ثمرات التحسين والتقبيح العقليين : الله عادل لا يجور

البريد الإلكتروني طباعة

الله عادل لا يجور

إِنَّ مقتضى التَّحسين والتّقبيح العقليين ـ على ما عرفت ـ هو أَنَّ العقل ـ بما هو هو ـ يدرك أَنَّ هذا الشيء ـ بما هو هو ـ حسن أو قبيح ، وأَن أحد هذين الوصفين ثابت للشيء ـ بما هو هو ـ من دون دخالة ظرف من الظروف أَو قيد من القيود ، و من دون دخالة دَرْكِ مدرك خاص.

وعلى ذلك فالعقل في تحسينه وتقبيحه يدرك واقعيّة عامّة ، متساوية بالنسبة إلى جميع المدركين والفاعلين ، من غير فرق بين الممكن والواجب. فالعدل حَسَن ويُمْدَح فاعله عند الجميع ، والظلم قبيح يُذَمّ فاعلهُ عند الجميع. وعلى هذا الأساس فالله سبحانه ، المدرك للفعل ووصفه ـ أعني استحقاق الفاعل للمدح أو الذمّ ـ من غير خصوصيّة للفاعل ، كيف يقوم بفعل ما يحكم بأَنَّ فاعله مستحقّ للذمّ ، أَو يقوم بفعل ما يحكم بأَنّه يجب التنزّه عنه ؟

وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ، لأَن الظلم قبيح وممّا يجب التنزّه عنه ، ولا يصدر القبيح من الحكيم ، والعدل حسن وممّا ينبغي الإِتّصاف به ، فيكون الإِتّصاف بالعدل من شؤون كونه حكيماً منزّهاً عمّا لا ينبغي.

وإنْ شئت قلت : إِنَّ الإِنسان يدرك أنَّ القيام بالعدل كمال لكلّ أحد. وارتكاب الظلم نقص لكلّ أحد. وهو كذلك ـ حسب إِدراك العقل ـ عنده سبحانه. ومعه كيف يجوّز أَنْ يرتكب الواجب خلاف الكمال ، ويقوم بما يجرّ النقص إليه (1).

دفع إِشكال

ربّما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإِنسان ، لا يدلّ على كونه كذلك عند الله سبحانه ، فكيف يمكن استكشاف أنّه لا يترك الواجب ولا يرتكب القبيح ؟.

والإِجابة عنه واضحة ، وذلك أنَّ مَغْزى القاعدة السالفة هو أنَّ الإِنسان يدرك حسن العدل وقبح الظلم لكلّ مُدْرِك شاعر ، ولكلّ عاقل حكيم ، من غير فرق بين الظروف والفواعل. وهذا نظير درك الزوجيّة للأربعة ، فالعقل يدرك كونها زوجاً عند الجميع ، لا عند خصوص الممكن ، فليس المقام من باب إسراء حكم الإِنسان الممكن إلى الواجب تعالى ، بل المقام من قبيل استكشاف قاعدة عامّة ضروريّة بديهيّة عند جميع المدركين من غير فرق بين خالقهم و مخلوقهم. ولا يختصّ هذا الأمر بهذه القاعدة ، بل جميع القواعد العامّة في الحكمة النظريّة كذلك.

وعلى هذا يثبت تنزهه سبحانه عن كلّ قبيح ، واتّصافه بكلّ كمال في مقام الفعل ، فيثبت كونه تعالى حكيماً لا يرتكب اللغو وما يجب التنزّه عنه ، وبالتالي فهو عادل لا يجور ولا يظلم ولا يعتدي.

 

 

العدل في الذّكر الحكيم

تضافرت الآيات الكريمة مركزة على قيامه سبحانه بالقسط، نورد فيما يلي بعضاً منها:
قال سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَا بِالْقِسْطِ)(1).
و كما شهد على ذاته بالقيام بالقسط، عرّف الغاية من بعثة الأنبياء بإِقامة القسط بين الناس.
قال سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(2).
كما صرّح بأن القسط هو الركن الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: (وَ نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْـلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً)(3).
و ما في هذه الآيات و غيرها إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته، بأنَّ العدل كمالٌ لكل موجود حيّ مدرك مختار، و أَنَّه يجب أَنْ يتصف اللهُ تعالى به في أفعاله في الدنيا و الآخرة، و يجب أنْ يقوم سفراؤه به.
1 . سورة آل عمران: الآية 18.
2 . سورة الحديد: الآية 25.
3 . سورة الأنبياء: الآية 47.
(290)
العدل في التشريع الإِسلامي
و هذه المكانة التي يحتلها العدل - التي عرفت أنه لولاه لارتفع الوثوق بوعده و وعيده و انخرم الكثير من العقائد الإِسلامية - هي التي جعلته سبحانه يعرّف أحكامَه و يصف تشريعاتِهِ بالعدل، و أنه لا يشرّع إلاّ ما كان مطابقاً له.
يقول سبحانه: (وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاَ يُظْـلَمُونَ)(1).
فالجزء الأول من الآية ناظر إلى عدله سبحانه بين العباد في تشريع الأحكام، كما أنَّ الجزء الثاني ناظرٌ إلى عدله يوم الجزاء في مكافاته، هذا.
و إن شعار الذكر الحكيم هو: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْـلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْـلِمُونَ)(2). و هو يكشف عن عدالته سبحانه في التشريع و الجزاء.
العدل في روايات أئمة أَهل البيت
إشتهر عليٌّ ـ عليه السَّلام ـ وأولادُه بالعدل، و عنه أخذت المعتزلة، حتى قيل: «التوحيد و العدل علويان و التشبيه و الجبر أمويان». و إليك بعض ما أثِرَ عنهم ـ عليهم السَّلام ـ .
1ـ سئل عليّ ـ عليه السَّلام ـ عن التوحيد والعدل، فقال: «التَوْحِيدُ أنْ لا تَتَوَهَّمَهُ و العَدْلُ أنْ لا تَتَّهِمَهُ»(3) و قد فُرض كونه سبحانه عادلا فطلب معناه.
1 . سورة المؤمنون: الآية 62.
2 . سورة الروم: الآية 9.
3 . نهج البلاغة - قسم الحكم - رقم 470.
(291)
قال ابن أبي الحديد: «هذان الركنان هما ركنا علم الكلام و هما شعار أصحابنا المعتزلة لنفيهم المعاني القديمة التي يثبتها الأشعري و أصحابه، و لتنزيههم الباري سبحانه عن فعل القبيح، و معنى قوله: «أنْ لا تتوهمه»: أنْ لا تتوهمه جسماً أو صورة أو في جهة مخصوصة أو مالئاً لكل الجهات، كما ذهب إليه قوم، أو نوراً من الأنوار، أو قوة سارِيّة في جميع العالم كما قاله قوم، أو من جنس الأَعراض التي تحل الحالّ أو تحل المَحَل و ليس بعَرض، كما قاله النصارى، أو تحله المعاني والأعراض فمتى تُوُهّم على شيء من هذا فقد خولف التوحيد.
و أما الركن الثاني فهو «أنْ لا تتهمه»: أي أَنْ لا تتهمه في أنَّه أَجبرك على القبيح و يعاقبك عليه، حاشاه من ذلك و لا تتهمه في أنَّه مكّن الكذّابين من المعجزات فأضل بهم الناس، و لا تتهمه في أَنَّه كلّفك ما لا تطيقه و غير ذلك من مسائل العدل التي يذكرها أَصحابنا مفصلة في كتبهم، كالعوض عن الأَلم فإِنه لا بدّ منه، و الثواب على فعل الواجب فإِنه لا بد منه، و صدق وعده و وعيده فإِنه لا بد منه.
و جملة الأمر أَنَّ مذهب أَصحابنا في العدل و التوحيد مأخوذ عن أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ . و هذا الموضع من المواضع التي قد صرّح فيها بمذهب أصحابنا بعينه و في فرض كلامه من هذا النمط ما لا يحصى»(1).
2ـ روى (الصدوق) عن الصادق ـ عليه السَّلام ـ أَنَّ رجلا قال له: إِنَّ أساس الدين التوحيد والعدل، و عِلْمُهُ كثيرٌ، و لا بُدّ لعاقل منه، فاذكر ما يَسْهُلُ الوقوفُ عليه و يتهيّأ حفظُه. فقال ـ عليه السَّلام ـ : «أَمّا التّوحيدُ فَأَنْ لا تُجَوِّزَ عَلى رَبِّك ما جازَ عليكَ، و أمّا العَدْل فَأَنْ لا تَنْسبَ إلى خَالِقِكَ ما لاَمَكَ عَلَيْهِ»(2).
1 . شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 20، ص 227.
2 . التوحيد، باب معنى التوحيد والعدل، الحديث الأول، ص 96.
(292)
3ـ و قال علي ـ عليه السَّلام ـ : «وَ أشْهَدُ أنَّه عَدْلٌ عَدَل، و حَكَمٌ فَصَل»(1).
4ـ و قال ـ عليه السَّلام ـ : «الذي صَدَقَ في ميعادِهِ، و ارتَفَعَ عن ظُلْمِ عبادِهِ، و قَامَ بالقِسْطِ في خَلْقِهِ، و عَدَلَ عليهم في حُكْمِهِ»(2).
5ـ و قال صلوات الله عليه: «الذي أعْطى حِلْمُهُ فَعَفَا، و عَدَلَ في كل ما قَضَى»(3).
6ـ و قال ـ عليه السَّلام ـ : «اللّهُمَّ احمِلني على عَفْوِكَ، و لا تَحْمِلني على عَدْلِكَ»(4).
إلى غير ذلك من المأثورات عن أَئمة أَهل البيت، و سيوافيك قسم منها عند البحث عن القضاء و القدر، و البحث عن الجبر و الاختيار.
* * *
1 . نهج البلاغة، الخطبة 214.
2 . نهج البلاغة، الخطبة 185.
3 . نهج البلاغة، الخطبة 191.
4 . نهج البلاغة، الخطبة 227.

الهوامش

1. وربّما يقرّر وجه عدم صدور عدم القبيح عنه تعالى بأنَّ الدَّاعي إلى صدوره إمّا داعي الحاجة ، أو داعي الحكمة ، أو داعي الجهل. والكلّ منتف في حقّه سبحانه. أمَّا الأَوّل فلغناه المطلق ، وأَمَّا الثَّاني فلكون الحكمة في خلافه ، وأَمّا الثالث فلكونه عالماً على الإِطلاق.

وبما أنَّ هذا الدليل مبني على كون فاعليّة الواجب بالداعي الزائد على ذاته ، وهو خلاف التحقيق ، لكونه تامّاً في الفاعليّة فلا يحتاج فيها إلى شيء وراء الذات ، أَتينا به في الهامش. وقد اعتمد عليه العلَّامة في شرح التجريد ص 187 ـ 188. والفاضل المقداد في شرح نهج المسترشدين ص 260 وغير ذلك من الكتب الكلاميّة.

مقتبس من كتاب : [ الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 287 ـ 292

 

أضف تعليق

التحسين والتقبيح العقليان

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية