إمکان المعاد الجسماني

البريد الإلكتروني طباعة

إمکان المعاد الجسماني

مقدّمة

قبل الشروع في البحث ينبغي أن نلتفت نظر القارئ إلى نقطة هامّة تتعلّق به ، وهي أنّ القرآن الکريم في الوقت الذي فيه تبيان کلّ شيء لم يکن کتاب علم وفنّ خاص من فنون العلوم المختلفة ، فلم يکن مصوغاً بصياغة علميّة تتوافق مع صياغات هذه العلوم والفنون ، فلم تکن آياته الشريفة قوانين رياضة أو فيزيائيّة أو فلسفيّة أو ... الخ ، في الوقت الذي لا تخلو آياته عن الحديث والبيان الرياضي والمسائل الفيزيائيّة والکونيّة والفلسفيّة والوقائع التاريخيّة وغيرها ؛ لأنّ ذلک يخرجه عن هدفه وغرضه المطلوب منه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، إنّ البحث القرآني قائم على أساس الدليل والبرهان المنطقي ، ولذا نجده يخاطب المعاندين بإقامة الدليل والبرهان على مدعاهم إن کانوا صادقين ، کما جاء ذلک في قوله تعالى : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وأيضاً في قوله تعالى : ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) ، فکأنّ هذا الأصل مبدأ أساسي من مبادئ القرآن الکريم في المحاججة والمناظرة مع الخصم وغيره ، والمعاد الجسماني واحد من تلک المسائل التي وقع الاختلاف فيها ، وقد أقام على إثبات إمکانها مجموعة من الأدلّة ، ومنها :

١. الآيات الدالّة على بدأ الخلقة للإنسان والکون.

٢. الآيات الدالّة على إثبات القدرة المطلقة لله تعالى.

٣. الآيات الدالّة على إحياء الأرض بعد موتها.

٤. الآيات الدالّة على التطوّرات المرحليّة للجنين إلى أن يصير إنساناً کاملاً.

٥. الآيات الدالّة على رجوع الطاقة بعد فنائها وانعدامها ظاهراً.

٦. الآيات الدالّة على حکاية رجوع بعض الناس في هذا العالم الدنيوي کنماذج عينية تاريخيّة دالّة تحکي الإمکان بشکل جلي.

ولا يخفى علينا أنّ بعض هذه الآيات تحکي الإمکان الذاتي ، والبعض الآخر يحکي الإمکان الوقوعي للمعاد الجسماني ، کما سيأتي البحث عنهما بنحوٍ من التفصيل.

أولاً : الإمکان الذاتي للمعاد الجسماني

ينبغي علينا قبل أن نذکر الأدلّة القرآنيّة على ثبوت هذه المسألة ، رأينا أن نبيّن نقطتين مهمتين في هذه المسألة وهما :

أولا : إنّ النسبة بين الإمکان الذاتي والإمکان الوقوعي ، هي نسبة العموم والخصوص مطلقاً ، بمعنى أنّ الأول أعمّ مطلقاً من الثاني.

ثانياً : إنّ الترتيب بينهما طولي ، بمعنى أنّ الشيء ما لم يکن ممکناً ذاتاً لا تصل النوبة إلى إمکان وقوعه. وإليک أولاً جملة الآيات الدالة على ثبوت إمکانه الذاتي ، ثمّ بعد ذلک نذکر لک الآيات الدالة على إمکانه الوقوعي.

المجموعة الأولى : الآيات الدالّة على بدأ الخلقة الأولى للإنسان والکون

قال الله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (3) ، وقال أيضاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (4) ، وقال أيضاً : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (5) ،  وغيرها من الآيات الکريمة المتعلقة ببدء الخلقة.

في الوقت الذي تشير فيه هذه الآيات إلى توجيه نظر السامع إلى جريان قدرة الله سبحانه وتعالى وعدم محدوديّتها ، فإنّها أيضاً تشير إلى مسألة عدم استحالة المعاد الجسماني ، بل جعلت إمکانه من المسائل البديهيّة ، بناءً على أساس قياس الأولويّة ، الذي غبر عنه بقوله ( أهون عليه ) ، فإنَّ القادر بدأ الشيء وتکوينه من لا شيء فهو أقدر على إعادته من شيءٍ ، خصوصاً وأنّ المقتضي موجود وعدم المانع وحضور العلّة التامّة.

فجملة هذه الآيات ، والآيات الأخرى التي نزلت في بيان هذا الأمر ، لم تکن بمعنى الدليل الذي يفهمه الخاصّة من الناس ، بل کانت في الواقع بمثابة المنبّهات والموقظات للغارقين في نوم الغفلة ؛ باعتبار أنّ الأمر ينکشف للإنسان بأقلّ تأمّل وتدبّر.

وقد استفاد جمع من المفسّرين ، من کلمة « يبدأ » و « يعيد » ، معنى الدوام والاستمرار في إنشاء لخلق جديد وإعادة مستمرّة له ، بعبارة أخرى : إنّ عالم الوجود الخارجي عبارة حياة وموت ، ومبدأ ومعاد مستمر ، وعليه فلا ينبغي الشک والترديد بعد ذلک في إمکان المعاد الجسماني الذي طرحه القرآن الکريم ، وأکّدته الروايات الشريفة ، وأقيمت عليه الأدلّة البرهانيّة المنطقيّة العقليّة.

المجموعة الثانية : الآيات الدالّة على القدرة المطلقة لله تعالى :

قال الله تعالى : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (6) ، وقال أيضاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا ) (7) ، وقال أيضاً : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ المَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (8) ، وقال أيضاً : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) (9).

لو نظرنا فيها نظر المتأمّل والمتدبّر لوجدناها تتحدث عن أمرين مهمّين ، وهما :

الأوّل : تتحدّث هذه الآيات عن خلق السموات والأرض بما فيها من موجودات مرئيّة وغير مرئيّة ، قد نالتها المعرفة الإنسانيّة أو لم تنلها بعد لحدّ الآن.

الثاني : حديثها عن الإنسان بما ينطوي عليه من معالم الخلقة والإعجاز ، ولکن مع ذلک کلّه جعله الحقّ تعالى أقلّ شأناً من خلق السموات والأرض ، کما مرّ ذکره في هذه الآية : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (10).

وقد اختلف في تعريف القدرة بعد التسليم بإطلاقها وعدم محدوديّتها بأيّ نحو من الحدّ والتقييد ، فقد قال المتکلّمون في تعريفها : « بصحّة الفعل والترک » (11)  ، وإن شئت قلتَ : « إمکان الفعل والترک ، وکون نسبتها إليه على السواء » (12) ، بينما عرفها الفلاسفة ب‍ : « کونه إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل ، ولکنه شاء وفعل » (13) ، ولسنا هنا في مقام تبيين ما هو الحقّ من هذين القولين ، وإنّما نوکّله إلى محلّه.

ولقد علّق العلّامة الطباطبائي في ذيل الآية : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (14) بقوله : « هذه الآية إلى تمام الخمسة من کلامه واقعة في بيان القصة التي تقيم الحجة على المعاد ، وترفع استبعادهم له بما تقدّم من حيث إنّ المعدة في تکذيبهم الرسل وإنکارهم للمعاد ، کما يشير إليه قول إبراهيم عليه السلام : ( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ المُبِينُ ) (15) ،  فقوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) الضمير فيه للمکذبين من جميع الأمم من سابق ولاحق ، والمراد بالرؤية النظر العلمي دون الرؤية البصريّة إلى أن قال : وفيه رفع الاستبعاد ؛ لأنّه إنشاء وإذا کانت القدرة المطلقة تتعلّق بالإيجاد فهي تتعلّق بالإنشاء بعد الإنشاء وهي نقل للخلق من دار إلى دار ، وإنزل السائرين إليه في دار القرار » (16).

وقد ذکر الفخر الرازي في تفسير الآية الأولى قائلاً : « اعلم أنّه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بغير سلطان ولا حجّة ، ذکر مثالاً ، فقال عليه السلام : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) ، والقادر على الأکبر قادر على الأصغر لا محالَ » (17).

ويمکننا أن نقول : إنّ کلّ ذلک لأجل إبعاد ذلک الاستغراب والاستبعاد الحاصل في نفوس هؤلاء الجاحدين للحقّ تعالى ولنبوّة محمّد ، والمنکرين لخبر المعاد ودليله ، فاستدلّ لهم بعموم قدرته سبحانه وتعالى التي خلق بها السموات والأرض بما فيها من عجائب وغرائب الخلقة والموجودات ، على خلق الإنسان وإعادته بعد موته ، خصوصاً وأنّه تعالى جعل خلقهما أعظم من خلق الإنسان ، فالقادر على خلق العظيم أقدر على خلق وإعادة ما هو أدون منه عظمة. ولکن الکافرين کما وصفهم الحق تعالى بقوله : ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورًا ) (18). ومن يريد التفصيل في ذلک ، فليراجع المصادر الوارد ذکر بعضها في حاشية هذه الصفحة (٢١٧) (19).

المجموعة الثالثة : الآيات الدالّة على إحياء الأرض بعد موتها :

قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) (20) ، وقال أيضاً : ( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ) (21) ، وقال تعالى : ( فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (22).

فبغض النظر عمّا جاء في تفسير مفرداتها ، فإنّنا نجد أنّ بعض المفسّرين استفاد من الآية الأولى الدلالة على إمکان المعاد للأموات في يوم لم يذر فيه أحداً ، ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) (23) ، فمن جهة تحکي قدرة الله تعالى المطلقة على کلّ شيء ، ومن جهة أخرى توجه الأنظار إلى مشاهدة مسيرة الحياة في عالم الدنيا ، فکأنّها تريد أن تشبه بين المعاد والحياة في الدنيا ، فما يجرى في هذا العالم الدنيوي بمثابة صورة مصغرة من معاد الآخرة ؛ ولذا تطلب من المريبين أن ينظروا إلى السماوات والأرض وما يجري فيهما ، قال تعالى : ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) (24) ، فقال صاحب تفسير الأمثل : « ... أجل إن من له القدرة على خلق السموات وبما فيها من نعمة وجمال ودقّة ، فکيف لا يمکنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة أخرى ... ».

إلى إن قال : « أمّا الآية التالية ففيها استدلال آخر على هذا الأمر « المعاد » إذ يقول : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ ) (25) إلى أن قال : تذکر هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد ، وتحريک إحساس الشکر في مسير المعرفة ، أنهم يرون مثلاً للمعاد کل سنة في حياتهم ، بل خلال سنين في هذه الدنيا ... فهذه الحرکة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات کاشفة عن هذه الواقعية ، وهي أن باري الموجودات قادر على إحياء الموتي مرة أخرى ؛ لأن وقوع الشيء أقوى دليل على إمکانه » (26).

وقال صاحب تفسير مختصر مجمع البيان في ذيل الآية : ( كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) من القبور ، أيّ کما أحيينا الأرض وأنبتت نحيي الموتى يوم القيامة فيخرجون من قبورهم (27).

بينما يرى صاحب تفسير الميزان في آية ( كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) برهاناً آخر على البعث غير ما تقدم عند بيان القدرة المطلقة على کلّ شيءٍ فقد نستنتج من طي کلامه ، إنّ البيان السابق کان في ردِّ استبعادهم للبعث ، في استنادهم إلى صيرورتهم تراباً غير متمايز الأجزاء ، فکان برهاناً من مسلک إثبات علمه بکل شيء ، وقدرته على کل شيءٍ ، وهذا الأخير ، هو البرهان الذي يتضمّنه قوله : ( وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَٰلِكَ الخُرُوجُ ) (28) من مسلک إثبات إمکان الشيء بوقوع مثله بوقوع مثله ، فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلّا مثل خروج النبات الميّت من الأرض بعد موتها ووقوف قواه عن النماء والنشوء (29).

المجموعة الرابعة : الآيات الدالّة على التطوّرات المرحليّة للإنسان :

قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (30) ، وقال أيضاً : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) (31) ، وغيرها من الآيات الأخرى.

قوله تعالى : ( خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ) ، يمکن حمل الضمير فيها على خصوص خلقة آدم عليه السلام ، لشهادة قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (32) ، کما أنّه يمکن حمله على أساس أصل تکون الإنسان ، کما هو ثابت في الأبحاث الحياتيّة العلميّة ، حيث إنّ الإنسان نتيجة أکله لمجموعة من المواد الغذائيّة ، ونتيجة مروره بمجموعة فعاليّات ، تتولّد منه مجموعة من الخلايا المعمة في بناء وبقاء جسمه بالإضافة لتکون خلايا النطف الخاصّة ببقاء النوع الإنساني عن طريق اتّحادها مع بويضات المرأة التي هي الأخرى أيضاً متکوّنة من مجموعة غذائيّة في داخل جسم المرأة ، کما هو مبين في محله.

ومن المعنى المشهور للنطفة بين أهل اللغة يمکن حمله على المائين الذکري والأنثوي ؛ إذ کلاهما يمتاز بميزة الصفاء کثرت مادته أو قلّت (33).

ولکن الذي يهمّنا هنا هو کيفيّة الاستدلال بهما على إمکان المعاد الجسماني ، کما بيّن الحقّ تعالى في کلّ واحد منهما ، وقد استفاد السيد العلّامة هذا المعنى من ظاهر سياق الآيتين ، حيث قال : المراد من البعث إحياء الموتى والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو ظاهر ... إلى أن قال : ظاهر السياق أن المراد لنبيّن لکم أنّ البعث ممکن ونزيل الريب عنکم ، فإنّ مشاهدة الانتقال من التراب الميّت إلى النطفة ثمّ إلى العلقة ثمّ إلى المضغة ثمّ إلى الإنسان الحيّ لا تدع ريباً في إمکان تلبّس الميّت بالحياة ، وذلک وضع قوله : لنبيّن لکم ( في هذا الموضع ولم يؤخره إلى آخر الآية ) (34).

وأمّا صاحب مختصر مجمع البيان فقد أستدل بقضية خلق آدم عليه السلام من لا شيء ، على إمکان البعث والإعادة ، حيث جاء فيه : « فالدليل على صحة البعث أنا خلقنا أصلکم وهو آدم تراب ، فمن قدر أن يصير التراب بشراً سوياً قادر على أن يحيى العظام ويعيد الأموات » (35).

المجموعة الخامسة : الآيات الدالّة على إعادة الطاقة بعد فنائها :

قال الله تعالى : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (36) ، وقوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ) (37).

لقد جاء في التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري عليه السلام في خصوص تفسير الآية الأولى أنه قال : «  ... فأراد الله من نبيّه أن يجادل المبطل الذي قال کيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم ؟ فقال الله : يحييها الذي أنشأها أول مرّة ، أفيعجز من ابتدأه من لا شيء أن يعيده بعد أن يبلى ؟ بل ابتداؤه أصعب عندکم من إعادته ، ثمّ قال : الذي جعل لکم من الشجر الأخضر ناراً ، فإذا أنتم منه توقدون ، أيّ إذا کان في الشجر الأخضر الرطب ، ثمّ يستخرجها الرطب ، ثمّ يستخرجها فعرفکم أنه على إعادة ما يلي أقدر ... » (38).

وأمّا في خصوص بيان نوع الشجر الذي يتّخذ منه الزناد ، فقد جاء فيه إنّه نوع خاصّ لاکل شجر ، يعرف أحداهما بشجر المرخ ، والآخر بشجر العفار ، کما جاء ذلک في تفاسير القرآن الکريم ، کتفسير الآصفى ، ومجمع البيان ، وتفسير القمي : « الشجر وهو المرخ والعفار ، شجران يتخذ منهما الزناد ... » (39) ، واستشهد السيّد عبد الحسين دستغيب بهذا المشهد على إمکان إعادة الأموات ، کما جاء ذلک في کتابه المعروف بدار الآخرة : « ... فيا أيّها الناس اعلموا أنّنا يمکننا أن نخرج من الماء ناراً ، وجعلنا ذلک لکم تذکرة لتعرفوا بذلک أننا قادرون على خلقکم ثانية ... » (40).

ولکن الذي يشاهد ما يحدث اليوم في احتراق الغابات العظيمة عند هبوب العواصف ، يثبت له بالحسّ والوجدان أن القضيّة لم تکن تختصّ بنوع خاصّ من الشجر کما ذکر ذلک أرباب التفاسير ، وإنّما العلّة من وراء ذلک شيء آخر ، ولعلّه يرجع إلى انبعاث تلک الطاقة المخزونة في داخل هذه الأشجار التي حصلت عليها نتيجة عمليّة الترکيب الضوئي التي يقوم بها النبات ، وليس هنا محل شرح هذه العمليّة ، فلتطلب من محلّها ؛ لأنّها تخرجنا من تحقيق هدفنا من هذا البحث.

ومحلّ الشاهد هو أنّ الباري عزّ وجلّ يريد من خلال هذين الآيتين أن يبيّن لنا کيف أن إحياء الموتى وإعادة الرفات ليس بأعجب من إخراج النار من العود الأخضر ، والجمع بين المحرق والمورق ، کما بين ذلک صاحب کتاب حقائق التأويل. حتّى قال صاحب تفسير التبيان متسائلاً : « ... ومن يقدر على ذلک ألا يقدر على الإعادة ؟ ... » (41).

ثانياً : الإمکان الوقوعي للمعاد

إنّ إثبات الإمکان الذاتي للمسألة لا يکون دليلاً کافياً على إمکانها الوقوعي ما لم تضرب بعض الأمثلة لها ، وما لم يتحقّق ولو لفرد من أفرادها ومصاديقها في الخارج ، وعندئذ تَطَلَبَ منا أن نبحث عن أدلة قرآنية أخرى تحقق لنا هذا الأمر ، وعلمه سبحانه وتعالى بحال الإنسان ومدى مجادلته في الأمور وإن کانت ضروريّة ، دعته أن يأتي بشواهد متعدّدة ومختلفة تکشف له هذا الأمر ، وترفع الاستغراب والاستبعاد عن نفس الإنسان ، وقد خصّصنا بحثنا في هذه المسألة عن طرح تلک الأدلّة القرآنيّة التي صوّرت لنا وقوع مثل هذا الأمر في عالم الدنيا ، حتّى أصبحت هذه المسألة من المسائل الضروريّة التي لا تقبل بعد ذلک الشکّ والريب ، ولا يخالف إلّا من سفه نفسه ، وجحد بالحقّ الصادع ، وفيما يلي ذکر تلک الأدلّة الواضحة في إثباتها :

الدليل الأول : إحياء عزير أو ارميا : (42)

لقد حکى الله سبحانه قصّتها في القرآن الکريم في جملة من الآيات الشريفة ، کما جاء في قوله تعالى : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (43).

والشيء العجيب في هذه القصة ، وهو حفظ الطعام من الفساد والتلف الذي من عادته أن يفسد قبل فساد بدن الحمار وذهاب لحمه ودمه ، فإنّ بقاءه کل هذه المدّة الطويلة يبعث في النفس حالة التأمّل والتفکّر ، ويدلّ على تدخل يد القدرة والإعجاز الإلهي فيها ، فعندما شاءت إرادته أن يبقى ، بقي على ما هو عليه کما نقل لنا القرآن الکريم ، وکان بإمکان المولى القدير أن يبقي الحمار حيّاً عن طريق تطويل عمره ، ولکن لحکمة ربانيّة اقتضت أن يکون ذلک کما کان ، وحتّى يتمکّن عزير أو أرميا أن يشاهد کيف تحيى الموتى أمام عينه ، وليکون آية للناس ، فهو جواب عملي وفعلي لا يقبل الشکّ والترديد ، وکما قال السيّد العلّامة في تفسير الميزان : « الهداية إلى الحقّ بالاراءة والاستشهاد کما في القصة ... وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلّة التي تترشح منه الحادثة أقوى من مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها ... وهي أنفى لمراتب الشبهة » (44) ، فکان ذلک الفعل الإلهي دليلاً حيّاً لجواب السائل ، حجّة على باقي الناس الذين سيرون رجوعه إليهم بعد کلّ هذه المدّة الطويلة التي استمرّت مائة عام ، وعندئذٍ تنقطع السبل والحجج عن المستنکرين والمستبعدين لأمر إعادة الناس مرّة أخرى ، وهو دليل حيّ على وقوعه بعد ثبوت إمکانه فيکون أمر المعاد ممکناً عقلاً وخارجاً ، بعد تحقّقه بالعيان کما جرى في أحداث هذه القصة.

وقال أيضاً : « ... قد أبهم الله سبحانه وتعالى اسم الذي مرّ على القرية ، واسم القرية ، والقوم الذي کانوا يسکنونها ، والقوم الذي بعث هذا المار آية لهم ، کما يدل عليه قوله : ( وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ) (45) ، مع أنّ النسب في مقام الاستشهاد بالإشارة إلى أسمائهم ليکون أنفى للشبه ، لکن الآية وهي الإحياء بعد الموت ، وکذا أمرُ الهداية بهذا النحو من النصع لمّا کانت أمراً عظيماً ، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام ، کان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتکلم الحکيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار ؛ لکسر سور استبعاد المخاطب والسامعين کما أنّ العظماء يتکلّمون عن عظائم الأمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم ؛ وکذلک أيضاً أبهم خصم إبراهيم عليه السلام في الآية السابقة ، وأبهم جهات القصّة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وغيرها في الآية اللاحقة ، وأمّا التصريح باسم إبراهيم عليه السلام فإنّ للقرآن عناية تشريف به عليه السلام قال تعالى : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) (46) ، وقال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) (47) ، وبما ذکرنا من النکتة ترى أنّه تعالى يذکر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من کلامه بما لا تخلو من الاستهانة والاستصغار ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (48) إلى أن قال : وإنّما قال : هذا القول أنّى يحيي هذه القرية استعظاماً للأمر ، ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد الإنکار أو ما ينشأ منه ، والدليل على ذلک قوله على ما حکى الله عنه في آخر القصة : « أعلم أن الله على کل شيء قدير » ، ولم يقل : الآن کما يماثله قوله حکاية عن امرأة العزيز : « الآن حصحص الحق » ، ... على أنّ الرجل نبي مکلم وآية مبعوثة إلى الناس ، والأنبياء معصومون حاشاهم عن الشکّ والارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين ... » (49).

الدليل الثاني : إحياء طيور إبراهيم :

وقد حکى الله سبحانه وتعالى هذه القصة عن طريق قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (50).

والدليل نفهمه عند التدبّر والتأمّل في هذه الآية الشريفة ، إنّ الإيمان أعمّ من الاطمئنان ؛ لأنّ الإيمان قد يشوبه الاضطراب ما لم يصل إلى درجة الاطمئنان ، أو قد نفهم منها أن الإيمان مفهوم تشکيکي له عدّة مراتب ودرجات ، وأعلى مراتبه ودرجاته هو الاطمئنان الذي لا يشوبه أيّ شائبة ما ، ويمکن أن نفهم لها معنى ثالثاً مستفاداً من رواية علي ابن الجهم عن المأمون ، حيث سأل الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام ، عن تفسيرها ، وعن سبب وعلّة طلب نبي الله إبراهيم عليه السلام من ربّه بيان کيفية إحياء الموتى ، بعد ما کان نبيّاً معصوماً ، وحينئذ لا ينبغي له الشکّ والترديد ، مع أنّ الله سبحانه وتعالى علّق ذلک على إيمانه ( أو لم تؤمن ) ، فأجاب الإمام رضا عليه السلام : « إنّ الله تعالى کان قد أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أني متخذ من عبادي خليلاً ، إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام أنه ذلک الخليل ، فقال : ربّي أرني کيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولکن ليطمئن قلبي على الخلّة ، قال : فخد أربعة من الطير فصرهن إليک ثم اجعل على کل جبل منهن جزءاً ، ثمّ أدعوهنّ يأتينک سعياً واعلم أن الله عزيز حکيم. فأخذ إبراهيم عليه السلام نسراً وبطاً وطاووساً وديکاً ، فقطعهن وخلطهن ، ثمّ جعل على کل جبل من الجبال التي حوله ـ وکانت عشرة ـ منهن جزءاً وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهنّ بأسمائهنّ ، فوضع عنده حبّاً وماءاً ، فتطايرت تلک الأجزاء بعضها إلى البعض حتى استوت الأبدان ، وجاء کلّ بدن حتّى انظم إلى رقبته ورأسه ، فخلّى إبراهيم عليه السلام عن مناقيرهنّ ، فطرن ثمّ وقعن فشربن من ذلک الماء ، والتقطن من ذلک الحبّ ، وقلن : يا نبي الله أحييتنا أحياک الله ، فقال إبراهيم : بل الله يحيي ويميت ، وهو على کل شيء قدير ، فقال المأمون : بارک الله فيک يا أبا الحسن » (51).

وينبغي التنبيه إلى أنّ ما وقع فيه الاختلاف في باب التفسير ، هو ما يتعلّق بمعاني جزئيّات ومفردات هذه الآية الشريفة ، لوجود الإبهام في المراد منها ، کالإبهام في عدد الأجزاء ، وأسماء الجبال ، وأسماء الطيور ، وغيرها ، فقد جاء في بعض الروايات أنّ الطيور کانت هي الطاووس والديک والحمامة والغراب ، وفي بعضها أن المرامن الطير هو الطاووس ، وفي بعض الروايات ذکرت تأويلات لکل واحد منها ، ولکن المهم أنّ القضية کانت متعلّقة بمسألة إحياء الموتى بعد متوتها ، ولکن لا بأيّ شکل يکون ، وإنّما إحياء بکيفيّة مخصوصة تتناسب والطلب الإبراهيمي ، وقد عبّر عن ذلک الشيخ مصباح اليزدي : « أجمالاً نعلم أنّها کانت طيور ، وممکن أن تکون من نوع واحد ، ومن الآية نستفد منها شيئاً واضحاً ، والروايات مختلفة في جزئيّات هذه الآية ... » (52).

ومن موارد الاختلاف الذي وقع بين المفسرين هو ما يتعلق بالمراد من کلمة ( فصرهن إليک ) ، من حيث دلالتها على المعنى المقصود ، فقد قرأت بقراءتين ، بضمّ الصاد ، وکسرها ، وعندئذ يتغير المعنى تبعاً لتغير القراءة ، فعلى الأولى تکون بمعنى صار يصور بمعنى ( أملهن ) أي أوجد ميلاً بها ، وآنسها بک ، ويشهد به تعديته ب‍ ( إلى ) فإنّ صار إذا تعدي ب‍ ( إلى ) کان بمعنى الإمالة ، وعلى الثانية تکون بمعنى صار يصير ، بمعنى قطعهن ، ولکن المعنى الأوّل خلاف الظاهر من النصّ القرآني الشريف ، حيث أمره سبحانه وتعالى أن يجعل کلّ جزء منهنّ على جبل ، لا کلّ واحد منهنّ ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى أنّ من مقتضى حال المجيب أن يکون جوابه مطابقاً لسؤال السائل ، والسائل سأل عن کيفيّة الإحياء بعدما رأى تلک الجيفة تمزقها سباع البر والبحر ، کما عليه بعض الروايات ، أو بيان ومعرفة مقام الخلة عند الحقّ تعالى کما مرّ علينا في رواية علي بن الجهم عن المأمون ، وکان من جملتها رؤية إحياء الموتى ، وهذه المطالب تتناسب مع المعنى الثاني ، والقراءة الثانية ، وإلاّ فلا مطابقة لذلک على القراءة الأولى. فتأمل !

ثمّ أنّه لم يذهب إلى المعنى الأوّل إلَّا بعض المفسرين ، کصاحب المنار حيث إنّه ذکر في تفسيره قائلاً : « ... خذ أربعة من الطير فضمها إليک ، وآنسها بک ، حتى تستأنس وتصير بحيث دعوتک إذا دعوتها ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوانات استعداداً لذلک ، ثمّ اجعل کلّ واحد منها على جبل ، ثمّ ادعها ، فإنّها تسرع إليک من غير أن يمنعها تفرق أمکنتها وبعدها ، کذلک أمر ربّک إذا أراد إحياء الموتي ، يدعوهم لکلمة التکوين « کانوا أحياء » فيکونون أحياء ، کما کان شأنه في بدء الخلقة ، تلک إذ قال للسموات والأرض : ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (53) ... والدليل على ذلک من الآية قوله تعالى : فصرهنّ ، فإن معناه ( أملهن ) أي أوجد ميلاً بها ، وآنسها بک ، ويشهد به تعديته ب‍ ( إلى ) ، فأن صار إذا تعدى ( إلى ) کان بمعنى الإمالة » (54).

وکما ذکرنا سابقاً أن حمل الآية على هذا المعنى يخالف ظاهر النص الشريف من جهة ، ومن جهة أخرى لا يحقّق مطابقة الجواب للسؤال ، وهو خلاف الحکمة وإرادة المعنى الحقيقي من ظاهر الجواب ، ثمّ أنّه لا يتناسب مع ما لإبراهيم من مقام النبوّة ، وأمّا مسألة وجود القرينة على إرادة غير المعنى الظاهر ، وهي التعدية کما ذکر ب‍ « إلى » ، فقد قال فيها الشيخ مصباح اليزدي : « ... أما تعدية « صرهنّ » ب‍ « إليک » إن کان بمعنى الميل فالأمر بالتقطيع مقدّر ، وإن کان بمعنى القطع فالکلمة متضمّنة لمعنى الميل » (55). المهمّ أنّ هذه القصّة تکشف لنا بشکل واضح لا يقبل الشکّ والترديد عن إمکان المعاد الجسماني الوقوعي فضلاً عن إمکانه الذاتي ، فهذه القصّة في الواقع ما هي إلّا صورة من صور المعاد الجسماني ، وقد ثبت وقوعها بالحسّ والوجدان والمشاهدة العينيّة في هذا العالم الجسماني الطبيعي المادي ، ومع وجود المقتضي وعدم المانع وقدرة الفاعل وعلمه ، فإن الإمکان الوقوعي لا يقبل الشکّ والترديد والاستبعاد بعد.

الدليل الثالث : قصة إحياء قتيل بني إسرائيل :

وقد حکى الله سبحانه وتعالى هذه القصّة عن طريق قول : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * ... وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (56).

ففي رواية البزنطي قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول : إنّ رجلاً من بني إسرائيل قتل قرابة له ، ثمّ أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ، ثمّ جاء يطلب بدمه ، فقال لموسى إنّ سبط آل فلان قتلوا فلاناً ، فأخبر من قتله ، قال : أتوني ببقرة ، قالوا : أتتخذنا هزواً ؟ قال : أعوذ بالله أن أکون من الجاهلين ، ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ، ولکن شددوا فشدّد الله عليهم ، قالوا : أدع لنا ربّک يبين لنا ما هي ؟

قال : إنّه يقول بقرة لا فارض ولا بکر ، يعني لا صغيرة ولا کبيرة ، عوان بين ذلک ، ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ، ولکن شددوا فشدد الله عليهم ، قالوا : فادع لنا ربّک يبين ما لونها ، قال : إنّه يقول إنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين ، ولو عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ، ولکن شدّدوا فشدّد الله عليهم ، قالوا : ادع لنا ربّک يبين لنا ما هي إنّ البقر تشابه علينا ، وإنّا إن شاء الله لمهتدون ، قال : إنّه يقول إنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ، قالوا : الآن جئت بالحقّ ، فطلبوها عند فتى من بني إسرائيل ، فقال : لا أبيعها إلّا بملؤ مسک ذهباً ، فجاءوا إلى موسى ، وقالوا له ذلک ، قال اشتروها فاشتروها ، وجاءوا بها فأمر بذبحها ، ثمّ أمر أن يضربوا الميّت بذنبها ، فلمّا فعلوا ذلک حيى المقتول ، وقال : يا رسول الله : إنّ ابن عمّي قتلني دون من أدّعي عليه قتله ، فعلموا بذلک قاتله ... الحديث (57).

لا يخفى ما تنطوي عليه هذه القصّة من معاني وحکايات عجيبة ولطيفة وهادفة ، ولکن الذي يعنينا هنا ما يتعلّق بمسألة إحياء الموتى بعد موتهم مرّة أخرى ، تلک المسألة التي کانت تشکل عقبة أمام بعض المشکّکين والمستبعدين لهذا الأمر ، وإن کان هناک شاهد وحسّ فطري على ذلک ، ولکنه عندما يصل إلى مرتبة من الضعف والخفاء في بعض النفوس ، لا يشکل بعد ذلک رادعاً لأوهامهم وشکوکهم ، فهذه القصّة تکشف لنا عن إمکان هذه المسألة من جهة وقوعها في الخارج ، فهي نموذجٌ حيٌّ جسد لنا هذه الحقيقة ـ المعاد الجسماني والروحاني معاً ـ من باب أنّ القادر عليه هنا فهو قادر عليه هناک إلّا أنّ بعض المفسّرين حاول إنکار هذه الحقيقة ، مستبعداً حصول الکرامات والمعاجز لأولياء الله ، ولذا احتاج إلى تأويل حصول مثل هذه ، کما هو عليه صاحب تفسير المنار ، إذ کان يقول فيها : « إنّ معنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي کانت عرضة لأن تسفک بسبب الخلاف في قتيل تلک النفس » (58).

وبهذا القدر نکتفي من ذکر الأدلّة على إثبات الإمکان الوقوعي للمعاد الجسماني بعدما بيّنا قبل ذلک الإمکان الذاتي له ، وإلّا فإنّه توجد شواهد قرآنيّة أخرى تحکي لنا هذا الأمر ، کمسألة إحياء قوم بني إسرائيل ، الذين اُحيوا بدعاء نبي الله حزقيل عليه السلام ، عندما مرّ عليهم ، وکانوا ألوفاً مؤلفة خرجوا من ديارهم حذر الموت ، فأدرکهم الموت ، بقوله تعالى لهم : مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ (59) ، وببرکة دعاء نبي الله حزقيل عليه السلام أحياهم وأعادهم مرّة ثانية لأن يعيشوا حياة دنيويّة مرّة أخرى بعدما تلاشت جثثهم وتبعثرت عظامهم هنا وهناک ، وکذلک مسألة إحياء قوم موسى الذين اختارهم لميقات ربّه (60) ، وکذا مسألة إعادة أصحاب الکهف : بعد مرور السنوات عديدة عليهم (61) ، وغيرها ، کلّها شواهد لنا على إثبات الإمکان الوقوعي للمعاد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى کون المعاد في هذا اليوم للروح والجسم معاً ، وقلّما نجد لمثل هذه الدعوى مثيلاً في الرسائل السماويّة الأخرى ، فقد جاء ما يقارب ثلث القرآن الکريم في خصوص بيان هذه الحقيقة وما يتعلّق بها من لوازم وخصوصيّات خاصّة ، فلم يترک القرآن الکريم جانب من جوانبها إلّا وکشف عن وجهه الستار ، حتّى صار أمرها کالشمس في رابعة النهار ، وعندئذ لا يبقى للکافر بها إلّا أن يقول : ( يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) (62) ، ( يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ ) (63).

 

الهوامش

1. النمل ، ٦٤.

2. الأحقاف ، ٤.

3. يس ، ٧٨ ، ٧٩.

4. العنکبوت ، ١٩.

5. الروم ، ٢٧.

6. غافر ، ٥٧.

7. الأسراء ، ٩٩.

8. الأحقاف ، ٣٣.

9. يس ، ٨١.

10. غافر ، ٥٧.

11. عبد الهادي الشيرازي ، شرح المنظومة ، ص ١٧٢.

12. العلّامة الحلّي ، حاشية السبحاني على کتاب کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، قسم الإلهيّات ، ص ١٠.

13. الحاج ملا عبدالهادي السبزواري ، شرح المنظومة ، ص ١٧٢.

14. العنکبوت ، ١٩.

15. العنکبوت ، ١٧ ، ١٨.

16. الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٦ ، ص ١١٦.

17. فخرالدين الرازي ، التفسير الکبير ، ج ٢٧ ، ص ٧٩.

18. الإسراء ، ٩٩.

19. راجع : الطبرسي ، تفسير مجمع البيان ، ج ٨ ص ٥٩٢ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٨ ص ٥٧٦٩ ؛ تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ١٩٩.

20. ق ، ٩ ـ ١١.

21. الروم ، ١٩.

22. الروم ، ٥٠.

23. الکهف ، ٤٧.

24. ق ، ٦.

25. ق ، ١١.

26. ناصر مکارم الشيرازِي ، تفسير الأمثل ، ج ١٧ ، ص ٦.

27. محمد باقر الناصري ، تفسير مختصر مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣١٤.

28. ق ، ١١.

29. الميزان في التفسير القرآن ، ج ١٨ ، ص ٣٧٠.

30. الحج ، ٥ ، ٦.

31. المؤمنون ، ١٢ ـ ١٦.

32. آل عمران ، ٥٩.

33. لاحظ : الزبيدي ، تاج العروس ، ج ٦ ، ص ٢٥٨ ؛ الفراهيدي ، العين ، ج ٧ ، ص ٤٣٦ ؛ ابن منظور ، لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٣٣٥ ؛ محمد عبد القادر ، مختار الصحاح ، ص ٣٤٠.

34. الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٤ ، ص ٣٧٧.

35. تفسير مختصر مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٥٢.

36. يس ، ٧٩ ، ٨٠.

37. الواقعة ، ٧١ ـ ٧٣.

38. نقلاً عن ، التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري ٧ ، ص ٥٢٨.

39. التفسير المنسوب للإمام الحسن العسکري ٧ ، ص ٥٢٨.

40. السيد عبدالحسين دستغيب ، الدار الأخرة ، ص ٢٠٩.

41. أبو جعفر الطوسي ، تفسير التبيان ، ج ٨ ، ص ٤٧٦.

42. ينبغي الإشارة إلى أن التردد الذي ذکرناه هنا في الواقع راجع إلى اختلاف الروايات الناقلة لحکاية هذه القصة القرآنيّة.

43. البقرة ، ٢٥٩.

44. الميزان في تفسير القرآن ، ج ٢ ، ص ٣٦٠ ، ٣٦١.

45. البقرة ، ٢٥٩.

46. الأنعام ، ٨٣.

47. الأنعام ، ٧٥.

48. الروم ، ٢٧.

49. الميزان في تفسير القرآن ، خ ٢ ، ص ٣٦٠ ، ٣٦١.

50. البقرة ، ٢٦٠.

51. عبد علي جمعة ، تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٨٢ ؛ نقلاً عن : عيون أخبار الرضا ٧.

52. محمد تقي مصباح اليزدي ، کتاب معارف قرآن ، ج ١ ـ ٣ ، ص ٤٧٥.

53. فصلت ، ١١.

54. محمّد رشيد رضا ، تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٥٥ ـ ٥٨.

55. راجع : محمد تقي اليزدي ، کتاب معارف قرآن ، ٤٧٧ ـ ٤٥٠.

56. البقرة ، ٦٧ ـ ٧٣.

57. نقلاً عن : الميزان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٢٠٤.

58. لاحظ : محمّد رشيد رضا ، تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٣٤٥ ـ ٣٥٠.

59. البقرة ، ٢٤٣.

60. راجع : سورة البقرة ، ٥٥ ، ٥٦.

61. راجع : سورة الکهف ، ١٠ ـ ١٢.

62. النبأ ، ٤٠.

63. الزمر ، ٥٦.

 

مقتبس من كتاب المعاد الجسماني

 

أضف تعليق

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية