التوسل بدعاء النبي ص

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 265 ـ 272
________________________________________
(265)
أقسام التوسل:
(3)
التوسل بدعاء النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ
قد تعرفت في صدر البحث على أنّ ابن تيمية وأتباعه يجوّزون التوسل بدعاء النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في حال حياته، ويجعلونه من التوسلات الجائزة الداخلة في إطار «التوسل بدعاء الأخ المؤمن» ولكنهم يخصّونه بحال حياته، ويحرّمونه بعد رحلته، قال ابن تيمية:
«أجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به حال حياته ويتوسلون بحضرته، وأمّا في مغيبه أو بعد موته فلم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين، بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمن كان حياً كالعباس ويزيد بن الأسود، ولم ينقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي عند قبره ولا غيره، بل عدلوا إلى خيارهم... ثم إنّ المسلمين بعد موته إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلا عنه، فلو كان التوسل به ـ حياً وميتاً ـ مشروعاً لم يميلوا عنه وهو افضل الخلق وأكرمهم على ربه، إلى غيره ممن ليس مثله. فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منّا برسوله وبحقوق اللّه ورسوله، وما يشرع من الدعاء وما ينفع، وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه، ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أنّ التوسل به حياً هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون
________________________________________
(266)
يسألونه ليدعو لهم في حياته، وأمّا بعد موته فلم يسأل الصحابة منه ذلك، لا عند قبره ولا عند غيره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصحالين(1) .
وقد علق السيد محمد رشيد رضا مؤلف المنار على هذا الموضوع بقوله:
«يزعم بعض الناس في زماننا أنّه لا فرق في طلب الدعاء والشفاعة منه بين هذه الحياة و الممات، لأنّه حي في قبره وكأنهم يدعون أنهم أعلم من الصحابة وسائر أئمة السلف بذلك، فالصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ فرقوا بين الحالين، وإن شئت قلت بين الحياتين، والأُمور التعبّدية لا تشرع بالعقل ولا بالقياس(2).
يلاحظ عليه: أنّ المعروف أنّ السنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره، فالحجة عبارة عن أحد هذه الأمور، ونحن نفترض أن الصحابة بأجمعهم من المعصومين. فإنّ أقصى ما يمكن أن يحتج به هو أنّ فعل الصحابة دليل على جواز الفعل، وأمّا أنّ تركهم دليل على حرمته، وعدم جوازه، فمن عجائب الأُمور وغرائبها، ولم يعهد هذا الاستدلال من أهل الفتوى والدليل.
وأمّا عدول الصحابة عن التوسل بدعاء النبي في حال مماته، إلى التوسل ببعض أهل بيته فقد ذكرنا وجهه، وهو: أنّ التوسل بالإنسان الصالح الحي لأجل إظهار أن ذلك الفرد يتّحد مع المتوسلين في المصير، وأنه لولا نزول الرحمة لعمَّهُ الهلاك والدمار مثلهم، وبما أنه صالح لنزول الرحمة عليه، فلتنزل رحمتك عليه يا رب فإنه أهل لذلك، وإن كنا غير مستحقين لها .
ومن المعلوم أنّ ترسيم هذا، الّذي هو أحد الأسباب لاستنزال الرحمة، إنما يتحقق بالصالح الحي دون غيره، لأنّ غير الحي ليس متحداً في المصير مع الأحياء، ولأجل ذلك نرى الصحابة يتوسلون بالحي دون غيره، وما هذا إلاّ
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل، ج 1 ص 14 .
2. المصدر نفسه .

________________________________________
(267)
لأجل ذلك. وقد أشار إلى ذلك «السبكي» وقال: ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي أو بالقبر، ولعل توسل عمر بالعباس لأمرين:
أحدهما: ليدعو كما حكينا من دعائه .
الثاني: إنَّه من جملة من يستسقي وينتفع بالسقيا وهو محتاج إليه، بخلاف النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في هذه الحالة فإنه مستغن عنها، فاجتمع في العباس الحاجة وقربه من النبي وشيبه، واللّه يستحيي من ذي الشيبة المسلم، فكيف من عم نبيه، ويجيب دعاء المضطر فلذلك استسقى عمر بشيبته(1) .
هذا ويصرح الذكر الحكيم بأنه ما نفع إيمان قوم بعد إشراف العذاب عليهم، إلاّ قوم يونس، قال سبحانه:
(فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمَانُها اِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ في الحَيَاةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِين)(2) .
ذكر المفسرون: إنّ قوم يونس لما عاينوا العذاب، أشار إليهم العالم الموجود فيهم بقوله: افزعوا إلى اللّه فلعلّه يرحمكم ويرد العذاب عنكم، فاخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها، ثم ابكوا وادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب(3) .
ولم يكن هذا العمل إلاّ لأجل استنزال الرحمة على النحو الّذي عرفت .
نعم، ما ذكره في آخر كلامه من أنه أمر عبادىّ يحتاج إلى الدليل فهو كلام متقن، ولكنّه ليس معناه أن يكون الدليل المطلوب دليلا بالخصوص، بل لو كان هناك عام أو إطلاق حول التوسل بدعاء النبي فيؤخذ بإطلاقه، سواء أكان النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ في دار التكليف أم في البرزخ، وإليك البيان:
________________________________________
1. شفاء السقام: ص 143 ـ 144 .
2. سورة يونس: الآية 98 .
3. مجمع البيان: ج 3 ص 135 .

________________________________________
(268)
وهو يتوقف على بيان أُمور:
1- بقاء الروح بعد الموت
دلّت الآيات القرآنية على بقاء الروح بعد الموت، وأنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان، بل هو عبارة عن انخلاع الروح عن البدن، وبقائه مستقلا عنه، من غير فرق بين المسلم وغيره، والمقتول في سبيل اللّه وغيره، والآيات في ذلك متضافرة .
قال سبحانه: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرونَ)(1)، وهناك آيات نشير إلى مواردها، ومن أراد التوسع في الموضوع: فليرجع إليها(2) .
2- الحقيقة الإنسانية هي الروح
إنّ الإنسان وإن كان بحسب التحليل الظاهري يتركب من شيئين: المادة والمعنى، والجسم والروح، ولكن الحقيقة الإنسانية عبارة عن نفس الإنسان وروحه، ولأجل ذلك يردّ الوحي الإلهي على من زعم أنّ البدن الإنساني يضل في العالم بعد الموت، حيث حكى عنهم قولهم: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْق جَديد) فردّ عليهم بقوله:
(قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(3) .
ومعنى التوفّي في الآية هو الأخذ، ومعنى الآية أنّ تناثر أجزاء البدن في أجواء العالم وثناياه، لا يضر بالمعاد، فإنّ الحقيقة الإنسانية وواقعيتها محفوظة عند اللّه، وأنّ ملك الموت يأخذكم، وليس المأخوذ إلاّ الروح .
________________________________________
1. سورة البقرة: الآية 154 .
2. لاحظ: سورة آل عمران: الآية 169 ـ 171، سورة يس : الآية 25 ـ 26، سورة غافر الآية 46 .
3. سورة السجدة: الآية 10 ـ 11 .

________________________________________
(269)
3- إمكان الاتصال بالأرواح
إنّ الذكر الحكيم يصدق صحة اتصال الإنسان العائش في الدنيا بالأرواح المتواجدة في عالم البرزخ، ويصرّح بأنّ بعض الأنبياء كصالح وشعيب كلّموا أرواح أُممهم الهالكة، ويظهر ذلك بالإمعان في الآيات التالية:
يقول في حق أُمة شعيب:
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحوا في دَارِهِمْ جاثِمينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيها، الَّذينَ كَذَّبوا شُعَيباً كانُوا هُمُ الخَاسِرينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَد أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلَى قَوْم كافِرينَ)(1) .
ترى أنّ قوله: «فتولّى عنهم» جاء بعد الإخبار بدمارهم وهلاكهم كما هو صريح سياق الآيات، وعندئذ خاطب الهالكين بقوله: «يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي...» .
ويقول في حق أُمة صالح:
(فَعَقَروا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرسَلينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبِحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ)(2) .
وكيفية الاستدلال واضحة بعد التدبّر في ما ذكرناه، فإنّ المخاطبة والمحاورة وقعت بعد هلاكهم، فلا يمكن لنا رفض سياق الآية والقول بأنه كلمهم في حال حياتهم.
إنّ الذكر الحكيم يأمر النبي بسؤال المرسلين ويقول: (وَاسْأَلْ مَنْ)
________________________________________
1. سورة الأعراف: الآية 91 ـ 93 .
2. سورة الأعراف: الآية 77 ـ 79 .

________________________________________
(270)
أرْسَلنا مِنْ قَبْلِكِ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ))(1) .
وتأويل الآية بإرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب تأويل بلا دليل، ولا منافاة بينهما حتّى يرجع أحدهما إلى الآخر .
إنّ المسلمين جميعاً يخاطبون النبي بالسلام في حال التشهد، ويقولون: «السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته» وقد اتفق الفقهاء على كونه جزءاً من التشهّد(2) .
وفي ضوء هذه الأُمور الثلاثة تثبت إمكانية التوسل بالأرواح المقدسة، فالأولياء والأنبياء من جانب أحياء يرزقون، من جانب آخر، إنّ حقيقة الإنسان هى النفس الباقية بعد الموت أيضاً، ومن جانب ثالث، إِنَّ الأنبياء كلّموا أرواح أُممهم الماضية. كل ذلك يدل على إمكانية الاتصال بهم ووقوعه، وأنهم يسمعون كلامنا وسلامنا ومحاورتنا.
بقي الكلام في جواز التوسل شرعاً، حتّى يكون تعبداً مع الدليل .

إنّ الذكر الحكيم يحثّ المذنبين على المجيء إلى النبي وطلب الاستغفار منه يقول: (وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (3) والمتبادر إلى أذهاننا في هذا الزمان اختصاص الآية بحال حياة النبي، ولكن الصحابة فهموا منه الأعم من حال الحياة والارتحال إلى الرفيق الأعلى، ويدل على ذلك ما نذكر:
1- روى البيهقي عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: يا رسول اللّه. استسق اللّه لأُمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول اللّه في المنام وقال: ائت عمر
________________________________________
1. سورة الزخرف: الآية: 45 .
2. الخلاف، للشيخ الطوسي، ج 1 ص 47، وقد نقل صوراً مختلفة للتشهد عن أئمة المذاهب والكل يشتمل على خطاب النبي بالسلام .
3. سورة النساء: الآية 64 .

________________________________________
(271)
فاقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون(1) .
فالحديث يعرب عن أنّ التوسل بدعاء النبي بعد رحلته كان رائجاً، ولو كان عملا محرّماً أو بدعة فلماذا توسل هذا الرجل بدعائه؟ ولماذا بكى الخليفة بعد سماع كلامه، كما هو في ذيل الحديث ؟
يقول السمهودي بعد نقل الحديث: ومحل الاستشهاد طلب الاستسقاء منه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وهو في البرزخ، ودعاؤه لربه في هذه الحالة غير ممتنع، وعلمه بسؤال من يسأله قد ورد، فلا مانع من سؤال الاستسقاء وغيره منه كما كان في الدنيا(2) .
2- روى ابن عساكر في تاريخه، وابن الجوزي في «مثير الغرام الساكن» وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فزرته وجلست بحذائه، وجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل! إنّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم ـ )إلى قوله: رحيماً)) وإني جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي متشفعاً بك، وفي رواية: «وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي» ثم بكى وأنشأ يقول:
ياخير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف.
3- وقال السمهودي: قال الحافظ أبو عبداللّه محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام»: إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علىّ بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه - قال: قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللّه بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي وحثا من ترابه على
________________________________________
1. دلائل النبوة، ج 7 باب ما جاء في رؤية النبي في المنام، ص 47 .
2. وفاء الوفاء: ج 4 ص 1371 .

________________________________________
(272)
رأسه وقال: يا رسول اللّه. قلت قسمعنا قولك، ووعيت من اللّه سبحانه منا وعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك: (ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوكَ فاستغفروا اللّه...) وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي(1) .
________________________________________
1. وفاء الوفاء: ج 4 ص 1361 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية