الفرق بين منهج الأشعرية والماتريدية

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 20 ـ  25
________________________________________
(20)
9ـ الفرق بين المنهجين: الأشعرية والماتريدية:
لا شكّ أنّ الإمامين، الأشعري والماتريدي كانا يتحرّكان في فلك واحد وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة، والوقوف في وجه المعتزلة و ـ مع ذلك ـ لايمكن أن يتّفقا في جميع المسائل الرئيسية، فضلاً عن التّفاريع، وذلك لأنّ الأشعري اختار منهج الإمام أحمد، وطابع منهجه هو الجمود على الظّواهر، وقلّة العناية بالعقل والبرهان، والشيخ الأشعري وإن تصرّف فيه وعدّله، ولكن لمّا كان رائده هو الفكرة الحنبليّة فقد عرقلت نطاق عقله عن التوسّع، ولو تجاوز عنها فإنّما يتجاوز مع التحفّظ على اُصولها.
وأمّا الماتريديّ فقد تربّى في منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة، ويعلو على ذلك المنهج، الطّابع العقلي والإستدلال، كيف ومن اُسس منهجه الفقهي، هوالعمل بالمقاييس والاستحسانات، وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الاُصول، فضلاً عن الفروع، وأن يقع الحافر على الحافر في جميع المجالات، وقد أشغل هذا الموضوع بالَ المحقّقين، وحاولوا تبيين أنّ أيّاً من الداعيين أعطى للعقل سلطاناً أكبر، وتفرّقوا في ذلك إلى أقوال نذكرها:
1ـ قال أحمد أمين المصري: «لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات، بعضها يشرح مذهب الماتريدي كـ(العقائد النسفية) لنجم الدين النسفي، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري كـ(السنوسية) و(الجوهرة)، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألةـ ثمّ قال: إنّ لون الإعتزال
________________________________________
(21)
أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً، واستشهد على ذلك بأنّ الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون الماتريدي»(1).
والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو القلم وسهوالفكر، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي «التوحيد والتفسير» و آراء تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع، فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً، والماتريدي على العكس كما ستوافيك نصوص القوم عند عرض المذهب، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا، على خلاف ما ذكره هنا وقال: يقول الماتريدية: إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى، ومعرفة وحدانيّته، واتّصافه بما يليق، وكونه محدثاً للعالم، كما روي ذلك عن أبي حنيفة، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب إيمان، ولا يحرم كفر قبل البعث.
فإذا(2) كان أحمد أمين قائلاً بغلبة لون الإعتزال على الأشعري، فهناك من ذهب إلى خلافه، وإليك البيان:
2ـ قال أبو زهرة: «إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان، ذا أقسام أربعة، فعلى طرف منه المعتزلة، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة، الماتريديّة، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين، الأشاعرة»(3).
يلاحظ عليه: أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء كلّهم من أهل الايمان، مع أنّ بين
________________________________________
1. ظهر الاسلام: ج 4 ص 91 ـ 95. 2. المصدر نفسه. 3. تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 199.
________________________________________
(22)
أهل الحديث طوائف المشبِّهة، والمجسِّمة، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث الأنبياء، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً، وإنزال الكتب عبثاً، من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي (عليه السلام) في خطبة بقوله «وأهل الأرض يومئذ (يوم بعث النّبي الأكرم) ملل متفرِّقة، وأهواء منتشرة، وطوائف متشتّتة، بين مشبِّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير به إلى غيره»(1).
ويا للعجب! إذا قسّم أبو زهرة ساحة الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في القرآن وجعلها أجر رسالته وقال: ( قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُرْبى) . (الشورى/23)؟!! وعرّفهم رسول اللّه صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه، وقال: «إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي»(2).
وقد عرف الأبكم والأصمّ ـ فضلاً عن غيرهما ـ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب، ولا كانوا مقتفين لأحد هذه المناهج، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب، والسنّة، والعقل السليم، فما معنى هذا التقسيم؟ «ما هكذا تورد يا سعد الإبل» و«تلك إذاً قسمة ضيزى»، «أهم يقسمون رحمة ربّك ...».
3ـ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري: «الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلّما يوجد بينهم متصوّف، فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي»(3).
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً،
________________________________________
1. نهج البلاغة: الخطّبة 1 طبعة عبده ص 25. 2. حديث متفق عليه رواه الفريقان. 3. مقدمة تبيين كذب المفتري: ص19.
________________________________________
(23)
كما سيأتي عند عرض مذهبهم، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان، إذ كيف يكون النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين، أمراً لفظيّاً، مع أنّه تترتّب على الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.
4ـ قال محقّق كتاب «التّوحيد» للماتريدي، في مقدّمته: «إنّ شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد، في أهمّ مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين»(1).
ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين والتّقبيح، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة، أو مجازاً، اختلافاً جوهريّاً، كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته، أو زائدة عليه، أو جواز التّكليف بما لايطاق، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده، وتفسيره، وكتب أنصاره، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين، واختلافهما.
وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام البزدوي، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس، وكان جدّ والده أحد تلاميذه. قال:
«وأبو الحسن الأشعري و جميع توابعه يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي، وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها»(2) وذكر بعد ذلك، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث، وسيوافيك نصّه! ولأجل وجود الإختلاف الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما، بين موجز في الكلام، ومسهب فيه، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل، وإليك ما وقفنا عليه في هذا المجال:
أ ـ اُصول الدين للامام البزدوي، قال فيه تحت عنوان «ما خالف أبو الحسن
________________________________________
1. مقدمة التوحيد، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف: ص 18. 2. اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.
________________________________________
(24)
الأشعري عامّة أهل السنّة والجماعة».
1 ـ قال أهل السنّة والجماعة: إنّ للّه تعالى أفعالاً، وهي الخلق، والرزق، والرحمة، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها، وأفعال اللّه ليست بحادثة، ولامحدثة، ولا ذات الله، ولا غير الله تعالى، كسائر الصِّفات.
وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه تعالى فعل، وقال: الفعل والمفعول واحد، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة، وعليه عامّة أصحابه، وهو خطأ محض(1).
2ـ وقال أهل السنّة والجماعة: المعاصي والكفر ليست برضى اللّه، ولا محبّته، و إنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.
وأبوالحسن قال: إنّ اللّه تعالى يرضى بالكفر والمعاصي، ويحبّها، وهو خطأ محض أيضاً.
3ـ وقال أهل السنّة والجماعة: إنّ الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب، والإقرار باللّسان، وقال أبو الحسن: إنّ الايمان هو التّصديق بالقلب، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض، وهو خطأ أيضاً. وشرّ مسائله مسألة الأفعال.
وذكر أبوالحسن في كتاب «المقالات» مذهب أهل الحديث، ثمّ قال: وبه نأخذ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل السنّة والجماعة في هذه المسائل، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا، فكان حبّه(2) في هذه المسائل قولان، فكأنّه رجع عن هذه المسائل الثّلاث.
وكان يقول: كلّ مجتهد مصيب في الفروع، وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت: يخطىء ويصيب(3).
________________________________________
1. سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم. 2. كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء. 3. اُصول الدين للبزدوي: ص 245 ـ 246.
________________________________________
(25)
ب ـ «إشارات المرام من عبارات الامام» تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن الحادي عشر، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين مسألة(1).
ج: نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم بن علي المعروف بـ «شيخ زاده» طبع في القاهرة (عام1317 هـ).
د: الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف أبي عذبة، طبع في حيدرآباد (عام 1332 هـ).
هـ: خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين، وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار الكتب المصريّة (بالرقم 3441ج)(2).
و: قصيدة في الخلاف بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي، مؤلّف (طبقات الشافعيّة الكبرى) المطبوعة بمصر (عام 1324 هـ) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم (202) المصوّرة عن مخطوطة جامع الشيخ بالاسكندرية(3).
وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً، لا لفظيّاً، وإلاّ فلا وجه لتأليف الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة، الموجودة بين المنهجين، وسيظهر الحقّ في البحث التالي.
________________________________________
1. اشارات المرام: ص 53 ـ 56. 2. انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25. 3. انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية