الاِبهامات حول هذه الفرقة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج7 ، ص 31ـ  41
________________________________________
(31)
الاِبهامات حول هذه الفرقة :
قد عرفت كلمات أصحاب المقالات وكتاب العقائد والظاهر منهم ومن غيرهم افتراض فرقة إسلامية شيعية نجمت بعد وقعة الطف (61 ـ 67هـ) والتفّت عدّة من الشيعة حول محمد ابن الحنفية واتّخذوه قائداً (في حياة الاِمام زين العابدين _ عليه السلام _) وقد لبّى هو وولده أبو هاشم ووصيه، ولم يكن هناك أي اعتراض واستنكار من رجالات البيت الهاشمي فاستتب الاَمر لابن الحنفية وابنه ومن بعده واستفحل أمرهم إلى عصر أبي جعفر المنصور العباسي، وقد كان العباسيون يستمدون شرعية دولتهم وخلافتهم من انتمائهم إلى تلك الفرقة وكانت لهم أُصول عقائد يتميزون بها عن سائر الفرق.
لكن الاِبهامات التي تحدق بهذه الفرقة من جوانب شتى يدفع الاِنسان إلى التأكد الكثير من وجود هذه الفرقة الاِسلامية في الساحة وبروزهم إليها باسم الدين وإليك بيانها:
1 ـ الاختلاف في المسمّى بكيسان :
إنّ الكيسانية منسوبة إلى «كيسان» وقد اختلفوا في المسمّى به إلى أقوال فمن قائل: إنّه اسم محمد ابن الحنفية، إلى آخر: إنّه اسم مولى لعلي، إلى ثالث: إنّه اسم نفس المختار بن أبي عبيدة الثقفي، إلى رابع: إنّه اسم صاحب شرطته المكنى بـ «أبي عمرة» وكان اسمه كيسان (1).
2 ـ الاختلاف فيمن نصب محمداً الحنفية للاِمامة :
إنّ القائد الذي تنتهي إليه تلك الفرقة هو محمد الحنفية، فقد
________________________________________
(1) الاَشعري: مقالات الاِسلاميين: 18، والبغدادي: الفرق بين الفرق: 3و 38، والنوبختي: فرق الشيعة: 22.
________________________________________
(32)
اختلفوا في مرشحه للاِمامة إلى قولين: فمن قائل بأنّ المعيِّن، هو الاِمام علي، إلى آخر أنّه الاِمام الحسين وهو الذي نصبه للخلافة.
3 ـ الاختلاف في مبدأ قيادته :
كما اختلفوا في الموصي والمعيّن، اختلفوا في مبدأ قيادته، فمن قائل بأنّه الاِمام المنصوب من جانب الاِمام علي وهو الاِمام بعد رحيل والده دون أخويه، إلى آخر بأنّه الاِمام بعد استشهاد الحسين _ عليه السلام _ .
4 ـ الاختلاف في كونه حياً أو ميتاً :
اختلفوا في كونه حياً أو ميتاً، فقد نسب إلى جماعة أنّهم قالوا بكونه المهدي المنتظر وأنّه حي بجبال رضوى، يصونه الاَسد والنمر، معه العسل والماء، وفي مقابلهم من قال بموته، وأنّ الاِمامة انتقلت إلى فرد آخر.
5 ـ اختلافهم في كونه حيّاً كرامة أو عقوبة :
اختلف القائلون بكونه حياً، فهل هو حي كرامة، بشهادة أنّه يصان بالاَسد والنمر عن اليمين والشمال ويأتيه رزقه غدواً وعشياً إلى وقت خروجه كما قال به كثير الشاعر، أو أنّه حي عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.
6 ـ الاختلاف في الاِمام بعد أبي هاشم :
توفي محمد الحنفية عام ثمانين أو واحد وثمانين وتوفي ابنه أبو هاشم «عبد اللّه ابن محمد الحنفية» سنة ثمان أو تسع وتسعين وعرفه ابن شهر آشوب بأنّه كان ثقة جليلاً من علماء التابعين روى عنه الزهري وأثنى عليه وعمرو بن دينار وغيرهما (1)
وقد اختلفت الاَقوال في وصيه إلى قائل بأنّه أوصى إلى الحسن بن علي بن
________________________________________
(1) المامقاني: تنقيح المقال: 2|212 برقم 7042.
________________________________________
(33)
محمد الحنفية، إلى آخر بأنّه أوصى إلى أخيه، علي بن محمد الحنفية، وأنّه أوصى إلى ابنه الحسن، إلى ثالث أنّه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس، إلى رابع بأنّه أوصى إلى بيان بن سمعان، إلى خامس أنّه أوصى إلى عبد اللّه بن عمرو بن حرب.
7 ـ الاختلاف في المعتقد :
إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان: أحدهما: القول بإمامة محمد ابن الحنفية والثانية: القول بأنّه المهدي المنتظر مضافاً إلى القول بالبداء(1).
أقول: إنّ القول بالبداء ليس من عقائد هذه الطائفة وإنّما هو عقيدة إسلامية جاء بها القرآن الكريم ونصت به السنّة النبوية (2)ولو فسرت على وجه صحيح لعلم أنّ المسلمين بأجمعهم متفقون على القول بها.
وإنّما نشأ النزاع من تفسيره على وجه باطل، أعني: الظهور بعد الخفاء على اللّه تعالى، ولا يقول به أحد من المسلمين، وتفسيره الصحيح قائم بكلمتين: إحداهما يرجع إلى مقام الثبوت، والاَُخرى إلى مقام الاِثبات، أمّا الاَُولى، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالاَعمال الصالحة أو الطالحة، كما كان الحال كذلك في قوم يونس، وأمّا الثانية فهي الاِظهار بعد الاِخفاء، وأمّا علمه سبحانه فلا يتغير ولايتبدل وأوضحنا حقيقتها في الجزء السادس من هذه الموسوعة (3).
قد نقل في كتب الملل والنحل أنّهم استدلوا على كون محمد ابن الحنفية إماماً بقول علي _ عليه السلام _ له يوم البصرة وقد أقدم بالراية: «أنت ابني حقاً» !
________________________________________
(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 52.
(2) الاِمام البخاري: الصحيح: 4|208، كتاب الاَنبياء، باب 51 حديث أبرص وأعمى وأقرع.
(3) بحوث في الملل والنحل: 6|304 ـ 327.

________________________________________
(34)
وأنت خبير بأنّ أحقّية البنوّة هو كونه شبيه والده في الشجاعة لا أنّه إمام بعده أو بعد السبطين.
كما نقل أنّهم استدلوا على كونه مهدياً غائباً بقول النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _:«لن تنقضي الاَيام والليالي حتى يبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي».
ولكن الاستدلال في غاية الضعف لاَنّ اسم والد محمد هو علي لا عبد اللّه. نعم كان علي صلوات اللّه عليه عبداً للّه وصفيّاً لا علَمياً.
على أنّه لو صحّ الاستدلال فالنفس الزكية، أعني: محمد بن الحسن بن عبد اللّه بن الحسن المثنى، أولى منه.
واستدلوا أيضاً على أنّ خروج المختار كان بإذنه.
يلاحظ عليه: أنّ الاِذن بالخروج لايدلّ على أنّه ادّعى الاِمامة ودعا الناس إليها، وقد روى الشيخ المفيد أنّه سئل محمد ابن الحنفية عن ظهور المختار وادّعائه أنّ خروجه بأمره فأجاب:
واللّه ما أمرته بذلك لكن لا أُبالي أن يأخذ بثأرنا كل أحد، وما يسوءني أن يكون المختار هو الذي يطلب بدمائنا.
فاعتمد السائلون على ذلك وكانوا كثيرين. وقد رحلوا إليه بهذا المعنى بعينه، فنصروا المختار على الطلب بدم الحسين _ عليه السلام _.
وأخيراً نقول إنّ الاِمامة إمّا بالنصّ أو بالبيعة، فإن كان الاَوّل فأين النصّ؟ وإن كانت بالبيعة فأين بايعه أهل الحل والعقد؟
وتوضيح المقال بذكر أمرين:
الاَوّل: أنّ محمد الحنفية وليد البيت العلوي وربيبه الذي وصفه أمير الموَمنين، بقوله: «إنّ المحامدة تأبى أن يعصى اللّه عزّ وجلّ » قال الراوي، قلت:
________________________________________
(35)
ومن المحامدة؟ قال _ عليه السلام _: «محمد بن جعفر، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أمير الموَمنين ابن الحنفية» (1)وكان أعرف الناس بعظم مقام الاِمامة وخطورتها وأنّها لا تصلح إلاّ لمن ثبت في حقّه النص، من صاحب الرسالة أو من بايعه الناس، أو خصوص أهل الحل والعقد ومع ذلك كيف يلبّي دعوة نفر أو نفرين للقيام بأعباء الاِمامة ولم يكن هناك تنصيص ولا بيعة من وجوه المسلمين ولم يكن الرجل من الانتهازيين أو من أبناء البيت الساقط الذين كانوا يدوسون كل الاَُصول الاِسلامية، للحصول على الغايات ويستهويهم النهمة والشره لاختلاس الاَموال أو حيازة جاه.
ونحن نُجلُّ محمد ابن الحنفية عن الرغبة إلى حيازة المقام الذي لا يصلح إلاّ لمن اجتمع لديه الشرط من التنصيص أوّلاً، أو البيعة ثانياً.
والذي يوَيد ذلك أنّه لم تشاهد منه دعوة إلى نفسه، بإلقاء الخطابة والمحاضرة، أو بعث الرسل إلى الاَطراف والاَكناف، أو تصدي أمر، يعد من شوَون الحكومة، ولو كان كذلك لكان له أنصار وأعوان، ولما ألقى عليه القبض، ابن الزبير لغاية أخذ البيعة والتهديد بالاِحراق عند رفضها. كما أنّه كان يتعاطف مع عبد الملك بن مروان ـ عملاً بواجبه ـ حتى أدركته المنية عام ثمانين أو واحد وثمانين.
الثاني: لو أغمضنا عن ذلك فهل كان هناك جماعة، موَمنون بإمامته وقيادته؟ وأنّ الفراغ الذي حصل، لدى الشيعة بشهادة السبط، مُلىَ ببيعة أهل العراق ولفيف من أهل المدينة ومكة له، أو لا ؟.
والحقّ هو الثاني وأنّ كثير من الشيعة كانوا حيارى في أمر الاِمامة لاَجل الضغط من جانب الحكومة الاَموية إلاّ الاَخصّاء ولكن كانت الشيعة بأجمعهم
________________________________________
(1) المامقاني: تنقيح المقال: 2|57 برقم 10230، نقلاً عن رجال الكشي.
________________________________________
(36)
يتعاطفون مع أهل البيت وعلى مقدمتهم الشخصيتان البارزتان: محمد ابن الحنفية، و علي بن الحسين زين العابدين _ عليه السلام _ من دون أن يتخذ ابن الحنفية إماماً وقدوة للشيعة.
ففي هذه الظروف نهض إنسان غيور، وشجاع مقدام، وسيف بتّار، لاَخذ ثار الاِمام الحسين ألا وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي كان يحب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ منذ نعومة أظفاره إلى أن ألقى حمامه في طريق أخذ ثارهم، ونال أُمنيته باجتثاث جذور أعدائهم، وسفك دمائهم، فأشفى صدور قلوب الموَمنين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت والهاشميون والهاشميات بأجمعهم.
لقد كان الاتصال الوثيق مع أكابر أهل البيت يوم ذاك رصيداً كبيراً للثائر لغاية التفاف شيعة العراق حول المختار ولولا ذلك لما تمكن من إنهاضهم إلى ميادين القتال. وبما أنّ محمد ابن الحنفية ـ رض ـ كان كبير العلويين في السن لم يكن له بد من التعاطف معه وكان له مثل ذلك سيد الساجدين، ولاَجل المواصلة والمكاتبة مع العظيمين جلب اهتمام الشيعة لنفسه، وأقام نهضة كبيرة أخذ بها ثأر الحسين _ عليه السلام _ لا بل كانت ناراً أحرقت أُمنيات بني أُمية وأبادت آثارهم واجتثت جذورهم.
ولما كانت ثورته ثقيلة على مناوئي أهل البيت _ عليهم السلام _ أرادوا إسقاطه من أعين الناس فتحاملوا عليه من جانب العقيدة فرموه باختراع المذهب حتى رموه بادّعاء النبوة ونزول الوحي حتى صاغوا له جملاً مضاهية لجمل الكهنة، ونسبوها إليه (1). ولم يكن لهم غاية إلاّ القضاء على نهضته وثورته.
يقول البغدادي: «فلمّا تمت للمختار ولاية الكوفة والجزيرة والعراقين،
________________________________________
(1) البغدادي: الفرق بين الفرق: 46.
________________________________________
(37)
تكهّن بعد ذلك وسجع كإسجاع الكهنة، وحكي أيضاً أنّه ادّعى نزول الوحي عليه»(1).
لم يكن المترقّب من البيت الاَموي وحماته الذين شربوا كأس المنون بيد الثائر المتفاني في حب أهل البيت، إلاّ رميه بادّعاء النبوة ونزول الوحي، ولنفترض أنّ الثائر الثقفي لم يكن رجلاً دينياً، ولم ينهض بدافع إلهي، وإنّما ثارت ثورته، بدافع نفسي مادي، ولكنه كان رجلاً عملاقاً وسياسياً عبقرياً، قاد أعظم الثورات التي شاهدها التاريخ في ذلك العصر وامتدت سلطته إلى أرمينيا، وهل مثله ـ وهو يحكم باسم الاِسلام والدين، وبتأييد من أئمة أهل البيت _ عليهم السلام _ ـ يدّعي النبوة ونزول الوحي ويتكلم بكلام الكهنة مع أنّ التاريخ ضبط خطبه وكلامه حتى نقلها البغدادي (2)كلا، ولا، وما جاء به البغدادي، ليس إلاّ نسبة مفتعلة.
«من يتحقّق في سيرة المختار وحربه للاَمويين ودكه لجيش قائدهم عبيد اللّه ابن زياد، وفي عدائه للزبيريين ابتداء من انتزاع الحكم منهم في أوّل ثورته حتى قتاله لمصعب الذي سيطر على الحكم بعد المختار، ـ من يتحقّق في هذا ـ يستطع تحليل اتّـهام المختار بالكذب والانحراف واستغلال الاِسلام وقتل الاِمام الحسين _ عليه السلام _ من أجل مصالحه الشخصية، وأن تنسب له أقاويل مضادة للاِسلام. وكيف لايتهم بالاَُمور السالفة وأضرابها وقد أطبقت على عدائه دولتان، دولة ابن الزبير ودولة الاَمويين؟» (3).
وهناك بعض التساوَلات على صعيد البحث نشير إليها:
الاَوّل: روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر _ عليه السلام _ مناشدة محمد ابن الحنفية لعلي بن الحسين في مسألة الوصاية والاِمامة حتى اتفقا
________________________________________
(1)1 ـ البغدادي: الفرق بين الفرق: 45 و 46.
(2)2 ـ البغدادي: الفرق بين الفرق: 45 و 46.
(3) محمود البغدادي: النظرية السياسية: 284.

________________________________________
(38)
على تحكيم الحجر الاَسود وطلب الشهادة منه على أحدهما، فانطلقا حتى أتيا الحجر الاَسود، فقال علي بن الحسين لمحمد ابن الحنفية: «إبدأ أنت فابتهل إلى اللّه عزّ وجلّ وسله أن ينطق لك الحجر ثم سل» فابتهل محمد في الدعاء وسأل اللّه ثم دعا الحجر فلم يجبه، فعند ذلك تقدم علي بن الحسين وقال: «أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الاَنبياء وميثاق الاَوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا مَن الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي _ عليهما السلام _ ؟» فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ثم أنطقه اللّه عزّ وجلّ بلسان عربي مبين فقال: اللّهم إنّ الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي _ عليهما السلام _ هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _
قال فانصرف محمد بن علي وهو يتولّى علي بن الحسين ـ عليهما السلامـ (1).
لكن الاِجابة عن هذا السوَال واضحة، فإنّا لو افترضنا صحة المضمون، واكتفينا في مثل هذه الواقعة الخطيرة بالخبر الواحد، لنا أن نقول بأنّ المناشدة كانت لاَجل إفهام الآخرين بإمامة علي بن الحسين حتى يوجه نظر الجماهير إلى الاِمام الحقيقي.
إنّ محمد ابن الحنفية أجل من أن لا يعرف شروط الاِمامة وإنّها لم تكن متوفرة في حقّه. إذ لو كانت بالنص فلم يكن هناك نصّ عليه، ولو كانت بالمبايعة والتصفيق بالاَيدي فلم تكن هناك مبايعة. ومع ذلك فهل يحتمل أن يشهد له الحجر بالاِمامة.
الثاني: إذا لم تكن هناك دعوة باسم الكيسانية وإنّما خلقها أعداء المختار لاِسقاطه من أعين الناس فبماذا يفسر ما أنشأه الشاعر كُثَيِّـر عزّة.
________________________________________
(1) الكليني: الكافي: 1|348 ح5، كتاب الحجّة.
________________________________________
(39)
ألا إنّ الاَئمة من قريش * ولاة حقّ أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه * هم الاَسباط ليس بهم خفاء (1)
أو ما أنشأه السيد الحميري:
ياشعب رضوى ما لمن بك لا يرى * وبنا إليه من الصبابة أولق
حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المدى * يابن الرسول وأنت حيٌّ ترزق (2)

والاَجابة عن هذا السوَال واضحة لاَنّا أيضاً نرافق القارىَ في حكاية هذه الاَشعار عن ظهور عقيدة خاصة في حقّ محمد ابن الحنفية، ولكنها لم تكن تتجاوز عن حدوث فتنة دينية أثارت شكوكاً تارة وأوهاماً أُخرى على بعض الناس ولم يمض شيء حتى ذهبت أدراج الرياح، ولاتعد مثل ذلك فرقة إسلامية لها دور على بعض الناس على أنّ شعر السيد لا يثبت هذا المطلب لاَنّه يقول: يا ابن الرسول ولم يكن محمد ابن الحنفية ابناً للرسول _ صلى الله عليه وآله وسلم _.
الثالث: روي أنّ السيد الحميري كان كيسانياً وله شعر في هذا المذهب ولكنه رجع إلى الحقّ بفضل الاِمام جعفر الصادق _ عليه السلام _ وقال:
تجعفرتُ باسم اللّه واللّه أكبر * وأيقنتُ أنّ اللّه يعفو ويغفر
ودنتُ بدينٍ غير ما كنتُ دايناً * به ونهاني سيد الناس جعفر
فقلت هب أنّي قد تهوّدتُ برهة * وإلاّ فديني دين من يتنصر
فلست بغال ما حييتُ وراجع * إلى ما عليه كنت أخفي وأُضمر
ولا قائل قولاً لكيسان بعدها * وإن عاب جهال مقالي وأكثروا
ولكنه من قد مضى لسبيله * على أحسن الحالات يقضي ويوَثر (3)
________________________________________
1 ـ المسعودي : مروج الذهب : 78 ـ 79 ، طبعة دار الاندلس .
2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 78 ـ 79 ، طبعة دار الاندلس .
3 ـ السيد المرتضى : الفصول المختارة : 598 .

________________________________________
(40)
إنّ شعره هذا يحكي عن وقوع شبهة لبعض أولياء أهل البيت ـ عليهم السلام ـ فتصوروا المجاز حقيقة، ولكنهم رجعوا إلى شرعة الحقيقة وشربوا من مائها العذب المعين.
وقد اتضح بهذا البحث الضافي على أنّ المذهب الكيساني تحدقه إبهامات وغموض في موَسسه وأتباعه وأهدافه تكاد تدفع الاِنسان إلى أنّه مذهب مختلق من جانب الاَعداء، ملصق بشيعة أهل بيت النبي _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لغاية تشويش أذهان الشيعة أوّلاً وتحطيم سمعة السيف البّتار المختار بن أبي عبيدة ثانياً.
وهناك كلمة تدعم ما ذكرنا بأحسن وجه وهي أنّ الباعث الوحيد لترويج هذا المسلك هو العباسيون في بداية أمرهم لاَنّهم كانوا يستمدون شرعية خلافتهم من هذا الطريق إذ يدعون أنّ أبا هاشم أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.
قال الاَشعري : قالوا إنّ أبا هاشم مات بأرض السراة منصرفاً من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وأوصى محمد بن علي، إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض (1).
فالعباسيون لاَجل إضفاء الشرعية على خلافتهم كانوا يدعمون هذا المذهب ويصوّرونه أمراً واقعياً وصل إليهم من أئمة أهل البيت فمن الحسين ـ عليه السلام ـ إلى أخيه محمد ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس إلى أن وصل إلى المنصور ذلك الحاكم الطاغي قاتل العلويين.
قال ابن خلدون في مقدمته: وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام، أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس، وأوصى
________________________________________
(1) الاشعري : مقالات الاسلاميين : 21 ، وفي النسخة «الشراة».
________________________________________
(41)
محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالاِمام، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد اللّه بن الحارثية الملقب بالسفاح، وأوصى هو إلى أخيه عبد اللّه أبي جعفر الملقب بالمنصور، وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحداً بعد آخر إلى آخرهم، وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس، وكان منهم: أبو مسلم وسليمان بن كثير وأبو سلمة الخلاّل وغيرهم من شيعة العباسية وربما يعضدون ذلك بأنّ حقهم في هذا الاَمر يصل إليهم من العباس، لاَنّه كان حياً وقت الوفاة وهم أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة (1).
والجدير بإلفات نظر القارىَ هو قول ابن خلدون: « وربما يعضدون ذلك بأنّ حقهم في هذا الاَمر يصل إليهم من العباس» فإن ظاهره أنّ العباسيين يعضدون الكيسانية ويروجونها إذ من ذلك الطريق يصلون إلى شرعية حكمهم (2).
وفي الختام نأتي بكلمتين للشيخ المفيد، قال:
1 ـ أنّ جميع ما حكيناه من اعتقادات القوم، أمر حادث ألجأ القوم إليه الاضطرار، عند الحيرة، وفراقهم الحقّ، والاَصل المشهور ما حكيناه من قول الجماعة المعروفة بإمامة أبي القاسم ـ محمد الحنفية ـ بعد أخويه والقطع على حياته وأنّه القائم (وأمّا غير هذا القول فقد حدث بعد زمن، ألجأهم الاضطرار إليه).
2 ـ انقرضت الكيسانيـة حتى لا يعرف منهم في هذا الزمان أحد إلاّ ما يحكى ولا تُعرف صحته
.
ويقول في مورد آخر: «إنّ الكيسانية في وقتنا هذا لا بقية لهم ولا يوجد عدد منهم، يقطع العذر بنقله، بل لا يوجد أحد منهم يدخل في جملة أهل العلم بل لا نجد أحداً منهم جملة، وإنّما تقع مع الناس الحكاية عنهم خاصة (3).
________________________________________
(1) ابن خلدون: المقدمة: 1|250، طبع دار الفكر، بيروت.
(2) لاحظ البغدادي: الفرق بين الفرق: 40 ـ 41.
(3) الشيخ المفيد: الفصول المختارة: 297 ـ 305.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية