بيان لقادة الفكر في الأمة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 66 ـ 71
________________________________________
(66)
هذا خلاصة القول في الفرقة الماتريدية الّتي انحسرت دعوتها عن الجامعات الإسلاميّة، وقلّت الدعاة إليها، ومنهاجها منهاج مزيج من منهاج أهل الحديث والمعتزلة، بل قلّ الاهتمام بهم ودراسة منهاجهم، والحقّ أنّها مدرسة فكريّة نبتت في المحيط الشرقي وترعرعت زمناً، ثمّ تراجعت إلى حدّ لا نجد داعياً إليها في العصر الحاضر، غير الشيخ الكوثري وأترابه، ولا مناص لطلاّب الحريّة من شباب أهل السنّة من دراستها واعتناق اُصولها، لكونها منهاجاً وسطاً بين العقليّة المحضة، والنّقلية الخاصّة.
إنّ الظروف والشرائط المفروضة عليهم، وإن كانت لا تسمح لهم الاجتهاد المطلق في الاُصول والعقائد، ودراسة كلّ أصل في جوّ هادئ من دون أن يتقلّدوا رأي انسان غير معصوم من سنّة أو شيعة، لكن في وسعهم الإجتهاد في المذاهب المنسوبة إلى أهل السنّة والجماعة، فعلى طلاب الحريّة، السعي والإجتهاد، للتعرّف على الحقّ، وإزهاق الباطل، ولو في إطار المذاهب العقيديّة الرسميّة.
بيان لقادة الفكر في الأمة:
إنّ الغزو الفكري الّذي يشنّه أعداء الإسلام كلّ يوم من المعسكرين: الشرق والغرب، لاجتياح العقيدة الاسلاميّة وإقصاء الشباب عن ساحة الإيمان، وبالتّالي إفساد عقيدتهم وإحلالهم عن الدين، وعن التفاني دونه ـ إنّ هذا الغزو ـ يفرض علينا الخروج عن إطار الجمود في تحليل العقائد وتقييمها، وعدم الاقتصار على الروايات المنقولة عن «كعب الأحبار»، و«تميم الداري» وأضرابهما، وفتح باب التفكر بمصراعيه في وجه الناشئ وتدريبه وتمرينه بالبرهنة والاستدلال، على مايعتنقه من العقائد، لأنّه يضفي
________________________________________
(67)
لاُصول الاسلام ثباتاً ودواماً وللشباب صموداً أمام الهجمات العنيفة، الّتي توجّه إليهم كلّ يوم من المدارس الفكرية المادية المهزوزة وغيرها، فإنّ في حرمان المسلم المستعدّ عن التفكر الصحيح، مظنة جعله فريسة للمناهج الضالّة، المتدرّعة بالسلاح العلمي المادي الفاتك.
ولا نهدف بذلك إلى دمج الدّين بالفلسفة اليونانيّة أو الغربيّة بل الغرض هو استخدام العقل السليم الفطري ـ الذي به عرفنا ربّنا ودعا إليه كتابه ـ لدرك الدين والدفاع عنه في المجالات الّتي للعقل إليها سبيل.
ولا شكّ أنّ بعض المشايخ لا يعرفون التوسّط في الحياة، ولا الاعتدال في الرأي، فهم بين غارق في العقليّات، غير مقيم للنّقل وزناً في مجال العقيدة، وبين متزمّت لا يعرف في أوضح الواضحات سوى رواية أحمد عن فلان، وإن كان على خلاف الحسّ والعقل.
هذا وذاك كلاهما مرفوضان جدّاً، وإنّما المأمول هو تقدير التعقّل، واحترام حريّة الفكر، وهذا أمر يجب علينا أن نروّض أنفسنا عليه.
ثمّ إنّ هنا كلاماً لبعض قادة الفكر، يلقي ضوءاً على ما نتوخّاه ونطلبه بحماس من حاملي لواء الفكر الاسلامي، ونخصُّ بالذكر أساتذة الجامعات الإسلاميّة حيث يقول:
«ممّا لا نرتاب فيه إنّ الحياة الانسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلاّ بالادراك الّذي نسمّيه فكراً، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر، إنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ، كانت الحياة أقوم، فالحياة القيّمة ـ بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان، وفي أيّ طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان ـ ترتبط بالفكر القيّم وتبتني عليه، وبقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.
وقد ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوّعة كقوله:(أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)(الأنعام /122). وقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا)
________________________________________
(68)
يَعْلَمُونَ)) (الزمر/9) وقوله: (يَرْفَعُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات)(المجادلة 11) وقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ اُولئِكَ هُمُ اُولُوا الألْبَاب)) (الزمر/17 و18) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى العرض، فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح، وترويج طريق العلم، ممّا لا ريب فيه.
ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذّي يندب إليه، إلاّ أنّه أحال فيه إلى مايعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة، وإدراكهم المركوز في نفوسهم.
إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهي، ثمّ تدبّرت في آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكر والتذكر والتعقّل، وتلقين النّبي ـ صلىّ الله عليه وآله ـ الحجّة لإثبات حقّ، أو لإبطال باطل، كقوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئاً إنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ اُمَّهُ) (المائدة/17) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه، كنوح وإبراهيم وموسى، وسائر الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمواتِ وَالأرْضِ) (إبراهيم/10) وقوله: (وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ( لقمان/13) وقوله: (وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ)(غافر/28) وقوله حكاية عن سحرة فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الحَيَاءَ الدُّنْيَا)(طه/72) إلى آخر ما احتجّوا به.
ولم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه، ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به، أو بشيء ممّا هو من عنده، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء، وهم لا يشعرون، حتّى إنّه علّل الشرايع والأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: (إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَر) (العنكبوت/45) وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)

________________________________________
(69)
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة/183) وقوله في آية الوضوء: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة/6) إلى غير ذلك من الآيات(1).
يا اُمّه اثكليه(2)
:
قد بلغ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالمرويّات الضعاف إلى حدّ استطاع أحد الشيوخ من الحنابلة أن يصعد منبر التوحيد، وهو يرى أنّ لله نزولاً كنزول الإنسان، وحركة وسكوناً كحركته وسكونه.
يعزّ على الاسلام أن يسمع قائلاً متسنّماً منصّة القيادة الروحية، في جامع دمشق يهتف: أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ـ ثمّ نزل درجة من درج المنبر ـ وإن كنت في شكّ مما نقول فاستمع إلى ما ينقل الرحالة ابن بطوطة فهو ينقل في رحلته ويقول: «وكان بدمشق من كبار الفقهاء تقي بن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً.. فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم، فكان من جملة كلامه: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء. وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته(3).
اُنظر إلى الوهابيّة كيف اتّخذت هذا القائل شيخاً لإسلامهم وسنداً لمذهبهم، ومعلّماً لتوحيدهم، وإليه يرحلون، وعن فتياه يصدرون، وكأنّه صار صنماً يُعبد، ويدور الحقّ مداره، وهؤلاء لا يجوِّزون لأنفسهم الخروج عن خطوطه قدر شعرة، كأنّه تدرّع بالعصمة والمصونيّة عن الخطأ والزّلل.
________________________________________
1. الميزان ج 5 ص 273 ـ 275.
2 . مثل يضرب عند الدعاء على الانسان. لاحظ مجمع الأمثال ج 2 ص 426 حرف الياء.
3. رحلة ابن بطوطة ط دار صادر، بيروت ص 95.

________________________________________
(70)
بالله عليكم أيّها السادة! يا قادة الفكر في الاُمّة! يا أصحاب رسالة هداية الشباب في العصر الحاضر! إذا كان الشابّ المسلم الجامعي لا يملك من العقيدة الاسلاميّة إلاّ ما تعلّمه من نظريّات ابن تيميّة، فهل يستطيع أن يرفع رأسه ويدافع عن عقيدته، وكيان نحلته، في وجه هجمات الفلسفة الماديّة الخدّاعة الّتي رفعت عقيرتها بأنّ اُصولها مستمدّة من النظريات العلميّة الّتي فرضها العلم وأثبتتها التجربة.
فإذا دار الأمر في تفسير الكون وتبيين خلق العالم، بين ما يثيره أبناء الحنابلة وأصحاب الحديث في انتهاء العوالم الوجوديّة إلى موجود كائن في العرش عال على السماوات والأرض، لا ينفكّ عن الحركة والسكون، وعن الجهة والمكان وغير ذلك من لوازم الجسم والجسمانيات، وبين القول بقدم المادّة وانطوائها تحت سنن وقوانين نابعة عن ذاتها، إمّا عن طريق الصدفة أو عن طريق آخر، فهل يمكن لمفكّر أن يرجّح الأول على الثاني؟ أو أنّ العقول النيّرة الممارسة للعلوم الطبيعية والحسية لا ينظرون إلى الأول إلاّ بنظر الاستهزاء والسخرية؟
وليس ابن تيميّة أوّل بادئ بهذه المهزلة المحزنة، بل سبقه أبناء لهذا المذهب كما لحقه أنصار.
ولأجل ايقاف القارئ على تطرّف الحنابلة في أقوالهم وآرائهم تطرّفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه نأتي بأبيات لأحد شعرائهم في هذا المجال:
فإن كان تجسيماً ثبوت استوائه * على عرشه إنّي إذاً لمجسِّم
وإن كان تشبيهاً ثبوت صفاته * فمن ذلك التشبيه لا أتكتّم
وإن كان تنزيهاً جحود استوائه * وأوصافه أو كونه يتكلّم
فعن ذلك التنزيه نزّهت ربّنا * بتوفيقه والله أعلى وأعظم(1)
________________________________________
1. الصواعق المرسلة ج 1 ص 170 كما في المعتزلة ص 252 .
________________________________________
(71)
وليس هذا الشاعر وحيداً في هذا المجال. بل الحنابلة يتشدّقون بالتجسيم ويفتخرون به بلا مبالاة وإليك القصيدة التالية الّتي نظمها حنبلي آخر أيّام محنة ابن حنبل في السجن:
علا في السماوات العلى فوق عرشه * إلى خلقه في البرّ والبحر ينظر
يداه بنا مبسوطتان كلاهما * يسحّان والأيدي من الخلق تقتر
نهينا عن التفتيش والبحث رحمة * لنا وطريق البحث يردي ويخسر
ولم نر كالتسليم حرزاً وموئلا * لمن كان يرجو أن يثاب ويحذر
وإنّ وليّ الله في دار خلده * إلى ربِّه ذي الكبرياء سينظر
ولم يحمد الله الجدال وأهله * وكان رسول الله عن ذاك يزجر
وسنّتنا ترك الكلام وأهله * ومن دينه تشديقه والتقعّر(1)
ومن أراد أن يقف على كلمات هؤلاء حول التجسيم والتشبيه فعليه بمراجعة كتاب «علاقة الاثبات والتفويض» تأليف رضا بن نعسان معطى بتقديم عبد العزيز بن باز.
فقد حشا فيه كلمات أبناء الحنابلة وغيرهم في مجال الصفات، وادّعى أنّهم يقولون بكونه سبحانه فوق السماوات. وهؤلاء لغاية دفع عار التجسيم يتدرّعون بكلمة بلا كيف وتشبيه، وهو بلا شبهة واجهة اتّخذتها أبناء التجسيم لستر ما يعاب بهم.
وهذه التوالي وليدة إقصاء العقل عن ساحة العقائد، وإحلال النقل على وجه الاطلاق مكانه، وإلاّ فالنقل الصحيح لا يكافح العقل أبداً.
تم الكلام في الماتريدية والحمد لله ربّ العالمين.
________________________________________
1. مناقب الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزي ص 425 ـ 426 ط مصر، الطبعة الأولى .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية