روي انّه لمّا ردّ عمر بن عبد العزيز (1) فدكاً على ولد فاطمة عليها السلام اجتمع عنده قريش ومشايخ أهل الشام من علماء السوء ، وقالوا له : نقمت على الرجلين فعلهما ، وطعنت عليهما ، ونسبتهما إلى الظلم والغصب ؟ !
فقال : قد صحّ عندي وعندكم ، إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ادّعت فدكاً ، وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله ، مع شهادة عليّ عليه السلام (2) وأم أيمن وأم سلمة ، وفاطمة عليها السلام عندي صادقة فيما تدّعي ، وإن لم تقم البينة، وهي سيدة نساء الجنّة ، فأنا اليوم أردّ على ورثتها ، وأتقرّب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله .
وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام يشفعون لي يوم القيامة ، ولو كنت بدل أبي بكر وادّعت فاطمة عليها السلام كنت أصدقها على دعوتها ، فسلّمها إلى الباقر عليه السلام (3) .
وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي رواية اُخرى تناسب المقام في ردّ عمر بن عبد العزيز فدكاً ، وهي : قال : قال أبو المقدام ـ هشام ابن زياد مولى آل عثمان ـ : فنقمت بنو أميّة ذلك على عمر بن عبد العزيز ، وعاتبوه فيه ، وقالوا له : هجّنت فعل الشيخين ؟!
وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة ، فلما عاتبوه على فعله!!
قال : إنكم جهلتم وعلمتُ ، ونسيتُمْ وذكرتْ ، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم ، حدّثني عن أبيه ، عن جدّه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : فاطمة بضعة منّي يسخطها ما يسخطني ، ويرضيني ما أرضاها (4) ، وإن فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر ، ثمّ صار أمرها إلى مروان ، فوهبها لعبد العزيز أبي ، فورثتها أنا وإخوتي عنه ، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها ، فمن بائع وواهب حتى استُجمعتْ لي ، فرأيت أن أردّها على ولد فاطمة عليها السلام .
قالوا : فإن أبيت إلاّ هذا فامسك الاَصل ، واقسم الغلّة ، ففعل (5)،
____________
(1) هو : عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن اُميّة بن عبد شمس ، أبو حفص الاَموي القرشي ، وهو خير بني مروان ، يعرف بأشجع بني أميّة ضربته دابّة في وجهه، وكانت أمه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب واسمها ليلى .
قال العلامة المامقاني : لا نشكر منه إلاّ رفعه السب عن أمير المؤمنين عليه السلام بعد ابتداع معاوية عليه لعائن الله تعالى ، ولذا قال السيّد الرضي رضي الله عنه :
يابن عبد العزيز لو بكت العين | * | فتى مـن أميــة لبــكيتك |
أنت نزهتنـا عن السب والشتم | * | فلو أمكــن الجـزاء جزيتك |
دير سمعــان لا أغبك غيثٌ | * | خير ميت من آل مروان ميتك |
وقد روي في سبب رفعه سبّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة ، وهو حينئذٍ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقائقه ، حتى يأتي إلى لعن علي عليه السلام فيجمجمُ ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبت ، أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عييا ، فقال : يا بني ، إنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا أحد ، فوقرت كلمتهُ في صدري ، مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري، فأعطيت الله عهداً ، لئن كان لي في هذا الاَمر نصيب لاغيّرنّه ، فلما منّ الله عليّ بالخلافة اسقطت ذلك ، وجعلت مكانه : ( انّ الله يأمر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون ) وكتبت في الآفاق فصار سنّة ، توفّي بدير سمعان من أرض حمص يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة 101 هـ وكان له يوم توفّي احدى وأربعون سنة . وكانت خلافته سنتين وخمس ليال . راجع ترجمته في : تنقيح المقال للمامقاني : ج 2 ص 345 ترجمة رقم : 9016 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ص 58 ـ 60 ، سير أعلام النبلاء : ج 5 ص 114 .
(2) وهل تصح دعوى انّ فاطمة عليها السلام ادّعت ما ليس لها فيه حق ، وإنها لم تكن تعلم بأن الاَنبياء لا يورثون حتى أخبرها أبو بكر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله ، ولو افترضنا صحّة ذلك ، أفترى إنّ فاطمة عليها السلام لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار ، هذا مع ملازمة النبي صلى الله عليه وآله لها ليلاً ونهاراً ، إذ كان يحوطها برعايته وعنايته ، فهل يا ترى تقنع بأنّه صلى الله عليه وآله يخبر الناس بذلك ، ويخفي على ابنته مع كونها أولى الناس بمعرفة هذا الاَمر لو كان صحيحاً ، فيكون النبي صلى الله عليه وآله ـ وحاشاه ـ قد ترك ما ينبغي فعله ، ولم يقل ما ينبغي قوله .
وثانياً : إنها ـ صلوات الله عليها ـ لو لم تكن على حقّ ، أفترى أمير المؤمنين عليه السلام وهو أعلم الناس بالشريعة وأقضاهم يوافقها على ما ادّعت ، ويشهد لها بذلك ، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله : علي مع الحق والحق مع علي ، ألا ترى أنّ ردّ شهادة هؤلاء طعناً فيهم وفي عصمتهم التي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى : (إنّما يُريدُ اللهُ ليذهبَ عنكمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويطهّرَكُم تطهيراً) أفما كان من الاِنصاف منهم أن تصدق فيما ادّعت وهي ابنة نبيّهم صلى الله عليه وآله الوحيدة ، أفما كان من حقّ رسول الله عليهم عدم إيذائها وإسخاطها .
(3) بحار الاَنوار للمجلسي : ج 29 ص 209 ، سفينة البحار للقمّي : ج 2 ص 272 ، كشف الغمّة في معرفة الاَئمة للاَربلي : ج 1 ص 495 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 231 ـ 232 ، السقيفة وفدك لاَبي بكر الجوهري : ص 145 ـ 146 .
(4) راجع : صحيح البخاري : ج 5 ص 26 و 36 ، السنن الكبرى للبيهقي : ج 7 عليه السلام ص 64 وج 10 ص 201 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 158 ، كنز العمّال : ج 12 ص 108 ح 34222 و 34223 ، اتحاف السادة المتقين للزبيدي : ج 6 ص 244 وج 7 ص 281 ، فتح الباري لابن حجر : ج 7 ص 78 و 105 ، مشكاة المصابيح للتبريزي : ج 3 ص 1732 ح 6130 ، شرح السنة للبغوي: ج 14 ص 158 (نشر المكتب الاِسلامي)، فضائل الصحابة لاَحمد بن حنبل : ج 2 ص 755 ح 1324 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 273 .
(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 278 ، الشافي في الاِمامة للمرتضى : ج 4 ص 103 ـ 104 ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 29 ص 212 ـ 213 .