إبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً

البريد الإلكتروني طباعة
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 279 ـ 291
________________________________________
(279)
(8)
إبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً
إتفق المسلمون عامة على شفاعة النبي الأكرم يوم القيامة، وإن اختلفوا في معنى الشفاعة بين كونها سبباً لغفران الذنوب كما عليه الأشاعرة والإمامية وأهل الحديث، أو لترفيع الدرجة كما عليه المعتزلة. إنما الكلام في طلب الشفاعة من النبي في حال حياته ومماته، فالمسلمون إلى عهد ابن تيمية اتفقوا على جوازه حياً وميتاً، وهو من فروع طلب الدعاء من المشفوع له، إلى أن جاء ابن تيمية في القرن الثامن الهجري ورفع راية الخلاف بين المسلمين، وقال: «لا يجوز طلب الشفاعة من النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ فهو يسلم بأن نبي الإسلام وسائر الأنبياء لهم حق الشفاعة في الآخرة، ولكن يقول: لا يطلب الشفاعة إلاّ من اللّه، يقول ابن تيمية:
«قد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة، ثم بيّن مراتب الأدعية المبتدعة على النحو التالي»:
1- الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً، وسواء أكان من الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ أم غيرهم فيقال: يا سيدي فلان أغثني، وأنا مستجيرك ونحو ذلك، فهذا هو الشرك باللّه...
2- أن يقول للميت أو الغائب من الأنبياء: ادع اللّه لي، أو ادع لنا ربك ونحو ذلك، فهذا لا يستريب عالمٌ أنه غير جائز...
3- أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ونحو ذلك، فهو
________________________________________
(280)
الّذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي، وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء، فكيف بغيرهم...؟(1)
يلاحظ على مجموع ما ذكره:
أمّا القسم الأول،
فإنّ عدّه شركاً، عجيب جداً، هذا هو القرآن الكريم يذكر عن شيعة موسى قوله: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَُدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيهِ)(2)، ومعه كيف يقول: إنّ قول القائل «يا سيدي فلان أغثني» شرك سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً، أوَ لم يكن موسى حياً حين استغاثه الّذي من شيعته؟ ولو خصّ الشرك بصورة كون المدعو ميتاً ـ فمع أنه مخالف لصريح كلامه ـ لا يكون سبباً للشرك، إذ لا معنى لكون خطاب في حال، عين التوحيد، وفي أُخرى نفس الشرك، نعم، الموت والحياة يؤثران في الجدوائية وعدمها.
وأمّا القسم الثالث، أعني قول القائل: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، فهو داخل في القسم الثاني من التوسل الّذي قدمنا الكلام فيه، وذكرنا هناك توسل شخص النبي بحقه وحق الأنبياء .
نعم، الكلام في القسم الثاني، وهو أن يخاطب الأنبياء والصالحين بقوله: «ادع اللّه لي، أو ادع لنا ربك» وهذا هو الّذي ذكر في حقه «أنه لا يستريب عالم في أنه غير جائز» مع أنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء من الشافعين في حال حياتهم ومماتهم .
ثم إنّ لأتباع محيي مسلك ابن تيمية في القرن الثاني عشر، أعني محمد بن عبدالوهاب، تعبيراً واضحاً في ذلك المجال يقول:
«إنّ طلب الشفاعة يجب أن يكون من اللّه لا من الشفعاء بأن يقول:
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 22 .
2. سورة القصص: الآية 15 .

________________________________________
(281)
اللّهمّ شفّع نبيّنا محمداً فينا يوم القيامة، أو اللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم، فلا يقال: يا رسول اللّه أو يا ولي اللّه أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان ذلك من أقسام الشرك(1) .
هكذا نرى أنّ الاتهام بالشرك أرخص وأوفر شيء في كتب الوهابية وشيخها ابن تيمية، ولتحقيق الحال نركّز على أمرين يبتني عليهما جواز طلب الشفاعة عن الأنبياء والصالحين في هذه الدنيا وهما:
1- إنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء .
2- إنّ طلب الدعاء من الصالحين أمر مستحب في الاسلام،
وقد جوّزته الوهابية إذا كان المدعو حياً، وإليك بيانهما:
أ ـ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء
إنّ شفاعة النبي وسائر الشفعاء هي الدعاء إلى اللّه وطلب المغفرة منه سبحانه للمذنبين، واللّه سبحانه أذن لهم في الدعاء في ظروف خاصة، فيستجاب فيما أذن، وهم لا يدعون في غير ما أذن اللّه لهم .
نعم، نحن لا نحيط بكنه الشفاعة في يوم القيامة، ولعلّ لها في ذلك اليوم مرتبة أُخرى، ولكن الدعاء إلى اللّه من مراتبها ومن أوضح مصاديقها، فقول القائل مقابل قبر النبي «يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه» لا يقصد إلاّ هذا المعنى. هذا هو المفسر المعروف النيسابوري يذكر عن مقاتل في تفسير قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصيبٌ مَنْهَا، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا)(2):... الشفاعة إلى اللّه إنما هي دعوة اللّه لمسلم(3) .
________________________________________
1. الهدية السنية، الرسالة الثانية: ص 42 والرسالة لأحد أتباعه .
2. سورة النساء: الآية 85 .
3. تفسير النيسابوري: ج 5 ص 118 بهامش تفسير الطبري .

________________________________________
(282)
وهذا هو الإمام الرازي يفسر الشفاعة بالدعاء والتوسل إلى اللّه، فقد قال في تفسير قوله سبحانه: (وَيَسْتَغْفِرون لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَىء رَحْمَة) هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء، لا نعقاد الإجماع على أنه لا فرق(1) .
وقال أيضاً قال تعالى لمحمد ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : (وَاسْتَغْفِرْ لَذَنبِكَ وَلِلمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَات) فأمر محمداً أن يذكر أوّلا الاستغفار لنفسه، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره، وحكى عن نوح ـ عليه السَّلام ـ أنه قال: (رَبِّ اغْفِرْلي وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بِيتِيَ مُؤمِناً وَلِلْمُؤمِنينَ وَالمُؤمِنات)(2) .
وعلى هذا فالشفاعة هي دعاء الشفيع للمذنب، وطلب الشفاعة منه هو طلب الدعاء منه، وقد سمي في الأحاديث: دعاء المسلم لأخيه المسلم شفاعة له، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس عن النبي أنه قال: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لايشركون باللّه إلاّ شفّعهم اللّه فيه(3) .
فلو أنّ رجلا أوصى في حال حياته أربعين رجلا من أصدقائه الأوفياء على أن يقوموا بالدعاء له بعد موته وفوته، فقد طلب الشفاعة منهم .
وقد أفرد البخاري في صحيحه باباً بعنوان «إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم» وأفرد باباً آخر بعنوان «إذ استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط»(4) .
كل ذلك يدل على أنّ الشفاعة بمعنى الدعاء إلى اللّه، وطلبها هو طلب الدعاء .
________________________________________
1. مفاتيح الغيب: ج 7 ص 286 ـ طبع مصر، سورة غافر: الآية 7 .
2. مفاتيح الغيب: ج 8 ص 220، سورة محمد: الآية 19 و سورة نوح: الآية 28 .
3. صحيح مسلم: ج 3 ص 54 .
4. صحيح البخاري ج 2 ص 29 ـ أبواب الاستسقاء .

________________________________________
(283)
ب ـ طلب الدعاء من المؤمن ليس شركاً ولا حراماً

لا يتصور أن يكون طلب الدعاء من المؤمن أو الصالح أو الأنبياء العظام شركاً سواء أكانوا أحياءً أمْ أمواتاً، أمّا الأحياء فقد صرح القرآن الكريم بجوازه، وأمر الظالمين بالمجيء إلى النبي وطلب الاستغفار منه. قال سبحانه:
(وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرو اللّهَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدوا اللّهَ تواباً رحيماً)(1). وحكى عن ولد يعقوب أنهم قالوا لأبيهم (يَا أبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي)(2) .
كما أنه لا يكون شركاً، لا يكون حراماً أيضاً، ونحن ننقل مجموعة من الأحاديث مما ورد فيه طلب الشفاعة:
1- هذا هو الترمذي يروي في صحيحه عن أنس أنه قال: سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة فقال: أنا فاعل. قلت: فأين أطلبك؟ قال: على الصراط(3) .
والعجب من الشيخ الرفاعي الّذي يأتي بكل ما ذكره ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب حرفاً بحرف، لكن بثوب جديد وصبغة جديدة، استشكل على الاستدلال بهذا الحديث بقوله:
2- إنّه ليس من قبيل التوسل بالمخلوق، بل من قبيل التوسل إلى ربه بدعاء أخيه المؤمن له .
3- طلب أنس من الرسول أن يشفع له يوم القيامة، يفيد أن أَنَساً
________________________________________
1. سورة النساء: الآية 64 .
2. سورة يوسف: الآية 97 ـ 98 .
3. سنن الترمذي: ج 4 ص 42، باب ما جاء في شأن الصراط .

________________________________________
(284)
يقصد أن يدعو له اللّه تعالى أن يشفّعه به يوم القيامة، أي يجعله في جملة الحد الّذي يحده له فيشفع فيهم(1) .
يلاحظ عليه: أنّ الهدف من الاستدلال بالحديث هو إثبات جواز طلب الشفاعة من المخلوق، لا التوسل بذوات المخلوقين، فإنه بحث آخر، وله حجج أُخرى قدمناها. هذا حول الإشكال الأول .
وأمّا الثاني فهو تأويل لظاهر الحديث دعماً للمذهب الّذي تبناه، فإنّ المتبادر من قوله: «سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة» أي قلت له يا رسول اللّه اشفع لي يوم القيامة، وأين هو من التأويل الّذي يذكره الرفاعي من أنه قصد أن يدعو اللّه تعالى أن يشفّعه به يوم القيامة؟ ولو كان المقصود هذا فإنّ أنساً من العرب العرباء، كان له أن يفصح عن مراده ويقول: يا رسول اللّه ادع اللّه تعالى أن يشفعك فىّ، يوم القيامة .
وليس هذا التاويل وأمثاله الّذي ارتكبه ذلك الكاتب إلاّ تحريفاً للكلم ليروج متاعه .
ثمّ إنه استشكل على الحديث بضعف السند، فقال: «إنّ في سنده أبا الخطاب حرب بن ميمون وهو ضعّف ووثّق» وإليك ما ذكره الذهبي في حقه: حرب بن ميمون، ابو الخطاب الأنصاري، بصري صدوق يخطىء، قال أبو زرعة: ليّن، وقال يحيى بن معين: صالح وثّقه علي بن المديني وغيره.
وأمّا البخاري فذكره في الضعفاء(2) .
وقال ابن حجر: «قال الخطيب في المتفق والمفترق: كان ثقة .
وقال الساجي في حرب بن ميمون: الأصغر، ضعيف عنده مناكير، والأكبر ثقة، والوارد في سند الرواية هو الأكبر، وقال ابن حبان: في الثقات، يخطىء .

________________________________________
1. التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 320 .
2. ميزان الإعتدال: ج 1 ص 470، رقم 1773 .

________________________________________
(285)
وقرأت بخط الذهبي: وثّقه ابن المديني ومات في حدود الستين والمائة»(1) .
ترى أنّ الأكثرية الغالبة وثّقته غير البخاري، وهو ذكره في الضعفاء، ومن المعلوم أنه لا يمكن ترك حديثه بمجرد ذكر البخاري إياه في الضعفاء، ولم يعلم وجه كونه ضعيفاً عنده، ولعله لأجل كونه قدرياً كما يظهر من ابن حجر في تهذيب التهذيب، أي قائلا بالاختيار الّذي هو على طرف النقيض من القول بالجبر، وهو موجب لقوّته لا لضعفه، فالرواية حجة بلا إشكال.
كيف لا يجوز طلب الشفاعة من الصالحين وهذا هو الطبراني روى في المعجم الكبير أنّ سواد بن قارب ـ رضي اللّه عنه ـ أنشد قصيدته:
وأشهد أنّ اللّه لا ربّ غيره * وأنّك مأمون على كل غائب
وأنّك أدنى المرسلين وسيلة * إلى اللّه يابن الأكرمين الأطائب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما فيه شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة * بمغن فتيلا عن سواد بن قارب(2)
والشاهد هو البيت الأخير حيث طلب الشفاعة من النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ .
إنّ الكاتب الوهابي الرفاعي لم يجد بداً عن التسليم لما يفيده البيت الأخير وقال:
«إنّ سواد بن قارب يخاطب رسول اللّه ويرجوه أن يدعو اللّه تعالى أن يكون له شفيعاً يوم القيامة، والخطاب هذا لا شك كان في حياته، وطلب الشفاعة منه في حياته لا بأس به، لأنه طلب لدعائه لأن يكون سواد في جملة من
________________________________________
1. تهذيب التهذيب: ج 2 ص 225 ـ 226، رقم 418 .
2. دلائل النبوة: ج 2 ص 248 ونقله الطبراني فى المعجم الكبير، ج 7 ص 109 ـ 111 ورواه الحاكم في مستدركه، وابن كثير في تاريخه ج 1 ص 344 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 ص 250 .

________________________________________
(286)
يشفعه فيهم يوم القيامة(1) .
أقول: الّذي اعتذر به الرفاعي هو الّذي وصفه بالشرك شيخ منهجه أحمد بن تيمية، قال: الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً... فهذا هو الشرك باللّه(2) .
فما هذا التناقض بين كلامه وكلام شيخه، فالذي يجيزه، هو الّذي يصفه شيخه بالشرك، أبهذه المناقضات تكفّرون المسلمين وتدعون الناس إلى نهج الحق ومعين التوحيد؟
ثم إنّه نقل عن بعض الوهابيين أعني إسماعيل الأنصاري أنه ضعّف سند الحديث، وذكر وجوهاً للضعف، وقد سبقه معلق مجمع الزوائد، غير أنه غفل عن وجه الاستدلال و هو ما ذكرناه فيما سبق:
إِنَّ هذا الحديث ونظائره على فرض الصدق وعدمه حجة على ما في مدلوله، إذ لو كان صادقاً فهو وإن كان مجعولا فلماذا ذكره المحدّثون الكبار في جوامعهم كالطبراني في معجم الكبير، والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهما؟ ولا يعني من هذا أنهم لا يذكرون الأحاديث الضعاف في جوامعهم حتّى يقال إنّ المحدثين بين ملتزم بنقل الصحيح وغيره، بل المقصود أنّه إذا كان طب الشفاعة شركاً على ما ذكره أحمد بن تيمية، أو مما لا يستريب عالم في أنه غير جائز، فلماذا نقلوا الحديث الباطل من دون أن يناقشوا في مضمونه ومتنه؟ إذ لا يصحّ لهؤلاء أن يمروا على خرافة شركية في كتبهم، أو أمر محرّم لا يستريب فيه عالم، مرور الكرام .
كل ذلك يعرب عن أنّ المضمون ليس عليه غبار، وأمّا ضعف السند فلا يكون دليلا على كذبه، فإليك السند الّذي رواه الطبراني به، فقد ورد فيه هؤلاء:
________________________________________
1. التوصل إلى حقيقة التوسل: ص 399 .
2. مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 22 .

________________________________________
(287)
حدثنا محمد بن محمد التمارة البصري، ثنا: بشر بن حجر الشامي، ثنا علي بن منصور، عن الأنباري، عن عثمان بن عبدالرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي .
3- كيف يكون شركاً وقد جاء في التاريخ أنّ رجلا اسمه «تبع» قد بلغه أنّ نبي آخر الزمان سوف يظهر من مكة ويهاجر إلى المدينة، فكتب كتاباً ودفعه إلى بعض أقربائه كي يسلّموه إلى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وذكر فيه إسلامه وإيمانه، وأنّه من أُمة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ و مما جاء في هذه الرسالة: «فإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني» ومات الرجل، وكان الكتاب ينتقل من واحد إلى آخر، فلما قدم النبي المدينة دفعوا إليه الكتاب فقال: مرحباً بالأخ الصالح»(1) .
فهل يصحّ للنبي أن يصف المشرك بالأخ الصالح؟ أو أن تقراً عليه الرسالة ويقف على ما طلبه منه من الأمر المحرم دون أن يرد عليه؟
كل ذلك يعرب عن أنّ طلب الدعاء وطلب الشفاعة من الصالحين والأنبياء ليس شركاً في العبادة، ولا أمراً محرماً، ما هذا الجمود في فهم الإسلام؟ وما هذه الظنون والشبه الّتي تعتمدون عليها؟ فإنّ الإسلام دين حنيف سهل .
نعم لهم اعتراض على ما ذكرناه من الأدلة، بأنها ترجع إلى طلب الشفاعة من الأحياء، وأن البحث إنما هو في طلبه من غيرهم، والجواب من وجهين:
الأوّل: قد عرفت في البحث السابق بوجوه قيمة من أنّ الطلب متوجه إلى الأرواح المقدسة الّتي لم تنقطع صلتها بنا، وقد جرت السنة على ذلك، وقد عرفت الأدلة على جواز التكلم مع الأرواح المؤمنة والمشركة، كما عرفت أنّ الأنبياء العظام كصالح وشعيب، والنبي الأكرم كلّموا قومهم بعد هلاكهم ودمارهم، غير أنّه تكميلا للبحث نذكر بعض ما ورد من الأثر في ذلك
________________________________________
1. المناقب، لابن شهر آشوب: ج 1 ص 16 .
________________________________________
(288)
المجال، أي طلب الدعاء بعد الالتحاق إلى رحمة اللّه .
هذا ابن عباس يقول: لما فرغ أميرالمؤمنين ـ عليه السَّلام ـ من تغسيل النبي، قال:
«بأبي أنت وأُمي، اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك»(1) .
ويروي أهل السنة أنه لما توفّي رسول اللّه جاء أبوبكر من سلع، ووقف على فوته وكشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً واذكرنا عند ربك»(2) .
فما معنى المعارضة مع هذه النصوص ومعاكستها؟
(فَبِأَيِّ حَدِيث بَعْدَهُ يُؤمِنُونَ)(3) .
أدلة الوهابيين على حرمة طلب الشفاعة
لقد تعرّفت فيما مضى على أنّ طلب الشفاعة يساوق طلب الدعاء، ولا يتصوّر أن يكون من أقسام الشرك في العبادة، أو يكون طلبه من المخلوق عبادة له، إلاّ أن يكون طلب الدعاء من مخلوق شركاً وعبادة، وهو مما لم يقل به أحد حتّى الوهابيون .
نعم لهم شبهة ربما يغتر بها البسطاء، وهي أنّ المشركين كانوا يطلبونها من أصنامهم، فسمّاه اللّه عبادة لهم وقال: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُم وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمواتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(4) .
والشاهد في قوله: «ويعبدون من دون اللّه» مع ملاحظة ما في ذيل
________________________________________
1. نهج البلاغة: الخطبة رقم 235 ونقل السيد الأمين في كشف الإرتياب، ص 265 أنه قال: بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك، نقلا عن مجالس المفيد .
2. السيرة الحلبية: ج 3 ص 392 .
3. سورة الأعراف: الآية 185 .
4. سورة يونس: الآية 18 .

________________________________________
(289)
الآية: «ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه» وكان وجه عبادتهم لهم هو قولهم: «هؤلاء شفعاؤنا»(1) .
إنّ الاستدلال بالآية على كون طلب الشفاعة شركاً من غرائب الاستدلال وعجائبه، فإنّ الآية لو لم تدل على أنّ طلب الشفاعة يغاير عبادتهم لها، لا تدل على أنّ طلب الشفاعة عبادة للمدعو، وذلك أنه ورد في الآية جملتان نسبتهما إلى المشركين:
1- ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم ولا ينفعهم .
2- ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه .

والعطف يدل على المغايرة، وأنّ هنا عبادة، وأنّ هناك أمراً آخر وهو طلب الشفاعة، وما هذا الخلط؟
ولنفترض أنّ طلب شفاعتهم كان عبادة لمعبوداتهم، وأنّ الجملة الثانية من قبيل عطف العام على الخاص ولكن أين طلب شفاعة المسلم الموحّد من سيد الموحدين، من طلب شفاعة عبدة الأصنام والأوثان، فالمشركون كانوا يعتبرون الأوثان مالكة للشفاعة والمغفرة، فكان اللّه في معزل عنهما تماماً، ولا شك أنّ طلب الشفاعة من أىّ موجود مقروناً بهذا الاعتقاد يعد شركاً، لأنّ هذا الطلب مقرون بألوهية المدعو وربوبيته، في حين أنّ الإنسان المسلم يطلب الشفاعة والدعاء من الشفيع باعتباره عبداً مقرباً إلى اللّه، وإنساناً وجيهاً عنده، أذن اللّه تعالى له في شفاعة المجرمين، وادّخرها النبي لأهل الكبائر من أُمته، كما ورد عن النبي الأكرم، ورواه الفريقان .
والمصدر لهذه التهمة هو أنّ القوم لم يضعوا حداً منطقياً جامعاً ومانعاً للعبادة حتّى يميزوا به الدعاء العبادي عن غيره، فجعلوا يخبطون خبط عشواء لا يميزون بين الصحيح والسقيم .
نعم، إنّ الشفاعة حق خاص باللّه دل عليه الذكر الحكيم وقال: (أَمِ
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 15 .
________________________________________
(290)
اتَّخَذُوا مِنْ دونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيئاً وَلاَ يَعْقَلُونَ * قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً))(1) .
ولأجل كونه حقاً مختصاً باللّه، لا يشفع النبي الأكرم ولا الشفعاء الأُخر لأحد إلاّ بإذنه سبحانه، ولكن قوله «للّه الشفاعة جميعاً» ليس معناه أنه سبحانه هو الشفيع دون غيره، لبداهة أنّ اللّه لا يشفع لأحد عند أحد، بل معناه أنه مالكٌ لمقام الشفاعة، لا يملكه غيره ولا يشفع إلاّ بإذنه .
هذا وإنّ المشركين كانوا على خلاف ذلك كما يعرب عنه قوله سبحانه: «قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً» .
وفي الختام نذكر النقطة الأخيرة من كلامهم، وهي أنّ النبي الأكرم بعد التحاقة بالرفيق الأعلى لا يسمع بدليل قوله سبحانه (إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ)(2) .
وقوله: (إنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِع مِنْ في القُبُورِ)(3)، ولكنّك عرفت أنّ الآيتين لا تمتّان إلى طلب الشفاعة عن الأنبياء بصلة، فإنّ الأجساد الراقدة تحت التراب، غير قادرة على الإدراك والسماع، ولكن المخاطب هو الروح الطاهرة والحية الّتي تعيش بالجسد البرزخي في عالم البرزخ، والخطاب لتلك الأرواح النورانية والشفاعة تطلب منها، وأمّا السعي إلى الحضور في مقابرهم ومراقدهم فلأجل أنّ الحضور فيها يهيّىء أنفسنا للاتصال بأرواحهم المقدسة، وعند ذلك نجد في أنفسنا دافعاً إلى التحدّث معهم وهم يستمعون إلينا.
هذا هو الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ أحد الأئمة يعلّم شيعته كيفية زيارة أئمة أهل البيت بقوله:
________________________________________
1. سورة الزمر: الآية 43 ـ 44 .
2. سورة النمل: الآية 80 .
3. سورة فاطر: الآية 22 .

________________________________________
(291)
«عالماً أنّك تسمع كلامي وترد سلامي... فكن لي إلى اللّه شفيعاً، فما لي وسيلة أوفى من قصدي إليك وتوسّلي بك إلى اللّه»(1) .
وجاء في كلام آخر له ـ عليه السَّلام ـ : «اللّهمّ... وأعلم أنّ رسولك وخلفاءك ـ عليهم السَّلام ـ أحياء عندك يرزقون، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردون سلامي، وأنك حجبت عن سمعي كلامهم، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم»(2) .
هذا وقد قال ابن تيمية: وفي سنن أبي داود عن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال: ما من رجل مسلم سلّم علىّ إلاّ ردّ اللّه علىّ روحي حتّى أردّ عليه السلام، وفي موطأ الإمام مالك أنّ عبداللّه بن عمر ـ رضي اللّه تعالى عنهما ـ كان يقول: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف، وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي اللّه عنهم، نقل عنهم السلام على النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ (3) .
فأىّ فرق بين التسليم على الميت وبين طلب الدعاء منه؟ وإذا كان قادراً على رد السلام، يكون قادراً على الدعاء إلى اللّه، والشفاعة للداعي، ولو فرضنا أنّه قادر على شيء واحد وهو رد السلام، وليس قادراً على الدعاء، يكون طلبه عندئذ لغواً، لا شركاً ولا محرماً، ويكون أشبه باعتقاد أثر في نبات مع كونه خطأ. أو كون شخص قادراً على إنجاز عمل ولم يكن كذلك. ولم يقل أحد بكون هذا النوع من الاعتقاد شركاً .
________________________________________
1. بحارالأنوار: ج 97، ص 295 .
2. عدة الداعي لابن فهد الحلي، 841 .
3. مجموعة الرسائل والمسائل: ج 1 ص 23 .
 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية