 2 / 40 ـ 41، إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة يقف عليها من سبر كتب السيرة ـ عند سرد حوادث بدء الدعوة ـ وكتب التفسير في تفسير الآية الآنفة في سورة الشعراء .
________________________________________
(45)
نحن لا نُريد أن نحوم حول الرواية ونعرض عن الإشارة إلى ماجنى عليها بعض المؤرّخين والكتّاب الجدد(1) ولكن نذكر نكتة أنّ النبي أعلن وزيره وخليفته ووصيّه يوم أعلن رسالته وكأنّهما فرقدان في سماء الوحي لا يفترقان، وما القيادة بعد النبي إلاّ استمرار لوظائف النبوّة، وإن كانت النبوّة مختومة ولكن الوظائف والمسؤوليات كانتا مستمرّتين.
2- حديث المنزلة:
روى أصحاب السير والحديث أنّ رسول اللّه خرج إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه فقال له علي: «أخرج معك»؟ فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «لا»، فبكى علي فقال له رسول اللّه: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبىّ بعدي، انّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي»، أخرجه البخاري في صحيحه(2) والاستثناء يدل على ثبوت ما لهارون من المناصب لعلي سوى النبوّة سيأتي توضيحه.
وروى مسلم في صحيحه انّ إمام الفئة الباغية قال لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسب أبا تراب فقال: امّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إلىّ من حمر النعم، سمعت رسول اللّه يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه بعد ما شكى إليه علي بقوله: «يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان»: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه
________________________________________
1 . كالدكتور محمد حسين هيكل في حياة النبي، لاحظ محاضراتنا في سيرة النبي وقد طبعت باسم (سيّد المرسلين 1 / 394 ـ 397) .
2 . صحيح البخاري 5 باب فضائل أصحاب النبي باب مناقب علي 24 وغيره .
________________________________________
(46)
لا نبوّة بعدي» .
وسمعته يقول يوم خيبر: «لاُعطينّ الراية رجلا يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله» قال: فتطاولنا لها، فقال: «ادعوا لي عليّاً، فاُتي به أرمد العين، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح عليه.
ولمّا نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعَالَوْ نَدْعُ أبْناءَنا وَ أبْناءَكُمْ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي»(1) .
3- حديث الغدير:
إنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كل عصر وجيل، ولسنا بصدد اثبات تواتره وذكر مصادره فقد قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة، وانّما الهدف ايقاف القارىء على نصوص الخلافة في حقّ علي حتّى يقف على أنّ النبي الأعظم هو الباذر الأوّل لبذرة التشيّع والدعوة إلى علي بالامامة والوصاية، وعلى أنّ مسألة التشيّع قد نشأت قبل رحلته، ونذكر في المقام ما ذكره ابن حجر وقد اعترف بصحّة سنده، يقول: إنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ خطب بغدير خم تحت شجرات، فقال: «أيّها الناس أنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلاّ نصف عمر الّذي يليه من قبله، وانّي لأظن أنّي يوشك أن اُدعى فاُجيب وانّي مسؤول وانّكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك اللّه خيراً، فقال: «أليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ ناره حقّ وأنّ الموت حق وأنّ البعث حق بعد الموت وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ
________________________________________
1 . صحيح مسلم 6 باب فضائل علي 120 ـ 121 طبعة محمّد عليّ صبيح .
________________________________________
(47)
اللّه يبعث من في القبور؟» قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: «اللّهمّ اشهد» ثمّ قال: «يا أيّها الناس إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا ـ يعني عليّاً ـ مولاه اللّهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه» ثمّ قال: «يا أيّها الناس انّي فرطكم وانّكم واردون علىّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصري إلى صنعاء فيه عدد النجوم قدحان من فضّة وانّي سائلكم حين تردون علىّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّوجلّ سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنّه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتّى يردا علىّ الحوض»(1).
وأخرجه غير واحد من أئمة الحديث منهم الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم قال: نزلنا مع رسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بواد يقال له وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاّها بهجير، قال: «فخطبنا وظُلِّل لرسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال: «ألستم تعلمون، أو لستم تشهدون، أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه»(2) .
وأخرجه الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن طريق زيد بن أرقم من طريقين صحّحها على شرط الشيخين قال: لمّا رجع رسول اللّه من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، فقال: «إنّي دعيت فأجبت، قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما،
________________________________________
1 . الصواعق 43 ـ 44، وأخرجه من طريق الطبراني وغيره، وحكم بصحّته.
2 . مسند الامام أحمد 4 / 372، وأخرجه الامام أيضاً في مسنده من حديث البراء بن عازب من طريقين، لاحظ الجزء الرابع الصفحة 281 .
________________________________________
(48)
فانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ـ ثمّ قال: ـ إنّ اللّه عزّوجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن ـ ثمّ أخذ بيد علي فقال: ـ من كنت مولاه فهذا وليّه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه...»(1).
وأخرجه النسائي في خصائصه عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع النبي من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثمّ قال: «كأنّي دعيت فأجبت، وانّي تارك فيكم الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وأهل بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ـ ثمّ قال: ـ إنّ اللّه مولاي وأنا ولي كل مؤمن ـ ثمّ أخذ بيد علي فقال: ـ من كنت وليّه فهذا وليّه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» قال أبو الطفيل: فقلت لزيد: سمعته من رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ؟ فقال: وإنّه ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه باُذنه(2) .
إنّ سؤال أبي الطفيل يعرب عن حقيقة مرّة، وهو أنّه يرى التنافي بين مضمون الحديث وعمل الاُمّة، فإنّ الحديث نصٌّ على ولايته وخلافته والاُمّة صرفتها عن علي، فلأجل ذاك عاد يتعجّب ويسأل، وليس التعجّب مختصّاً به، فهذا هو الكميت يصرّح به في هاشمياته ويقول:
ويوم الدوح دوح غدير خم أبان له الخلافة لو اُطيعا
ولكن الرجال تبايعوها فلم أر مثلها خطراً مبيعا
ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً ولم أر مثله حقّاً اُضيعا(3)
________________________________________
1 . المستدرك 3 / 109، مع أنّ الذهبي في تعليقته على المستدرك يعلّق على مواضع من تصحيحات الحاكم صرّح في هذا المقام بصحّة الحديث .
2 . الخصائص العلوية 21 .
3 . الهاشميات طبعت غير مرّة وشرحها غير واحد من اُدباء العصر كالرافعي المصريّ، والأستاذ محمد شاكر الخياط وقد دبَّ إليها الدس والتحريف، لاحظ الغدير 2 / 181 .
________________________________________
(49)
ولو أردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته من الصحابة والتابعين والعلماء لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد، وقد قام بحمداللّه أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود(1) .
والمهم هو دلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعلي بعد الرسول، ويكفي في ذلك التدبّر في الاُمور التالية:
1- إنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال في خطبته: «أنا أولى بهم من أنفسهم ـ ثمّ قال: ـ فمن كنت مولاه» وهذا قرينة لفظية على أنّ المراد من المولى هو الأولى، فالمعنى أنّ اللّه أولى بي من نفسي، وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومن كنت أولى به من نفسه، فعلي أولى به من نفسه. وهذا هو معنى الولاية الكبرى للإمام.
2- ذيل الحديث وهو قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» وفي بعض الطرق «وانصر من نصره واخذل من خذله» فإنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لمّا نصّبه إماماً على الاُمّة بعده، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده وفيهم من يحقد عليه، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء، فعاد يدعو لمن والاه ونصره، وعلى من عاداه وخذله، ليتمّ أمر الخلافة، ولِيُعْلم الناس أنّ موالاته موالاة للّه وأنّ عداءه عداؤه، والحاصل أنّ هذا الدعاء لا يناسب إلاّ من نصب زعيماً للإمامة والخلافة.
3- إنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أصدر كلامه بأخذ الشهادة من الحضّار بأن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، ثمّ قال: إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا
________________________________________
1 . العبقات للسيد مير حامد حسين (ت 1306)، والغدير للعلامة الفذ عبدالحسين الأميني (ت 1390)، وكلاهما من حسنات الدهر .
________________________________________
(50)
أولى بهم من أنفسهم، فقال: «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه» .
4- إنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ذكر قبل بيان الولاية قوله: «كأنّي دعيت فأجبت» أو ما يقرب من ذلك، وهو يعرب أنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يبق من عمره إلاّ قليل يحاذر أن يدركه الأجل، فأراد سد الفراغ الحاصل بموته ورحلته بتنصيب علىّ إماماً وقائداً من بعده .
هذه القرائن وغيرها الموجودة في كلامه، توجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد العظيم ليس إلاّ إكمال الدين واتمام النعمة من خلال ما أعلن عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ انّ علياً قائد وإمام الاُمّة، ومن أراد التوسع في الاطلاع على هذه القرائن فليرجع إلى الأثر القيّم الغدير(1).
لا يشك من درس مضمون حديث الغدير وما حوله من القرائن يقف على أنّ المراد منه هو نصب علي للامامة والخلافة وهذا هو الّذي فهمه الحضّار من المهاجرين والأنصار في ذلك المحفل كما فهمه من بلغه النبأ بعد حين ممّن يُحتجّ بقوله في اللغة، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجال الأدب إلى العصر الحاضر، وهذا هو حسّان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير وقد استأذن رسول اللّه أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله:
وقال له قم يا علي فانّني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا(2)
حتّى انّ عمرو بن العاص الّذي لا يخفى عداؤه لعلي على أحد يقول في قصيدته الّتي أرسلها إلى معاوية شاكياً إيّاه:
وكم قد سمعنا من المصطفى وصايا مخصّصة في علي
________________________________________
1 . الغدير 1 / 370، وقد ذكر هناك ما يقرب من عشرين قرينة على ما هو المراد من الحديث .
2 . رواة غير واحد من حفاظ الفريقين لاحظ الغدير 2 / 35 ـ 37 .
________________________________________
(51)
وفي يوم خم رقى منبراً * وبلّغ والصحب لم ترحل
فأمنحه إمرة المؤمنين * من اللّه مستخلف المنحل
وفي كفّه كفّه معلناً * ينادي بأمر العزيز العلي
وقال: فمن كنت مولى له * علي له اليوم نعم الولي(1)
شبهتان واهيتان:
وقد توالى فهم الاُدباء والعلماء على ذلك في طيّات القرون عبر النظم والنثر.
غير أنّ هناك لفيفاً من الناس ممّن يعاند الحقيقة ولا يرضى بقبولها، أبدى شبهتين ضعيفتين نذكرهما على وجه الإجمال:
الشبهة الاُولى:
إنّ المولى يراد به معان مختلفة فمنها،المحبّ والناصر، فمن أين علم أنّ المراد بها المتولّي والمالك للأمر والأولى بالتصرّف؟
يلاحظ عليه: أنّ لفظ المولى ليس له إلاّ معنى واحد وهو: الأولى. قال سبحانه: (فَالْيَوْمَ لا يُؤخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُم النَّارُ هِي مَوْلاكُمْ وَبِئسَ المَصير)(2) وقد فسّره غير واحد من المفسّرين بأنّ المراد أنّ النار أولى بكم، غير أنّ الّذي يجب التركيز عليه هو أنّ الاُولى هو المعنى الوحيد للمولى
________________________________________
1 . والقصيدة تربو على 66 بيتا، نقل قسماً منها ابن أبي الحديد في شرحه 10 / 56 ـ 57 ونقلها برمتها الأميني في الغدير 2 / 115 ـ 117 .
2 . الحديد / 15 .
________________________________________
(52)
وانّ كلّما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته، فقد ذكروا له من المعاني سبعة وعشرين معنى، خلطوا فيها المتعلّق بالمعنى، ومورد الاستعمال بالموضوع له، فقد قيل إنّ من معانيه الرب، والعم، والمعتق، والعبد، والمالك، والتابع، والمحب، والناصر وكلّها متعلّقات للمعنى، وليس له إلاّ معنى واحد وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ بمناسبة.
1- فالربّ سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم، خلق العالمين كما شاءت حكمته يتصرّف فيه بمشيئته.
2- والعم أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والعطف عليه وهو القائم مقام والده الّذي كان أولى به.
3- و«المعتِق» أولى بالتفضّل على من أعتقه، كما أنّ المعتق أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه .
4- والمالك أولى بالتصرّف في ماله وكلاءة مماليكه .
5- والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه .
6- والمحب والناصر أولى بالدفاع عمّن أحبّه أو التزم بنصرته.
فإذن ليس للمولى إلاّ معنى واحد، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في الموارد المختلفة .
الشبهة الثانية:
المراد أنّه أولى بالإمامة مآلا وإلاّ كان هو الإمام مع وجود النبي ولا تعرض فيه لوقت المآل، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمة
________________________________________
(53)
الثلاثة عليه(1).
وهذه الشبهة من الوهن بمكان، وذلك لأنّه لا يجتمع مع حكمة المتكلّم وبلاغته ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة، وهو يستلزم أن لا تعم ولايته جميع الناس والحضّار، فيخرج عن ولايته الخلفاء الثلاثة، مع أنّ الشيخين ـ حينما سمعا قول رسول اللّه ـ قالا له: بخ بخ لك يا علي، أمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة(2) .
حصيلة البحث:
إنّ من سبر غضون السير والتواريخ يقف على أنّ النبي الأكرم لم يبرح يدعو الناس إلى علي بالتصريح تارة، والاشارة اُخرى من بدء الدعوة إلى ختامها. فتارة يعرّفة بأنّه خليفته ووصيّه ووزيره، واُخرى بأنّ منزلته منه منزلة هارون من موسى، وأنّ له كل المناصب الثابتة لهارون إلاّ منصب واحد وهو النبوّة، والدليل على ذلك هو الاستثناء «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» وقد كان هارون وزيراً لموسى وشريكاً له في النبوّة قال سبحانه: (وَ أَخِى هَارُونُ هُوَ أفْصَحُ مِنِّى لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنا أَنتَُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ)(3) وقال سبحانه حاكياً عن موسى: (وَاجْعَل لِى وَزيراً مِنْ أَهْلِى * هَارُونَ )أَخِى * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى * وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنْتَ
________________________________________
1 . الصواعق المحرقة 44 .
2 . مسند أحمد 4 / 281 .
3 . القصص / 34 ـ 35 .
________________________________________
(54)
بِنا بَصيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى))(1).
وثالثة ينصبه قائداً وإماماً في هواء حار وارض جافة في محتشد عظيم مبتدئاً كلامه بما يرجع إلى اُصول الدين من أخذ الشهادة من الناس على ولاية اللّه و ولاية الرسول ثم يأخذ بيد علي وهو على المنبر محرّكاً شعور الحاضرين وليشد القلوب نحو علي ويقول: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».
ودلالة هذه الأحاديث على خلافة من عيّنه الرسول على وجه لا ينكره إلاّ مكابر ولا يردّه إلاّ معاند، وكفانا في الموضوع ما ألّفه أصحابنا حول هذه الأحاديث الثلاثة.
* * *
مرجعية أهل البيت الفكرية بعد الرسول:
دلّت الأحاديث السابقة على أنّ الزعامة السياسية والخلافة بعد الرسول تتمثّل في علي وعترته، وهناك أحاديث متوفّرة تسوقنا إلى مرجعيتهم الفكرية وأنّهم الأئمة والأوصياء بعد الرسول وأنّه لابدّ للمسلم أن يرجع إليهم في دينه، ويأخذ عنهم اُصوله وفروعه، وأنّ النبي الأكرم جعلهم المغزع بعده، والعترة والكتاب توأمان لايفترقان، وإليك بعض ما ورد عن الرسول في المقام:
4- حديث الثقلين:
إنّ النبي الأكرم أيقظ الغافلين وبيّن مرجع الاُمّة بعد رحلته بهتافه الدوي وقال: «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي
________________________________________
1 . طه / 29 ـ 36 .
________________________________________
(55)
أهل بيتي»(1) .
وقال: «إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(2) .
وقال: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض»(3) .
وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه وأهل بيتي وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض»(4) .
وقال: «إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه عزّوجلّ وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(5) .
وقال في منصرفه من حجّة الوداع ونزوله غدير خم: «كأنّي دعيت فاجبت، انّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض»(6) .
________________________________________
1 . كنز العمال 1 / 44، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.
2 . كنز العمال 1 / 44، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم .
3 . مسند أحمد 5 / 182، 189 .
4 . المستدرك للحاكم 3 / 148 .
5 . مسند أحمد 3 / 17 ـ 26، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري .
6 . المستدرك للحاكم 3 / 109، أخرجه من حديث زيد بن أرقم .
________________________________________
(56)
5- حديث السفينة:
إنّ النبي الأكرم يشبّه أهل بيته بسفينة نوح ويقول: «ألا انّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق»(1). وفي حديث آخر يقول: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له»(2) وفي حديث ثالث: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس»(3) .
ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق لأنّ هذه المنزلة ليست إلاّ لحجج اللّه ولفيف من أهل بيته، وقد فهمه ابن حجر وقال: يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم، لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون، ـ وقال في مقام آخر ـ انّه قيل لرسول اللّه: «ما بقاء الناس بعدهم؟» قال: «بقاء الحمار إذا كسر صلبه»(4).
والمراد من تشبيههم ـ عليهم السلام ـ بسفينة نوح: أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه واُصوله عن أئمّتهم الميامين نجا من عذاب اللّه، ومن تخلّف عنهم كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء، وهذا غرق في الحميم.
والوجه في تشبيههم بباب حطة هو أنّ اللّه تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله، والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة، وقد جعل انقياد
________________________________________
1 . مستدرك الحاكم بسنده إلى أبي ذر 3 / 151 .
2 . الأربعون حديثاً للنبهاني 216، نقله عن الطبراني في الأوسط .
3 . مستدرك الحاكم بسنده إلى ابن عباس 3 / 149 .
4 . الصواعق لابن حجر (الباب الحادي عشر): 91، 142 .
________________________________________
(57)
هذه الاُمّة لأهل بيت نبيّها وأتباعهم، مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة.
ثمّ إنّ ابن حجر قد أوضح حقيقة التشبيه في كلامه وقال: «ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعيم، وهلك في مفاوز الطغيان ـ إلى أن قال: ـ وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ انّ اللّه جعل دخول ذلك الباب الّذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الاُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها»(1) .
وفي هذه الأحاديث الخمسة غنى وكفاية لطلاّب الحق .
***
الائمّة الاثنا عشر في حديث الرسول:
إنّ هناك روايات تحدّد وتعيّن عدد الأئمّة بعد الرسول، وإن لم تذكر أسماءهم، ولكنّها تذكر سماتهم وهذه هي أحاديث الأئمة الاثني عشر رواها أصحاب الصحاح والمسانيد نذكرها إكمالا للبحث، وهي على وجه لا ينطبق إلاّ على من عيّنهم الرسول ووصفهم بالخلافة والزعامة، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة. والإمعان فيها يرشد القارىء إلى الحق، ويأخذ بيده حتّى يرسي مركبه على شاطىء الأمان والحقيقة.
________________________________________
1 . لاحظ الصواعق (الباب الحادى عشر): 91، وقد علّق سيّدنا الإمام شرف الدين على كلام ابن حجر وقال: قل لي لماذا لم يأخذ بهدي أئمّتهم في شيء من فروع الدين و عقائده، ولا شيء من اُصول الفقه وقواعده، ولا شيء من علوم السنّة والكتاب، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب فلماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم، وأهلكها في مفاوز الطغيان (المراجعات 25) .
________________________________________
(58)
ويطيب لي أن أذكر مجموع هذه النصوص فإنّها تؤكّد بعضها بعضاً وإليك البيان:
الائمة الاثنا عشر:
1- روى البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه يقول: «يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم اسمعها، فقال أبي: أنّه قال: «كلّهم من قريش»(1) .
2- روى مسلم عنه أيضاً قال: دخلت مع أبي على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فسمعته يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» قال ثمّ تكلّم بكلام خفي علىّ، قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش» .
3- و روى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ماوليهم اثنا عشر رجلاً» ثمّ تكلّم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بكلمة خفيت علىّ فسألت أبي: ماذا قال رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ؟فقال: «كلّهم من قريش» .
4- وروى عنه أيضاً نفس الحديث إلاّ أنّه لم يذكر: «لا يزال أمر الناس ماضياً».
5- و روى مسلم عنه أيضاً يقول: سمعت رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلّهم من قريش»(2) .
________________________________________
1 . صحيح البخاري 9 / 101، كتاب الأحكام، الباب 51 (باب الاستخلاف) .
2 . صحيح مسلم 6 / 3 .
________________________________________
(59)
6- وروى مسلم عنه ايضاً قال: انطلقت إلى رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ومعي أبي فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة» فقال كلمة صمَّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟، قال: «كلّهم من قريش» .
7- وروى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(1) .
8- روى أبو داود عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّه يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر» فكبّر الناس وضجّوا، ثمّ قال كلمة، خفيت، قلت لأبي: يا أبه ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش»(2).
9- روى الترمذي عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه: «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً» ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه فسألت الّذي يليني، فقال: قال: «كلّهم من قريش» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن جابر، ثمّ ذكر طريقاً آخر إلى جابر(3) .
10- روى أحمد في مسنده عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي يقول: «يكون لهذه الاُمّة اثنا عشر خليفة» ورواه عن 34 طريقاً(4) .
11- روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب معرفة الصحابة عن عون بن جحيفة عن أبيه قال: كنت مع عمّي عند النبي فقال: «لا يزال أمر اُمّتي
________________________________________
1 . صحيح مسلم 6 / 3 ـ 4 .
2 . صحيح أبي داود 2، كتاب المهدي 207 (طبع مصر) وروى أيضاً نحوه بطريقين آخرين .
3 . صحيح الترمذي 2 / 45 (طبع عام 1342) .
4 . مسند أحمد 5 / 86 ـ 108 .
________________________________________
(60)
صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة» ثم قال كلمة وخفض بها صوته، فقلت لعمّي ـ وكان أمامي ـ : ما قال يا عم؟ قال: قال: «كلّهم من قريش»(1) .
ونحن نكتفي في حديث «الأئمة الاثنا عشر» بالأحاديث الاثنا عشر ولا نتجاوز عنها تيمّناً وتبرّكاً، ورواه كثير من أعلام الاُمّة في مجامعهم الحديثية والتاريخية.
1- رواه أحمد بسنده عن مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبداللّه بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمان هم سألتم رسول اللّه كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال عبداللّه بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول اللّه فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني اسرائيل(2) .
3- وقال المتّقي الهندي في منتخب كنز العمّال: يملك هذه الاُمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل، وأخرجه عن أحمد والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك(3) .
________________________________________
1 . المستدرك على الصحيحين (كتاب معرفة الصحابة) 3 / 617 ـ 618 (طبع الهند) .
2 مسند أحمد 1 / 398 .
3 . منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد 5 / 312 .
________________________________________
(61)
4- قال السيوطي في تاريخ الخلفاء: وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود، انّه سئل كم يملك هذه الاُمّة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول اللّه فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل»(1) .
5- قال ابن حجر في الصواعق: أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة انّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»(2) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمة بعد النبي الأكرم اثنا عشر، وقد جاء فيها سماتهم وصفاتهم وعددهم، غير أنّ المهم هو تعيين مصاديقها والاشارة إلى أعيانها وأشخاصها، ولا تعلم إلاّ بوجود السمات الواردة في هذه الأحاديث فيهم، وأمّا السمات الواردة فيها فإليك مختصرها:
1- لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة .
2- لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً .
3- لا يزال الدين قائماً .
4- لا يزال أمر اُمّتي صالحاً .
5- لا يزال أمر هذه الاُمّة ظاهراً .
6- حتّى يمضي فيهم اثنا عشر .
7- ما وليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش .
8- عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل .
وهذه السمات والخصوصيات لا توجد مجتمعة إلاّ في الأئمّة الاثني عشر المعروفين عند الفريقين، وتلك الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرم
________________________________________
1 . تاريخ الخلفاء 10 .
2 . الصواعق 189 ط تخريج عبدالوهاب وعبد اللطيف .
________________________________________
(62)
خصوصاً إذا ضُمّت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أماناً لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء، وسيوافيك تفصيل هذه الأحاديث الثلاثة .
فالأئمّة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين، أوّلهم علي أميرالمؤمنين، وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنّهم هم المثل العليا في سماء الاخلاق وفي القمّة والذروة في العلم والاحاطة بالقرآن والسنّة، وانّه سبحانه بهم حفظ دينه عن التحريف وبهم اعتزّ الدين .
وأمّا ما ورد في بعض هذه الطرق: «كلّهم تجتمع عليهم الاُمّة» على فرض الصّحة، فالمراد تجتمع على الاقرار بإمامتهم جميعاً وقت ظهور آخرهم، و ـ على فرض الابهام ـ لا تمنع عن الأخذ بمضامين الحديث .
هلمّ معي نقرأ ماذا يقول غير الشيعة في حق هذه الأحاديث، فكيف يفسّرها بالخلفاء القائمين بالأمر بعد النبي الأكرم؟ وإليك نقل كلامهم:
1- إنّ قوله اثنا عشر اشارة إلى عدد خلفاء بني اُميّة وأوّل بني اُميّة يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدتهم اثنا عشر ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير لكونهم صحابة، ولا مروان بن الحكم لكونه صحابياً أو لأنّه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبداللّه بن الزبير، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثم عبدالملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبدالعزيز ثم يزيد بن عبدالملك ثم هشام بن عبدالملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمّد(1) .
________________________________________
1 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 212 ط دار المعرفة. وفي المصدر: عدتهم ثلاثة عشر .
________________________________________
(63)
يلاحظ عليه: إذا كان الرسول أراد هذا ولم يكن في مقام مدحهم فأي فائدة في الأخبار بذلك. ثمّ كيف يقول انّها صدرت على غير سبيل المدح مع ما عرفت من السمات الواردة الصريحة في المدح فيقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً قائماً»، أو «أمر اُمّتي صالحاً» والعجب انّه جعل أوّل الخلفاء يزيد بن معاوية بحجّة أنّه استقامت له السلطنة مع أنّه كيف استتبّت له السلطنة وقد ثار عليه العراق في السنة الاُولى وثار عليه أهل المدينة في السنة الثانية وكان مجموع أيّامه مؤلّفة من حروب دامية بين قتل ونهب وتدمير.
2- «إنّ المراد أنّه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي» وهذا من أغرب التفاسير لأنّها ظاهرة في اتصال خلافتهم بعصر النبي الأكرم ولأجل تبادر ذلك سأل الناس عبداللّه بن مسعود عن عدد من يملك أمر هذه الاُمّة(1) .
3- ما نقله ابن حجر في فتح الباري عن القاضي عياض انّ المراد الخلفاء الذين اجتمع عليهم الناس وهم أبوبكر، وعثمان، وعلي، ومعاوية، ويزيد، وعبدالملك، وأولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وعمر بن عبدالعزيز بين سليمان ويزيد، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبدالملك(2) .
ولا يكاد ينقضي تعجّبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرّفان هؤلاء بمن عزّ بهم الإسلام والدين وصار منيعاً وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الّذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة بالمنجنيق
________________________________________
1 . فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 213 ومثله ما نقله أيضاً: اثنا عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة .
2 . المصدر نفسه ولاحظ تاريخ الخلفاء 11 .
________________________________________
(64)
وأباح المدينة ثلاثة أيّام بأعراضها وأموالها وأنفسها.
وهل اعتزّ الإسلام بعبد الملك وكفى في مساويه تنصيبه الحجاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى(1) .
كيف اعتزّ الدين بالوليد بن يزيد بن عبدالملك المنتهك لحرمات اللّه الّذي حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فخرج (فَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلّ جَبّار عَنِيد) فألقاه ورماه بالسهام وقال:
تهددني بجبّار عنيد * فها أنا ذاك جبّار عنيد
إذا ماجئت ربّك يوم حشر * فقل يا رب مزّفتي الوليد

ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الّذي اسودّت صفحاته بسبب أفعالهم الشنيعة.
إنّ للكاتب القدير السيد محمّد تقي الحكيم كلاماً في هذه الأحاديث يطيب لي نقله. قال: والّذي يستفاد من هذه الروايات:
1- أنّ عدد الأمراء أو الخلفاء لا يتجاوز الاثني عشر وكلّهم من قريش .
2- أنّ هؤلاء الاُمراء معيّنون بالنص كما هو مقتضى تشبيههم بنقباء بني إسرائيل لقوله تعالى: (وَ لَقَد أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً)(2) .
3- أنّ هذه الروايات افترضت لهم البقاء ما بقي الدين الاسلامي أو حتّى تقوم الساعة كما هو مقتضى رواية مسلم «انّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة» وأصرح من ذلك روايته الاُخرى في نفس الباب: «لا يزال هذا الأمر في قريش
________________________________________
1 . تاريخ الخلفاء 250 و غيره.
2 . المائدة / 12 .
________________________________________
(65)
ما بقى من الناس اثنان».
إذا صحّت هذه الاستفاده فهي لا تلتئم إلاّ مع مبنى الإمامية في عدد الأئمة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهي منسجمة جدّاً مع حديث الثقلين وبقاؤهما حتّى يردا عليه الحوض .
وصحّة هذه الاستفادة موقوفة على أن يكون المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة ـ بالاستحقاق ـ لا بالسلطة الظاهرية لأنّ الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من اللّه، وهي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية، لأنّ هذا النوع من السلطة هو الّذي تقتضيه وظيفته كمشرع، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلّط الآخرين عليهم، على أنّ الروايات تبقى بلا تفسير لو تخلّينا عن حملها على هذا المعنى لبداهة أنّ السلطة الظاهرية قد تولاّها من قريش أضعاف أضعاف هذا العدد، فضلا عن انقراض دولهم وعدم النص على أحد منهم ـ أمويين وعباسيين ـ باتّفاق المسلمين .
ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الروايات كانت مأثورة في بعض الصحاح والمسانيد قبل أن يكتمل عدد الأئمة فلا يحتمل أن يكون من الموضوعات بعد اكتمال العدد المذكور، على أنّ جميع رواتها من أهل السنّة ومن الموثوقين لديهم ولعلّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التأريخي كان منشؤها عدم تمكّنهم من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها وبيان المراد منها .
والسيوطي ـ بعد أن أورد ما قاله العلماء في هذه الأحاديث المشكلة ـ خرج برأي غريب وهو: وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز في بني اُمية وكذلك الظاهر لما اوتيه من العدل، وبقي الاثنان منتظران، أحدهما المهدي لأنّه من أهل بيت محمّد ولم يُبيّن
________________________________________
(66)
المنتظر الثاني، ورحم اللّه من قال في السيوطي: انّه حاطب ليل» .
* * *
يستفاد من حديث الثقلين اُمور مهمة لو اهتمّت بها الاُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت واستغنت عن غيرهم، وهاهي:
1- إنّ اقتران العترة الطاهرة بالقرآن الكريم إشارة إلى أنّ عندهم علم القرآن وفهمه علماً لائقاً بشأنه .
2- إنّ التمسّك بالكتاب والعترة يعصم من الضلالة ولا يغني أحدهما عن الآخر .
3- يحرم التقدّم على العترة كما يحرم الابتعاد عنهم .
4- إنّ العترة لا تفارق الكتاب، وانّهما مستمرّان إلى يوم القيامة .
أفيصحّ بعد هذه التصريحات والاشارات ترك العترة والأخذ بقول غيرهم؟
مقتضى الكتاب في صيغة القيادة بعد الرسول:
قد تعرّفت على مقتضى السنّة النبوية في مجال القيادة بعد الرسول، وكلّها تدل على أنّ الرسول قام بتعيين الوصي بعده، وعيّن خليفة المسلمين تعييناً شخصياً، وقد كرّر وأكّد ذلك في مواقف متعدّدة ـ حتّى لا يبقى شكّ ـ وحاول تأكيد الأمر في آخر ساعة من حياته الشريفة عن طريق الكتابة، ولكن حال بعضهم دون تحقق اُمنية الرسول، فلم يكتب شيئاً، وأمرهم بالخروج عن مجلسه، ونردف ذلك البحث بما وعدناه سابقاً من تبيين مقتضى الكتاب في مسألة الخلافة، وقد نزلت آيات أوضحها آية الولاية في سورة المائدة، فنحن نأتي بها مع ما يتقدّمها حتّى تتّضح دلالتها: (يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُم أَولِيَاءُ بَعْض وَ مَن يَتَوَلَّهُم مَنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمينَ* )
________________________________________
(67)
فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأَتِىَ بِالْفَتْحِ أوْ أَمْر مِنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمينَ * وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أهَؤلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى المُؤمِنيِنَ أَعِزَّة عَلى الكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشآءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُم راكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَالِبُونَ ))(1)، وموضع الاستدلال هو الآيتان الأخيرتان.
وقبل الاستدلال بالآية نذكر شأن نزولها:
روى المفسّرون عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلا أتى المسجد وهو يقول: من يقرض الملىّ الوفي، وعلي راكع يشير بيده للسائل: اخلع الخاتم من يدي. فما خرج أحد من المسجد حتّى نزل جبرئيل بـ (إنَّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطيء في الهدى ومسارع
أيذهب مدحي والمحبين ضايعا * وما المدح في ذات الإله بضايع
فأنت الّذي أعطيت إذ أنت راكع * فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيّد * ويا خير شار ثم يا خير بايع

________________________________________
1 . المائدة / 51 ـ 56 .
________________________________________
(68)
فأنزل فيك اللّه خير ولاية * وبيّنها في محكمات الشرايع(1)
وإليك تفصيل الآية حرفياً:
1- الولي والمولى والأولى بمعنى واحد، قال رسول اللّه: «أيّما امرأة نكحت بغير اذن وليّها فنكاحها باطل...»(2) وقال: «يا علي أنت ولي كل مؤمن من بعدي»(3) ولو اُطلق على الناصر والمحب فهو كاطلاق المولى عليهما، وقد عرفت أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأولى، فلو أُطلق على الناصر والمحب فلأجل أنّ المحب أولى بالدفاع عن محبوبه والتزامه بنصرته، والصديق أولى بحماية صديقه، فتفسير الولي بالمحب والناصر والصديق من باب خلط المتعلّق بالمفهوم .
2- لو كان المراد من الولي هو الناصر وما أشبهه يلزم الاكتفاء بقوله (إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا)) من دون حاجة إلى التقييد بإيتاء الزكاة حال الركوع .
3- لو كان الولي بمعنى الناصر أو المحب يلزم وحدة الولي والمولّى عليه في قوله: (والّذين آمنوا)) وما هذا إلاّ لأنّ كل مؤمن ناصر لأخيه المؤمن ومحبّ له(4). مع أنّ ظاهر الآية أنّ هناك أولياء ثلاثة: 1- اللّه، 2- رسوله، 3- المؤمنون بالشروط الثلاثة، وأنّ هناك مولى عليه، وهو غير الثلاثة ولا يتحقّق
________________________________________
1 . رواه الطبري في تفسيره 6 / 186 والجصاص في أحكام القرآن 2 / 446 والسيوطي في الدر المنثور 2 / 293 وغيرهم .
2 . مسند أحمد 6 / 66 روتها عائشة عن النبي الأكرم .
3 . مسند أحمد 4 / 437، مستدرك الحاكم 3 / 111 .
4 . اللّهمّ إلاّ أن يقول القائل انّ المؤمنين الموصوفين بالأوصاف الثلاثة أولياء المؤمنين غير الموصوفين بها وهو كماترى تفسير ساقط .
________________________________________
(69)
ذلك المعنى إلاّ بتفسير الولي بالزعيم والمتصرّف في شؤون المولّى عليه، فهؤلاء الثلاثة أولياء وغيرهم مولّى عليهم .
4- فإذا كانت الحال كذلك فلماذا أفرد الولي ولم يجمعه؟ والجواب عنه واضح، وهو أنّه أفرده لإفادة أنّ الولاية للّه على طريق الأصالة وللرسول والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل إنّما أولياؤكم اللّه ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع.
5- إنّ قوله (الّذين يقيمون)) بدل من (الذين آمنوا)) كما أنّ الواو في قوله (وهم راكعون))للحال، وهو حال من قوله (يؤتون الزكاة)) معنى ذلك انّهم يؤتونها حال ركوعهم في الصلاة .
6- إذا كان المراد من قوله: (الّذين آمنوا)) هو الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فلماذا جيىء بلفظ الجماعة؟ والجواب: جيىء بها ليرغّب الناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقّد الفقراء حتّى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخّروا إلى الفراغ منها(1) .
وهناك وجه آخر، وهو أنّه أتى بلفظ الجمع دون المفرد لأجل أنّ شانئي علي وأعداء بني هاشم، وسائر المنافقين من أهل الحسد والحقد، لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد، إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في تمويه، ولا ملتمس في التضليل، فيكون منهم ـ بسبب يأسهم ـ حينئذ ما تُخشى عواقبه على الإسلام، فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتّقاء من معرّتهم، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعدّدة وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجاً تدريجاً
________________________________________
1 . الكشاف 1 / 648 طبع مصر الحلبي .
________________________________________
(70)
حتّى أكمل اللّه الدين وأتمّ النعمة، جرياً منه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم(1) .
وهناك وجه ثالث أشار إليه الشيخ الطبرسي في تفسير الآية، وهو أنّ النكتة في اطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين، تفخيمه و تعظيمه، وذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه (2) .
7- إنّما ذكر من صفات الولي من الذين آمنوا إقامة الصلاة، وايتاء الزكاة، لأنّهما ركنان عظيمان للإسلام ووظيفتان رئيسيتان للقائد، وهو أن يقيم الصلاة (لا أن يصلّي وحده) ويؤتي الزكاة .
وعلى كل تقدير فتقييد الولي من المؤمنين بالاُوصاف الثلاثة، وتقييد إيتاء الزكاة بحال الركوع يجعل الكلّي مخصّصاً في فرد واحد، وهو مثل قولك: «رأيت رجلا سلّم علىّ أمس قبل كل أحد» وهو وإن كان كلّياً قابلاً للانطباق على كثيرين قبل التطبيق، لكنّه بعده ينحصر في فرد .
ثمّ إنّ إمام المشكّكين فخر الدين الرازي استشكل على الاستدلال بالآية بوجوه رديئة ساقطة نذكر بعضها ونترك الباقي صيانة للوقت عن الضياع، ولعلّه لأجل هذه التشكيكات لمّا دنا أجله أملى على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الاصفهاني وصيّة في الحادي والعشرين من محرّم سنة 606، وجاء في الوصيّة قوله: فاعلموا أنّي كنت رجلا محبّاً للعلم، فكنت أكتب في كل شيء شيئاً لا أقف على كمّيته وكيفيته،
________________________________________
1 . المراجعات 146 .
2 . مجمع البيان 2 / 211 .
________________________________________
(71)
سواء أكان حقّاً أو باطلا أو غثّاً أو سميناً...(1).
ألف ـ إنّ المراد من الولي في الآية ليس هو المتصرّف، بل المراد الناصر والمحب، بشهادة ما قبلها وما بعدها، أمّا ما قبل هذه الآية فلأنّه تعالى قال: (يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء)) وليس المراد لاتتّخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرّفين في أرواحكم وأموالكم، لأنّ بطلان هذا كالمعلوم. بل المراد لا تتّخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم، ثمّ لمّا بالغ في النهي عن ذلك قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذوُا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَ الكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ))ـ المائدة/57ـ(2).
حاصل التشكيك هو أنّ الولي في الآية المتقدّمة والمتأخّرة بمعنى المحب والناصر فلو فسّرت في الآية بالمتصرّف يلزم التفكيك .
والجواب أنّ الولي في الآية المتقدّمة عليها والمتأخّرة عنها، وفي نفسها بمعنى واحد ليس له في جميع المقامات إلاّ معنى واحد وهو الأولى، غير أنّه يختلف متعلّق الولاية جوهراً أوّلا وسعة وضيقاً ثانياً، حسب اختلاف موصوفها ومن قامت به الولاية. فلو كان الولي هو اللّه والرسول فيكون متعلّق الولاية هو النفس والنفيس، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكيف بأموالهم، فهما أولى بالتصرّف في كل مايمت إلى المؤمنين .
ولو كان الولي من الأب والجد، يكون المتعلّق شؤون الصغير ومصالحه ،
________________________________________
1 . دائرة المعارف لفريد وجدي 4 / 148 .
2 . مفاتيح الغيب 12 / 28 .
________________________________________
(72)
من حفظ نفسه وعرضه وماله. فيكون أولى بالتصرّف من الصغير في أمواله وشؤونه، ومنها تزويجه بالغير .
ولو كان الموصوف رئيس القبيلة، حيث كان الرائج في عهد الجاهلية، عقد ولاء الدفاع بين القبيلتين، فيكون هو أولى بالدفاع عن المنتمي في النوائب والنوازل، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة حسب الموصوف.
وبذلك يظهر أنّ المراد من الأولياء في قوله (لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء)) هو الأولى لما ستعرف من أنّها نزلت في حق (عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبىّ) واليهود، وكان بينهما وبين اليهود عقد ولاء الدفاع فكان كل من الطرفين وليّاً للآخر، أي أولى بالدفاع والذب عن المولى عليه من غيره.
قال المفسّرون: نزلت في حق عبادة بن الصامت وعبداللّه بن اُبي بعد غزوة بدر، حيث لمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: آمنوا قبل أن يُصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن ضيف (اليهودي): أغرّكم أن اصبتم رهطاً من قريش لاعلم لهم بالقتال، أما لو أمرونا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يدان لقتالنا، فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه إنّ لي أولياء من اليهود، كثير عددهم قويّة أنفسهم، شديدة شوكتهم، وانّي أبرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلاّ اللّه ورسوله. فقال عبداللّه بن اُبي: لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود، لأنّي أخاف الدوائر فلابد لي منهم. فقال رسول اللّه: «يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه» قال: اذن اقبل، وأنزل اللّه الآية(1) .
فقد اتّخذ الرجلان اليهود أولياء ليتفرّع عليه النصرة والذبّ كما أنّه سبحانه
________________________________________
1 . مجمع البيان 2 / 206 وغيره .
________________________________________
(73)
جعل الأب والجد أولياء ليتفرّع عليه حفظ شؤون المولى عليه، وعلى ضوء ذلك فالولي في جميع المقامات بمعنى واحد، والاختلاف انّما هو فيما يتفرّع على الولاية، لا أنّه تارة بمعنى الأولى وثانياً بمعنى الناصر وثالثاً بمعنى المحب .
ب ـ والّذي يرشدك على أنّ الولي في قوله سبحانه: (يا أيّها الّذين آمنوا لا تتَّخذوا اليهود والنصارى أولياء)) ليس بمعنى الحب والمحبّة كما احتمله الرازي، انّه ورد نظير هذا النص في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَ إِخْوَانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَ مَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَاُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))(1) وليس الولي بمعنى المحبوب. وذلك لأنّ حب الآباء والاخوان أمر فطري، فطرالناس عليه من غير فرق بين الكافر والمسلم، ولو كان المراد من التولّي هو الحب يلزم النهي عن أمر جبلّيّ ولأجل ذلك لا محيص عن تفسيره باتخاذهم أولياء على غرار اتخاذ الرسول والإمام أولياء، بأن تكون ولايتهم على أعناق المؤمنين، كما أنّه ليس أيضاً بمعنى النصرة لجواز طلب النصرة من الكافر وهذا هو القرآن يجعل شيئاً من الزكاة للمؤلّفة قلوبهم .
ج - إنّ قوله (ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم)) يحكي عن أنّ التولّي على وجه يلحق المتولّي باليهود والنصارى، وهو لا ينطبق على مجرّد الحب وطلب النصرة والحبّ لا لأجل كونهم كافرين، بل لأسباب اُخرى من حسن الجوار وغيره .
د ـ إنّه سبحانه يندّد ببعض المؤمنين بقوله: (يا أيّها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه...)وهذا يعرب عن أنّ التولّي كان على وجه ينتهي إلى ارتداد المتولّي .
________________________________________
1 . التوبة / 23 .
________________________________________
(74)
أفبعد هذه القرائن يصحّ للرازي أن يفسّر التولّي في هذه الآيات بالحب والنصرة. على أنّ تفسير ولاية اللّه والرسول بالحبّ والنصرة تفسير بأمر واضح لا يحتاج إلى زيادة تأكيد .
هذه هي الشبهة المهمّة في كلامه، وأمّا باقي الشبهات، فليس بشيء ذي بال.
مثلا يقول: لو نزلت الآية في حق علي، يجب أن يكون نافذ التصرّف حال حياة الرسول، والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنين موصوفين بالولاية في الحال(1).
والجواب: انّ هذا المقام كان ثابتاً لعلي كثبوته للّه سبحانه والرسول، غير أنّه لا يقوم بتطبيقه على صعيد الحياة إلاّ عند الحاجة، وهو عند ارتحال الرسول ومفارقته الاُمّة، وهذا هو المفهوم من تعيين ولي العهد عند الاُمم .
وأنت إذا قارنت الآية وما ورد حولها من شأن النزول، وما نزل في حق علي من الآيات التي تعرّف طهارته من الذنب(2)، وكون حبّهم ومودّتهم أجراً للرسالة(3)، وانّه نفس النبي الأكرم(4)، انّ بيته من أفضل البيوت الّتي قال في حقّها سبحانه: (فِي بُيُوت أِذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ) ـ النور / 36 ـ (5) لوقفت على أنّ الذكر الحكيم يواكب السنّة في تعيين مصير الاُمّة الإسلامية في مجال القيادة
________________________________________
1 . مفاتيح الغيب 12 / 28 .
2 . اشارة إلى نزول قوله سبحانه: (إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) في حق علي وأهل بيته ـ الأحزاب / 33 ـ .
3 . اشارة إلى قوله سبحانه: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة فى القربى) ـ الشورى / 23 ـ .
4 . إشارة إلى قوله سبحانه في أمر المباهلة مع نصارى نجران: (فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) ـ آل عمران / 61 ـ .
5 . إشارة إلى ما رواه السيوطي في الدر المنثور من قول أبي بكر للنبىّ بعد نزول الآية: قال يا رسول اللّه أهذا البيت منها ـ أي بيت علي وفاطمة ـ؟ قال: هم من أفاضلها 5 / 50 .
________________________________________
(75)
والخلافة وأنّه سبحانه ألقى مقاليد الزعامة إلى الإمام أميرالمؤمنين، وبذلك أخرج الاُمّة من التنازع والاحتكاك بعد الرسول الأعظم .
ونحن نكتفي من البرهنة على خلافة الإمام بهذه الآية، وهناك آيات استدلّ بها الأصحاب على ولاية الإمام، ونفي ولاية الغير، أوضحنا مداليلها في مؤلفاتنا الكلامية، فمن أراد فليرجع(1) .
________________________________________
1 . الإلهيات 2 / 618 ـ 632 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية