المعاد الجسماني والتناسخ

البريد الإلكتروني طباعة

المعاد الجسماني والتناسخ

التناسخ مأخوذ من نسخ وهو يتضمن معنيين ، التحوّل والانتقال أوّلاً ، والتعاقب بين الظاهرتين ثانياً ، يقول الراغب في مفرداته : النسخ إزالة شيء بشيء يتعاقبه ، كنسخ الشمسِ الظلَّ ، والظلُّ الشمسَ ، والشيبُ الشبابَ.

غير أنّ التناسخ الذي يبحث عنه في المعاد لا يتضمن إلّا القيد الأوّل وهو الانتقال ، وأمّا التعاقب ومجيئ الظاهرة الثانية بعد الظاهرة الأُولىٰ فليس هو شرطاً ، نعم هو شرط في النسخ الشرعي ، حيث إنّ نسخ حكم يلازم تشريع حكم ثان يزيله وينسخه ، وإليك أنواع الانتقال :

الأوّل : انتقال النفس الإنسانية من النشأة الأُولىٰ إلى النشأة الآخرة.

الثاني : انتقال النفس في هذه النشأة من مرتبة إلىٰ مرتبة أفضل في ظل الحركة الجوهرية كما هو الحال في الطفل الوليد.

الثالث : انتقال النفس بعد خروجها عن هذه الدنيا إلىٰ خلية نباتية أو نطفة حيوانية أو جنين إنساني.

وفي الحقيقة لا يراد من التناسخ المصطلح إلّا الثالث ، وحقيقته أنّ الإنسان بعد موته ينتقل إلى هذه النشأة ، سواء انتقلت إلى جسم نباتي أو حيواني أو إنساني ، ولازم ذلك أنّ الروح بعدما تكاملت وتبدّلت قواها إلى الفعلية تأخذ بالقوس النزولي فيتعلق بالنبات والحيوان والجنين فتبدأ حياتها من جديد ، فَتُجزى حسب أعماله في الحياة السابقة ، هذا هو التناسخ المصطلح بين الإسلاميين وفلاسفة الاغريق.

وكثيراً ما يلتجئ إلىٰ هذه الفرضية من ينكر المعاد ، لأنّ رجوعه إلى عالم الدنيا لأجل الجزاء ، ومعه لا حاجة إلى المعاد.

ذهب القائلون بالتناسخ إلىٰ أنّ الإنسان في هذه الدنيا بين محسن ومسيء فيعود إلى الدنيا ليجزىٰ المحسنُ بإحسانه والمسيء بإساءته ، فما يرىٰ من ابتلاء طائفة بالمصائب والمتاعب فإنّما هي جزاء أعمالها السيئة ، بخلاف طائفة أُخرى حيث ترغد بالعيش والرفاه التي هي نتيجة أعمالها الحسنة.

وثمة نكتة جديرة بالذكر وهي أنّ أكثر من يروّج تلك الفكرة هم أصحاب السلطة والنفوذ الذين يمتلكون المال والجاه الواسع ، يروّجون التناسخ ليبرّروا به الأعمال الجائرة التي يقترفونها والأوضاع السيئة التي يعاني منها الفقراء والمساكين.

فنعيماً على الطائفة الأُولى وبؤساً على الطائفة الثانية ، جزاءً بما كانوا يعملون في الحياة الأُولى ، هذا هو منطقهم الواهي.

فلو قيل بأنّ الدين أفيون الشعوب ، فإنّما يصحّ في حقّ هذا النوع من الدين الذي يُبرَّر به أعمال تلك الطغمة الغاشمة.

والعجب انّ هذه الفكرة تسرّبت إلى أُمّة تعيش بين غنىٰ مفرط وفقر مدقع كالهنود ، فأضحت تلك الفكرة ونشرها بين الضعفاء عائقاً يمنعهم عن أيّ ثورة عارمة ضد الظلم والعدوان بزعم أنّ الثائرين أحقّ بالوضع الموجود ، كما أنّ أصحاب السلطة أحقّ بما هم عليه.

وعلى أيّة حال فلنتناول الموضوع بالبحث من منظار القواعد الفلسفية العقلية.

أقسام التناسخ

التناسخ عند القائلين به على أقسام نطرحها علىٰ طاولة البحث :

أ. التناسخ المطلق أو اللا محدود

يطلق التناسخ ويراد منه خروج النفس من بدن إلىٰ بدن آخر على وجه الاستمرار وذلك ، لأنّ النفوس البشرية عند خروجها من البدن ليست مجرّدة كاملة ، فلا مانع من تعلّقها ببدن آخر ، وثالث ، ورابع ، وهكذا تستمر في تقمصها الأبدان.

يقول شارح حكمة الإشراق : ومن القدماء من يقول بعدم تجرّد جميع النفوس بعد المفارقة ، وهم المترفون بـ « التناسخية » فانّهم يزعمون أنّ النفوس جرمية دائمة الانتقال في الحيوانات ، وهؤلاء أضعف الحكماء وأقلّهم تحصيلاً.

ثمّ أورد عليه بأنّ العناية الإلهية تقتضي إيصال كلّ ذي كمال إلى كماله ، وكمال النفس الناطقة العلمي ، صيرورتها عقلاً مستفاداً فيها جميع صور الموجودات ، والعملي تجرّدها عن العلائق البدنية ، فلو كانت دائمة الانتقال كانت ممنوعة عن كمالها أزلاً وأبداً ، وهو محال. (1)

وهذا النوع من التناسخ على طرف النقيض من القول بالمعاد ، إذ لا ينقطع تعلّقها بالبدن الدنيوي مادامت موجودة ، فلا مجال للمعاد عندئذٍ.

ب. التناسخ النزولي المحدود

القائل بهذا النوع من التناسخ يدّعي أنّ النفوس علىٰ صنفين ، فصنف يبلغ في الحكمة العلمية والعملية بمكان لا تعود حينها النفس إلى هذه النشأة بعد خروجها من البدن بل تلتحق بعالم المجرّدات والمفارقات ، ولا مسوِّغ لرجوعها إلى الدنيا لبلوغها الكمال المطلوب.

وثمّة صنف آخر لم يكتسب من الكمال العلمي والعملي إلّا شيئاً يسيراً ، ولذا استدعت الحاجة إلىٰ عود النفس إلى النشأة الأُولىٰ بغية بلوغها الكمال المطلوب ، وذلك من خلال الانتقال بين الأبدان.

وهذا القسم من التناسخ ينقطع ببلوغ النفس المرتبة الكاملة من العلم والعمل بعودها إلى الدنيا مرّة بعد أُخرى.

والفرق بين القسم الأول وهذا القسم من التناسخ من وجهين :

الأوّل : هو عمومية الأوّل وشموليته لكافة الأفراد ، بخلاف الثاني فانّه يختص بغير الكمَّلين في العلم والعمل.

الثاني : استمرار التناسخ عبْر الزمان دون أن يقف إلىٰ حدّ معيّن في الأوّل ، دون الثاني ، الذي ربّما ينتهي ببلوغ النفس المستنسخة الكمالَ المطلوب في العلم والعمل.

يقول شارح حكمة الإشراق : وأمّا الحكماء الأوائل كهرمس وانباذقلس وفيثاغورس وسقراط وإفلاطون وغيرهم من حكماء اليونان ومصر وفارس والهند والصين ، وهم القائلون بتجرّد النفوس الكاملة بعد المفارقة البدنية ، إلى العالم العقلي المذكور ، وأمّا الناقصون فانّهم لا يتجرّدون بالكلية بل تتناسخ أرواحهم في أبدان الحيوانات الصامتة بحسب الهيئات الرديئة التي لهم ومناسبة أخلاقهم لأخلاق الحيوانات المنتقلة إليها. (2)

ج. التناسخ الصعودي

إنّ النبات أكثر استعداداً من غيره من الأجسام لكسب الفيض ، كما أنّ الإنسان له قدر كبير من الاستعداد لإفاضة الحياة عليه بعد الحياتين : النباتية والحيوانية ، فعلىٰ ضوء ذلك فقد تعلّقت مشيئته سبحانه على تعلّق الحياة في سيرها التكاملي بالنبات الأقرب إلى الحيوان ، ثمّ تنتقل منها إلى عالم الحشرات ، ومنها إلى الحيوانات هي أقرب إلى الإنسان ، ومنها تنتقل الحياة قفزة إلى الإنسان للاستكمال. (3)

التناسخ والمعاد

التناسخ بالمعنى الأوّل : أي التناسخ المطلق اللامحدود على طرف النقيض من المعاد ، فالاعتقاد به يصدُّ الإنسان عن الإيمان بالمعاد.

وهذا بخلاف التناسخ النزولي فقد عرفت أنّه ليس أمراً عامّاً لجميع أفراد البشر ، فالكاملون في العلم والعمل يلتحقون بعالم المجرّدات النورانية والمفارقات ، والناقصون فيهما يتكاملون شيئاً فشيئاً عبر الرجوع إلى الدنيا وانتقال أرواحهم بين الأبدان مرّة تلو أُخرى حتى تصل تلك الأرواح إلى كمالها المطلوب فلا تعود حينها إلى الدنيا.

وأمّا التناسخ بالمعنى الثالث ـ أعني : التناسخ الصعودي ـ فلا ينافي القول بالمعاد ، وإنّما أخطأوا في تفسير تكامل النفس حيث جعلوا مدارج الكمال منفصلة بعضها عن بعض.

فالنفس تارة تعيش في النبات الأقرب إلى الحيوان ثمّ تستقر في أوكار الحيوان ثمّ تنتقل إلى الإنسان ، وهي ترافق البدن حتى تنفصل عنه ويكون مصيرها إلى المعاد.

والقائل بتلك النظرية لو جعل مدارج الكمال متصلة لشكّلت نقطة التقاء واضحة مع نظرية صدر المتألّهين ، فانّ النفس بناء علىٰ نظريته تمرّ بمراحل النبات والحيوان والإنسان بنحو مستمر دون أن يتخلّل في الوسط انفصال وخلاء في الموضوع ثمّ تعرج نحو المعاد.

التناسخ المطلق والعناية الإلهية

1. انّ القائلين بالتناسخ المطلق أطاحوا بالمعاد زعماً منهم بأنّ القول به يغني عن الإيمان بالحياة الأُخرى ، لأنّ غاية المعاد هو الجزاء ، وهو حاصل بالقول بالتناسخ ، ولكن عزب عنهم أنّ الغاية من المعاد لا تنحصر في الجزاء ، بل هو ضرورة في عالم التكوين لإيصال كلّ موجود إلى كماله المطلوب ، وهذا لا يحصل إلّا بانتقال الإنسان إلى النشأة الأُخرى. وقد أقمنا براهينه الستة في صدر الكتاب.

2. انّ النفس على القول بالتناسخ المطلق ( أي انتقال النفس من بدن إلى بدن ) لا تخلو إمّا أن تكون عرضاً منطبعة في البدن الأوّل قائمة به ، أو تكون جوهراً ، لها حظ من التجرّد ، وإن كان لها علقة بالمادة.

ففي الصورة الأُولى يلزم انتقال العرض من موضوع إلى موضوع ، وهو أمر محال ، لأنّ واقع العرض عبارة عن قيامه بالموضوع ، وهذا لا ينفك عنه أبداً ، فهناك أُمور ثلاثة :

أ. النفس في البدن الأوّل.

ب. النفس حالة الانتقال من البدن الأوّل إلى الثاني.

ج. النفس بعد الانتقال إلى البدن الثاني.

لا غبار في الأوّل والثالث لقيام العرض في موضوعه.

إنّما الكلام في واقع العرض حال الانتقال فيلزم في هذه الحال قيام العرض بلا موضوع ، وهو من الاستحالة بمكان.

وأمّا في الصورة الثانية ، أعني : تعلّق النفس التي لها حظ من التجرّد ، بالبدن استمراراً ، وهذا أيضاً محال ، لأنّه يلزم أن لا يصل الموجود القابل ، إلىٰ كماله مع أنّ له قابلية الوصول ، لأنّ النفس مجرّدة ذاتاً ومادية فعلاً ، فلو كان تعلّقها بالمادة دائمياً يلزم أن يكون فعله سبحانه علىٰ خلاف عنايته من إيصال كلّ موجود إلى كماله.

يقول صدر المتألّهين في بيان الشقين : إنّ النفس إمّا أن تكون منطبعة في الأبدان ، أو مجرّدة ، وكلاهما محال ، أمّا الأوّل فلما عرفت من استحالة انطباع النفوس الإنسانية ، ومع استحالته مناف لمذهبهم أيضاً لامتناع انتقال المنطبعات صوراً كانت أو إعراضاً من محلّ إلى محل آخر مبائن للأوّل.

وأمّا الثاني فانّ العناية الإلهية تأبىٰ ذلك ، لأنّها مقتضية لإيصال كلّ موجود إلىٰ غايته وكماله ، وكمال النفس المجردة إمّا العلمي فبصيرورتها عقلاً مستفاداً فيها صور جميع الموجودات ، وإمّا العملي فبانقطاعها عن هذه التعلّقات وتخليتها عن رذائل الأخلاق ومساوئ الأعمال ، وصفاء مرآتها عن الكدورات ، فلو كانت دائمة التردد في الأجساد من غير خلاص إلى النشأة الأُخرى ولا اتصال إلى ملكوت ربّنا الأعلىٰ كانت ممنوعة عن كمالها اللائق بها أبد الدهر والعناية تأبى ذلك. (4)

وما ذكره قدس سرّه في الفرض الثاني لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ تعلّق النفس بالبدن لا يكون مانعاً عن سيرها وصعودها نحو الكمال ، وإلّا يلزم أن يكون تعلّق النفس بالبدن في النشأة الأُخرى مانعاً عن سيرها التكاملي ، مع أنّك عرفت تضافر الآيات علىٰ جسمانية الحشر.

والحقّ في الجواب أن يقال : إنّ القول بالتناسخ المستمر حتى فيما إذا كانت النفس جوهراً مجرداً يلزم نفي الحشر والمعاد ، وقد عرفت تضافر الأدلّة علىٰ ضرورته وانّه من لوازم الخلقة وغاياتها ولا يمكن إخلاء الكون عن تلك الغاية.

هذا كلّه حول التناسخ المستمر المطلق. وإليك البحث في القسمين الآخرين ، أعني : التناسخ النزولي والتناسخ الصعودي.

المعاد والتناسخ النزولي

قد تقدّم أنّ الكاملين في العلم والعمل عند أصحاب هذا القول يلتحقون بالمفارقات والمجردات ولا يعودون إلى الدنيا ، وإنّما ترجع الطائفة التي لم تنل من العلم والعمل نصيباً وافراً عن طريق التعلق بالخليّة النباتية أو الحيوانية أو النطفة الإنسانية.

قال في شرح حكمة الإشراق : النور الاسفهبد إذا فارق البدن الإنساني ولم يكتسب فيه الكمالات العقلية والهيئات الخلقية الفاضلة ، بل اكتسب فيه أضداد ذلك من الجهالات المركبة ، والأخلاق المذمومة ، فلا يشتاق إلى المبادئ النورانية والأُمور العقلية بل شوقه إلىٰ ما تمكن فيه من الهيئات الظلمانية والآثار الجسمانية فينجذب لذلك بعد الموت إلىٰ بعض الحيوانات المنتكسة الرؤوس التي أخلاقها مناسبة لتلك الهيئات الرديئة البدنية المتمكنة في ذاته. (5)

والتناسخ بهذا المعنى غير صحيح ، لأنّ النفس الإنسانية في هذه النشأة إذا مكثت أربعين سنة مرافقة للبدن فسوف تكتسب فعليات ويتحول استعدادها إلىٰ كمالات ، وعندئذٍ فلو تعلّقت بخلية من الخلايا الثلاث فإمّا أن تتعلّق بها مع حفظ كمالاتها وفعلياتها ، أو تتعلّق بحذفها وسلبها عن نفسها.

أمّا الصورة الأُولى فهي غير معقولة ، لأنّه يشترط في تدبير النفس للبدن وجود الانسجام الكامل بينهما وهو مفقود في النفس التي رافقت البدن طيلة 40 سنة وتعلّقت بخلية ليس لها من الفعلية سوى كونها قوة للكمال ، فكيف تكون تلك النفس مدبرة لها ؟

وأمّا الصورة الثانية : فهي أيضاً كالصورة الأُولىٰ ، لأنّ سلب تلك الكمالات رهن عامل داخلي أو خارجي ، أمّا الداخلي فهو غير ممكن إذ معنىٰ ذلك انّ الحركة من الكمال إلى النقص خصيصة الشيء وهو غير متصوّر.

وأمّا الخارجي فهو أيضاً كالأوّل ، لأنّ عنايته سبحانه تعلّقت بإرسال القوى إلى الكمال وإيصال كلّ ممكن إلىٰ غايته المنشودة ، لا سلب الكمالات والفعليات عنه.

وهذا هو الذي أشار إليه صدر المتألّهين في كلام مبسّط وما ذكرناه هو حصيلة مراده ، حيث قال : العمدة في بطلان التناسخ علىٰ جهة النزول ، أنّ الموجودات الصورية كالطبائع والنفوس متوجهة نحو غاياتها الوجودية خارجة عمّا لها من القوة الاستعدادية إلى الفعلية ، والنفس مادامت في بدنها يزيد بجوهرها وفعليتها فيصير شيئاً فشيئاً أقوىٰ وجوداً وأشد تحصلاً سواء أكانت من السعداء في النشأة الأُخرىٰ أو من الأشقياء ، وقوة الوجود يوجب الاستقلال في التجوهر والاستغناء عن المحل أو المتعلّق به حتى يصير المتصل منفصلاً والمقارن مفارقاً ، فكون النفس الإنسانية حين حدوثها في البدن مجردة الذات مادية الفعل ، وعند فساد البدن بحيث صارت مادية الذات والفعل جميعاً ، كما يلزم من كلامهم في نفوس الأشقياء حيث تصير بعد فساد البدن نفساً حيوانية غير مجردة ذاتاً وفعلاً ، كما رأوه ، ممّا يحكم البرهان علىٰ فساده ، ويصادمه القول بأنّ للأشياء غايات ذاتية وانّها بحسب الغايات الزمانية طالبة لكمالاتها مشتاقة بغرائزها إلى غاياتها ، فهذه الحركة الرجوعية في الوجود من الأشد إلى الأنقص ، ومن الأقوىٰ إلى الأضعف بحسب الذات ، ممتنع جدّاً. (6)

التناسخ الصعودي

التناسخ الصعودي عبارة عن تكامل النفس عبْر قنوات النباتية ثمّ الحيوانية ثمّ الإنسانية ، بنحو يكون بينها فصل حقيقي يتخلّله الزمان. ولكن التناسخ بهذه الصورة من الوهن بمكان ، فانّ النفس لا تخلو عن حالتين :

إمّا أن تكون صورة منطبعة في النبات أو الحيوان أو الإنسان ، أو تكون أمراً مجرداً.

فعلى الأوّل ، تكون للنفس هناك حالات ثلاث :

1. وجودها منطبعة في الموضوع المتقدّم.

2. وجودها منطبعة في الموضوع المتأخر.

3. حالة الانتقال من الأوّل إلى الثاني.

والحالتان الأُوليتان لا غبار عليهما ، إنّما الإشكال في الحالة الثالثة لقيام العرض بلا موضوع.

وأمّا إذا كانت النفس موجوداً مجرّداً غير قائم بالبدن وإنّما تحتاج إليه في مقام الفعل والعمل ، فعندئذٍ نقول : كيف يمكن أن تتعلّق النفس الحيوانية بالبدن الإنساني ، لأنّ كمال الأُولىٰ هو كونها ذات قوة شهوية وغضبية غير معدلة ولا محددة وهذا يعد لها كمالاً ، فلو تعلّقت النفس المذكورة بالبدن الإنساني فستكون عائقة عن تكامله ، لأنّ تكامل الإنسان يكمن في أن تكون قواه معدلة وشهوته وغضبه محددة ، وأمّا لو تعلّقت به بعد تحديدها وتعديلها فسيكون نقصاً للنفس الحيوانية وسيراً نزوليّاً لها.

وبعبارة أُخرىٰ : إمّا أن تتعلّق النفس الحيوانية بالبدن الإنساني بما لها من التعيّنات والخصوصيات ، فهذا يوجب انحطاط الإنسان ، وإمّا أن تتعلّق به منعزلة عن القوى الحيوانية ، فقد فقدت حيوانيتها وكمالها عندما تعلّقت بالبدن الإنساني.

وعلىٰ كلّ حال فأصحاب ذلك القول أصابوا في المدعىٰ وأخطأوا في التخطيط ، فانّ النفس تمر عبر قنوات النباتية والحيوانية والإنسانية لكن لا بمدارج منفصلة وتعينات مختلفة ، بل النباتية بكمالها لا بحدودها تنقلب إلى الحيوانية ، وهي بكمالها لا بحدودها تصير إنساناً ، كما هو الحال في القول بالحركة الجوهرية ، فانّ المتحرك يتحرك من مرحلة نازلة إلىٰ مرحلة كاملة ، وعندما يصل إليها يحمل كمالات المرحلة الأُولىٰ لا بحدودها ، وهكذا الحال في الإنسان ، فالنفس النباتية بكمالها تتحرك إلى الحيوانية وهي أيضاً بكمالها لا بحدودها تصير إلى الإنسانية.

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى التناسخ ، وقد علمت انّ التناسخ بأقسامه الثلاثة باطل ، غير أنّ التناسخ له أقسام مختلفة وأُصول الأقسام ما ذكرنا.

يقول الشهرزوري عند شرحه لحكمة الإشراق : ويسمّون انتقال النفس من البدن الإنساني إلى بدن إنساني آخر « نسخاً » وإلى بدن حيواني « مسخاً » وإلى البدن النباتي « فسخاً » وإلى الجمادي « رسخاً » ، وصاحب أخوان الصفا يميل إلى جواز انتقال النفوس إلىٰ جميع هذه الأجسام مترددة فيها أزماناً طويلة أو قصيرة إلىٰ أن تزول الهيئات الرديئة ثمّ تنتقل منها إلى العالم الفلكي الخيالي. ومن أراد الوقوف على صنوفه الكثيرة فعليه الرجوع إلىٰ شرح حكمة الإشراق. (7)

أسئلة وأجوبة

1. هل المسخ في الأُمم السابقة من قسم التناسخ ؟

ربما يطرح هذا السؤال بأنّه إذا كان التناسخ أمراً محالاً فلماذا طرأ المسخ علىٰ طائفة من الأُمم السابقة كأصحاب السبت فانقلبوا قردة خاسئين يقول سبحانه : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّـهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّـهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) (8) ؟.

وفي آية أُخرى : ( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (9). (10)

والجواب : انّ التناسخ يتقوّم بأمرين :

أ. تعدّد البدن وخروج النفس من بدن إلى بدن آخر ، سواء كان البدن الآخر خلية نباتية ، أو نطفة حيوانية أو إنسانية.

ب. السير النزولي بأن تتقهقر النفس إلى الوراء فتفقد كمالاتها عند تعلّقها بالبدن الآخر.

وكلا الشرطين غير متوفرين في المورد.

أمّا الأوّل : فالبدن هو نفس البدن ، فالممسوخ له بدن واحد ، تبدّلت صورته إلىٰ صورة أُخرى ، وانقلبت صورته البهية إلىٰ صورة رديئة.

وأمّا الثاني : فهو أيضاً كذلك ، أي لم يكن هناك أيُّ سير قهقرايّ للنفس ، وذلك لأنّ الهدف من المسخ هو تعذيبهم وجزاؤهم جزاءً سيّئاً ، ولا يتحقق ذلك إلّا بتحولهم إلى قردة بعد ان كانوا أُناساً ، وهذا النوع من الإدراك عند التوجه إليه يؤلمهم روحاً ويعذبهم فكراً ، ولذلك يقول سبحانه : ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ). (11)

وبكلمة موجزة : انّ واقعية المسخ عبارة عن انقلاب الإنسان إلى صورةِ حيوان مع التحفظ على إنسانيته ، وهو غير التناسخ الباطل.

2. هل الرجعة من أقسام التناسخ ؟

الشيعة تعتقد بعودة جماعة ـ بعد قيام المهدي عليه‌السلام ـ إلىٰ هذه النشأة ، قال الشيخ المفيد : إنّ الله تعالى يحيي قوماً من أُمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد موتهم ، قبل يوم القيامة ، وهذا مذهب يختص به آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. والرجعة إنّما هي لممحضي الإيمان من أهل الملّة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأُمم الخالية. (12)

وصار ذلك سبباً لصب التُّهَم على الشيعة بأنّهم قائلون بالتناسخ. (13)

والجواب : انّ الرجعة تفارق التناسخ جوهراً وذاتاً ، لما ذكرنا من أنّه يتقوّم بأمرين : تعدّد البدن ، وتراجع النفس عن كمالها إلى النقص ، وكلا الأمرين غير موجودين في الرجعة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحياة ترجع إلىٰ نفس البدن الذي تركته حين الموت فيتعلّق نفس كلّ إنسان ببدنه.

وأين هذا من تعلّق النفس بخلية نباتية أو حيوانية أو إنسانية أو غير ذلك ؟

وأمّا الثاني : فلا تراجع للنفس عن مقامها الشامخ إلىٰ درجة نازلة ، بل هي مع مالها من الفعلية والكمالات تتعلّق بالبدن الذي فارقته حين الموت دون أيِّ تقهقر.

ليت شعري لو كان العود إلى الحياة الدنيوية تناسخاً علىٰ وجه الإطلاق ، فبماذا يُفسَّر إحياء الموتى الذي كان يقوم به المسيح عليه‌السلام يقول سبحانه : ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) ؟! (14).

نعم هنا سؤال نحيل الإجابة عنه إلىٰ مجال آخر ، وهو انّ الرجوع إلى النشأة الدنيوية لأجل الاستكمال فما هو الوجه لرجوع الصالحين أو الفاسقين إلى الدنيا ، فانّ الطائفة الأُولى انقلبت استعداداتها إلى الفعلية وقد درجوا عامة المنازل والمدارج فلم يبق كمالٌ إلّا ولجوه ، كما أنّ الطائفة الثانية لا يرجى لهم أن يكتسبوا خيراً ؛ ومع غياب هذه الغاية فكيف يرجعون إلى الدنيا ؟

وعلى كلّ حال فهذا سؤال نحيل الإجابة عنه إلىٰ مجال آخر.

3. السنّة الإلهية والرجوع إلى الدنيا

ما هي سنّة الله من وراء رجوع الإنسان إلىٰ هذه الدنيا ؟ والمراد إعطاء الضابطة الكلية في هذه المسألة.

والمستفاد من القرآن أنّ السنة الإلهية قد جرت علىٰ إيصاد كافة أبواب رجوع الإنسان إلى الدنيا وإن التمس الرجوع فيخاطب بالرد والنفي ، يقول سبحانه : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). (15)

ومن العجب انّ هناك من يدّعي بأنّه قادر على جلب الأرواح من عالمها العلوي والارتباط بها فيسألهم عن أحوالهم فربما يجيبون بأنّ أرواحهم في بدن طائر أو نبات والآن في بدن إنسان ، ويبغي من وراء ذلك أن يبث تلك الفكرة بين المسلمين.

نعم هؤلاء يتصلون بالأرواح عن طريق التنويم المغناطيسي ومخاطبة الوسيط النائم بسؤال الأرواح عن واقعهم وماضيهم وأحوالهم ، فربما يجيب النائم ببعض هذه الأجوبة ، ويقول : إنّ الروح الفلانية في هذا العالم في جسم نبات أو حيوان أو إنسان.

ولكن من أين علم بصدق ما جاء على لسان الوسيط وانّه ليس بوحي الشيطان ، ولا قواه الخيالية ؟ إلىٰ غير ذلك من مصادر إلقاء الكلام على لسان الوسيط.

والله سبحانه يعصمنا من وساوس الشيطان ومزالق الأقدام.

الهوامش

1. شرح حكمة الإشراق : شمس الدين محمد الشهرزوري : 519 ، بتحقيق حسين الضيائي التربتي.

2. شرح حكمة الإشراق : 519.

3. اسرار الحكم.

4. الأسفار : 9 / 7.

5. شرح حكمة الإشراق : 522.

6. الأسفار : 9 / 16.

7. شرح حكمة الإشراق : 519 ـ 520.

8. المائدة : 60.

9. الأعراف : 166.

10. شرح المقاصد : 2 / 40 ، ط آستانة.

11. البقرة : 66.

12. المسائل السروية : 32 و 35.

13. فجر الإسلام : 277.

14. المائدة : 110.

15. المؤمنون : 99 ـ 100.

مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 8 / الصفحة : 142 ـ 156

 

أضف تعليق

التناسخ

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية