نفي الرؤية الحسية

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 335 ـ 338
________________________________________
(335)
ج- نفي الرؤية الحسية
هذه هي النقطة الثالثة الّتي تركز عليها المعتزلة عند البحث عن التوحيد، وقد عرفت أنّ التوحيد رمز للتنزيه، أي تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيّات و أحكامها. وقد شغلت هذه المسألة بال المفسِّرين و المتكلِّمين وقد بحث عنها القاضي في كتابيه «شرح الاُصول الخمسة»، و «المغني» على وجه البسط.
يقول القاضي: «وممّا يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية، وهذه مسألة خلاف بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنّما يتحقّق بيننا وبين هؤلاء الأشاعرة الّذين لا يكيّفون الرؤية. وأمّا المجسّمة فهم يسلِّمون أنّ الله تعالى لو لم يكن جسماً لم صحّ أن يرى، ونحن نسلِّم لهم أنّ الله تعالى لو كان جسماً لصحّ أن يرى والكلام معهم في هذه المسألة لغو».
وبما أنّا استوفينا دراسة أدلّة المجوّزين للرؤية في الجزء الثاني، فلنكتف في المقام بدراسة أدلّة النافين على وجه الإجمال. فنقول:
استدلّت المعتزلة على نفي الرؤية بالأدلّة العقليّة والسّمعية. أمّا العقلية، فهي ما أثبتها الحسّ والعلوم الطبيعية من أنّ الرائي بالحاسّة لا يرى الشيء إلاّ إذا كان مقابلاً أو حاّلاً في المقابل أو في حكم المقابل. وقد ثبت أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون كذلك، لأنّ المقابلة من أحكام الأجسام والأعراض وهو سبحانه فوق الممكنات والمادّيات.
________________________________________
(336)
هذا ما استدلّ به القاضي تبعاً لمشايخه. ثمّ أجاب عمّا ربّما يتمسّك به المجوّز من أنّه يمكن أن نرى القديم تعالى بحاسّة سادسة من دون الحاجة إلى المقابلة. وقال: إنّه لو جاز أن يرى القديم بحاسّة سادسة لجاز أن يذاق بحاسّة سابعة، وأن يلمس بحاسّة ثامنة، وأن يشمّ بحاسّة تاسعة، ويسمع بحاسّة عاشرة. تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً(1).
أقول: كان على القاضي أن يعترض أيضاً بأنّ الرؤية بحاسّة سادسة مضافاً إلى أنّه رجم بالغيب، خروج عن الموضوع.
وأمّا السمعيّة: فقد استدلّ القاضي بقوله تعالى: (لاتُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير)(الأنعام/103).
قال: «وجه الدّلالة في الآية هو ما قد ثبت من أنّ الإدراك إذا قرن بالبصر، لا يحتمل إلاّ الرؤية. وثبت أنّه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، ونجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان نفيه تمدّحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
ثمّ قال: فإن قيل: أليس يقولون: «أدركت ببصري حرارة الميل» فكيف يصحّ قولكم إنّ الادراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية؟ اُجيب بأنّ هذا ليس من اللّغة في شيء، و إنّما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحّح مذهبه به، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظوم ولا المنثور».
أقول: إنّ العرب في هذا المجال تقول: «أحسست ببصري حرارة الميل» على أنّ الباء إنّما تدخل على الآلة كقولهم: «مشيت برجلي و كتبت بقلمي» والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة، بل يستوي فيه البصر والسّمع، فلو اُطلق البصر فلا يراد منه إلاّ العضو الحاسّ لا العضو الّذي يرى به.
ثمّ إنّ القاضي أفاض الكلام في دلالة الآية وردّ ما اُثير حولها من الشبهات بوجه
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 248 ـ 253.
________________________________________
(337)
ممتاز، فمن أراد فليرجع إليه(1).
ومن لطيف ما أفاده في المقام، هو الاجابة عن احتجاج المثبتين بما رووه عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر»(2). فأجاب عن الاستدلال بوجوه:
الأوّل: إنّ الأخذ بظاهر الخبر يستلزم أن نرى الله سبحانه مثلما نرى القمر، فإنّا لا نرى القمر إلاّ مدوّراً عالياً منوّراً، والله سبحانه أعلى من هذه الصفات.
يلاحظ عليه: أنّ وجه الشّبه هو الرؤية الحسيّة اليقينيّة. فكما أنّ الإنسان لا يشكّ ـ بعد ما رأى القمر ـ أنّه رآه، فهكذا فيه سبحانه لاتمام الخصوصيات.
الثاني: أنّ هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبدالله البجلي، عن النّبيّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين:
أحدهما: أنّه كان يرى رأى الخوارج. يروى أنّه قال: «منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقيّة الأحزاب ـ يعني النّهروان ـ، دخل بغضه على قلبي» ومن دخل بغض أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قلبه فأقلّ أحواله أن لا يعتمد على قوله، ولا يحتجّ بخبره.
وثانيهما: قيل إنّه خولط في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التّمييز، ولا ندري أنّ هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلطه.
الثالث: إن صحّ هذا الخبر فأكبر ما فيه أن يكون خبراً من أخبار الآحاد. وخبر الواحد ممّا لا يقتضي العلم. ومسألتنا طريقها القطع والثبات.
ثمّ إنّ هذا الخبر معارض بأخبار رويت. ثمّ ذكر بعض الأخبار(3).
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 248 ـ 253. 2. صحيح البخاري، كتاب المواقيت، الباب 16، الحديث 26 ج 1 ص 111، وباب الاذان وغيره. 3. شرح الاُصول الخمسة: ص 269.
________________________________________
(338)
الاجابة عن الشّبه الثلاث
إنّ للمثبتين، شبهاً ثلاثاً أشبه ما تكون بشبهات الأحداث:
الأولى:إنّ القديم تعالى عندكم راء لذاته، فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل. وكلّ من قال إنّه يرى نفسه، قال إنّه يراه غيره.
يلاحظ عليه: أنّ الصغرى والكبرى ممنوعتان. فإن اُريد من رؤيته لذاته حضور ذاته لذاته وعدم غيبوبتها عنها، فهو صحيح ولا صلة له بالرؤية الحسّيّة، وإن اُريد الرؤية بالبصر فالصغرى ممنوعة. وأمّا الكبرى فزعم المستدلّ أنّ المسألة مسألة فقهيّة لا يصحّ التفكيك بينهما.
الثانية:إنّ مصحِّح الرؤية هو الوجود، بدليل أنّ الشيء متى كان موجوداً كان مرئياً. ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيّاً.
يلاحظ عليه: أنّ الوجود شرط الرؤية لا العلّة التامّة. ولأجل ذلك لا يرى الإنسان الارادات والكراهات ولا غير ذلك. فللرؤية شرائط قد حقِّقت في العلوم الطّبيعية.
الثالثة:إنّ إثبات الرؤية للّه تعالى لا تؤدّي إلى حدوثه، ولا إلى حدوث معنى فيه، ولا إلى تشبيهه بخلقه.
وأجاب القاضي أنّ إثبات الرؤية تؤدّي إلى تشبيهه بخلقه، لأنّ الشّيء إنّما يرى إذا كان مقابلاً، أو حالاً في المقابل، وهذه من صفات الأجسام، فيجب أن يكون تعالى جسماً، وإذا كان جسماً يجب أن يكون محدثاً (1).
________________________________________
1. كان على القاضي و غيره البحث عن حدوث كلامه سبحانه أو قدمه في المقام، لأنّ نفي قدمه من شئون توحيده، ولكنه غفل عن ذلك.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية