المعاد الجسماني والشبهات المطروحة

البريد الإلكتروني طباعة

المعاد الجسماني والشبهات المطروحة

قد نسب إلى الشيخ الرئيس أنّه لا يمكن إثبات إمكان المعاد الجسماني إلّا عن طريق الشرع ، وحيث إنّه أخبر عن وقوعه نستكشف إمكانه.

ولكن عبارته في الشفاء تنادي بخلاف ذلك ، فهو لا يدّعي أنّ إمكانه رهن خبر الشارع وإنّما يدّعي انّ وقوعه رهن خبر الشارع.

وبعبارة أُخرى : إمكان المعاد الجسماني أمر مسلم ، وإنّما الكلام في لزوم وقوعه ، والعقل يدل على لزوم المعاد الروحاني ، ولم يدل دليل عقلي على لزوم المعاد الجسماني ، وإليك عبارته :

يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلىٰ إثباته إلّا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الذي للبدن عند البعث. (1)

تجد انّه يقول : « لا سبيل إلىٰ إثباته » أي لزوم وقوعه لا إمكانه ، ولولا الشرع لم يكن دليل على لزوم وقوعه.

يقول صدر المتألّهين : يستفسر عن هؤلاء المنكرين للمعاد الجاحدين لأحكام الشريعة بناء على قصور مداركهم عن دركها إنّهم هل يدّعون الامتناع أو يمنعون الإمكان والجواز ؟ فعلى الأوّل ، يقال لهم : إنّ عليكم البيّنة وإثبات ما ادّعيتم وما لكم فيما قلتم به من هذا عين ولا أثر. وعلى الثاني كلّ ما أُزيل ظاهره عن الإحالة والامتناع قام التنزيل الإلهي والأخبار النبوية الصادرة عن قائل مقدس عن شوب الغلط والكذب مقام البراهين الهندسية في المسائل التعليمية والدعاوي الحسابية. (2)

والمهم تحليل الشبهات المطروحة حول المعاد الجسماني.

الشبهة الأُولى : المعاد إعادة للمعدوم

لقد ذكر سعد الدين التفتازاني بعض الشبهات في مقاصده وشرحه ، أحدها : بأنّ المعاد إعادة للمعدوم وهو أمر محال.

ثمّ نقل عن الشيخ الرئيس ، القول التالي : إنّ كلّ من رجع إلىٰ فطرته السليمة ، ورفض عن نفسه الميل والعصبية ، شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع.

وقد أجاب المحقّق التفتازاني عن الإشكال بقوله :

أوّلاً : منع امتناع الإعادة ، وقد تكلّمنا عن أدلّته.

وثانياً : أنّ المراد إعادة الأجزاء إلى ما كانت عليه من التأليف والحياة ونحو ذلك ولا يضرنا كون المعاد مثل المبدأ لا عينه. (3)

أقول : أمّا الجواب الأوّل فليس بشيء ، فانّ إعادة المعدوم بعينه أمر ممتنع بالذات ، لأنّ المقصود من الإعادة هو تعلّق القدرة ثانياً ، بإيجاده في الزمان الثاني ، ومثل ذلك لا يكون إعادة للمعدوم بعينه بل إعادة له بمثله.

فلو كان المراد من إعادة المعدوم هو خرق الحجب والموانع والرجوع إلى الزمن الماضي ورؤية كلّ شيء في محلّه ، فهذا ليس إعادة للمعدوم بل مشاهدة لوجود شيء في ظرفه.

وإن شئت قلت : إنّ الواقع لا ينقلب عمّا هو عليه ، وكلّ شيء إذا حدث فهو محفوظ في ظرفه ، وإن كان غير محفوظ في الظروف التي تعقبه.

فمثلاً الحوادث التي وقعت في عهد نوح منذ دعوته ومكابرة قومه ، واستيلاء الغرق عليهم ، وركوب السفينة وسيرها على الماء ونزولها على الجودي ، أمر غابر لكنه موجود في ظرفه ، لا يمكن قلبه عمّا هو عليه وإن كان غير موجود في الأزمنة التي تعقبه.

فإن أُريد من إعادة المعدوم هو خرق الحجب ورؤية كلّ شيء في ظرفه ، فهو ليس إعادة للمعدوم ولا خلقاً له ، ومن الواضح أنّ المعاد ليس من هذا القبيل ، ولا يراد منه خرق الحجب لرؤية المؤمنين والكافرين في ظروفهم الزمنية.

وإن أُريد تعلّق الخلق وقدرته سبحانه على إيجادهم بعد انعدامهم ، فهذا ليس إعادة للمعدوم بل إيجاداً لمثله ، ضرورة تعدد الفعل والخلق.

وبذلك ظهر أنّ الجواب الثاني الذي أشار إليه التفتازاني هو المهم في الباب.

توضيحه : أنّ المعاد ليس من قبيل إعادة المعدوم ، بل إيجاد للمعدوم ثانياً ، على نحو يطلق على الثاني انّه عين الأوّل عرفاً وإن كان مثله عقلاً ، وذلك لأنّ الإنسان بموته يترك أمرين.

الأوّل : العظام والعروق واللحوم التي تتحول إلىٰ رميم وتتبدل إلىٰ ثرىٰ.

الثاني : الروح والنفس التي يتوفّاها ملك الموت.

وعلى ذلك ليس كلّ ممّا ترك أمراً معدوماً ، بل أمر موجود ، غاية الأمر إنّما فقد الاتصال والتماسك بين الأجزاء التي هي مبدأ للروح الحيوانية ، فلو أعيد الاجتماع والانضمام إلى الأجزاء وتعلّق بها الروح المحفوظة ، يكون المعاد نفس الإنسان السابق.

وممّا يؤكد ذلك ما أثبته العالم الفرنسي لافوازيه عام 1775 م فقد أثبت بأنّ المادة لا تعدم ولا تستحدث بل تتحول من شكل إلى آخر ، وانّ التفاعلات الكيمياوية أو الفيزياوية لا تعدم فيها المادة بل المادة باقية بحالها ، غاية الأمر تتحول من شكل إلى شكل آخر.

الشبهة الثانية : شبهة الآكل والمأكول

هذه الشبهة من أقدم الشبهات التي طرحت في المعاد الجسماني ، وقد جاء ذكرها في أكثر الكتب الكلامية.

وقد قررت بوجوه ، أوضحها ما ذكره العلّامة الحلّي في كشف المراد ، حيث قال :

إنّ إنساناً لو أكل آخر أو اغتذىٰ بأجزائه فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأوّل عدم الثاني ، وإن أُعيدت إلى الثاني عدم الأوّل.

وأيضاً إمّا أن يعيد الله تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أوّل العمر إلىٰ آخره أو القدر الحاصل له عند موته ، والقسمان باطلان :

أمّا الأوّل : فلأنّ البدن دائماً في التحلّل والاستخلاف ، فلو أُعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية ، ولأنّه قد يتحلّل منه أجزاء تصير أجساماً غذائية ثمّ يأكلها ذلك الإنسان بعينه حتى تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له أوّلاً ، فإذا أُعيدت أجزاء كلّ عضو إلى عضوه لزم جعل ذلك الجزء جزءاً من العضوين ، وهو محال.

وأما الثاني : فلأنّه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثمّ تتحلّل تلك الأجزاء ، ويعصي في أجزاء أُخرى ، فإذا أُعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على الطاعة لزم إيصال الحقّ إلىٰ غير مستحقه. (4)

وقد لخصها سعد الدين التفتازاني ، وقال : لو أكل إنسان إنساناً وصار غذاء له جزءاً من بدنه فالأجزاء المأكولة إمّا أن تعاد في بدن الآكل ، أو في بدن المأكول ، وأيّاً ما كان لا يكون أحدهما بعينه معاداً بتمامه ، على أنّه لا أولوية لجعلها جزءاً من بدن أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل لجعلها جزءاً من كلّ منهما ، وأيضاً إذا كان الآكل كافراً والمأكول مؤمناً يلزم تنعيم الأجزاء العاصية أو تعذيب الأجزاء المطيعة. (5)

إجابة المتكلّمين عن الشبهة

وقد أجاب المتكلّمون عن الشبهة بالأصل الذي اختاروه في تفسير المعاد الجسماني ، وهو :

انّ لكلّ مكلّف أجزاء أصيلة لا يمكن أن تصير جزءاً من غيرها ، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها ، فإذا أُعيدت جعلت أجزاءً أصلية لما كانت أصلية له أوّلاً ، وتلك الأجزاء هي التي تعاد ، وهي باقية من أوّل العمر إلىٰ آخره. (6)

واختاره التفتازاني أيضاً حيث قال :

انّا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أوّل العمر إلىٰ آخره ، لا الحاصلة بالتغذية ، فالمعاد من كلّ من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أوّل الفطرة من غير لزوم فساد. (7)

وقد عرفت عدم ثبوت أصل النظرية من أنّ لكلّ إنسان أجزاء صلبة أصلية لا تكون جزءاً للغير ، فيسقط الجواب مادام لم يثبت الأصل.

قل يتوفاكم ملك الموت

إجابة صدر المتألّهين عن الشبهة

أجاب الحكماء عن الشبهة بمسألة انّ تشخّص كلّ إنسان إنّما يكون بنفسه لا ببدنه ، وأنّ البدن المعتبر فيه أمر مبهم لا تحصُّل له إلّا بنفسه ، وليس له من هذه الحيثية تعيّن ولا ذات ثابتة ، ولا يلزم من كون بدن زيد محشوراً أن يكون الجسم الذي منه صار مأكولاً لسبع أو إنسان آخر ، محشوراً ، بل كلّما يتعلّق به نفسه هو بعينه بدنه الذي كان ، فالاعتقاد بحشر الأبدان يوم القيامة هو أن يبعث أبدان من القبور إذا رأى أحد كلّ واحد واحد منها يقول هذا فلان بعينه ، أو هذا بدن فلان ، ولا يلزم من ذلك أن يكون غير مبدَّل الوجود والهوية ، كما لا يلزم أن يكون مشوّه الخلق ، والأقطع والأعمىٰ والهرم محشوراً علىٰ ما كان من نقصان الخلقة وتشويه البنية كما ورد في الأحاديث. (8)

وما ذكره من الجواب هو اللائح من قوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ). (9)

فانّ الشبهة جاءت في صدر الآية تحت عنوان الضلال في الأرض ، أعني قولهم : ( أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ ) وجاء الجواب في قوله : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ ) ، ولا تحسم مادة الإشكال إلّا بالتفسير التالي ، وهو :

إنّ ضلال أجزاء البدن في الأرض وتبعثرها لا يخل بالمعاد الجسماني ، ولا يكون دليلاً علىٰ محو الشخصية ، لأنّ الأصل في الإنسان هو الروح فالشخصية تدور مدار بقاء الروح ، فعندئذٍ لو حشر مع بدن عنصري حينها ستحفظ شخصيته ووحدته سواء أكان البدن الذي عاشت معه النفس في الدنيا أم الآخرة ، لأنّ البدن آلة لإدراك الألم ، والمؤلم حقيقة هي النفس والبدن أداة لإيلامها ، فلا فرق بين كون البدن نفس البدن الدنيوي أو غيرها.

ويتضح ذلك من خلال القول انّ النفس ربما لا تتألم بالآلام الجسمانية إلّا عن طريق البدن ، فالضرب على البدن لأجل إيلام الروح دون البدن فلا يكون الضرب على غير البدن الذي عاشت معه ظلماً وخارجاً عن الحدّ.

هذا ما يمكن به توجيه كلام الحكماء.

أقول : ولنا تقرير آخر في دفع هذه الشبهة ، وقبل الخوض ننبّه على أنّ الشبهة يمكن أن تقرر بوجهين :

الوجه الأوّل : انّه إذا صار جزء من بدن الإنسان ، عضواً لبدن إنسان آخر ، فحشر كلا الإنسانين ، يستلزم وجود النقص في واحد منهما.

الوجه الثاني : انّ حشرهما بأيّ صورة كانت مخالف للعدل الإلهي ، حيث يمكن أن يكون الإنسان الأوّل مطيعاً والثاني عاصياً ، فيلزم أن يعذب جزء من بدن الإنسان المؤمن في نار جهنم إذا صار عضواً لبدن الكافر.

وها نحن نصب البحث على الإشكال الأوّل ثمّ نرجع إلى الاشكال الثاني ، فنقول :

إنّ تحوّل جزء من بدن إنسان إلى بدن إنسان آخر بالمباشرة نادراً ما يتفق ، وإنّما الشائع هو التحول من خلال تحول البدن الإنساني إلىٰ تراب ومن ثمّ انتقاله إلىٰ نبات وحيوان ثمّ يتغذىٰ بها الإنسان ، وبناء عليه فانّ الصور المفروضة أربع :

أ. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول بنفس الجزء المستهلك.

ب. أن يحشر آكله به دون المأكول.

ج. على العكس.

د. أن يحشر كلّ واحد من الآكل والمأكول دون الجزء المستهلك.

أمّا الصورة الأُولى فهي افتراض محال ، لاستلزامه كون شيء واحد في زمان واحد في محلين. وكلّ من الصورة الثانية والثالثة تستلزم نقصاً في المحشور امّا في الآكل أو في المأكول.

وفي الصورة الرابعة يستلزم النقص في كلا المحشورين.

وربّما يتصور أن لازم الصورتين الثانية والثالثة أن يكون المحشور أحد البدنين فقط ، لافتراض انّ بدن أحدهما صار جزءاً لبدن الآخر فلم يبق للإنسان الأوّل بدن يحشر به.

ولكن هذا التصور من الوهن بمكان ، لأنّه قلّما يتّفق أن يكون بدن الإنسان بتمام أجزائه بدناً لإنسان آخر ، إذ الغالب تحوّل جزء ضئيل من بدن المأكول إلىٰ بدن الآكل ، لا كلّ الأجزاء.

هذه هي صور الشبهة وإليك الجواب عنها :

لا شكّ انّ الصورة الأُولىٰ والرابعة خارجة عن نطاق البحث ، فالأُولىٰ تستلزم المحال ، والرابعة مجرّد افتراض لم يتفوّه بها أحد ، فتنحصر الشبهة في الصورتين الثانية والثالثة ، فعندئذٍ نقول :

إنّ للصورتين الثانية والثالثة فروضاً مختلفة :

1. أثبت العلم الحديث انّ بدن الإنسان في تحوّل وتغيّر مستمر ، فهو في ظل هذا التحوّل ذو أبدان كثيرة ، وقيل انّ خلايا البدن الإنساني تتغير برمتها كلّ ثماني سنين.

2. إذا افترضنا انّ البدن الأخير وما تقدمه من الأبدان صادف المانع وأصبح جزءاً لإنسان آخر ، ولو من خلال تحول البدن إلى تراب ونبات وحيوان ، ولكن ليس عامّة الأجزاء من كلّ بدن مأكولاً لفرد آخر ، وإنّما يتحول جزء من كل بدن ، فعند ذلك يحشر بأي بدن شاء الله وإن كان بدناً نحيلاً ، لأنّه يكفي في المعاد انّ البدن الأُخروي نفس البدن الدنيوي ولم يدل دليل على العينية من حيث السمن والضعف.

3. لو افترضنا ـ وإن كان الفرض من النُدرة بمكان ـ أن تتحول أغلب الأجزاء من كلّ بدن إلى بدن إنسان آخر بحيث لا يكون الباقي كافياً في تشكيل بدن الآكل ، وعندئذٍ لا مانع من إكمال البدن بالاستعانة بأجزاء ترابية وهوائية أُخرىٰ ، ولا يعدّ ذلك نقضاً في الحشر ، لما عرفت من أنّ الملاك هو صدق العينية عرفاً لا عقلاً ، ولذلك يعبر سبحانه عن ذلك بقوله : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) (10) بناء على أنّ الضمير في « مثلهم » يرجع إلى الإنسان ، وقال عزّ من قائل : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ). (11)

وقال الإمام الصادق عليه السلام : « وإذا قبضه ( أي روح المؤمن ) الله إليه سيّر تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته ، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت عليها في الدنيا ». (12)

وإلى هذا الجواب يشير صدر المتألّهين بقوله : لا عبرة بخصوصية البدن وانّ تشخصه والمعتبر في الشخص المحشور جسمية ما أية جسمية كانت ، وانّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها لا أنّ النفس يحدث من المادة بحسب هيئاتها واستعداداتها كما في الدنيا. (13)

وما ذكره ينطبق على ما ذكرنا إذا أراد من البدن ، البدن العنصري ، لكنّه قدس سره كما عرفت يصرح بالبدن البرزخي ويقول : وانّ البدن الأُخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها.

هذا كلّه حول الشبهة من المنظار الأوّل ، وإليك دراسة الشبهة من منظار العدل الإلهي.

شبهة الآكل والمأكول من منظار العدل الإلهي

كان التقرير السابق للشبهة من منظار عدم وفاء المادة لحشر كلّ إنسان على النحو الأكمل.

ولكن البحث في المقام يركز على أنّه إذا كان المؤمن مأكولاً للكافر ، يلزم تعذيب المؤمن بتعذيب الكافر ، أو بالعكس. ونجيب عن هذا التقرير بوجهين :

الوجه الأوّل : انّه إذا صار عضو من بدن المؤمن جزءاً لبدن الكافر يكون تعذيبه تعذيباً للكافر لا للمؤمن ، لأنّ الجزء في ظل الحركة الجوهرية انقطعت صلته بالمأكول واندكّ في الآكل على نحو صار جزءاً منه ، فتعذيبه أو تنعيمه يرجع إلى الآكل لا إلى المأكول ، ونظيره زرع الأعضاء الرائج في الطب الحديث فانّ الكلية مثلاً إذا أخذت من بدن شخص وزرعت في بدن شخص آخر على نحو التحمت مع سائر الأعضاء ، فتعذيبه وتنعيمه يرجع إلى المأكول لا إلى الآكل.

الوجه الثاني : انّ الشبهة نابعة من التفكير المادي ، حيث يحصر واقع الإنسان في اللحم والجلد والعظام ، مع أنّ واقع الإنسان شيء أعمق من ذلك ، وهو روحه ونفسه ، فإذا صار عضو من الإنسان جزءاً من إنسان آخر انقطعت صلة الروح عن الجزء المقطوع فلا يكون مدبَّراً للنفس ، فتكون الآلام واللّذات منصبَّة على الآكل لا على المأكول ، ولعل هذا البحث المبسوط ، فيه الكفاية لذوي الألباب.

وأنا بدوري أعتذر للقرّاء الكرام من إطالة الكلام في هذا المقام.

الشبهة الثالثة : ما هو الهدف من الجزاء ؟

إذا كان الهدف من إعادة الإنسان ليجزىٰ بما عمل من خير أو شر ، فما هو السر وراء تعذيب المجرم ؟ فانّ هناك احتمالات عدّة :

الأوّل : التشفّي وتسكين الآلام.

الثاني : تأديب المجرم.

الثالث : أن يكون التعذيب عبرة وعظة للآخرين.

وهذه الفروض إنّما تصحّ في التعذيب الدنيوي ، فولي الدم يقتص من القاتل للتشفي وتسكين آلامه ، كما أنّ تأديب المجرم غاية تختص بالدنيا ، فانّ القاضي والحاكم يؤدّب المجرم بالضرب والسجن أو غيرها ليصلح حاله ، في مستقبل حياته.

كما أنّ أخذ العبرة من تعذيب الغير أمر يختص بالدنيا لئلّا يقترف الآخرون الجرائم ، كما هو الحال في قوله : ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ). (14)

فإذا كانت الغايات الثلاث ممّا تتحقق في الحياة الدنيا ، فيكون التعذيب في الآخرة أمراً عبثاً لا غاية له.

ثمّ إنّ المستشكل عطف الثواب الأُخروي على العذاب الدنيوي فزعم انّه أيضاً بلا غاية ، وقال :

وأمّا الالتذاذ فهو أيضاً باطل ، لأنّ اللذة الجسمانية لا حقيقة لها ، وإنّما هو دفع الألم بالاستقراء وانّه لو ترك على حاله ولم يعد لم يكن له ألم فهذا الغرض حاصل بدون الإعادة فلا فائدة فيها. (15)

والجواب : انّ المستشكل زعم أنّ المعاد أمر ممكن فسأل عن غايته وأغراضه ، فإذا انتفى الغرض فيه حكم ببطلانه ، وهذا أمر بعيد عن الصواب ، فالمعاد أمر ضروري حسب الأدلة الستة ، وفيه العلّة الفاعلية والغائية ، ومعها كيف يكون أمراً عبثاً ؟! وكفىٰ في العلّة الغائية انّها مظهر لعدله سبحانه ، ومجلىٰ لقسطه على وجه يكون تركه أمراً قبيحاً ، بل هو مجلىٰ لوعده ووعيده.

وأمّا ما ذكره أخيراً من عدم أصالة اللذة الجسمانية ، وإنّما هو دافع للألم كالأكل الذي هو دافع لألم الجوع ، فلا أساس له من الصحة ، فهل يتصور انّ الالتذاذ من خلال النظر إلى المناظر الجميلة والحدائق المكتظة بالأشجار أمر لا حقيقة له ، بل هو رافع للألم فحسب ؟!

وثمّة جواب آخر وهو : انّ ما ذكره من الإشكال إنّما يتم في الجزاء الجعلي ، فيسأل عن حكمتها وغاياتها بأحد الوجوه ، وأمّا إذا كان الجزاء خارجاً عن هذا الإطار وكان من لوازم وجود الملكات التي اكتسبها الإنسان طيلة حياته علىٰ نحو تكون الصور الجميلة الملِذَّة أو الصور القبيحة المؤلمة من لوازم الملكات المكتسبة التي تعد جزءاً لبدن الإنسان ، فالسؤال عندئذٍ ساقط من أصله لأنّها من لوازم الوجود ، واللازم لا يُعلَّل ، كما أنّ الزوجية من لوازم الأربعة فإيجاد الأربعة إيجاد للزوجية ، كما أنّ إعادة الإنسان بما له من الملكات إعادة للوازمه بلا حاجة إلىٰ جعل آخر.

وهناك جواب ثالث وهو : انّ الجزاء خيره وشره صور برزخية للأعمال الدنيوية التي يكتسبها الإنسان طيلة حياته ، وكأنّ للعمل كالصلاة والصوم وجودين ، وجوداً دنيويّاً ووجوداً أُخرويّاً ، فالصلاة في هذه النشأة أذكار وحركات ، وفي النشأة الأُخرى نور وقربة ، كما أنّ الصوم في هذه النشأة إمساك ، وفي النشأة الأُخرىٰ جُنّة من النار.

فليس الجزاء خيره وشره أمراً مخلوقاً ، بل إعادة لنفس الأعمال لكن بوجودها البرزخي ، ولا مانع من أن يكون لشيء واقعية واحدة وتجليات مختلفة ، فالذهب والفضة المكنزان يتجلّيان في هذه النشأة بصورة برّاقة تسرّ الناظرين ، وفي النشأة الأُخرىٰ بصورة نار تكوى بها جلودهم وظهورهم ، فالنار الأُخروية التي تكوىٰ بها هي نفس الكنز المحتكر ولكن لها تجليات حسب اختلاف النظر ، وإليه يشير سبحانه ويقول : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ). (16)

فقوله سبحانه : ( هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ ) إشارة إلى النار التي تكوىٰ بها الجباه والجنوب ، فالنار حسب الرؤية القرآنية هي نفس الذهب أو الفضة ولكن تجلّت بوجود برزخي.

وهناك احتجاج للإمام أمير المؤمنين عليه السلام علىٰ من أنكر عذاب القبر في هذه الدنيا.

أخرج العاصمي في كتابه « زين الفتىٰ في شرح سورة ( هَلْ أَتَىٰ ) » من طريق شيخه أبي بكر محمد بن إسحاق بن مهشاد يرفعه ، أنّ رجلاً أتىٰ عثمان بن عفان وهو أمير المؤمنين وبيده جمجمة إنسان ميت ، فقال : إنّكم تزعمون النار يعرض على هذا وانّه يعذب في القبر وأنا قد وضعت عليها يدي فلا أحسَّ منها حرارة النار ؟ فسكت عنه عثمان وأرسل إلى علي بن أبي طالب المرتضىٰ يستحضره ، فلمّا أتاه وهو في ملأ من أصحابه ، قال للرجل : أعد المسألة. فأعادها ، ثمّ قال عثمان بن عفان : أجب الرجل عنها يا أبا الحسن ، فقال علي عليه السلام : ائتوني بزند وحجر ، والرجل السائل والناس ينظرون إليه فأتي بهما فأخذهما وقدَّح منهما النار ، ثمّ قال للرجل : ضع يدك على الحجر. فوضعها عليه ، ثمّ قال : ضع يدك على الزند ، فوضعها عليه ، فقال : هل أحسست منهما حرارة النار ؟ فبهت الرجل ، فقال عثمان : لولا علي لهلك عثمان. (17)

ثمّ إنّ مسألة تجسم الأعمال بمعانيها المختلفة بحث قرآني سنمر عليه في الفصول اللاحقة.

الشبهة الرابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إنّ الذكر الحكيم يصف المعاد بالنشأة الأُخرى أو دار العقبى وما شابههما ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ اللَّـهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) (18) وقال سبحانه : ( وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ ) (19) ويقول سبحانه : ( وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) (20) وقال عزّ من قائل : ( سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ). (21)

فإذا كان المعاد عودَ الإنسان بالبدن العنصري فيكون عوداً إلى النشأة الأُولى لا النشأة الأُخرى ، وعوداً إلى الدار الأُولى لا إلىٰ عقبى الدار.

والجواب : انّ صدق العناوين المتقدّمة ليس رهن أنّ المعاد مثالي أو روحي ، بل تصدق وإن كان المعاد عنصريّاً وماديّاً ، ويكفي في تسمية أحدهما بالأُولىٰ والآخر بالأُخرىٰ ، انّ الأُولىٰ دار العمل والسعي ، والثانية دار الحصاد ، يقول أمير المؤمنين عليه السلام : « وانّ اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل ». (22)

أضف إلى ذلك انّ تسمية أحدهما بالأُولىٰ والآخر بالأُخرىٰ لأجل أنّ الإنسان في الدار الآخرة أكمل ممّا عليه في دار الدنيا ، لأنّ تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُولىٰ تعلّق تدبيري فيكون ارتباطها بالبدن ارتباطاً وثيقاً إذ لولاها لفسد البدن ، وهذا بخلاف دار الآخرة فانّ تعلّقها بالبدن بغية نيل الجزاء المادي ، أو نيل الثواب والعقاب ، ولذلك تختلف الحياة في النشأة الأُخرى عن الحياة في النشأة الدنيا من حيث الكمال.

والحاصل : انّ الدنيا والآخرة موطنان للإنسان غير أنّ أحدهما أكمل وألطف من الآخر.

الشبهة الخامسة : لزوم التناسخ

إنّ للتناسخ أقساماً ، والمراد هنا تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ إعادة الإنسان بعينه وجمع أشلائه وأعضائه وصيرورته إنساناً سويّاً من حيث الظاهر استعد لأن يفاض عليه من الله سبحانه نفس ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر تتعلّق به نفسه المستنسخة لأجل نيل الثواب أو العقاب ، فيلزم تعلّق نفسين ببدن واحد.

يقول صدر المتألّهين : إنّ مفسدة التناسخ بحسب المعنىٰ ـ كما ذكره ـ واردة هاهنا بلا مرية ، وهي لزوم كون بدن واحد ذا نفسين ، فانّ تلك الأجزاء لو كانت قابليتها لتعلّق النفس حين التفرّق باقية ، لم تفارق عنها النفس ، فكان زيد حال الموت حياً وقد فرض ميتاً ، وإن لم تكن باقية فاحتاجت في قبولها للنفس إلى انضمام أمر إليها به يستعد للقبول فإذا انضم إليها ذلك الأمر وصارت مستعدة باستعداد آخر جديد لابدّ أن يفاض عليها من المبدأ الجواد فيض جديد وروح مستأنف ، فإذا تعلّق بها الروح المعاد أيضاً كان لبدن واحد روحان وهو ممتنع. (23)

يلاحظ عليه : أنّ هذه الشبهة إنّما تتم بناء علىٰ خلق الأرواح قبل الأبدان ، ، فلو قلنا بهذا الأصل لكان للشبهة مجال ، لأنّ إحياء الإنسان وجمع أشلائه وأعضائه يستدعي تعلّق الروح به من العالم العلوي فلو تعلّقت به النفس المستنسخة لكان تناسخاً.

وأمّا لو قلنا بأنّ الروح هي نتيجة الحركة الجوهرية للمادة ، وأنّ الجنين في مدارج تكامله وحركته يصل إلى مرتبة يتبدل إلىٰ أمر مجرّد ، دون أن ينقص من المادة شيء ، فليست الروح شيئاً مخلوقاً من ذي قبل ، وإنّما هي نتيجة تكامل المادة وتحولها إلىٰ أمر مجرد له صلة بالمادة ، ويتكامل حسب تكامل الجنين في رحم أُمّه ، كما يتكامل بعد خروجه منه.

وهذا هو الذي ارتضاه صدر المتألّهين وهو صدر الآراء ، وعلىٰ ضوء هذا فالشبهة لا تصمد أمام النقاش ، لأنّه لو كان المعاد أمراً تدريجياً وعود الإنسان إلىٰ عالم الحياة نظير نشأته في هذه الدنيا يلزم هنا التناسخ وتعلّق نفسين ، إحداهما نتيجة الحركة الجوهرية الثانية والتكامل التدريجي للمادة ، والأُخرى نفسه المستنسخة المتكونة من الحركة الجوهرية الأُولىٰ للمادة.

وأمّا إذا كان المعاد أمراً دفعياً كما هو الظاهر من الآيات الكريمة ، فليس هناك إلّا نفس واحدة وهي نفسه المستنسخة ، وأمّا النفس الأُخرى فهي وليدة الحركة والتكامل التدريجي ، والمفروض انّه لم يكن هناك أي حركة وتدريج وتكامل ، بل كان إنشاءً ثانياً للبدن السوي بحيث يصلح لتعلّق النفس به.

ويدل علىٰ أنّ المعاد ، دفعي لا تدريجي آيات الذكر الحكيم :

قال سبحانه : ( فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ). (24)

وقال تعالى : ( خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ). (25)

وقال عزّ من قائل : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ). (26)

وقال سبحانه : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ). (27)

وقال : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ). (28)

إلى غير ذلك من الآيات.

نعم لو قلنا بما ذهب إليه المشّاء من خلق الأرواح قبل الأبدان ، فإذا صارت النطفة بدناً سوياً تتعلّق بها الروح من العالم العلوي ، وعند ذلك يلزم تعلّق نفسين إحداهما النفس المستنسخة ، والثانية النفس التي استعدت لهبوطها إلى البدن.

ولكن الشبهة طبقاً لهذا الأصل أيضاً غير صحيحة ، إذ لا صلة بين الروح الثانية وهذا البدن ، مع وجود الصلة بين البدن السوي والروح المستنسخة.

وعلى كلّ حال ، فلنعطف أنظار القارئ إلىٰ هذه النكتة وهي انّ المعاد العنصري خالٍ عن المفاسد المترتبة على القول بالتناسخ.

لأنّ القول بالتناسخ منطق المنكرين للمعاد ، فعود الإنسان إلىٰ هذه الدار مرّة تلو أُخرى سيَخْلِفُ القول بالمعاد ويغني عن الإيمان به ، ولا أثر لهذا المنطق في القول بالمعاد في النشأة الأُخرى.

كما أنّ القول بالتناسخ يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، لأنّ التناسخ هو عود الإنسان عن طريق تعلّق الروح بالنطفة وتكاملها وحركتها وبلوغها إلىٰ أن تتبدل إلى روح مجرّدة فهذا يستلزم تعلّق نفسين ببدن واحد ، إحداهما النفس المستنسخة ، والأُخرى النفس المتولّدة من الحركة الجوهرية الثانية. وهو محال ، لأنّ النفس المستنسخة حينما تركت البدن كانت نفساً كاملة مدركة للكليات ، فكيف يمكن أن تتعلّق تلك النفس مع ما لها من المنزلة ، بخلية في الرحم أي بالعلقة والمضغة حتى تمرّ على هذه المراحل ويكون البدن سوياً قابلاً لتعلّق المستنسخة به ؟!

والعجب انّه قدس سرّه قد تنبه إلى بعض ما ذكرنا ، حيث قال : إنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الجوهرية الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية علىٰ سبيل الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلىٰ حتىٰ يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها. (29)

الشبهة السادسة : المعاد العنصري وظواهر الآيات

إنّ ظواهر بعض الآيات وإن كانت تنسجم مع المعاد الجسماني ، غير أنّ ثمة آيات أُخرى لا تنسجم مع كون المعاد هو البدن العنصري السابق ، وذلك لأنّه سبحانه يستخدم لفظة « انشأ » و « مثل » ، ومن الواضح أنّ الإنشاء عبارة عن الإيجاد بلا مثال سابق ، كما أنّ لفظة « مثل » تحكي عن كون المعاد ليس نفس المنشأ أوّلاً ، بل مثله ، قال سبحانه : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (30) ، وقال عزّ من قائل : ( نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ). (31)

قال صدر المتألّهين بعد تفسير الآيات : ولا يخفى علىٰ ذي بصيرة أنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (32)

والجواب : انّ مادة الإنشاء كما تستعمل في الإيجاد بلا مثال تستعمل في مطلق الإيجاد أيضاً ، وإن كان له مثال سابق ، قال سبحانه :

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (33) فإنّ إنشاء السحاب بمعنى إيجاد فهو بالنسبة إلى شخصها إيجاد ، وبالنسبة إلى نظائرها إيجاد مع سبق مثال له ، وعلى ذلك فإطلاق الإنشاء علىٰ إعادة الإنسان بملاك الإيجاد وانّه خلق ثان وإيجاد بعد الإيجاد.

وأمّا لفظ « مثل » فلا يدل إلّا علىٰ وجود التغاير بين المثلين ، وإلّا انتفت الاثنينية ، وأمّا تفسير التفاوت بالقول بانّ الإيجاد الأوّل عنصريّ ، والثاني غير عنصري فهذا مما لا يدل عليه استعمال المثل في الآية ، بل غاية ما يستفاد منها هو وجود التغاير والاثنينية ، وأمّا ما هو ملاك التفاوت والاثنينية فلا تدل الآية عليه.

الشبهة السابعة : المعاد العنصري عود إلى الدنيا

إذا كان المعاد عنصرياً ، وعاد الإنسان إلى الحشر بنفس البدن الدنيوي فهذا يكون عوداً إلى الدنيا بعد خروجه عنها ، ولا يكون رجوعاً إلى الله وقرباً منه ، وكيف يعد ذلك المعاد غاية للخلقة ؟ وهذا ما أشار إليه صدر المتألّهين ، بقوله : ولم يتفطنوا بأنّ هذا حشر في الدنيا لا في النشأة الأُخرىٰ وعود إلى الدار الأُولى ، دار العمل والتحصيل لا إلى الدار العقبىٰ ودار الجزاء والتكميل. (34)

إنّ كون المعاد رجوعاً إلى الله أو اقتراباً منه وغاية للخلقة يعود إلىٰ نفسه لا إلىٰ بدنه ، فهي التي تتحمل هذه الصفات لا بدنه ، فسواء تعلّقت بالبدن العنصري أو البدن المثالي ، فرجوعها إلى الله رهن تكاملها لا خروجها من البدن العنصري وتعلّقها بالبدن المثالي ، وإن استغربت من هذا الكلام فلاحظ النفس في هذه الدار فالنفس موجود طبيعي لها أصل في الطبيعة ، كما انّ إدراكها الصورة الجسمية المجرّدة يجعلها موجوداً مثالياً لها أصل في عالم المثال ، كما أنّ إدراكها للكليات والحقائق المرسلة موجود عقلائي لها أصل في عالم العقول.

وبالجملة كون الحياة الأُخروية غاية ورجوعاً إلى الله يتبلور في أمرين متحققين في الحياة الأُخروية.

أ. تجسم أعماله وتبلور أفعاله وما تواجه من جزاء الخير والشر.

ب. انتهاء القوىٰ والاستعدادات إلى الكمال ، ووقوف الحركة الاستكمالية للإنسان.

وهذان الأمران غير متحققين في الدنيا وإنّما يتحققان في الآخرة ، كما أنّهما ينسجمان مع حشر البدن العنصري ، أمّا تجسّم الأعمال وتبلورها فهو ينسجم مع الحشر المثالي أو البرزخي ، وأمّا توقّف الحركة عن الاستكمال ، فلما عرفت من أنّ تعلّق النفس بالبدن في اليوم الآخر لأجل نيل الثواب والعقاب لا للتدبير ، وبذلك يختلف تعلّقها بالبدن في الآخرة عن تعلّقها به في الدنيا ، وبالتالي لا ينفك ذلك التعلّق عن الحركة الاستكمالية في النشأة الأُولى ولكن تنتهي الحركة الاستكمالية في النشأة الأُخرى ، وما ذلك إلّا لتغاير التعلّقين.

الشبهة الثامنة : النفس يوم القيامة قائمة بذاتها

إنّما سمّي يوم الآخرة بيوم القيامة ، لأنّ الروح فيه ينسلخ عن هذا البدن الطبيعي مستغنياً عنه في وجوده قائماً بذاته ، والبدن الأُخروي قائم بالروح في تلك النشأة والروح قائمة بالبدن الطبيعي هاهنا لضعف وجودها الدنيوي وقوة وجودها الأُخروي ، وعلىٰ ذلك فلا يمكن أن يكون البدن الأُخروي مثل البدن الدنيوي لما عرفت انّ الروح لأجل ضعف وجودها الدنيوي قائمة بالبدن الطبيعي بخلاف الروح بوجودها الأُخروي فانّها لقوة وجودها قائمة بنفسها ، والبدن قائم بالروح.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ النفس في يوم القيامة قائمة بذاتها لا بالبدن علىٰ خلاف ما في الدنيا ، أمر لم يقم عليه برهان ، وإنّما اتخذه المستدل أصلاً موضوعياً وبنىٰ عليه الدليل ، من خلال إطلاق لفظة « القيامة » والتي توحي إلى قيام النفس بذاتها ، مع أنّه لا دليل عليه بل إطلاق القيامة علىٰ ذلك اليوم لأجل قيام الحساب والاشهاد والروح ( الروح الأمين ) والناس ، قال سبحانه :

1. ( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ). (35)

2. ( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ). (36)

3. ( يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ). (37)

4. ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ). (38)

وهذه الآيات تفسر وجه تسمية ذلك اليوم ، بيوم القيامة وانّ التسمية جاءت لأجل قيام الحساب وغيره.

الشبهة التاسعة : استغراب الحياة المثالية

لما كان إثبات نحو آخر من الوجود يخالف هذا الوجود الطبيعي الوضعي ، وإثبات نشأة أُخرى باطنة تباين هذه النشأة الظاهرة ، أمراً صعب الإدراك مستعصياً علىٰ أذهان أكثر الناس جحدوه وأنكروه ، وأيضاً لألفهم بهذه الأجساد وشهواتها ولذّاتها يصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة ، ولذلك لم يتدبروا في تحقيقها وكيفيتها بل أعرضوا عنها وعن آياتها ، كما قال تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) (39) ، ورضوا بالحياة الدُّنيا واطمأنّوا بها وأخلدوا إلى الأَرض كما قال تعالى : ( وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ). (40)

ونحن رأينا كثيراً من المنتسبين إلى العلم والشريعة انقبضوا عن إثبات عالم التجرّد واشمأزّت قلوبهم عن ذكر العقل والنفس والروح ، ومدح ذلك العالم وخدمة الأجساد وشهواتها المحسوسة ودثورها وانقطاعها وأكثرهم توهموا الآخرة كالدنيا ونعيمها كنعيم الآخرة إلّا أنّها أوفر وأدوم وأبقى. (41)

وحاصل هذه الشبهة يرجع إلىٰ أمرين :

أ. انّ إنكار المشركين المعاد لأجل كون الحياة الأُخروية فوق الحس ، وهذا لا ينسجم مع كون المعاد عنصرياً.

ب. هؤلاء المنكرون لفرط حبهم بالبدن وآثاره كان من الصعب عليهم تركها وطلب نشأة تضاد هذه النشأة.

يلاحظ على الأمر الأوّل : أنّ المشركين كانوا يستوحشون من إحياء البدن العنصري تارة أُخرى ، ولأجل ذلك كانوا ينسبون القائل بذلك إلىٰ الجنون والخلط.

إنّ إحياء الأموات ليس أمراً سهلاً حتى يصدقه كلّ من خوطب به ، بل أمر يصعب فهمه على السذج من العقول يقول سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) (42) فالذي كانت تستغربه الأفهام الساذجة هو إحياء البدن البالي ، وهذا ينسجم مع المعاد العنصري.

ولأجل رفع تعجبهم وتقريب المطلب إلىٰ أفهامهم يضرب القرآن بكلّ مثل في هذا الباب كما سبق ذكره.

وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّ إنكارهم لم يكن مبنياً علىٰ أنّ المعاد الذي يدعو إليه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يعد مغايراً لهذه الحياة الدنيا ، بل كان إنكارهم لأجل خوفهم من سوء الحساب والجزاء لا من تغاير الحياتين واختلافهما ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (43) وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ). (44)

والحاصل أنّ التغاير بين الحياتين لا يكون داعياً إلى الإنكار خصوصاً إذا كانت الحياة الثانية أكمل من الأُولى وانّ الذي يجر المنكر إلى إنكار المعاد هو خوفه من نصب الموازين بالقسط والجزاء بما عمل ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

الشبهة العاشرة : تعلّق النفس بالبدن العنصري رهن مرجّح

إنّ تعلّق النفس بالبدن أمر طبيعي منشأه الملازمة التامة والاستعداد الكامل للمادة المخصِّص لها بهذه النفس دون غيرها ، ولابدّ أن يكون هذا التخصص والاستعداد ممّا لم يوجد إلّا لهذه المادة الواحدة بالقياس إلى النفس المعينة الواحدة لئلا يلزم التخصص بلا مخصص ، أو تعلّق نفس واحدة ببدنين ، على أنّ منشأ حدوث النفس وما يجري مجراها هو الحركة الذاتية الاستكمالية لمادة ما في الصور الجوهرية على سبيل الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلىٰ حتى يقع انتهاء الأكوان الصورية إلى النفس وما بعدها ، فعلىٰ هذا لا معنى لبقاء المناسبة الذاتية للأجزاء الترابية إليها. (45)

والجواب : أنّ المناسبة بين النفس والأجزاء الترابية وإن كانت منتفية إلّا أنّها موجودة بين النفس والبدن المعاد. وبما أنّ المعاد في دار العقبىٰ هو نفس البدن الدنيوي الذي تعلّقت به النفس في هذه النشأة ، فتتعلّق به النفس في النشأة الآخرة.

نعم البدن المعاد وإن لم يكن عين البدن الدنيوي إلّا أنّه مثله ، فيشتمل علىٰ كافة الخصوصيات الموجودة في البدن الدنيوي ، وهذه الخصوصيات كافية في إيجاد المرجح لتعلّق النفس بذلك البدن دون الآخر.

فالله سبحانه عندما يُعيد البدن الدنيوي فإنّما يعيده بكافة الخصوصيات المتحقّقة في هذه النشأة غير النفس ، وهذا المقدار يكفي في المرجحية وإخراج التعلّق عن كونه تعلّقاً بلا مرجح.

الشبهة الحادية عشرة : رجوع الفعلية إلى القوة

إنّ النفس الإنسانية تتكامل شيئاً فشيئاً في الحياة الدنيا تحت ظل الحركة الجوهرية فتصل من الأدنى إلى الأعلى حتى تقع انتهاء الأكوان الصورية من النفس وعند ذلك تتبدل قواها إلى الفعلية وطاقاتها إلى الوجود الواقعي ، فلو أُعيد إلى الدنيا يلزم رجوع الفعلية إلى القوة وهو أمر علىٰ خلاف الحكمة.

يقول صدر المتألّهين : إنّ النشأة الثانية طور آخر من الوجود يباين هذا الطور المخلوق من التراب والماء والطين ، وانّ الموت والبعث ابتداء حركة الرجوع إلى الله أو القرب منه لا العود إلى الخلقة المادية والبدن الترابي الكثيف الظلماني. (46)

إنّ هذا الإشكال أي استلزام المعاد العنصري رجوع الفعليات إلى القوى لا يختص بالمعاد ، بل يعم الخلقة الابتدائية عند من يقول بخلق الأرواح قبل الأبدان ، فانّ الروح المجرّد موجود متكامل نفذ طاقاته وانقلب قواه إلى الفعلية ، فلو تعلّق بالجنين السويّ يلزم تنزله من المقام الأعلىٰ إلى المقام الأدنى حتى ينسجم مع البدن ، وإلّا لكان التعلّق أمراً محالاً لعدم الإنسجام بين البدن والروح. وهذا الإشكال هو الذي حاول الشيخ الرئيس أن يجيب عنه بعدما طرح الإشكال مبسطاً ، وقال في قصيدته المعروفة بالعينيّة :

هبطت إليك من المحل الأرفع

 

ورقاء ذات تعزِّز وتمنِّع

محجوبة عن كلّ مقلة عارف

 

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما

 

كرهت فراقك وهي ذات تفجع

انفت وما ألفت فلمّا واصلت

 

ألفت مجاورة الخراب البلقع

واظنها نسيت عهوداً بالحمى

 

ومنازلاً بفراقها لم تقنع (47)

إلى آخر ما قال :

إنّ الإشكال مبني علىٰ أنّ الروح بخروجها عن البدن موجود متكامل ومجرّد محض ، ليس فيها أيّة قوة وطاقة فلذلك تفقد ملاك تعلّقها بالبدن ، وأمّا إذا قلنا بانّ النفس في هذه الدنيا مجرّد ممزوج مع القوة ، فهي بما انّها تتأثر باللذائذ والآلام المادية ، موجود طبيعي ، وبما أنّها تخلق صوراً بلا مادة كالصورة الذهنية موجود مثالي ، وبما انّها تدرك المفاهيم الكلية والحقائق المرسلة موجود عقلاني.

فعلىٰ ذلك فإنّ النفس لها أُصول في العوالم الثلاثة ، فلا مانع من أن تتعلّق بالبدن المادي والهوية الطبيعية.

لا شكّ انّ الحياة الأُخروية أكمل من الحياة الدنيوية ، لكن مدار الكمال ليس كون إحداهما مادية والأُخرى مجرّدة كاملة ، وإنّما يتحقّق التفاوت بأُمور أُخرى نظير ما يلي :

1. انّ الخمر في هذه الحياة مسكر ومطفئ لمصباح العقل بخلافه في الدار الآخرة.

قال سبحانه : ( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزِفُونَ ). (48)

2. انّ الفواكه واللبن وما أشبهها يتسارع إليها الفساد في هذه الدنيا بخلافه في الدار الآخرة ، قال سبحانه : ( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ). (49)

3. انّ الحياة في النشأة الأُولى منقطعة ، بخلاف الآخرة فانّ الحياة فيها خالدة ، قال سبحانه : ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ). (50)

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ). (51)

4. انّ الإنسان في هذه النشأة يمتلك الحواس التي يستعين بها للارتباط بمحيطه كالإحساس بالحرارة والبرودة مثلاً مع أنّها في الآخرة ليست كذلك ، قال سبحانه : ( لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ). (52)

وعلى ضوء ذلك فالاختلاف بين الحياتين ليس رهن كون إحداهما مادية والأُخرى مجردة مثالية ، بل يكفي كونها من سنخ واحد ولكن على نحو أكمل ممّا نشاهده في هذه الدنيا.

كيف يمكن أن يقال إنّ خروج النفس عن البدن آية تكاملها ونفاد قواها واستعدادها مع أنّ أكثر أنواع الموت انتشاراً هو الموت الاخترامي لا الطبيعي ؟

وللسيد العلّامة الطباطبائي كلام مفصل في نقد هذه الشبهة ، إذ يقول :

إنّ عود الميت إلىٰ حياته الدنيا ثانياً في الجملة وكذا المسخ ليسا من مصاديقه ، بيان ذلك : أنّ المحصل من الحس والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فانّه يتحرك إلى الحيوانية ، فيتصور بالصورة الحيوانية ، وهي صورة مجرّدة بالتجرّد البرزخي ، وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبس بها بالحركة الجوهرية ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادي فتصير إيّاه إلّا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسداً لا حراك به.

ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها ، وأحوال علمية تترتب عليها ، تنتقش النفس بكلّ واحد من تلك الأحوال بصدورها منها ، ولا يزال نقش عن نقش ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد وصار صورة ثابتة غير قابلة للزوال ، وملكة راسخة ، وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيواناً خاصاً ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس وغير ذلك وإذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة ، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية ، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلّقة بالمادة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتداً به ، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية ، ثمّ إنّ الحيوانية إذا وقعت في صراط الإنسانية وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرداً عن المادة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلىٰ فعلية التجرّد العقلي ، وتحققت له صورة الإنسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلىٰ قوتها التي هي التجرد المثالي على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية إلى حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدد لنفسه التعلق بالمادة وخاصة المادة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجرّدة قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً وهي مع التعلّق ثانياً حافظة لتجرّدها ، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها ، فإذا عادت النفس إلىٰ تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة وحاصلة لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منها رجوعاً قهقري وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص ، ومن الفعل إلى القوة. (53)

ولأجل إيضاح الموضوع نقول :

إنّ هناك فرقاً بين النفس المجرّدة التي كانت كذلك منذ بدء أمرها وبين النفس المجرّدة التي يكون تجردها حصيلة تكامل البدن ووقوعه في السير التكاملي للحركة الجوهرية ، فالنفس على النحو الأوّل أي المخلوق مجرّداً من بدء خلقها لا يمكن تعلّقها بالبدن ، لأنّها تفقد الانسجام المطلوب بينها وبين البدن ، بخلاف النفس الثانية التي يكون تجردها حصيلة الحركة الجوهرية.

فانّها تحتفظ بشيء من استعداداتها وقابلياتها عند مفارقتها للبدن ، وبذلك تحافظ على انسجامها عند تعلقها بالبدن.

أضف إلى ذلك أنّ تعلّق المجرّد بالمادي إنّما يعد نقصاً إذا صار سبباً لنزوله من الدرجة العالية إلى الدرجة السافلة ، وأمّا إذا كان الشيء الواحد ذا درجات ومراتب فلا مانع من أن يتعلق بالمادة بمالها من الدرجة الدانية ، وقد عرفت أنّ النفس في وحدتها موجود طبيعي مثالي عقلاني.

بل يمكن أن يقال : إنّ تعلّق النفس بالبدن العنصري يوم القيامة كتعلّق عالم الشهادة بعالم الغيب وعالم الطبيعة بعالم النفوس والعقول ، فكما أنّ العالمين مدبرتان لعالم الطبيعة ومع ذلك لا يلزم وقوعهما في قوس النزول ، فهكذا الحال عند تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لا يستلزم وقوعها في القوس النزولي.

على أنّ ثمّة احتمالاً آخر وهو انّ تعلّق النفس بالبدن يوم القيامة لأجل إمكان درك الثواب والعقاب الماديين ، إذ ثمة نوع من الثواب والعقاب لا يمكن أن تدركها النفس إلّا أن تكون متعلقة بالبدن وتكون كاللباس حين الخلع.

إلى هنا تمّ ما نرمي إليه من استعراض الشبهات المطروحة علىٰ هذا الصعيد مع نقدها ومناقشتها.

الهوامش

1. الشفاء : الإلهيات ، الفصل الثاني من المقالة التاسعة.

2. الأسفار : 9 / 167 ـ 168.

3. شرح المقاصد : 2 / 213.

4. كشف المراد : 260 ، ط مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام.

5. شرح المقاصد : 2 / 213 ، ط الآستانة.

6. كشف المراد : 260.

7. شرح المقاصد : 2 / 213 ، ط الآستانة.

8. الأسفار : 9 / 199 ـ 200.

9. السجدة : 10 ـ 11.

10. يس : 81.

11. الإسراء : 99.

12. البحار : 6 / 229 ، الحديث 32 ، من أحاديث باب أحوال البرزخ.

13. الأسفار : 9 / 200.

14. النور : 2.

15. شرح المواقف : 8 / 296 ؛ شرح المقاصد : 2 / 214 ، ط آستانه.

16. التوبة : 34 ـ 35.

17. الغدير : 8 / 214.

18. العنكبوت : 20.

19. النجم : 47.

20. الرعد : 22.

21. الرعد : 24.

22. نهج البلاغة : الخطبة 42.

23. الأسفار : 9 : 170.

24. يس : 51.

25. القمر : 7.

26. المعارج : 43.

27. الزمر : 68.

28. الزخرف : 66.

29. الأسفار : 9 / 205 ـ 206.

30. الواقعة : 61.

31. الإنسان : 28.

32. الأسفار : 9 / 153.

33. الرعد : 12.

34. الأسفار : 9 / 153.

35. إبراهيم : 41.

36. غافر : 51.

37. النبأ : 38.

38. المطففين : 6.

39. يوسف : 105.

40. الأعراف : 176.

41. الأسفار : 9 / 157 ـ 158.

42. سبأ : 7 ـ 8.

43. ص : 26.

44. النبأ : 27.

45. الأسفار : 9 / 206.

46. الأسفار : 9 / 153.

47. الكنى والألقاب : 1 / 321.

48. الصافات : 45 ـ 47.

49. محمد : 15.

50. الدخان : 56.

51. فاطر : 36.

52. الدهر : 13.

53. الميزان : 1 / 206 ـ 207.

مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 8 / الصفحة : 107 ـ 136

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية