الشيعة في العصرين الأموي والعباسي

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج6 ، ص 217 ـ  242
________________________________________
(217)
الفصل التاسع
الشيعة في العصرين الأموي والعباسي

________________________________________
(218)
________________________________________
(219)
لبّى الامام دعوة ربّه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان على يد أشقى الأوّلين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، وهو يصلّي في محراب عبادته، فلمّا بلغ عائشة قتل علي، فرحت وقالت:
فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالاباب المسافر
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجلٌ من مراد، فقالت :
فان يك نائيا فلقد نعاه نعي ليس في فيه التراب
فقالت زينب بنت أبي سلمة: أتقولين هذا لعلي؟ فقالت: إنّي أنسى، فإذا نسيت فذكّروني...!!(1) .
ولمّا بلغ خبر قتله إلى معاوية قال: إنّ الأسد الّذي كان يفترش ذراعيه في الحرب قد قضى نحبه. ثمّ أنشد:
قل للأرانب ترعى أينما سرحت وللظبأ بلا خوف ولا وجل(2)
فلمّا مات الامام، خطب الحسن في مسجد الكوفة، وقال: «ألا انّه قد مضى، في هذه الليلة، رجل لم يدركه الأوّلون، ولن ير مثله الآخرون. من كان يقاتل
________________________________________
1 . الكامل لابن الاثير 3 / 394 طبع دار صادر .
2 . ناسخ التواريخ، القسم المختص بحياة الامام 692 .
________________________________________
(220)
وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله. واللّه لقد توفي في هذه الليلة الّتي قبض فيها موسى بن عمران، ورفع فيها عيسى بن مريم واُنزل القرآن. الا وانّه ما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله»(1) .
ثمّ بويع الحسن في نهاية خطبته، وأوّل من بايعه قيس بن سعد الأنصاري، ثمّ تتابع الناس على بيعته وكان أميرالمؤمنين بايعه أربعون ألفاً من عسكره على الموت. فبينما هو يتجهّز للمسير قُتل ـ عليه السلام ـ . وبايع هؤلاء ولده الحسن، فلمّا بلغهم مسير معاوية في أهل الشام إليه، تجهّز هو والجيش الذين كانوا قد بايعوا عليّاً. وسار عن الكوفة إلى لقاء معاوية(2) .
وهل وفى هؤلاء للحسن ـ عليه السلام ـ وكانوا صادقين في بيعتهم؟ كلاّ بل خانوه كما خانوا أباه فلم ير الامام بدّاً عن التصالح، لأجل تخاذل أهل العراق أولا وكون الشيوخ الذين بايعوا عليّاً والتفّوا حوله كانوا من عبدة الغنائم والمناصب، ولم يكن لهؤلاء نصيب في خلافة الحسن إلاّ ما كان لهم عند أبيه من قبل ثانياً. وانّ عدداً غير قليل ممّن بايع الحسن كانوا من المنافقين، يراسلون معاوية بالسمع والطاعة ثالثاً، وانّ لفيفاً من جيشه كانوا من الخوارج أو أبنائهم رابعاً، إلى غير ذلك من الأسباب الّتي دفعت الامام إلى قبول الصلح مع معاوية، تحت شروط خاصة تضمن لشيعة علىّ الأمن والأمان ولكنّه بعد ما وافق معاوية على الصلح ووقّع عليه، قام وخطب: إنّي واللّه ما قاتلتكم لنصّلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، وانّكم لتفعلون ذلك ولكن قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وأنّي قد كنت منيت الحسن أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء
________________________________________
1 . تاريخ اليعقوبي 2 / 213 .
2 . الكامل 3 / 404 طبع دار صادر .
________________________________________
(221)
منها له(1) .
فعند ذلك فسح المجال لمعاوية في قتل الشيعة واستئصالهم، تحت كل حجر ومدر. وجاءت المجازر تترى بعد معاوية إلى آخر عهد الدولة الأموية، فلم يكن للشيعة في تلك الأيام نصيب سوى القتل والنفي والحرمان. وهذا هو الّذي نستعرضه في هذا الفصل على وجه الاجمال، حتّى يقف القارئ على أنّ بقاء التشيّع في هذه العصور المظلمة، كان معجزة من معاجز اللّه سبحانه كما يقف على أنّ الصمود والكفاح والرد على الظلمة وأعوانهم، كان شعار الشيعة منذ عصر الامام إلى يومنا هذا. وإليك بعض الوثائق من جرائم معاوية :
1- رسالة الامام الحسين إلى معاوية:
«أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها، وأنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدّد إليها إلاّ اللّه تعالى، وأمّا ما ذكرت أنّه رمي إليك عنّي، فإنّما رقّاه الملاّقون المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردن حرباً ولا خلافاً وانّي لأخشى اللّه في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة جرأة على اللّه واستخفافاً بعهده. أولست بقاتل عمرو بن الحمق الّذي اخلقت وأبلت وجهه العبادة؟ فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من سقف الجبل .
________________________________________
1 . الارشاد للشيخ المفيد 191 .
________________________________________
(222)
أو لست المدعي زياداً في الإسلام فزعمت أنّه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ انّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل؟
سبحان اللّه يا معاوية! لكأنّك لست من هذه الاُمّة، وليسوا منك، أو لست قاتل الحضرمي الّذي كتب إليك في حقه زياد أنّه على دين علي كرم اللّه وجهه، ودين علي هو دين ابن عمّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الّذي أجلسك مجلسك الّذي أنت فيه، ولو لا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها اللّه عنكم بنا منَّةً عليكم، وقلت فيما قلت: لا تردن هذه الاُمّة في فتنة وانّي لا أعلم لها فتنة أعظم من امارتك عليها، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولاُمّة محمّد. وانّي واللّه ما أعرف فضلا من جهادك، فإن أفعل فإنّه قربة إلى ربّي، وإن لم أفعله فأستغفر اللّه لديني. وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وقلت فيما قلت: متى فكدني أكدك، تكدني يا معاوية ما بدا لك، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون وانّي لأرجو أنّ لا تضر إلاّ نفسك ولا تمحق إلاّ عملك فكدني ما بدالك، واتّق اللّه يا معاوية! واعلم انّ للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، واعلم أنّ اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشرب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام
»(1) .
هذه رسالة أبي الشهداء، الحسين بن علي ـ عليهما السلام ـ ، وتكفيك بياناً
________________________________________
1 . الامامة والسياسة 1 / 164، جمهرة الرسائل 2 / 67 ورواه الكشي في رجاله 48 ـ 51، والمجلسي في البحار 44 / 212 ـ 214 .
________________________________________
(223)
وبلاغاً لما جنت به يدا معاوية وعماله على شيعة أبيه، من فتك وقتل ذريع، للأبرياء وصحابة النبي الأكرم ونردفها بكلام حفيده الامام محمّد الباقر ـ عليه السلام ـ ، قال لبعض أصحابه:
إنّ رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبض وقد أخبر أنّا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا. ثمّ تداولتها قريش، واحد بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود، حتّى قتل، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غدر به وأسلم ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه، ونهب عسكره، وعولجت خلاخيل اُمّهات أولاده فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته، وهم قليل حق قليل. ثمّ بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به، وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم وقتلوه .
ثمّ لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله، ليبغّضونا إلى الناس، وكان عُظم ذلك وكُبره زمن معاوية بعد موت الحسن ـ عليه السلام ـ ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثمّ لم يزل البلاء يشتد و يزداد إلى زمان عبيداللّه بن زياد قاتل الحسين ـ عليه السلام ـ ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتّى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر، أحبّ إليه من أن يقال: شيعة علي، وحتّى صار الرجل الّذي يذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة، من تفضيل
________________________________________
(224)
بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها، ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممّن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع(1) .
ولعلّ في رسالة الامام أبي الشهداء، وما قاله حفيده الامام الباقر ـ عليه السلام ـ غنى وكفاية لمن اراد أن يعرف الأمر عن كثب ويقف على مظالم الامويين في حق شيعة الامام، غير أنّه ايضاحاً لحقيقة نؤكّد ذلك بكلام غيرهما لتتم الحجّة على الجميع .
كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد الكوفة والياً عليها، طلبه وأخافه، فأتى الحسن بن علي مستجيراً به، فوثب زياد عى أخيه وولده وامرأته، فحبسهم وأخذ ماله وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: «من الحسن بن علي إلى زياد، أمّا بعد: فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، فهدمت داره وأخذت ماله، وحبست أهله وعياله، فإذا أتاك كتابي هذا، فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، وشفّعني فيه فقد أجرته» فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة، كتبت إلىّ في فاسق آويتَه إقامة منك على سوء الرأي ورضاً منك بذلك، وأيم اللّه لا تسبقني به، ولو كان بين جلدك ولحمك، وإن نلت بعضك فغير رفيق بك ولا مرع عليك، فإنّ أحبَّ لحم إلىَّ أن آكل منه، اللحم الّذي أنت منه، فسلّمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفّعتك فيه، وإن قتلته لم
________________________________________
1 . شرح نهج البلاغة 11 / 43 ـ 44 .
________________________________________
(225)
أقتله إلاّ لحبّه أباك الفاسق، والسلام(1) .
«كان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصر يحرّضهم على لعن علىّ أو البراءة منه، فملأ منهم المسجد والرحبة، فمن أبي ذلك عرضه على السيف»(2)، وفي المنتظم لابن الجوزي: إنّ زياداً لمّا حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم، وهمّ أن يخرب دورهم ويحرق نخلهم، فجمعهم حتّى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي، وعلم أنّهم سيمتنعون، فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم(3) .
بيان معاوية إلى عماله:
روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدايني في كتاب «الأحداث» قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل ابي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء، في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون عليّاً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي ـ عليه السلام ـ فاستعمل عليها زياد بن سميّة، وضمّ إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيّام علي ـ عليه السلام ـ ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق:
________________________________________
1 . شرح ابن أبي الحديد 16 / 194 .
2 . مروج الذهب 3 / 26 .
3 . المنتظم 5 / 263 طبع بيروت .
________________________________________
(226)
ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبّيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته .
ففعلوا ذلك، حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء القطائع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجيىء أحد مردود من الناس عاملا من عمال معاوية، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفعه. فلبثوا بذلك حينا .
ثمّ كتب إلى عماله: أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله .
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، واُلقي إلى معلّمي الكتاتيب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه .
ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحبّ عليّاً وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه وشفع ذلك بنسخة اُخرى: من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره .
________________________________________
(227)
فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتّى انّ الرجل من شيعة علي ـ عليه السلام ـ ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء والمراؤون، والمستضعفون، الذين يظهرون الخشوع والنسك فيتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا الأموال والضياع والمنازل، حتّى انتقلت تلك الاخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها .
وذكر ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي ـ عليه السلام ـ فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض .
ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ـ عليه السلام ـ ، وولّي عبدالملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدّعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي ـ عليه السلام ـ وعيبه، والطعن فيه، والشنان له حتّى أنّ انساناً وقف للحجّاج ـ ويقال أنّه جدّ الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به: أيّها الأمير أنّ أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وانّي فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج .
فتضاحك له الحجّاج، وقال: للطف ما توسّلت به، قد ولّيتك موضع كذا.
وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر، وقال: إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في
________________________________________
(228)
فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني اُميّة تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به اُنوف بني هاشم(1) .
فمن أراد أن يقف على الضغط الشديد الّذي تعرض له الشيعة في عصر الامويّين فليقرأ حياة الصحابة والتابعين الذين قُتلوا بسيف عمّال معاوية وآل مروان، وهؤلاء الأبطال:
1- حجر بن عدي الّذي قبض عليه زياد بعد هلاك المغيرة سنة (51) وبعثه مع أصحابه إلى الشام بشهادة مزوّرة، وانّه يجتمع عليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه .
يقول المسعودي:
«في سنة ثلاث وخمسين قتل معاوية حجر بن عدي الكندي ـ وهو أول من قتل صبراً في الإسلام ـ وحمله زياد من الكوفة ومعه تسعة نفر من أصحابه من أهل الكوفة وأربعة من غيرها فلمّا صار على أميال من الكوفة يراد به دمشق أنشأت ابنته تقول ـ ولا عقب له من غيرها ـ :
ترفَّع أيّها القمر المنير * لعلّك ان ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب * ليقتله كذا زعم الأمير
ويصلبه على بابي دمشق * وتأكل من محاسنه النسور

فقتله مع أصحابه في مرج العذراء(2) .
2- عمرو بن الحمق ذلك الصحابي العظيم الّذي وصفه الامام الحسين سيّد
________________________________________
1 . شرح نهج البلاغة 11 / 44 ـ 46 .
2 . مروج الذهب 3 / 3 ـ 4، سير أعلام النبلاء 3 / 462 ـ 466 برقم 95 .
________________________________________
(229)
الشهداء بأنّه: أبلت وجهه العبادة. قتله بعد ما أعطاه الأمان(1) .
3- مالك الأشتر ملك العرب، أحد الأشراف والأبطال كان شهماً مطاعاً وكان قائد القوات العلوية قتله بالسم في مسيره إلى مصر بيد أحد عمّاله(2) .
4- رشيد الهجري كان من تلاميذ الامام وخواصّه عرض عليه زياد البراءة واللعن فأبى، فقطع يديه ورجليه ولسانه، وصلبه خنقاً في عنقه(3) .
5- جويرية بن مهر العبدي أخذه زياد وقطع يديه ورجليه وصلبه على جذع نخلة(4) .
6- قنبر مولى أميرالمؤمنين إذ قال الحجّاج لبعض جلاوزته: اُحبّ أن اُصيب رجلا من أصحاب أبي تراب، فقالوا: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من مولاه قنبر، فبعث في طلبه، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال له: إبرأ من دين علي، فقال له: هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟
قال: إنّي قاتلك فاختر أىّ قتلة أحبّ إليك، قال: أخبرني أميرالمؤمنين: انّ ميتتي تكون ذبحاً بغير حقّ. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة(5) .
7- كميل وهو من خيار الشيعة وخاصّة أميرالمؤمنين طلبه الحجّاج فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم فلمّا رأى كميل ذلك قال: أنا شيخ كبير وقد نفد عمري ولا ينبغي أن أكون سبباً في حرمان قومي، فاستسلم للحجّاج، فلمّا رآه قال له: كنت اُحبُّ أن أجد عليك سبيلا، فقال له كميل: لا تبرق ولا ترعد، فواللّه ما بقي من عمري
________________________________________
1 . سير أعلام النبلاء 4 / 34 ـ 35 برقم 6 .
2 . شذرات الذهب 1 / 91 .
3 . شرح نهج البلاغة 2 / 294 ـ 295 .
4 . شرح نهج البلاغة 2 / 290 ـ 291 .
5 . رجال الكشي 68 ـ 69 برقم 21، الشيعة والحاكمون 95 .
________________________________________
(230)
إلاّ مثل الغبار، فاقض فإنّ الموعد اللّه عزّوجلّ، وبعد القتل الحساب. وقد أخبرني أميرالمؤمنين انّك قاتلي، فقال الحجّاج: الحجّة عليك إذن، فقال: ذلك إن كان القضاء لك، قال: بلى، اضربوا عنقه(1) .
8- سعيد بن جبير التابعي المعروف بالعفّة والزهد والعبادة وكان يصلّي خلف الامام زين العابدين فلمّا رآه الحجّاج قال له: أنت شقي بن كسير، فقال: اُمّي أعرف بإسمي منك، ثم بعد رد وبدل أمر الحجّاج بقتله، فقال سعيد: وجّهت وجهي للّذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فقال الحجاج: شدّوه إلى غير القبلة، فقال: أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه، فقال: كبوه على وجهه، قال: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اُخرى، ثم ضربت عنقه(2) .
وسيوافيك ما جرى على زيد بن علي من الصلب أيّام خلافة هشام بن عبدالملك عام (122) عند الكلام عن فرق الزيدية فتربّص حتّى حين .
هذه صورة مصغّرة من جنايات البيت الأموي وقد جئنا بها كنموذج يوقفك على كثير وذكرناه لتقف على انّ بقاء التشيّع مع هذه المجازر أشبه بالمعجزة .
الشيعة في خلافة العباسيّين :
دار الزمان على بني اُميّة، وقامت ثورات عنيفة ضدّهم، أثناء خلافتهم إلى أن قضت على آخر ملوكهم (مروان الحمار) (فَقُطِعَ دابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُللّهِ رَبِّ العالَمِينَ))(3) وولي الأمر العباسيون، وكان الأمر في القتل
________________________________________
1 . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 149، الشيعة والحاكمون 96 .
2 . سير أعلام النبلاء 4 / 321 - 328، الجرح والتعديل 4 / 9 برقم 29 .
3 . الأنعام / 45 .
________________________________________
(231)
والتشريد والسفك والحبس في عهدهم نفس ما كان في عهد الامويين بل أسوأ بكثير. قال الشاعر:
واللّه ما فعلت اُميّة فيهم * معشار ما فعلت بنو العباس
1- وأوّل من تولّى منهم أبو العباس السفّاح بويع سنة (132) ومات سنة (136)، قضى وقته في تتبّع الامويّين والقضاء عليهم، وهو وإن لم يتعرّض للعلوّيين، لكنّه تنكّر لهم وشيعتهم ويوعز إلى الشعراء أن يتعرّضوا لأولاد علي ويمحوا عنهم حقّ الخلافة. هذا محمّد أحمد براق يقول في كتابه «أبو العباس السفاح»: «إنّ أصل الدعوة كان لآل علي، لأنّ أهل خراسان كان هواهم في آل علي لا آل العباس، لذلك كان السفّاح، ومن جاء بعده مفتّحة عيونهم لأهل خراسان حتّى لا يتفشّى فيهم التشيّع لآل علي: ... وكانوا يستجلبون الشعراء ليمدحوهم، فيقدّمون لهم الجوائز، وكان الشعراء يعرضون بأبناء علي و ينفون عنهم حقّ الخلافة، لأنّهم ينتسبون إلى النبىّ عن طريق ابنته فاطمة، أمّا بنو العباس فإنّهم أبناء عمومة»(1) .
2- ثمّ جاء بعده أبو جعفر المنصور، وقد شيّد مجد الاُسرة العباسيّة، وكانت خلافته مزيجاً من الخير والشرّ وصار في اُخريات أيّامه شرّاً كلّه، ويكفي للإلمام بجرائمه وقسوته ما كتبه ابن عبد ربّه في العقد الفريد قال: إنّ المنصور كان يجلس ويجلس إلى جانبه واعظاً، ثمّ تأتي الجلاوزة في أيديهم السيوف يضربون أعناق الناس، فإذا جرت الدماء حتّى تصل إلى ثيابه، يلتفت إلى الواعظ ويقول: عظني! فإذا ذكّره الواعظ باللّه، أطرق المنصور كالمنكسر، ثمّ يعود الجلاوزة إلى ضرب الأعناق، فإذا ما أصابت الدماء ثياب المنصور ثانياً، قال لواعظه:
________________________________________
1 . أبو العباس السفاح 48، كما في الشيعة والحاكمون 139 .
________________________________________
(232)
عظني!!(1) .
فماذا يريد المنصور من قوله للواعظ، وهل يريد الاستهزاء بالدين الّذي نهى عن قتل النفس وسفك الدماء أو يريد شيئاً آخر واللّه العالم.
وأمّا ما جرى منه على العلويّين، فنذكر ما يلي حتّى يكون كنموذج لأعماله: يقول المسعودي: جمع المنصور أبناء الحسن، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وحملهم في محامل مشكوفة وبغير وطاء تماماً كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين، ثمّ أودعهم مكاناً تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار واُشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزَّأوا القرآن خسمة أجزاء، فكانوا يصلّون على فراغ كل واحد من حزبه، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدّت عليهم الرائحة، وتورّمت أجسادهم ولا يزال الورم يصعد من القدم حتّى يبلغ الفؤاد، فيموت صاحبه مرضاً وعطشاً وجوعا(2) .
وقال ابن الأثير: دعا المنصور محمّد بن عبداللّه العثماني، وكان أخاً لأبناء الحسن من اُمّهم، فأمر بشقّ ثيابه، حتّى بانت عورته، ثم ضرب مائة وخسمون سوطاً، فأصاب سوط منها وجهه فقال: ويحك اكفف عن وجهي، فقال المنصور للجلاّد: الرأس الرأس، فضربه على رأسه ثلاثين سوطاً، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه، ثم قتله ـ ثم ذكر ـ وأحضر المنصور محمّد بن إبراهيم بن الحسن، وكان أحسن الناس صورة، فقال له: أنت الديباج الأصفر، لاُقتلنّك قتلة لم أقتلها أحداً، ثمّ أمر به، فبنى عليه اسطوانة، وهو حي، فمات فيها(3) .
________________________________________
1 . العقد الفريد 1 / 41 .
2 . مروج الذهب 3 / 310 طبع 1948 .
3 . الكامل 4 / 375 .
________________________________________
(233)
3- ثمّ ولي بعده المهدي ولد المنصور، وبقى في الحكم من سنة (158) إلى سنة (169) وكفى في ظلمه للعلويّين، انّه أخذ علي بن العباس بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فسجنه فدسّ إليه السّم فتفسّخ لحمه وتباينت أعضاؤه .
4- ولمّا توفّي المهدي بويع ولده الهادي، وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر، وكفى في ظلمه - بالرغم من قصر أيّامه ـ ما يذكره أبو الفرج الأصفهاني: انّ اُمّ الحسين صاحب فخ هي زينب بنت عبداللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قتل المنصور اباها واخوتها وعمومتها وزوجها علي بن الحسن، ثم قتل الهادي حفيد المنصور، ابنها الحسين، وكانت تلبس المسوح على جسدها، لا تجعل بينها وبينه شيئاً حتّى لحقت باللّه عزّوجلّ(1) .
5- ثم تولّى بعده الرشيد سنة (170) ومات (193) ونذكر من جرائمه شيئاً واحداً، ما نقله صاحب مقاتل الطالبيين عن إبراهيم بن رباح، قال: إنّ الرشيد حين ظفر بيحيى بن عبداللّه بن الحسن، بنى عليه اسطوانة وهو حي، وكان هذا العمل الاجرامي موروثاً من جدّه المنصور (2) الكاظم فنذكره في الفصل الحادي عشر عند ذكر أئمّة الشيعة .
6- ثمّ جاء بعده ابنه الأمين، فكان على الحكم أربع سنين وأشهرا، يقول أبو الفرج: كانت سيرة الأمين في أمر آل أبي طالب خلاف من تقدّم لتشاغله بما كان فيه من اللهو ثمّ الحرب بينه وبين المأمون، حتّى قتل فلم يحدث على أحد منهم في أيّامه حدث .
7- وتولّى الحكم بعده المأمون، فقد كان من أقوى الحكّام العباسيّين بعد
________________________________________
1 . مقاتل الطالبيين 285 طبع النجف .
2 . مقاتل الطالبيين 320 طبع النجف، وروى في مقتله أمراً آخر .
________________________________________
(234)
أبيه الرشيد. فلمّا رأى المأمون إقبال الناس على العلويّين وعلى رأسهم الإمام الرضا، ألقى عليه القبض بحيلة الدعوة إلى بلاطه، ثم دسّ السم للإمام الرضا، وسيوافيك تفصيله .
8- مات المأمون سنة (218) وجاء إلى الحكم ابنه المعتصم فسجن محمّد ابن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب فتغلّب عليه وسجنه ثمّ فرّمن السجن .
9- ولى الحكم بعده الواثق وقد سجن الإمام الجواد بن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ ، ودسّ له السم بيد زوجته الأثيمة اُمّ الفضل بنت المأمون .
10- وولى الحكم بعد الواثق، المتوكّل وإليك نموذجاً من حقده على آل البيت وهو ما ذكره أبو الفرج قال: كان المتوكّل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً في جماعتهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتّفق له أنّ عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزيره يسيىء الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كرب(1) قبر الحسين وعفّى آثاره، ووضع على سائر الطرق، مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلاّ أتوه به وقتله أو أنهكه عقوبة .
وقال: بعث برجل من أصحابه (يقال له «الديزج» وكان يهودياً فأسلم) إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب ما حوله، فمضى ذلك، فخرّب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مأتي جريب، فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدّم إليه أحد فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح، بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلاّ أخذوه ووجّهوا به إليه .
وقال: حدثني محمّد بن الحسين الأشناني: بعد عهدي بالزيارة في تلك
________________________________________
1 . الكرب: إثارة الأرض للزرع .
________________________________________
(235)
الأيّام خوفاً، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين، نكمن النهار ونسير الليل حتّى أتينا نواحي الغاضريّة، وخرجنا نصف الليل فصرنا بين مسلحتين، وقد ناموا، حتّى أتينا القبر فخفى علينا فجعلننا نشمّه (نتسمه) ونتحرّى جهته حتّى أتيناه، وقد قلع الصندوق الّذي كان حواليه واُحرق واُجري الماء عليه، فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه... فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع، فلمّا قتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتّى صرنا القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه .
وقال: واستعمل على المدينة ومكّة عمر بن الفرج فمنع آل أبي طالب من التعرّض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم، وكان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء، وإنّ قلّ إلاّ أنهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة، ثمّ يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر إلى أن قتل المتوكّل فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم بمال فرّقه بينهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه(1) .
وولى بعده المنتصر ابنه وظهر منه الميل إلى أهل البيت وخالف أباه ـ كما عرفت ـ فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه فيما بلغنا .
وأوّل ما أحدثه أنّه لمّا ولى الخلافة عزل صالح بن علي عن المدينة، وبعث علي بن الحسين مكانه فقال له ـ عند الموادعة ـ : يا علي: إنّي اُوجّهك إلى لحمي ودمي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملهم ـ يعني آل أبي طالب ـ، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أميرالمؤمنين ـ أيّده اللّه ـ فيهم، إن شاء اللّه. قال: إذاً تسعد
________________________________________
1 . مقاتل الطالبيين 395 ـ 396 .
________________________________________
(236)
بذلك عندي (1) .
وقام بعده المستعين بالأمر، فنقص كلّما غزله المنتصر من البرّ والإحسان، ومن جرائمه انّه قتل يحيى بن عمر بن الحسين، قال أبو الفرج: وكان ـ رضي الله عنه ـ رجلا فارساً شجاعاً شديد البدن، مجتمع القلب، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله، ولمّا اُدخل رأسه إلى بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له، ودخل أبو هاشم على محمّد بن عبداللّه بن طاهر، فقال: أيّها الأمير، قد جئتك مهنّا بما لو كان رسول اللّه حيّاً يعزّى به .
واُدخل الاُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد ولم يكن روي قبل ذلك من الاُسارى لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً، فمن تأخّر ضربت عنقه .
قال أبو الفرج: وما بلغني أنّ أحداً ممّن قتل في الدولة العباسيّة من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر ممّا قيل فيه .
هذا قليل من كثير من المجازر الدامية، الّتي قام بها بنو العباس وأتو بجرائهم لم يسبقهم أحد من الامويين ولا من جاء بعدهم إليها وهم كما قال الشاعر:
تاللّه إن كانت بنو اُميّة قد أتت * قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثلها * هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا * في قتله فتتّبعوه رميما

ومن أراد أن يقف على سجلّ جرائم الدولتين (الاموية والعباسية) وملف مظالمهم فعليه قراءة القصائد الثلاث الّتي نظمها رجال مؤمنون مخلصون، عرضوا أنفسهم للمخاوف والأخطار طلباً لرضى الحقّ:
________________________________________
1 . مقاتل الطالبيين 636 .
________________________________________
(237)
1- تائية دعبل الخزاعي الشهيد عام 246 هـ ، فإنّها وثيقة تأريخية خالدة تعرب عن سياسة الدولتين تجاه أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، وقد أنشدها الشاعر للإمام الرضا، فبكى وبكت معه النسوة.
أخرج الحموي عن أحمد بن زياد عن دعبل الخزاعي قال: أنشدت قصيدة لمولاي علي الرضا ـ رضي الله عنه ـ :
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
قال دعبل: ثمّ قرأت باقي القصيدة، فلمّا انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة واقع * يقوم على اسم اللّه والبركات

بكى الرضا بكاءً شديداً. ومن هذه القصيدة قوله:
هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه * ما حكمه بالزور والشبهات
تراث بلا قربى وملك بلا هدى * وحكم بلا شورى بغير هدات

وفيه أيضاً قوله:
لآل الرسول بالخيف من منى * وبالبيت والتعريف والجمرات
ديار علي والحسين وجعفر * وحمزة والسجّاد ذي الثفنات
ديار عفاها جور كل منابذ * ولم تعف للايّام والسنوات
ودار لعبداللّه والفضل صنوه * سليل رسول اللّه ذي الدعوات
منازل كانت للصلاة وللتقى * وللصوم والتطهير والحسنات
منازل وحي اللّه معدن علمه * سبيل رشاد واضح الطرقات
منازل وحي اللّه ينزل حولها * على أحمد الروحات والغدوات

إلى أن قال:
ديار رسول اللّه أصبحن بلقعا * ودار زياد أصبحت عمرات
________________________________________
(238)
وآل رسول اللّه غُلَّتْ رقابهم * وآل زياد غُلّظِ القصرات
وآل رسول اللّه تُدْمى نحورهم * وآل زياد زيّنوا الحجلات

وفيها أيضاً:
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلا * وقد مات عطشاناً بشطّ فرات
إذاً للطمت الخد فاطم عنده * وأجريت دمع العين في الوجنات
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي * نجوم سماوات بأرض فلات(1)

2- ميميّة الأمير أبي فراس الحمداني (320 ـ 357 هـ)، هذه القصيدة تعرف بالشافية وهي من القصائد الخالدة، وعليها مسحة البلاغة، ورونق الجزالة، وجودة السرد، وقوّة الحجّة، وفخامة المعنى، أنشدها ناظمها لمّأ وقف على قصيدة ابن سكره العباسي الّتي مستهلّها:
بني علي دعوا مقالتكم * لا ينقض الدر وضع من وضعه
فقال الأمير في جوابه ميميّته المعروفة وهي:
الحق مهتضم والدين مخترم * وفيء آل رسول اللّه مقتسم
إلى أن قال:
يا للرجال أما للّه منتصر * من الطغاة؟ أما للّه منتقم؟
بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم!(2)

3- جيميّة ابن الرومي الّتي رثى بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد، وهي:
________________________________________
1 . لاحظ للوقوف على هذه القصيدة: المناقب لابن شهر آشوب 2 / 394، وروضة الواعظين للفتال النيسابوري 194، وكشف الغمة للاربلي 3 / 112 ـ 117، وقد ذكرها أكثر المؤرخين .
2 . نقلها في الغدير برمتها وأخرج مصادرها، لاحظ 3 / 399 ـ 402 .
________________________________________
(239)
أمامك فانظر أىّ نهجيك تنهج * طريقان شتّى مستقيم وأعوج
ألا أىّ هذا الناس طال ضريركم * بآل رسول اللّه فاخشوا أو ارتجوا
أكلّ أوان للنبي محمّد * قتيل زكىّ بالدماء مضرّج(1)

«واللّه لا يعرف التاريخ اُسرة كاُسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة، وطيب النجار، ضلّ عنها حقّها، وجاهدت في سبيل اللّه حقَّ الجهاد من الاعصار، ثم لم تظفر من جهادها المرير إلاّ بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلاّ العبرات، على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى، راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم، وصافحوا الموت في بسالة فائقة وتلقّوه في صبر جميل يثير في النفس الاعجاب والاكبار ويشيع فيها ألوان التقدير والاعظام .
وقد أسرف خصوم هذه الاُسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال، وصبّوا عليها صنوف العذاب، ولم يرقبوا فيها إلاّ ولا ذمّة ولم يرعوا لها حقّاً ولا حرمة وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال، والرجال جميعاً في عنف لا يشوبه لين، وقسوة لا تمازجها رحمة، حتّى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال، في فظاعة النكال، وقد فجرت هذه القسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودّة في قلوب الناس وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم، وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثاً يروى وخبراً يتناقل، وقصصاً يقص، يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلبوه وحرصوا عليه
»(2) .
كانت الشيعة حليف الضغط والكبت، لم ير الامويّون والعباسيّون ولا الملوك
________________________________________
1 . مقاتل الطالبيين 639 ـ 646 .
2 . مقدمة مقاتل الطالبيين، بقلم السيد أحمد صفر: الصفحة ى ـ ك، طبع دار المعرفة .
________________________________________
(240)
الغزانوة ولا السلاجقة ولا من أتى بعدهم أي حرمة لنفوسهم واعراضهم وعلومهم ومكتباتهم، وكانت اليهود والنصارى أحراراً في الرقعة الإسلامية وكانت الشيعة تعيش في التقيّة ولا يتوجّه أي ذنب على الشيعة في أن يتقي أخاه المسلم، ويظهر له خلاف ما يعتقده. إنّما التقصير على من حملهم على التقيّة، وأباح دمهم وعرضهم وأموالهم فلم ير بدّا، لصيانة نفسه ونفيسه من التقيّة .
هذا هو طغرل بيك أوّل ملك من السلاجقة ورد بغداد سنة 447 وشنّ على الشيعة حملة شعواء وأمر بإحراق مكتبة الشيعة الّتي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير، وزير بهاء الدولة البويهي وكانت من دور العلم المهمّة في بغداد بناها هذا الوزير الجليل في محلّة بين السورين في الكرخ سنة 381 على مثال بيت الحكمة الّذي بناه هارون الرشيد، وكانت مهمّة للغاية وقد جمع فيه هذا الوزير ما تفرّق من كتب فارس والعراق واستكتب تآليف اهل الهند والصين والروم، كما قاله محمد كرد علي، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار ومهام الأسفار، وأكثرها نسخ الأصل بخطوط المؤلّفين(1) .
قال ياقوت الحموي: وبها كانت خزانة الكتب الّتي أوقفها الوزير أبونصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة واُصولهم المحرّرة(2) .
وكان من جملتها مصاحف بخطّ ابن مقلة على ما ذكره ابن الأثير(3) .
وحيث كان الوزير سابور من أهل الفضل والأدب، أخذ العلماء يهدون إليه
________________________________________
1 . خطط الشام 3 / 185 .
2 . معجم البلدان 2 / 342 .
3 . الكامل في التاريخ 10 / 3 .
________________________________________
(241)
مؤلّفاتهم، فأصبحت مكتبته من أغنى دور الكتب ببغداد، وقد احترقت هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محال كرخ عند مجيىء طغرل بيك وتوسّعت الفتنة حتّى اتّجهت إلى شيخ الطائفة وأصحابه فأحرقوا كتبه وكرسيه الّذي كان يجلس عليه للكلام .
وقال ابن الجوزي في حوادث سنة 448:
وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره ثمّ قال في حوادث سنة 449: وفي صفر هذه السنة كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلّم الشيعة في الكرخ، واُخذ ما وجد من دفاتره وكرسي يجلس إليه للكلام، واُخرج إلى الكرخ واُضيف إليه ثلاث سناجيق بيض كان الزوّار من أهل الكرخ قديماً يحملونها معهم إن قصدوا زيارة الكوفة، فاُحرق الجميع(1) .
وأنت إذا سبرت غضون التأريخ المؤلّف في عصور الاموييّن والعباسيّين ومن بعدهم ـ مع أنّه قد لعبت به الهوى ودسّ فيها أشياء وأشياء ـ تقف على أنّ بقاء الشيعة إلى العصر الحاضر من المعاجز والكرامات وخوارق العادات، وكيف وانّ تاريخهم هو الذبح، والقتل، والقمع، والاستئصال، والسحق، وإلابادة، قد تضافرت قوى الكفر والفسق على إهلاكهم وقطع جذورهم ومع ذلك فقد كانت لهم دول ودويلات، ومعاهد وكلّيّات، وبلدان وحضارات، وأعلام ومفاخر وعباقرة وفلاسفة، وفقهاء ومحدّثون ووزراء وسياسيّون، ويشكلون اليوم خمس المسلمين أو ربعهم، إنّ ذلك من فضله سبحانه لتعلّق مشيئته على إبقاء الحقّ
________________________________________
1 . المنتظم 8 / 173 ـ 179، نقلنا ما يتعلّق بمكتبة أبي نصر سابور والشيخ الطوسي عن مقدّمة شيخنا الطهراني على التبيان وذكرنا المصادر الّتي أومأ هو إليها في الهامش، لاحظ الصفحة هـ ـ و ومن المقدمة .
________________________________________
(242)
و إزهاق الباطل في ظل قيام الشيعة طيلة القرون بواجبها وهو الصمود أمام الظلم، والتضحية والتفدية للمبدأ والمذهب وقد قال سبحانه: (إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشرونَ صابِرونَ يَغْلِبُوا مائَتَينِ وإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَائَةٌ يَغْلِبُوا ألْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفروا بَأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(1) .
ولا يفوتنّك انّ ثوراتهم المتعاقبة أدّت إلى تشريدهم وقتلهم والفتك بهم، ولو أنّهم ساوموا السلطة الأموية والعباسية، لكانوا في أعلى المناصب والمدارج، لكن ثوراتهم لم تكن عنصريّة أو قوميّة أو طلباً للرئاسة، بل كانت لإزهاق الباطل ورفع الظلم عن المجتمع، والدعوة إلى اعلاء كلمة اللّه وغير ذلك ممّا هو من وظائف العلماء العارفين .
________________________________________
1 . الأنفال / 65 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية