ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 225 ـ 228
________________________________________
(225)
(7)
ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين
إنّ التوسل بالأنبياء والصالحين في حال حياتهم أو بعد التحاقهم بالرفيق الأعلى من الأُمور الرائجة بين الموحدين في جميع الأجيال والقرون، وقد أثارت فتوى ابن تيمية فيها بالحرمة ضجّة كبرى بين المسلمين، فالمسلمون كانوا إلى عصر ابن تيمية على جواز التوسل بشروطه المسوغة، إلى أن جاء ابن تيمية فأفتى بالحرمة، وتبعه الوهابيون، فأقصى ما جاز عندهم من التوسل هو التوسل بدعاء النبي في حال حياته، غير أنّ الشبه والظنون الّتي اعتمدوا عليها في منع التوسل كانت تقتضي منع هذا القسم أيضاً، لأنّه توسل بالمخلوق لا محالة في مقام العبادة، لكنّهم لم يجدوا منتدحاً عن القول بجوازه لتصريح القرآن به، حيث حثّ المسلمين على المجىء إلى النبي وطلب الاستغفار منه، قال سبحانه: (وَلَوْ أنّهُم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحيماً)(1)، وقال سبحانه: (وَإذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُم رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤوُسَهُم )وَرَأيْتَهُم يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)(2) وقال سبحانه ناقلا عن أبناء يعقوب (يَا أبَانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنّا خَاطِئِينَ)(3) .
________________________________________
1. سورة النساء: الآية 64 .
2. سورة المنافقون: الآية 5 .
3. سورة يوسف: الآية 97 .

________________________________________
(226)
ولأجل الحط من شأن النبي وكرامته يجعلون النبي مساوياً للمؤمنين ويقولون: «إنّ التوسل الجائز هو التوسل بدعاء المؤمن حال حياته، ولو جاز التوسل بدعاء النبي فليس هذا إلاّ لكونه أحد المؤمنين، ويجوز التوسل بدعاء كل أخ مؤمن من غير فرق بين النبي وغيره، وأمّا غير ذلك فكله ممنوع».
وستوافيك أقسامه وكلماتهم فيها، وبما أنّ الوهابيين مازالوا يستدلون ضد المتوسلين ببعض الآيات، نقدم البحث عنها ونقول:
آيتان على طاولة التفسير
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُم وَلاَ تَحْويلا * أُولئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِم الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ، وَيَرجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً)(1).
يقول محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية وخادمها في الرياض: إنّك ترى أنّ اللّه تعالى يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّ عمل المشركين بالتزلّف إلى اللّه بأشخاص المخلوقين لا يفيدهم شيئاً، لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنهم ولا تحويلا، فدعاؤهم بالذوات أو التوسل بهم لا يقدّم ولا يؤخّر، ولا يوصلهم، لأنهم أخطأوا الطريق إلى اللّه .
إنّ هاتين الآيتين في سورة الإسراء نزلتا في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنّيون، أمّا الإنس الذين كانوا يعبدونهم فلم يشعروا بإسلامهم، فأخبرهم اللّه بوحيه المنزل على عبده ورسوله محمد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : إنّ هؤلاء الذين يزعم المشركون أنهم يقرّبونهم إلى اللّه زلفى، يتسابقون ويتنافسون فيما بينهم بالتقرّب إلى الله تعالى، ويرجون رحمته و يخشون عذابه، فكيف أيها المشركون تدعونهم لكشف الضر عنكم وتوسّطونهم، فما الّذي تؤملون منهم وهم على أشدّ ما يكونون حاجة إلى اللّه تعالى، فالذي لا يملك شيئاً، لا يعطي شيئاً(2).
________________________________________
1. سورة الإسراء: الآية 56 ـ 57 .
2. التوصل إلى حقيقة التوسل ص 12 ـ 13 .

________________________________________
(227)
إنّ الاستدلال بهاتين الآيتين على رد التوسل الشائع بين المسلمين من عجيب الأُمور، فإنّ التوبيخ فيهما متوجّه إلى المشركين الذين كانوا معتقدين بألوهية معبوداتهم، وأنهم يملكون كشف الضر وتحويل السوء عن الدعاة، واللّه سبحانه يرد عليهم بأنّ المدعوين في أشد الحاجة إلى طلب التقرب إلى اللّه سبحانه، فكيف يمكن لهم كشف الضر عنهم؟ وأيّة صلة بين أولئك المشركين المعتقدين بألوهية المدعوين، والموحدين الذين يعتقدون بأنّه لا يملك كشف الضر إلاّ اللّه، ولكنّهم يوسّطون بينهم وبين ربّهم أحد عباد اللّه الصالحين، الّذي له مكانة عند اللّه، لعلّه سبحانه يجيب دعوته لأجله وحرمته ومقامه، وليس ذلك ببدعة، فقد أمر بتوسيط دعاء النبي في طلب المغفرة من اللّه، وأمر العصاة أن يطلبوا منه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ الاستغفار على ما عرفت .
والقسمان يشتركان في توسيط المخلوق، سواء أكان ذاته القدسية أمْ دعاءَهُ المستجاب .
ثم إنّه في ذيل كلامه يقول: «إنّ الذين كان العرب يوسطونهم في توسلاتهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة، فما بال المسلمين المتوسلين لا يقتدون بهم، ولم لا يفعلون ما يفعلون ما داموا بهم وبصلاحهم واثقين»؟ .
وللملاحظة والتدبّر في كلامه مجال واسع:
أمّا أولا ـ فمن أين علم أنّ هؤلاء الذين كان العرب يوسطونهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة؟ فليس في الآية شيء يدل على ذلك .
وثانياً ـ لو صحّ ذلك فمعنى كلامه أنّ التوسل منحصر في ذلك، مع أنّه من المجوزين لتوسل المسلم بدعاء النبي في حال حياته، بل بدعاء أخيه المسلم، فلماذا صار التخلف هيهنا عن هديهم ومذهبهم جائزاً مع أنهم لم يكونوا متقربين إلاّ بأعمالهم فقط .
والحق أنّ الكاتب اتّخذ موقفاً مسبقاً في مجال التوسل، وهو إحياء ما بذره ابن تيمية، فلذلك ترى أنّه يقفو في كتابه أثر شيخه، بلا تخلّف عنه قيد شعرة، مع أنه يتظاهر في بدء كتابه بأنه يريد أن يعالج الموضوع علاجاً محايداً
________________________________________
(228)
عن كلّ تحيّز(1) .
________________________________________
1. التوصل إلى حقيقة التوسل ص 9 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية