المنزلة بين المنزلتين

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص  421ـ 425
________________________________________
(421)
الأصل الرابع
المنزلة بين المنزلتين
إنّ هذا الأصل يهدف إلى أنّ صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمناً، كما عليه جمهور المسلمين ولا كافراً، كما عليه الخوارج، وإنّما يسمّى فاسقاً. فهو من حيث الإيمان والكفر في منزلة بين المنزلتين.
قال القاضي: «لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن، وإنّما يسمّى فاسقاً. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث و هذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر، ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما»(1).
ثمّ إنّه قسّم المكلّف من حيث استحقاق الثّواب والعقاب إلى قسمين: إمّا أن يكون مستحقّاً للثّواب فهو من أولياء الله، وإمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب فهو من أعداء الله.
ثمّ الثّاني إمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب العظيم فهو الكافر والمنافق والمرتدّ. وإن استحقّ عقاباً دون ذلك سمّي فاسقاً «وهو المرتكب للكبيرة».
ثمّ إنّ الأساس لاخراج الفاسق عن المؤمن هو جعل العمل جزءاً من الإيمان،
________________________________________
1. شرح الأصول الخمسة: ص 697.
________________________________________
(422)
وعلى هذا فإذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من عداد المؤمنين و فيه تشترك المعتزلة والخوارج، ولكن تنشعب المعتزلة عن الخوارج بقولهم إنّه لا مؤمن ولا كافر، بل في منزلة ـأو له ـ بين المنزلتين، ولكنّه عند الخوارج ليس بمؤمن بل كافر.
ثمّ إنّهم استدلّوا على كونه ليس بمؤمن بوجوه نأتي بها مع تحليلها:
الدّليل الأوّل: ما مرّ في مناظرة واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد من اختلاف المسلمين في سائر الأسماء و اتّفاقهم على كونه فاسقاً، فنأخذ بالمجمع عليه و نطرح ما اختلفوا فيه، حيث إنّهم اختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً أو منافقاً، ولكن اتّفقوا في كونه فاسقاً، فنأخذ بالمتيقّن و نطرح المختلف فيه. وقد عرفت ضعف هذا الدّليل فلا نعيده.
الدّليل الثّاني: ما ذكره القاضي من أنّ «المؤمن» نقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر وصار بالشّرع اسماً لمن يستحقّ المدح والتّعظيم، والدّليل على ذلك أنّه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم. ألا ترى إلى قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون) و قوله: (إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)وقوله: (إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه) إلى غير ذلك من الآيات.
ومثله لفظ المسلم فهومنقول إلى من يستحقّ المدح و التّعظيم.
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض غير مقترن بالدّليل ناش من خلط الأثر بذي الأثر، ولو صحّ لوجب أن يقول القاضي: إنّ الصّلاة موضوع لمعراج المؤمن، والصّوم للجُنّة من النار، والزّكاة لتنمية المال، لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : «الصّلاة معراج المؤمن» و «الصّوم جُنّة من النار» و «الزّكاة تنمية للمال».
والّذي يدلّ على فساد ما ذكره أنّه لو صحّ لوجب أن يصحّ وضع الممدوح مكان المؤمن في الآيات التّالية، مع أنّه لا يقبله أيّ ذوق سليم.
1 ـ قال سبحانه: (ولعبد مؤمن خير من مشرك) (البقرة/221).
________________________________________
(423)
2 ـ وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) (النساء/92).
3 ـ وقال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة) (الأحزاب/36) إلى غير ذلك من الآيات.
والعجب من القاضي كيف غفل عن الآيات الّتي ذكر فيها متعلّق الإيمان، ومعه لا يمكن حمله إلاّ على أنّه بمعنى الاذعان. قال سبحانه: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر)(النساء/39).
و قال سبحانه: (والّذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرّقوا بين أحد منهم)(النساء/251)
وقال سبحانه:(فأمّا الّذين آمنوا بالله واعتصموا به) (النساء/175).
إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا تبقي شكّاً في أنّ الإيمان بمعنى الاذعان مطلقاً، وفي المقام بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر و رسوله.
وأمّا ما ذكر من أنّه سبحانه لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم منقوض بقوله سبحانه: (ومن يؤمن بالله و يعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته)(التغابن/9).
وقال سبحانه: (الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)(الأنعام/82) و الظّاهر أنّ القيد «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» احترازيّ لا توضيحيّ.
أضف إليه أنّ الإيمان ذو درجات و مراتب، فالمدح المطلق للدّرجة العليا و المدح النّسبي للدرجات التالية لها.
ثمّ إنّ تقسيم النّاس إلى قسمين: من يستحقّ الثّواب، ومن يستحقّ العقاب، لا يصدقه القرآن، بل هناك قسم ثالث و هو عبارة عمّن يستحقّ كلا الأمرين. قال سبحانه: (وآخرون (من الأعراب) اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم) (التوبة/102) فلأجل كونه ذا عمل
________________________________________
(424)
صالح يستحقّ الثّواب قطعاً لقوله: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حيوة طيَّبة و لنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)(النحل/97) ويستحقّ العقاب لكونه ذا عمل سَيّىء.
ثمّ إنّ القاضي عطف على دليله السابق قوله:
1 ـ لو كان لفظ المؤمن باقياً على ما كان عليه في اللّغة لكان يجب إذا صدّق المرء غيره أو آمنه من الخوف أن يسمّى مؤمناً و إن كان كافراً.
2 ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الأخرس مؤمناً.
3 ـ ولكان أن لا يجري على النّائِم والسّاهي، لأنّ الانقياد غير مقصود منهما.
4 ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الآن بهذا الاسم إلاّ المشتغل به دون من سبق منه الإسلام، ولازمه أن لا نسمّي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مؤمنين(1).
يلاحظ عليه: أنّ هذه الوجوه عليلة جدّاً لا تليق بمقام القاضي. أمّا الأوّل، فالمؤمن هو المذعن المصدّق، ويختلف متعلّقه بحسب اختلاف الموارد، فإذا أطلق في عرف اللّغة يراد منه نفس المذعن، سواء كان متعلّقه هو الله سبحانه أو غيره. قال سبحانه: (وما أنت بمؤمن لنا)(يوسف/17).
وأمّا في عرف الشّرع والمتشرّعة و مصطلح القرآن و الحديث، فالمراد هو الاذعان بالله واليوم الآخر و رسالة رسوله، فالّذي يصدق شخصاً مؤمن حسب اللّغة، ولا يطلق عليه المؤمن في مصطلح الشّرع و المتشرّعة بهذا الملاك.
وأمّا الأخرس فهو مؤمن لكشف إشاراته عن إذعانه، والنّائم والسّاهي مؤمنان لوجود الاذعان في روحهما، غاية الأمر يكون النّوم و السّهو مانعين عن بروزهما. وأمّا من مات مؤمناً فهو أيضاً مؤمن بلحاظ حال النّسبة، لا حال التكلّم، فالضّارب والقاتل في اليوم الماضي يطلق عليهما المشتقّ باعتبار زمان النّسبة لا باعتبار زمان التكلّم، والشّجرة
________________________________________
1. شرح الاصول الخمسة: ص 703 ـ 705.
________________________________________
(425)
المثمرة في الشّتاء مثمرة بلحاظ حال النّسبة.
ثمّ إنّ القاضي استدلّ بآيات ربّما يستظهر منها دخول الأعمال في الإيمان، فقد أوضحنا مداليلها عند البحث عن عقائد المرجئة، فلا نطيل.
ثمّ إنّ هناك اختلافاً بين نفس المعتزلة، فذهب أبو الهذيل إلى أنّ الإيمان عبارة عن أداء الطّاعات، الفرائض و النّوافل، واجتناب المقبّحات. وهو أيضاً خيرة القاضي.
واختار الجبّائيان أنّه عبارة عن أداء الطّاعات، الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبّحات.
وقد عرفت ضعف الكلّ عند البحث عن المرجئة.
بقي هنا بحث وهو الاجابة عن الاستدلالات الّتي تمسّك بها الخوارج على
أنّ مرتكب الكبائر كافر. ونبحث عنها في الجزء (1) المختصّ بعقائدهم،
فانتظر.
________________________________________
1. لاحظ الجزء الخامس من هذه الموسوعة.
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية