في الاُصول الخمسة عند المعتزلة

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 295 ـ  300
________________________________________
(295)
الفصل السابع
في الاُصول الخمسة عند المعتزلة
اشتهرت المعتزلة باُصولها الخمسة، فمن دان بها فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم. وتلك الاُصول المرتّبة حسب أهمّيتها، عبارة عن : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن دان بها ثمّ خالف بقيّة المعتزلة في تفاصيلها أو في فروع اُخر لم يخرج بذلك عنهم.
قال الخيّاط : «فليس يستحقّ أحد منهم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة : التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا اكملت في الإنسان هذه الخصال الخمس فهو معتزلي»(1).
قال المسعودي (م 345) بعد سرد الاُصول الخمسة حسب ما سمعت منّا :«فهذا ما اجتمعت عليه المعتزلة ومن اعتقد ما ذكرناه من الاُصول الخمسة، كان معتزليّاً، فان اعتقد الأكثر أو الأقلّ لم يستحقّ اسم الاعتزال، فلا يستحقّه إلا باعتقاد هذه الاُصول الخمسة. وقد تنوزع فيما عدا ذلك من فروعهم»(2).
والعجب من ابن حزم (م 456) حيث زعم أنّ الاُصول الخمسة عبارة عن القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية، والتشبيه ونفي القدر، والقول بالمنزلة بين المنزلتين، ونفي
________________________________________
1. الانتصار للخيّاط: ص 126. 2. مروج الذهب: ج 3، ص 222.
________________________________________
(296)
الصفات(1).
فقد ذكر من الاُصول ثلاثة، حيث إنّ نفي القدر و خلق القرآن إيعاز إلى العدل(2) كما أنّ نفي الصفات والرؤية إشارة إلى التوحيد أي تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق، وأهمل اثنتين منها أعني الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كان هذا مبلغ علم الرجل بأصول الاعتزال الّذي هو أقرب إليه من الشيعة، فما ظنّك بعلمه بطوائف أخرى كمعتقدات الشّيعة الّذين يعيشون في بيئة بعيدة منه، ولأجل ذلك رماهم بنسب مفتعلة.
إيعاز إلى الاُصول الخمسة
وقبل كلّ شيء نطرح هذه الاُصول على وجه الاجمال حتّى يعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثمّ نأخذ بشرحها واحداً بعد واحد فنقول:
1- التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً و إثباتا على الحدّ الّذي يستحقّه. وسيوافيك تفصيله فيما بعد، والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الامكان ووهم المثليّة و غيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه كالتجسيم والتشبيه و إمكان الرؤية و طروء الحوادث عليه، غير أنّ المهمّ في هذا الأصل هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه ونفي الروية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل، لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه إلاّ القليل منهم.
2- العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يخلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي
________________________________________
1. الفصل: ج 2، ص 113. 2. سيأتي في الأصل الثاني أنّ القاضي أدخل البحث عن خلق القرآن تحت ذلك. و إن كان غير صحيح.
________________________________________
(297)
الكذّابين، ولا يكلِّف العباد ما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يقدرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك ويبيّن لهم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة) (1) و أنّه إذا كلّف المكلّف و أتى بما كلّف على الوجه الّذي كلف فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم و أسقم فإنّما فعله لصلاحه و منافعه و إلاّ كان مخلاّ ً بواجب...
3- الوعد و الوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخلف لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل ثمّ تركه يكون كذباً، ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخلف كذباً، وعلى ضوء هذا الأصل حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار إذا مات بلا توبة.
4- المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء و الأحكام، وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.
5- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: والمعروف كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما، إنّما الخلاف في أنّه هل يعلم عقلاً أو لا يعلم إلاّ سمعاً؟ ذهب أبو عليّ (م303) إلى أنّه يعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (م 321) إلى أنّه يعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.
قال القاضي: «وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ ـ عليهما السلام ـ لما كان في صبره على ما صبر إعزاز لدين الله عزّوجلّ ولهذا نباهي به سائر الاُمم فنقول: لم يبق من ولد الرّسول صلَّى الله عليه و آله و سلَّم إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى
________________________________________
1. الأنفال/42.
________________________________________
(298)
قتل دون ذلك»(1).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين:
أحدهما: إقامة ما لا يقوم به إلاّ الأئمّة كإقامة الحدود و حفظ بيضة الإسلام وسدّ الثغور و إنفاذ الجيوش و نصب القضاة والاُمراء وما أشبه ذلك.
والثاني: ما يقوم به كافة الناس، وفي المسلمين-كالإماميّة-من يقول بأنّ بعض المراتب منه كالجهاد الابتدائي مع الكفّار مشروط بوجود إمام معصوم مفترض الطاعة.
وهذا إلماع إلى معرفة الاُصول الخمسة الّتي يدور عليها فلك الاعتزال وقد أخذناها من شرح الاُصول الخمسة وقد أتى بها في الفصل الّذي عقده لبيان اُصول المعتزلة على وجه الاختصار. ثمّ أخذ بالتفصيل في ضمن فصول.
والمعتزلة قد اتّفقوا على هذه الاُصول و إن اختلفوا في تفاصيلها. نعم، إنّ هناك اختلافات فيها بين أصحاب المدرستين: أصحاب مدرسة البصرة وعلى رأسهم واصل ابن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظّام والجبائيان والقاضي، وأصحاب مدرسة بغداد وفي مقدّمهم بشر بن المعتمر، وأبو الحسين الخيّاط، وأبو القاسم البلخي، وقد عرفت في الفصول السابقة ترجمة حياتهم.
هذه الاُصول الخمسة الّتي بها يناط دخول الرجل في سلك المعتزلة.
وقد ذكر الشهرستاني الاُصول الّتي اتّفقت المعتزلة عليها، من دون أن يفرّق بين ما يدخل في الاُصول الخمسة وما هو خارج عنها، وإليك نصّه:
«القول بأنّ الله تعالى قديم، والقدم أخصّ وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حيّ بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة. هي صفات قديمة، ومعان قائمة به، لأنّه لو شاركته الصفات في القدم الّذي هو أخصّ الوصف،
________________________________________
1. الاُصول الخمسة ص 142.
________________________________________
(299)
لشاركته في الإلهيّة.
واتّفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محلِّ، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه. فإنّ ما وجد في المحلّ عرض قد فني في الحال. واتّفقوا على أنّ الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها كما سيأتي.
واتّفقوا على نفي روية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه: جهة، ومكاناً، وصورة و جسماً، وتحيّزاً، وانتقالاً، وزوالاً و تغيّراً و تأثّراً. وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسمّوا هذا النّمط توحيداً.
واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله خيرها و شرّها مستحقّ على ما يفعله ثواباً و عقاباً في الدار الآخرة. والربّ تعالى منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنّه لو خلق الظّلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاً.
واتّفقوا على أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ الصّلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأمّا الأصلح واللّطف ففي وجوبه عندهم خلاف. وسمّوا هذا النّمط عدلاً.
واتّفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة و توبة، استحقّ الثّواب والعوض. والتّفضل معنى آخر وراء الثّواب و إذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها، استحقّ الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخفّ من عقاب الكفّار و سمّوا هذا النمط وعداً و وعيداً.
واتّفقوا على أنّ اُصول المعرفة، وشكر النعمة واجبة قبل ورود السّمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك وورود التّكاليف ألطاف للبارىء تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء ـ عليهم السلام ـ امتحاناً واختباراً (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة)(الانفال/42).
واختلفوا في الإمامة، والقول فيها نصّاً و اختياراً، كما سيأتي عند مقالة كلّ

________________________________________
(300)
طائفة»(1).
يلاحظ عليه: أنّ المعتزلة لم تقل في الإمامة بالنصّ، وإنّما يقولون بالاختيار. ونسبة نظرية النصّ إليهم مبنيّ على عدّ الشيعة القائلين بالنص منهم، وهو خطأ.
ولا يخفى على القارئ بعد الاحاطة بما حقّقنا حول الاُصول الخمسة تفكيك الاُصول عمّا يترتب عليها من الأحكام، وقد خلط هو وقبله الأشعري بين المبني و ما يترتب عليه من البناء وغيرهما من الاُصول.
***
________________________________________
1. الملل والنحل: ج 1، ص 44 ـ 46، طبعة دار المعرفة.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية