دراسة حول فرق الزيدية

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 7 ، ص 457 ـ  463
________________________________________
(457)
دراسة حول فرق الزيدية :
قد تعرفت على كلمات الموَرّخين في فرق الزيدية، فهي بين ما يحصرهم في ثلاث، إلى آخر يعدهم ست فرق، إلى ثالث يحسبهم ثماني فرق، وهذا الاختلاف يكشف عن وجود غيوم تُلبّد سماء الواقع، ولكن الذي يهمنا هنا، مسألة أُخرى، أنّ هذه الفرق، كلها قد بادت وذهبت أدراج الرياح مع بقاء الزيدية في اليمن، والذي يميز الزيدية عن سائر الفرق الاِسلامية ليس شيء مما ورد في عقائد هذه الفرق وإنّما هو عبارة عن القول بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ووجوب الخروج ـ الثورة ـ على الظلمة، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب لا بالوراثة مع القول بتفضيل علي كرم اللّه وجهه وأولويته بالاِمامة وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين (2)
________________________________________
(2) علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق: 11 المطبوع عام 1405 هـ ط. عمان.
________________________________________
(458)
ولايوجد اليوم في اليمن بين الزيدية من المفاهيم الكلامية المنسوبة إلى الفرق كالجارودية، أو السليمانية، أو البترية أو الصالحية، إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الذي تعرفت عليه وهو القول بإمامة زيد والخروج على وجه الظلمة واستمرار الاِمامة في بطن الحسنين، وأنـّها بالطلب والفضل وأمّا أسماء تلك الفرق والعقائد المنسوب إليهم فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والموَلّفات في الفرق الاِسلامية كالملل والنحل ونحوها.
فإذا كانت الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين فالبحث عن هذه الفرق من ناحية إيجابياتها وسلبياتها ليس مهماً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللازم دراسة المفهوم الجامع بين فرقهم، نعم هناك أمرين هامين يجب التنبيه عليهما:
1 ـ في تسميتهم بالزيدية:
إنّ موَرخي العقائد يسمّونهم بالزيدية شأنهم شأن سائر الفرق التابعة لاِمامها من غير فرق بين كونه إماماً في الاَُصول والعقائد كالشيخ الاَشعري، أو إماماً في الفقه والاَحكام كالحنفي والشافعي، فتصور لنا هذه التسمية (الزيدية) أنّ هذه الفرق تلقّت أُصولها وفروعها من إمامهم زيد الشهيد، كما أخذت الاَشاعرة أُصولها من الشيخ الاَشعري، والحنفية من إمامها أبي حنيفة.
ولكن هذه التسمية بهذا المفاد خاطئة جداً، لاَنّه لم تكن لزيد عقيدة خاصة في المسائل الكلامية حتى يكون أتباعه عيالاً له في هذا المجال، كما أنّه لم يكن له كتاب فقهي استدلالي حتى يرجع المقلِّدون، إليه في الفروع.
نعم إنّ الثابت عن زيد الشهيد، أنّه كان يقول بالتوحيد والعدل شأن كل علوي يقتفي أثر الاِمام علي بن أبي طالب _ عليه السلام _. فليس القول بهذين الاَصلين دليلاً على أنّهم اقتفوا زيداً في هذين الاَصلين.
________________________________________
(459)
كما أنّ الثابت عنه في مجال الفقه يعود إلى المسند الذي تعرفت عليه، وهو لا يتجاوز عن نقل أحاديث فقهية، ولا يعلم منه مدى فقاهته واستطاعته في استخراج الفروع من الاَُصول، وعلى فرض التسليم بذلك فالفقهاء المعروفون بالزيدية ابتداء من الاِمام أحمد بن عيسى، إلى الاِمام القاسم الرسّـي، إلى الاِمام يحيى الهادي، إلى الناصر الاَطروش، حتى تصل النوبة إلى الاِمام المجتهد يحيى بن حمزة والاِمام المهدي بن المرتضى موَلّف «البحر الزخار» إلى غيرهم من فقهاء كبار، فهوَلاء لم يعلم من أحوالهم أنّهم اعتمدوا في فتاواهم على فتوى إمام مذهبهم زيد، بل المعلوم خلافه، فإنّ الفقه المعروف بالفقه الزيدي إنّما وصل إلى ما وصل من السعة نتيجة جهد هوَلاء الفقهاء الكبار، فهذا الفقه عطاء بحوثهم الشخصية التي ليس لها صلة بزيد.
ويوَيد ذلك: إنّ المذهب الزيدي يحرم التقليد على كل متمكن من أخذ الحكم من كتاب اللّه وسنة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أو غيرهما من الاَدلّة الشرعية، ولايبيحه في الفروع إلاّ لغير المتمكن من الاجتهاد، لقوله تعالى: "فَاسألُوا أهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون") (النحل ـ 43) (1)
فإذا كان الاَمر كذلك فالعطاء الموجود في الفقه الزيدي وأُصوله يرجع إلى رجال المذهب الزيدي على اختلاف طبقاتهم، وهم بين إمام في المذهب كالاِمام القاسم بن إبراهيم المتوفى عام 242 هـ وحفيده الاِمام الهادي يحيى بن الحسين المتوفى عام 298هـ والاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي المتوفى عام 304هـ.
________________________________________
(1) علي بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق: 11.
________________________________________
(460)
إلى مخرّج للمذهب وهم الذين استخرجوا من كلام الاَئمة أو احتجاجاتهم أحكاماً لاتتعارض مع الكتاب والسنة ومن رجال هذه الطبقة:
1 ـ العلاّمة محمد بن منصور المردي المتوفى حوالي عام 290هـ.
2ـ العلاّمة أبو العباس أحمد بن إبراهيم المتوفى سنة 353هـ.
3ـ العلاّمة أحمد بن الحسين بن هارون الحسني المتوفى عام 416هـ.
4ـ العلامـة أبو طالـب يحيى بـن الحسين بن هرون الحسني المتوفى سنة 424هـ.
إلى محصّل، وهم الذين اهتموا بتحصيل أقوال الاَئمة وما استخرج منها، ونقلوها إلى تلامذتهم بطريق الرواية أو المناولة لموَلفاتهم، منهم:
العلاّمة القاضي زيد بن محمد الكلاوي الجيلي الملقب بحافظ أقوال العترة.
وسيأتي تفصيل طبقات رجال المذهب الزيدي في خاتمة المطاف ضمن الاَمر الثامن (1)
فإذا كان المذهب الزيدي قد نضج في هذه الاَعصار وتبلور في ظل جهود هوَلاء الفطاحل الاَعلام، فهو عطاء علمائهم ومفكّريهم في الكتاب والسنّة وسائر القواعد الاجتهادية، ولا يمت إلى إمامهم زيد بصلة.
فعلى ذلك، فإنّ هوَلاء في فقههم قبل كونهم زيديين، رسّيون، انتساباً إلى الاِمام الاَوّل القاسم بن إبراهيم، وهادويون انتساباً إلى الاِمام الثاني يحيى بن الحسين، أو ناصريّون انتساباً إلى الاِمام الناصر الاَطروش الحسن بن علي.
وممن يدعم تلك الفكرة عالم اليمن الحالي السيد مجد الدين الموَيدي في تقديمه على كتاب «الزيدية نظرية وتطبيق» يقول: فأمّا المذهب الفقهي المعروف المتداول بين أهل الفقه في اليمن فليس المراد به المذهب الزيدي كما يتوهم ولا مذهب جملة أهل البيت، بل المراد به في الاَصل كما نص عليه الاَعلام المحقّقون قواعد وأُصول أخذوها من أقوال الاِمام القاسم بن إبراهيم وأولاده وحفيده الهادي
________________________________________
(1) لاحظ ص 524.
________________________________________
(461)
إلى الحقّ وولديه المرتضى والناصر عليهم السلام نصاً أو تخريجاً، ثم توسعوا في ذلك فصاروا يذهِّبون على ما ترجح عندهم على مقتضى تلك القواعد وإن خالف نصّ الاِمام الهادي إلى الحقّ _ عليه السلام _ ، الذي هو إمام المذهب على التحقيق فضلاً عن غيره، ولهذا رجّح كثير من الاَئمة الاَعلام للمتابع أن يأخذ بالنص ويترك التخريج المخالف له ومنهم الاِمام المجدد للدين المنصور باللّه القاسم بن محمد فإنّه ضعف التخاريج غاية التضعيف وبسط القول في ذلك بما فيه الكفاية في كتابه الاِرشاد وكذا غيره من الاَئمة _ عليهم السلام _ (1)
والذي يثبت أنّ المذهب الزيدي حصيلة التفكير الحرّ في الكتاب والسنّة ولايمت إلى الاِمام زيد، هو وجود الاجتهاد وعدم غلق بابه خلال العصور المتقدمة، من دون أن يتخذوا آراء الاِمام الواحد حقاً غير قابل للخدش كما عليه الاَحناف والشوافع والحنابلة والمالكية.
يقول الفضيل شرف الدين: العلم المميز للمذهب الزيدي على امتداد التاريخ الاِسلامي هو التجديد المستمر دون التقيد باجتهاد فرد واحد من أئمته أو علمائه أو التمحور الفكري حول ما توصلوا إليه من اجتهادات. فإنّ المطّلع المتتبع لتاريخ الفكر الزيدي يعلم بأنّه بقي منفتحاً على جميع المذاهب الاِسلامية المعتبرة يأخذ منها ماله أساس ومستند من كتاب اللّه والصحيح من سنّة رسول اللّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ دونما تعصب، أو جمود، أو انغلاق، بل أنّ من قواعد المذهب عدم جواز التقليد عند المتمكنين من العلماء القادرين على استنباط الاَحكام من الكتاب والسنّة. وبذلك بقي المذهب وعلماوَه روّاد تجديد وإصلاح يعملون لاِيجاد حلول لمختلف قضايا الحياة المتجدّدة في كل العصور إيماناً منهم بأنّ الدين الاِسلامي الحنيف الذي أُنزل على خاتم الاَنبياء _ صلى الله عليه وآله وسلم _ ليبلّغه إلى البشرية جمعاء هذا الدين قد
________________________________________
(1) تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق| و ـ ز .
________________________________________
(462)
جاء واسعاً رحباً ليستوعب مختلف قضايا البشرية في مختلف المجتمعات والعصور ويضع لها الحلول الاِيجابية الناجعة، وإلاّ لما كان القرآن آخر الكتب السماوية المنزلة، ولما كان محمد خاتم الرسل والاَنبياء وآخرهم حتى قيام الساعة (1)
فإذا كان هذا هو الطابع الاَوّل للمذهب الزيدي فمن المستحيل نسبه إلى الاِمام الثائر زيد الشهيد الذي لم ترث منه الزيدية إلاّ بضع أحاديث من غير تحليل.
والكلام الحقّ إنّ الزيدي عبارة عن من يقول بالعدل والتوحيد وإمامة زيد ابن علي بعد الاَئمة، الثلاثة علي والسبطين _ عليهم السلام _ ووجوب الخروج على الظلمة، واستحقاق الاِمامة بالفضل والطلب، هذا هو العنصر المقوم في كون الرجل زيدياً، وأما سوى ذلك مما يوجد في كتبهم فهو عطاء علمائهم المفكرين طيلة القرون.
وهناك من أعلام الزيدية من يصرّ على خلاف تلك النظرية، فيرى أنّ إطلاق اسم الزيدية على أتباع الاِمام زيد يرجع إليه مستدلاً بقول الاِمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية: «أما واللّه لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين، وأقام عموداً إذا اعوجّ ولم ننحو إلاّ أثره ولم نقتبس إلاّ من نوره» (2)
يلاحظ عليه: أنّ النص لا يدلّ على وجود التسمية، كما لا يدل على أنّ هناك منهجاً كلامياً أو فقهياً لزيد الثائر، وإنّما يدلّ على اتباع أثره في أصل واحد وهو الثورة على الظالمين لاِحياء ما اندثر من السنن، ونحن بدورنا نجلّ زيد الشهيد عن أن يفرق وحدة المسلمين وبالاَخص شيعة جده أمير الموَمنين ويقسمهم إلى زيدي وغير زيدي فيوسع الصدع بدل رأبه، قال سبحانه: "قُلْ هُوَ القَادِرُ على أن)
________________________________________
(1) الفضيل شرف الدين: الزيدية نظرية وتطبيق|أ.
(2) تقديم السيد مجد الدين على كتاب الزيدية نظرية وتطبيق|د.

________________________________________
(463)
يَبعَثَ عَلَيكُمْ عَذاباً مِن فَوْقِكُم أوْ مِنَ تَحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُون") (الاَنعام ـ 65) .
وفي نهاية المطاف إنّي أُرجح قول من يقول إنّ هذه النسبة لم يطلقها الاِمام زيد على أتباعه ولا أطلقها في البداية أتباعه على أنفسهم، ولما جاء الثائرون بعد زيد، ناهجين منهجه، صارت اللفظة إشارة لمن يسلك مسلكه في مجال الخروج على الظلمة وإنقاذ المسلمين من كابوس الاَُمويين أو العباسيين، من دون أن يكون فيه دلالة على مذهب كلامي أو فقهي. وعلى ذلك فالزيدية شعار حرية وعزة وكرامة، وجهاد وتضحية في سبيل اللّه وليس شعاراً لمذهب خاص سوى ما عرفت من الاِيمان بإمامة الاِمام علي وسبطيه _ عليهم السلام _.
* * *
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية