ماهي أسباب النكسة في أعقاب حرب صفّين

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5 ، ص 137 ـ  152
________________________________________
(137)
خاتمة المطاف:
ماهي أسباب النكسة في أعقاب حرب صفّين
لم يختلف اثنان في أنّ النصر كان حليف الإمام طوال مدّة الحرب، ولكن لمّا طرأت فتنة التحكيم واغترّبها بعض قادة جيشه وخاصة قرّاؤهم، بدأ الضعف يدبّ في معسكر الإمام، واختلفوا إلى فرقتين، فرقة تنادي بالصلح والموادعة، وفرقة أخرى ـ وكانت في الظاهر قليلة ـ تصرّ على مواصلة الحرب، ولاجرم أنّ الغلبة كانت للطائفة الاُولى، ثمّ إنّ نفس تلك الطائفة تراجعت عن فكرتها وحاولت أن تفرض على علي ـ عليه السَّلام ـ نقض ميثاق التحكيم، ولكنّها لم تنجح وانتهى إلى ما عرفت من خروج المحكِّمة بصورة قوّة معارضة للإمام إلاّ أنّ الإمام استأصل شأفتهم، وقطع جذورهم، فلم يبق في القوم إلاّ حشاشات شكّلت نواة للانتفاضات والأعمال الاجرامية حيث استطاعت اغتيال الإمام واعطاء الفرصة لمعاوية، لتحقيق طموحاته التي طالما راودته في
________________________________________
(138)
حياته السياسية.
وكان من نتائج تلك الفتنة، أنّ الإمام لم يتمكّن من عزل معاوية عن سلطته في الشام، وضمّ الشامات إلى حكومته، بل خرجت بعض المناطق التي كانت تحت يده عن سلطته، فاستولى عمرو بن العاص على مصر، وقتل عامل الإمام محمّد بن أبي بكر فيها حتى أصبح العراق مطمعاً لمعاوية من خلال الغارات التي قامت بها كتائبه.
كلّ ذلك، مانصفه بالنكسة تارة، والهزيمة اُخرى، ويطيب لنا بيان أسبابه في خاتمتنا هذه، وربّما يتخيّل القارئ أنّ هذا البحث خارج عن موضوع هذا الجزء (الخوارج)، ولكنّه إذا اطّلع عليه يقف على أنّ له الصلة التامّة بالموضوع وإليك البيان.
إنّ السبب الحقيقي لوقوع النكسة كان أمرين:
الأوّل: سيادة نزعة الاعتراض على قرّاء الكوفة:
كان جيش الإمام خليطاً من طائفتين طائفة صالحة مطيعة لأمر القيادة إلى حدّ التضحية بكلّ ما تملك لتنفيذ أوامرها من دون أيّ اعتراض، و من نماذج تلك الطائفة مالك الأشتر، وعدي بن حاتم وعبدالله بن عباس، وعماربن ياسر، وعمروبن الحمق الخزاعي، وحجر بن عدي الكندي، وسهل بن حنيف، وسليمان بن صرد، إلى غير هؤلاء من صلحاء الاُمّة وأتقيائها التابعين للإمام تبعية الضل لذي الضل.
وطائفه تطغى عليها نزعةُ الاعتداد بالرأي والاستبداد في الأمر، والتدخّل في شؤون القيادة، وكانوا يتصوّرون أنّه ليس بينهم و بين القائد، فرق حتى بقدر الأنملة ، وهذا الشعور كان ظاهراً منهم في جميع مواقفهم من
________________________________________
(139)
حين انضمامهم لراية الإمام إلى خروجهم عليه، ومن نماذج هؤلاء، حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية، ومِسْعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي، ونافع بن الأزرق، وعبدالله بن وهب الراسبي إلى غير ذلك من رؤوس تلك الطائفة الذين صاروا خوارج من بعد.
وبما أنّ أصحاب هذه الطائفة كانوا يكثرون قراءة القرآن والصّلاة والتهجّد في الليل حتى اسودّت جباههم من السجود، وأصبحت لهم ثفنات كثفنات البعير، فكان لكلامهم نفوذ وتأثير كبير في جيش الإمام، خاصّة اُولئك الذين كانوا من قبائلهم و كتائبهم و هم كثيرون.
والذي يدلّنا على سيادة تلك النزعة فيهم (نزعة الاعتراض على القيادة والمتولّين لشؤون الحكومة) مانقرأه في تاريخ حياتهم وإليك بيانه:
1 ـ ما سمعت من حديث النبي في حقّ رأس الخوارج (ذي الخويصرة) حيث وقف على رسول الله وهو يقسّم غنائم خيبر فقال له: ما عدلت منذ اليوم، فقال رسول الله: ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟! فقال عمر: ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال رسول الله: إنّه سيكون لهذا ولأصحابه نبأ، وقال: تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم، وصوم أحدكم في جنب صيامهم، ولكن لايجاوز إيمانهم تراقيهم، وقال سيخرج من ضئضىء هذا الرجل، قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (1) .
2 ـ ما رواه الطبري عن محمّد بن راشد عن أبيه في حرب الجمل قال: كان من سيرة عليّ: أن لايقتل مدبراً ولايذفف على جريح ولايكشف ستراً ولايأخذ مالا، فقال قوم يومئذ: ما يحلّ لنا دماءهم ويحرّم علينا أموالهم؟ فقال
________________________________________
نقله أهل السير ونقله أصحاب الصحاح و المسانيد، ورواه البخاري أيضاً في صحيحه لاحظ الجزء 6 تفسير سورة البراءة تفسير قوله سبحانه: والمؤلّفة قلوبهم ص 67 .
________________________________________
(140)
عليّ: القوم أمثالكم من صفح عنّا فهو منّا و نحن منه، ومن لجَّ حتى يصاب، فقتاله منّي على الصدر والنحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى، فيومئذ تكلّمت الخوارج (1).
وقد ذكر الطبري قصّة الاعتراض على وجه الإجمال ولكن غيره ذكره على وجه التفصيل، قالوا: نقمت الخوارج على عليّ عندما قرب منهم في النهروان وأرسل إليهم أن سلّموا قاتل عبدالله بن خباب، فأجابوه بأنّا كلّنا قتله، ولئن ظفرنا بك قتلناك، فأتاهم عليّ في جيشه، وبرزوا إليه بجمعهم، فقال لهم قبل القتال: ماذا نقمتم منىّ؟ فقالوا له: أوّل ما نقمنا منك انّا قاتلنا بين يديك يوم الجمل، فلمّا انهزم أصحاب الجمل، أبَحْتَ لنا ما وجدنا في عسكرهم من المال، ومنعتنا من سبي نسائهم و ذراريهم، فكيف استحللت مالهم دون النساء والذريّة؟ فقال: إنّما أبحتُ لكم أموالهم بدلا عمّا كانوا أغاروا عليه من بيت مال البصرة قبل قدومي عليهم، والنساء والذرية لم يقاتلونا، وكان لهم حكم الإسلام، بحكم دار الإسلام، ولم يكن منهم ردّة عن الإسلام ولا يجوز استرقاق من لم يكفر، وبعد لو أبحت لكم النساء، أيّكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فخجل القوم من هذا(2) .
وما ذكره الطبري، وإن وقع في سنده سيف بن عمر، وهو ضعيف في الرواية، ولكن مانقله البغدادي نقىّ السند مضافاً إلى أنّه تضافرت الروايات على نقله من الفريقين .
روى الشيخ الطوسي في تهذيبه عن مروان بن الحكم قال: لمّا هزّمنا عليّ بالبصرة ردّ على الناس أموالهم، من أقام بيّنة أعطاه، ومن لم يقم بيّنة أحلفه،
________________________________________
الطبري: التاريخ 3/545 .
2. البغدادي: الفَرق بين الفِرق: 78 .

________________________________________
(141)
قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين اقسم الفي بيننا والسبي، قال: فلمّا أكثروا عليه، قال: أيّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه؟ فكفّوا (1).
3 ـ روى الطبري أيضاً: لمّا فرغ عليّ من بيعة أهل البصرة، نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسّمها على من شهد معه، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة وقال: لكم إن أظفركم الله عزّوجلّ بالشام مثلها إلى اعطياتكم، وخاض في ذلك السبائية وطعنوا على عليّ من وراء وراء(2).
كل ذلك يعرب عن طغيان نزعة الاعتراض على القوم، وأنّهم كانوا يرون لأنفسهم حق التدخل في شؤون القيادة.
4 ـ إنّا نرى أنّ الأشعث لمّا قرأ وثيقة التحكيم على الشاميين، استقبلوه برضى ولمّا عرضها على رايات عنزة وغيرهم من العراقيين، قابلوه بالاعتراض والسيف.
قال ابن مزاحم: إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم، ويمرّ به على صفوف أهل الشام وراياتهم، فرضوا بذلك، ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم حتى مرّ برايات عنزة ـ وكان مع عليّ من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف ـ فلمّا مرّ بهم الأشعث فقرأه عليهم، قال فتيان منهم: لا حكم إلاّ لله. ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أوّل من حكم، واسماهما معدان وجعد، اخوان، ثم مرّ بها على مراد، فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم:
ما لعليّ في الدماء قد حكم * لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم
________________________________________
الحرّ العاملي: وسائل الشيعة 11 الباب 25 الحديث 5 و 7 ص 58 .
2. الطبري: التاريخ 3/544. والمراد من السبائيّة: الخوارج، فإنّه كثيراً مايطلقها عليهم.

________________________________________
(142)
لاحكم إلاّ لله ولو كره المشركون. ثم مرّ على رايات بني راسب فقرأه عليهم فقالوا: لاحكم إلاّ لله، لانرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم: لاحكم إلاّ لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين، فقال رجل منهم لآخر: أمّا هذا فقد طعن طعنة نافذة. وخرج عروة بن اديّة أخو مرداس بن اديّة التميمي، فقال: أتحكّمون الرجال في أمرالله، لاحكم إلاّ لله، فأين قتلانا يا أشعث. ثم شدّ بسيفه ليضرب به الأشعث، فأخطأه وضرب به عجز دابّته ضربة خفيفة فاندفعت به الدابة وصاح به الناس : أن امسك يدك. فكفّ ورجع الأشعث إلى قومه (1) .
5 ـ إنّ بعض من صار من الخوارج كانوا متواجدين في الكوفة أيّام خلافة عثمان، وكانوا يعترضون على عمّاله مثل سعيد بن العاص، فكتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان فأمر بتسييرهم من الكوفة، ونرى بين المعترضين، حرقوص بن زهير السعدي، وشريح بن أوفى بن يزيد بن ظاهر العبسي، وزيد بن حصين الطائي وهم رؤوس الخوارج وكانوا ملتفّين حول الأشتر النخعي، وكانوا يعدّون من أصحابه، حتى كتب سعيد بن العاص بذلك إلى عثمان وقال: إنّي لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القرّاء ـ وهم السفهاء ـ شيئاً فكتب إليه: أن سيّرهم إلى الشام(2).
نعم اجتمع مع الأشتر غيرهم، من الرجال الصالحين والعّباد الناسكين كزيد وصعصعة بن صوحان وكعب بن عبده وعدي بن حاتم الطائي، ويزيد بن قيس الأرحبي (الذي كان له مواقف مشكورة في حرب صفّين)، وعمرو بن الحمق، وكميل بن زياد النخعي، وحارث بن عبدالله الأعور الهمداني،
________________________________________
نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 587 ـ 588 .
2. الغدير: 5 / 31 نقلاً عن الأنساب للبلاذري: 5/39 .

________________________________________
(143)
وغيرهم من الصلحاء، وذلك يكشف عن وجود نزعة الاعتراض في قرّاء الكوفة ورؤسائهم، نعم كون هؤلاء محّقين في اعتراضهم على عامل الخليفة الثالث وحتى الخليفة نفسه لايكون دليلا على أنّهم محقّون كذلك في مسألة التحكيم وما خلّف من الآثار السيّئة، ولا دليل على تلك الملازمة، فرّب انسان يكون محقّاً في دعوى ومبطلا في دعوى اُخرى، والامعان في حقيقة الاعتراضين ـ الاعتراض على عامل الخليفة الثالث والاعتراض على أميرالمؤمنين عليـ يكفي في تصديق ماذكرنا.
نعم إنّ الإسلام لا يخالف سياسة الانتقاد وحرية التعبير عن الرأي، ولايريد للاُمّة أن تكون كقطيع من الماشية بل انّه يدعو إلى النقد إذا كان لأجل طلب الحق، مثلا إذا بدا للانسان أنّ قول القائد لا يماثل عمله فله السؤال والنقاش ولكن باسلوب بنّاء، لغاية الوصول إلى الحق، وهذا ما يدعو إليه الإسلام خصوصاً فيما إذا كان القائد انساناً غير معصوم، بل نجد ذلك في عصر المعصوم أيضاً، روى أصحاب السيرة لمّا توفّي عبدالله ولد النبي بكى عليه وجرت دموعه على خدّيه، فاستظهر بعض الصحابة أنّ عمل النبي هذا ينافي ما أوصى به من عدم البكاء على المّيت، فاجابه النبي وأرشده إلى الحق وقال ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : لا، ولكنّي نهيت عن صوتين احمقين وآخرين: صوت عند مصيبة، وخمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان، وصوت عند نعمة لهو، وهذه رحمة ومن لايَرْحَم لايُرْحَم (1) .
نعم إذا كانت الغاية مجرّد إبداء الرأي، وحبّ الاعتراض، فهذا ما يعدّه الكتاب والسنّة من المجادلة بالباطل (ما يُجادِلُ فِى آياتِ اللهِ إلاّ الَّذِيْنَ كَفَروا فَلا )
________________________________________
برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية 3/395 .
________________________________________
(144)
يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البِلادِ)) (1) وقال سبحانه: ( وَ يُجادِلُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا بَالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ )الحَقَّ) .)(2)
نحن نرى تلكما النزعتين متجسّدتين في الأشتر والملتفّين حوله من الصلحاء من جهة، وحرقوص وزملائه من جهه اُخرى، وإن اشتركوا في حقبة من الزمن في صبغة الاعتراض.
فالنزعة الاُولى: كانت نابعة عن روح صادقة لاعن هوى نفسي، ولأجل ذلك بقوا على اعتراضهم ومخالفتهم لعامل الخليفة إلى أن قُتِلَ عثمان، لأنّهم أدركوا أنّ عمل الخليفة وعمّاله يفارق مبادىء الإسلام، وتحمّلوا التسيير والتبعيد عن الوطن، ولكن لمّا واجهوا عليّاً ووجدوا فيه ضالّتهم المنشودة من أنّه القائد الإلهي الذي يعمل لأجل الله، سلّموا إليه مقاليد امورهم.
والنزعة الثانية: كانت نابعة عن روح مكابرة تريد فرض ما تحبّ وترى، سواء أكان حقّاً أم باطلا، ونذكر هنا نموذجاً للقسمين:
قال ابن مزاحم: قيل لعلي لمّا كتبت الصحيفة: إنّ الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلاّ قتال القوم، فقال علي: بلى إنّ الأشتر ليرضى اِذا رَضيْتُ، وقد رضيتُ ورضيتُم، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا، ولا التبديل بعد الإقرار، إلاّ ان يُعْصى الله ويتعدّى ما في كتابه (3) .
وإي تسليم أعلى وأنبل من تسليم الأشتر لأمر القيادة، فقد كان النصر حليفاً له ولم يبق بينه وبين تحقّقه الاّ عدوة الفرس، أو قاب قوسين او أدنى، فلمّا وقف على أنّ مواصلة الحرب ولو فترة قليلة سيؤدّي إلى القضاء
________________________________________
غافر: 4 .
2. الكهف: 56 .
3. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 598 .

________________________________________
(145)
على حياة الإمام، تراجع عن ساحة القتال، ورجع طائعاً مذعناً لما أمره به الإمام  ـ عليه السَّلام ـ وخاطب اُولئك الذين وقفوا بوجه الإمام، وقال خُدِعَتم والله فانخدعتم، ودُعِيْتُم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباة السود كنّا نظنّ أنّ صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت، ألا فقبحاً يا أشباه النِّيب الجلاّلة، ما أنتم برائين بعدها عزّاً أبداً، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون (1).
هذا هو الأشتر وهذه طاعته للامام الحق، وأمّا الخوارج فسَلْ عن عنادهم ولجاجهم في وجه الحق، فقد احتجّ عبدالله بن عباس على صحّة مبدأ التحكيم بقوله: «إنّ الله أمر بالتحكيم في قتل صيد» فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذوا عَدْل مِنْكُمْ) فكيف في الامامة...، فلمّا سمعت الخوارج تلك المعارضة قال بعضهم لبعض: اجعلوا احتجاج قريش حجّة عليهم، فإنّ هذا من الذين قال الله فيهم: ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون) وقال عزّوجلّ: ( )و تُنْذِرَ به قَوْماً لدّا))(2).
إلى هنا وقفت على العامل الأوّل لظهور هذه النكسة، وإليك بيان العامل الثاني:
الثاني: وجود العملاء في جيش الإمام:
كان في جيش الإمام عملاء لمعاوية يعملون لصالحه، حيث كانوا يضمرون العداء لعليّ، ويتحّينون الفُرصَ للقضاء على حكومته وحياته، كأمثال الأشعث بن قيس، وقد عرفت أنّه خطب في أوان طلوع فكرة إنهاء الحرب وقال: من لذرارينا ونسائنا إن قُتِلْنا؟ يقول هذا والخوارج بمرأى
________________________________________
نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 563.
2. المبرّد: الكامل 2/122 طبع مطبعة المعارف بمصر.

________________________________________
(146)
ومسمع منه، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: «كلّ فساد كان في خلافة عليّ ـ عليه السَّلام ـ وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث» (1) .
وإليك الشواهد على صحّة تلك النظرية:
1 ـ كان الأشعث عاملا لعثمان على آذربايجان، وقد كان عمروبن عثمان تزوّج ابنة الأشعث بن قيس، ولمّا بويع عليّ ـ عليه السَّلام ـ كتب إليه مع زياد ابن مرحب الهمداني رسالة ذكر فيها بيعة طلحة والزبير ونقضهما البيعة وقال: «وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه أمانة، وفي يديك مال من مال الله، وأنت من خزّان الله عليه حتى تسلّمه إليّ». فلمّا قرأ كتاب علي قال لبعض أصحابه: «إنّه قد أوحشني وهو آخذ بمال آذربايجان» وأراد اللحوق بمعاوية فمنعه بعض أصحابه حتى قدم على عليّ، وهو معزول عن الولاية(2) .
قال المسعوديّ: وبعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن آذربايجان وأرمينية وكان عاملا لعثمان عليها، وكان في نفس الأشعث على عليّ ما ذكرنا من العزل وما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك من الأموال (3) .
2 ـ كانت رئاسة قبيلتي كندة وربيعة للأشعث فانتزعها عليّ ـ عليه السَّلام ـ منه وولّى حسان بن مخدوع عليهما، ثمّ بعد هن وهنات أشركه في الرئاسة(4) وقد أثار ذلك حفيظة الأشعث على علىّ وإن لم يظهر ذلك.
3 ـ كان الأشعث متّهماً بالتنسيق مع معاوية خلال فترة الحرب، يقول ابن مزاحم: إنّ ابن ذي الكلاع أرسل إلى الأشعث رسولا فقال له: «إنّ ابن عمّك
________________________________________
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/279 .
2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 29 .
3. المسعودي: مروج الذهب 3/117 .
4. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 153 .

________________________________________
(147)
ذي الكلاع يقرئك السّلام ورحمة الله، وإن كان ذوالكلاع قد اُصيب وهو في الميسرة، فتأذن لنا فيه» فقال له الأشعث: اقرأ صاحبك السّلام ورحمة الله، وقل له: إنّي أخاف أن يتهمني علي، فاطلبه إلى سعيد بن قيس فإنّه في الميمنة، فذهب إلى معاوية فأخبره وكان منع ذلك منهم، وكانوا في اليوم والأيام يتراسلون(1).
4 ـ أرسل معاوية بن ابي سفيان أخاه عتبة بن أبي سفيان، فقال: الق الأشعث، فإنّه إن رضي رضيت العامّة، فخرج عتبة فنادي الأشعث بن قيس، فقال الناس: هذا الرجل يدعوك، فقال الأشعث: سلوه من هو؟ فقال: أنا عتبة بن أبي سفيان، فقال الأشعث: غلام مترف ولابدّ من لقائه، فخرج إليه، فأبلغه دعوة معاوية (2) .
وهذا يعرب أنّ معاوية كان يحاول ايجاد موطأ قدم له في ساحة علي ـ عليه السَّلام ـ من خلال كسب رضا الأشعث، وقد نجح الرجل في ذلك بعض النجاح وقد كانت نتيجة هذه الدعوة أنّه قال في جواب معاوية: أمّا البقية فلستم بأحوج إليها منّا، وسنرى رأينا فيها إن شاء الله .
فلمّا بلغ معاوية كلام الأشعث، أيقن بأنّ الأشعث قد جنج للسلم، وشاعت نتيجة المفاوضة في صفوف الجيشين، إلى أن اجترأ الأشعث على ابداء رأيه في الحرب والطلب من عليّ أنهائها رحمة بالذراري والنساء وهذا ماتقرأه فيما يلي:
5 ـ إنّ الأشعث قام ليلة الهرير في أصحابه من كندة، فألقى خطاباً يتوخّى منه تثبيط العزائم وايقاف الحرب لصالح معاوية، وكانت امارات النصر لعلي
________________________________________
نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 341 .
2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 465 .

________________________________________
(148)
ظاهرة، وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الأسنّة في نهار تلك الليلة، فقال في خطابه: «قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط، إلاّ فليبلّغ الشاهد الغائب، انّا إن نحن توافقنا غداً انّه لفناء العرب وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ولكنّي رجل مسنّ اخاف على النساء والذراري غداً إذا فنينا.
قال صعصعة: فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث، فقال: أصاب وربّ الكعبة، لئن نحن التقينا غداً لتميلنّ الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وأنّما يبصر هذا ذووا الأحلام والنهى، اربطوا المصاحف على أطراف القنا.
فصار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا ومن لذراريكم إن قتلناكم، الله الله في البقية. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلَّدوها الخيل...(1) .
6 ـ إنّ رفع المصاحف أوجد الفوضى في جيش علي ـ عليه السَّلام ـ وفرّقهم إلى فرقتين، فمنهم من يطلب مواصلة الحرب كعمروبن الحمق وغيره، ومنهم من يصرّ على إنهائها، ومنهم الأشعث فقام خطيباً مغضباً فقال: يا أمير المؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله فإنّك أحقّ به منهم، وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال (2) .
7 ـ وبعدما رضي الإمام بالتصالح لاُمور تقدّمت، وتوافق الطرفان على أن يبعث كلّ واحد حكماً، اختار الإمام أن يكون الحكم من قِبَلِه، ابن عباس،
________________________________________
نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 549 ـ 550 .
2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 551 .

________________________________________
(149)
فلم يقبله الأشعث، وقال: والله ما نبالي أكنتَ أنت أو ابن عباس ولانريد إلاّ رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر، قال علي: إنّي اجعل الأشتر، قال الأشعث: وهل سعّر الأرض علينا غير الأشتر(1) .
8 ـ كان الأشعث يتبجّح بكتاب الصلح ولمّا تمّت كتابته وشهد عليه شهود من الطرفين أخذ به ومرّ به على صفوف أهل الشام والعراق يعرضه عليهم، واستقبله أهل الشام بالرضا، وأمّا أهل العراق فقد أوجد فيهم فوضى فمنهم من رضى ومنهم من حمل عليه هاتفاً بقوله: لا حكم إلاّ لله (2) .
وممّا ذكرنا يظهر أنّ الرجل وإن لم يكن من الخوارج لكنّه إمّا كان عميلا لمعاوية، كما هو الظاهر ممّا سردناه عليك ، أوكان في نفسه شيء يجرّه إلى أن يتّخذ موقفاً خاصّاً مناوئاً لعليّ ـ عليه السَّلام ـ ولأجل ذلك كان ما ألقاه من كلام حول ايقاف الحرب فرصة لما يرومه معاوية من انهاء الحرب وايجاد الفوضى، وبذلك تقف على صحّة ماذكره ابن أبي الحديد: من أنّ كل فساد كان في خلافة عليّ فأصله الأشعث .
يقول اليعقوبي: لمّا رفعوا المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فقال علي: إنّها مكيدة وليسوا بأصحاب قرآن، فاعترض الأشعث بن قيس الكندي، ـ وقد كان معاوية استماله وكتب إليه ودعاه إلى نفسهـ فقال: قد دعوا القوم إلى الحقّ، فقال علىّ ـ عليه السَّلام ـ إنّهم إنّما كادوكم وأرادوا صرفكم عنهم، فقال الأشعث: والله لئن لم تجبهم انصرفتُ عنك، ومالت اليمانية مع الأشعث، فقال الأشعث: والله لتجيبنّهم إلى ما دعوا إليه أو لندفعنِّك إليهم
________________________________________
نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 572 .
2. نصر بن مزاحم: وقعة صفّين 588 .

________________________________________
(150)
برمّتك.(1) .
ويؤيّد ذلك ما ذكره المبرّد في كامله: لمّا استقرّت الخوارج في حروراء بعث علي ـ عليه السَّلام ـ إليهم صعصعة بن صوحان العبدي وزياد بن النضير الحارثي مع عبدالله بن عباس فقال لصعصعة: بأي القوم رأيتهم أشدَّ إطاقة؟ فقال: يزيد بن قيس الأرحبّي، فركب علي إليهم إلى حروراء، فجعل يتخلّلهم حتى صار إلى مَضْرب يزيد بن قيس، فصلّى فيه ركعتين، ثم خرج فاتّكأ على قوسه، وأقبل على الناس، فقال: هذا مقام من فلج (2) فيه فلج يوم القيامة، ثمّ كلّمهم وناشدهم، فقالوا: أنّا أذنبنا ذنباً عظيماً بالتحكيم، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعدلك، فقال علي ـ عليه السَّلام ـ : أنا استغفر الله من كلّ ذنب، فرجعوا معه وهم ستّة آلاف، فلمّا استقرّوا بالكوفة أشاعوا أنّ عليّاً ـ عليه السَّلام ـ رجع عن التحكيم، ورآه ظلالا وقالوا: إنّما ينتظر أميرالمؤمنين أن يسمن الكراع (3) وتجنى الأموال، ثمّ ينهض بنا إلى الشام، فأتى الأشعث عليّاً ـ عليه السَّلام ـ فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ الناس قد تحدّثوا أنّك رأيت الحكومة ضلالا والاقامة عليها كفراً، فقام عليّ ـ عليه السَّلام ـ يخطب، فقال: من زعم أنّي رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالا فقد ضلّ، فخرجت حينئذ الخوارج من المسجد فحكَّمت (4) .
قال ابن أبي الحديد: إنّ الخوارج لمّا قالوا لعليّ: تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا، ننهض معك إلى حرب الشام، فقال لهم عليّ: كلمة مجملة مرسلة
________________________________________
اليعقوبي: التاريخ 2/178 طبعة النجف .
2. فلج فيه، من الفلج: وهو الظفر .
3. الكراع: اسم للخيل .
4. المبرّد: الكامل 2/155، وفي المصدر: فقال الصعصعة والصحيح ما أثبتناه .

________________________________________
(151)
يقولها الأنبياء و المعصومين وهي قوله:
«استغفرالله من كلّ ذنب» فرضوا بها وعدّوها اجابة لهم إلى سؤالهم، وصفت له ـ عليه السَّلام ـ نيّاتهم، واستخلص بها ضمائرهم، من غير أن تتضمّن تلك الكلمة اعترافاً بكفر أو ذنب فلم يتركه الأشعث، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية، فانتقض ما دبّره، وعاد الخوارج إلى شبهتهم الاُولى، وراجعوا التحكيم والمروق (1) .
هل العصبية القبلية دفعت الأشعث إلى المخالفة؟:
من هذا البحث انصافاً تقف على قيمة مايذكره البعض وهو أنّ العصبية القبلية أثّرت في انحراف الأشعث عن علي، بل مهّدت لنشوء الخوارج وظهورهم في الساحة، وذلك بحجة أنّ الأشعث اعترض على ترشيح عبدالله بن عباس ممثّلا لعليّ، وقال: لا والله لا يحكم فيها مُضريّان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعله من أهل اليمن، إذا جعلوا (أهل الشام) رجلا من مضر. فقال علي: إنّي أخاف أن يُخْدَع يَمَنَيِّكُم، فإنّ عمراً ليس من الله في شيء إذا كان له في امر هوى، فقال الأشعث: والله لأن يحكماببعض ما نكرهه وأحدهما من أهل اليمن أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ في حكمهما وهما مضريان (2) .
إنّ تحليل انحراف الأشعث عن عليّ ـ عليه السَّلام ـ وايجاده الفوضى في قسم كبير من جيشه بهذا العامل النفسي ضعيف جداً، ولاننكر أن يكون لهذا العامل أيضاً رصيداً في ما كان يضمره ويعمله .
________________________________________
ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 2/280 .
2. الدكتور نايف معروف: الخوارج في العصر الاُموي 25 وما نقله عن الأشعث، ذكره ابن مزاحم في وقعة صفّين 500 .

________________________________________
(152)
وأبعد من ذلك تحليل نشوء الخوارج في ساحة القتال بالعصبية القبلية، انّها أنجبت حركة الخوارج فصارت عصبيتهم الموجّهة ضدّ قريش وسلطانها المتجسّد في الحكومة العلوية يومذاك، سبباً لتلك الحركة الهدّامة بشهادة أنّا لانجد في صفوف الخوارج قرشياً واحداً بل على العكس من ذلك فإنّهم كانوا يحملون لواء التمرّد على قيادتها(1) .
إنّ تحليل هذه الحركة الكبيرة من بدئها إلى نهايتها بهذا العامل النفسي أشبه بتعليل الهزّة الكبيرة الموجبة لانهدام المدن والقرى، بسقوط صخرة من أعلى الجبل إلى هّوة سحيقة، نعم لايمكن انكار العصبية القبلية بين جميع القبائل العربية، خصوصاً بين قبيلتي تميم وقريش، ولكنّه ليس بمعنى أنّه الباعث والعامل المحدِث لهذه الضجّة الكبيرة التي شغلت بال المسلمين والخلفاء طوال قرون، بل العامل لحدوث هذه الحركة هو ما عرفته في المقام وفي الفصل الثالث عند البحث عن نشوء الخوارج .
***
________________________________________
الدكتور نايف معروف: الخوارج في العصر الاُموي 28 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية