رسالة غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 119 ـ  123
________________________________________
(119)
رسالة غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز
الرسالة الّتي بعث بها غيلان إلى عمر بن عبدالعزيز توقفنا:
أوّلاً: على مكانته من الصمود في وجه المخالفين، ومّما جاء في تلك الرسالة : «أبصرت يا عمر ..... و ماكدت أعلم يا عمر، أنّك أدركت من الإسلام خلقاً بالياً، و رسماً عافياً، فيا ميّت بين الأموات، لا ترى أثراً فتتبع، ولا تسمع صوتاً فتنتفع، طفئ أمر السنّة، وظهرت البدعة، اُخيف العالم فلا يتكلّم، ولا يعطى الجاهل فيسأل، و ربّما نجحت الاُمة بالإمام، و ربّما هلكت بالإمام، فانظر أيّ الإمامين أنت، فإنّه تعالى يقول :
________________________________________
(120)
(وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) فهذا إمام هدى، ومن اتّبعه شريكان، وأمّا الآخر: فقال تعالى (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّار وَ يَوْمَ القِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(القصص:41) ولن تجد داعياً يقول : تعالوا إلى النار ـ إذاً لا يتبعه أحد ـ ولكنّ الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله، فهل وجدت يا عمر حكيماً يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذّب على ماقضى، أو يقضي ما يعذّب عليه، أم هل وجدت رشيداً يدعو إلى الهدى ثمّ يضل عنه، أم هل وجدت رحيماً يكلّف العباد فوق الطاقة، أو يعذّبهم على الطاعة، أم هل وجدت عدلاً يحمل الناس على الظلم و التظالم، و هل وجدت صادقاً يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟ كفى ببيان هذا بياناً، و بالعمى عنه عمى»(1) .
و هذه الرسالة الّتي نقلها ابن المرتضى تعرب أوّلاًَ : عن أنّ الرّجل كان ذا همّة قعساء، و غيرة لا يرضى معها بتدهور الاُمور في المجتمع و رجوعه القهقرى، أنّه بلغ من الإصحار بالحقيقة أن خاطب خليفة الزمان بما جاء في هذه الرسالة.. وأين كلامه هذا «اُنظر أيّ الإمامين أنت» من كلام مرتزقة البلاط الأموي من حيث تقريظهم للخلفاء والثناء على أعمالهم القبيحة، ووصفهم بالسير على خطى الرسول محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. هذا هو جرير بن عطية الخطفي يمدح بني اُميّة بقوله:
ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح
و هذه ليلى الأخيلية تمدح الحجّاج بن يوسف بقولها :
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة * تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الّذي بها * غلام إذا هزّ القناة سقاها
وقال الآخر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً * شديداً بأعباء الخلافة كاهله
________________________________________
1. المنية والامل ص 25 ـ 26.
________________________________________
(121)
إلى غيرهم من الشعراء والاُدباء الّذين يمدحون الطغاة بشعرهم لابشعورهم ونثرهم لا بعقولهم.
ثانياً : إنّ المتبادر من قوله «أو يعذّب على ما قضى ... الخ» إنمّا هو انكار القضاء الدارج في ألسن الأمويين من غلّ الأيدي و جعل الإنسان كالريشة في مهبّ الريح، وأمّا القضاء بمعنى العلم الأزلي بالأشياء و الحوادث فلم يعرف إنكاره له.
محاكمة غيلان
و من العجب «وما عشت أراك الدهر عجباً» أنّ هشام بن عبدالملك قبض على غيلان الدمشقي فقال له :قد كثر كلام الناس فيك، فبعث إلى الأوزاعي، فلمّا حضر قال له هشام : يا أبا عمر ناظر لنا هذا القدريّ، فقال الأوزاعي مخاطباً غيلان : اختر إن شئت ثلاث كلمات و إن شئت أربع كلمات و إن شئت واحدة. فقال غيلان : بل ثلاث كلمات.
فقال الأوزاعي : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل قضى على مانهى؟
فقال غيلان : ليس عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه واحدة. ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ أحال دون ماأمر؟
فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى، ما عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه اثنتان يا أمير الموٌمنين ثمّ قال : أخبرني عن الله عزّ و جلّ هل أعان على ما حرّم؟
فقال غيلان : هذه أشدّ من الاُولى و الثانية، ما عندي في هذا شيء.
فقال الأوزاعي : هذه ثلاث كلمات. فأمر هشام فضربت عنقه(1).
ثمّ إنّ هشاماً طلب من الأوزاعيّ أن يفسّر له هذه الكلمات الثلاث. فقال
________________________________________
1. لا تنس أن هشاماً قد يمّم قتله قبل القاء القبض عليه وقبل هذه المناظرة المسرحيّة.

________________________________________
(122)
الأوزاعي: أمّا الأوّل فإنّ الله تعالى قضى على ما نهى، نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثمّ قضى عليه بأكلها. أمّا الثاني فإنّ الله تعالى حال دون ما أمر، أمرإبليس بالسجود لآدم ثمّ حال بينه و بين السجود، و أمّا الثالث، فإنّ الله تعالى أعان على ما حرّم، حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير، ثمّ أعان عليها بالاضطرار...(1).
يلاحظ على هذه المناظرة:
أوّلاً:
أنّ الجهل بهذه الأسئلة الثلاثة لوكان مبرّراً لضرب العنق، فهشام بن عبدالملك خليفة الزمان أولى بهذا، لأنّه كان أيضاً جاهلاً بها بدليل استفساره عنها من الأوزاعي. فلماذا لا تضرب عنقه أيضاً؟ وهذا يعرب عن أنّ الحكم بالإعدام كان صادراً قبل المناظرة، و إنّما كانت المناظرة بين يدي الأوزاعي تبريراً للإعدام حتّى لا يقال إنّ الحكم صدر إعتباطاً.
ثانياً : ما سأله الأوزاعي عنه ثمّ أجاب عنه، يدل على أنّه كان يمشي على خطّ الجبر، و أنّه كان معتقداً بأنّ قضاء الله يسلب عن الإنسان الحريّة و الإختيار. فكان أكل آدم من الشجرة بقضاء من الله و ما كان له محيص عن الأكل، كما أنّ تخلّف إبليس عن السجود كان بقضاء الله و لم يكن له مفرّ عن المعصية. وقد حال سبحانه بينه و بين السجود على آدم، ومن المعلوم أنّ غيلان الدمشقي و كلّ موحّد يعتقد بصحّة بعث الرّسل و صحّة التكليف ... لا يراه صحيحاً.
ثالثاً : إنّ المناظرة لم تكن مبنيّة على اُصولها. فإنّ من أدب المناظرة أن يطرح السؤال أو الإشكال على وجه واضح، حتى يتدبّر الآخر فيما يرتئيه المناظر من الجواب، وأمّا الأسئلة الّتي طرحها الفقيه الأوزاعي فإنّها أشبه بالأحاجى واللّغز، لا يستفاد منها إلاّ في مواضع خاصّة لاختبار ذكاء الإنسان، ولم يكن المقام إلاّ مقام السيف والدم لا الإختبار للذكاء.
________________________________________
1. تاريخ المذاهب الاسلاميّة ج 1 ص 127 ـ 128 نقلاً عن العقد الفريد وشرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون.
________________________________________
(123)
وفي حدسي أنّ غيلان الدمشقي قد وقف على نيّة الأوزاعي و أنّه يريد أن يأخذ منه الإعتراف بأحد الأمرين إمّا بالجبر إذا أجاب بمثل ما يريد، و عندئذ يكون مناقضاً لعقيدته.
وإمّا بالاختيار و الحريّة فيكون محكوماً بالإعدام و ضرب العنق. فاختار السكوت و عدم الإجابة حتّى يتخلّص من كلتا المغبّتين. وما كان المسكين عارفاً بأنّ الحكم بالإعدام قد سبق السؤال والجواب، وهذه المناظرة مناظرة مسرحيّة رُتّبت لتبرير إراقة دمه تحت غطاء السؤال و الجواب.
هذا وقد قام بعض المعنيّين بالملل والنحل، بنشر ما وصل إليه من الوثائق عن بدايات علم الكلام في الاسلام، فنشر ضمن مجموعةِ رسالتين : رسالة الحسن بن محمّد ابن الحنفيّة في القدر، و رسالة عمر بن عبدالعزيز فيه أيضاً. وسيوافيك الكلام حولهما في آخر المطاف.
وللكتاب ملحق يهدف إلى تبيان بعض القضايا المتعلّقة بشخصيّة من شخصيات القدريّة المفكّرين وهو غيلان الدمشقي، وخاصة تلك القضايا المتعلّقة بحياته وإعدامه في زمن خلافة هشام بن عبدالملك (125).
قال محقّق الكتاب : وتدلّ معظم الروايات على أنّها أقاصيص موضوعة اختلقتها رواتها ليبرهنوا على أنّ غيلان كان خارجاً عن الجماعة، و أنّ حججه كانت غير مقنعة، وأنّ السلطة السياسيّة كانت على حقّ عندما أعدمته. و هذا كلّه مما يجعل استخلاص ما حدث على وجه الدقّة أمراً صعباً، على أنّني حاولت توضيح الأمر بمعلومات استقيتها من كتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري، بالاضافة إلى المصادر الاُخرى(1).
________________________________________
1. بدايات علم الكلام في الاسلام: رسالتان في الرد على القدرية مع ملحق في أخبار غيلان الدمشقي حققها وترجمها وعلّق عليها يوسف فان اسّ نشرها المعهد الالمائي للأبحاث الشرقية في بيروت. وقد وقفنا على تصوير الرسالتين الاوليين دون الملحق واكتفينا ببيان كلام المحقّق.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية