الصفات الخبريّة

البريد الإلكتروني طباعة

الصفات الخبريّة

قسّم بعض المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتيّة وخبريّة ، والمراد من الأولى أوصافه المعروفة : من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه من العلوّ ، والوجه ، واليدين إلى غير ذلك. وقد اختلفت نظريّات المتكلّمين في تفسير هذا القسم من الصفات إلى أقوال :

الأوّل ـ الإثبات مع التكييف والتشبيه

زعمت المُجَسّمة والمُشَبّهة أنّ لله سبحانه عينين ويدين مثل الإنسان. قال الشهرستاني : « أما مُشَبِّهة الحَشَوِيَّة فقد أجازوا على ربّهم الملامسة والمصافحة ، وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص » (1).

وبما أنّ التشبيه والتجسيم باطل بالعقل والنقل فلا نحوم حول هذه النظريّة.

الثاني ـ الإثبات بلا تكييف ولا تشبيه

إنّ الشيخ الأشعري ومن تبعه يُجْرُون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف ، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون « بلا تشبيه ولا تكييف ».

يقول الأشعري في كتاب « الإبانة » : « إن لله سبحانه وجهاً بلا كيف ، كما قال : ( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) (2) ، وإنّ له يدين بلا كيف ، كما قال : ( خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) » (4).

وليست هذه النظريّة مختصّة بالأشعري ، فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه قال : « وما ذكر الله تعالى في القرآن من الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ».

وقد نقل عن الشافعي أنّه قال : « ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ».

وقال ابن كثير : « نحن نسلك مسلك السلف الصالح وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه » (5).

وحاصل هذه النظريّة أنّ له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في البشر. فله يد وعين ، لا كأيدينا وأعيننا وبذلك توفقوا ـ على حسب زعمهم ـ في الجمع بين ظواهر النّصوص ومقتضى التنزيه.

تحليل هذه النظريّة

لا شك أنّه يجب على كلّ مؤمن الإِيمان بما وصف الله به نفسه ، وليس أحد أعرف به منه ، يقول سبحانه : ( أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ ) (6). كما أنّه ليس لأحد أَنْ يصرف كلامه سبحانه في أيّ مورد من الموارد عمّا يتبادر من ظاهره من دون قرينة قطعيّة تستوجب ذلك. فإنّ قول المؤوّلة ـ الذين يؤوّلون ظواهر الكتاب والسنّة بحجّة أنّ ظواهرها لا توافق العقل ـ مردود ، إذ لا يوجد في الكتاب والسنّة الصحيحة ما يخالف العقل ، وإن ما يتصوّرونه ظاهراً ويجعلونه مخالفاً للعقل ليس ظاهر الكتاب المتبادر منه ، وإنّما يتخيّلونه ظاهراً كما سيبيّن.

ثمّ إنّ ما جاء به الأشاعرة في هذه النظريّة وقولهم بأنّ لله يداً حقيقة بلا كيف ـ مثلاً ـ لا يرجع إلى معنى صحيح. وذلك أنّ العقيدة الإسلاميّة تتسم بالدقّة والحصافة ، وفي الوقت نفسه بالسلامة من التعقيد والإبهام ، وتبدو جليّة مطابقة للفطرة والعقل السليم. وعلى ذلك فإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثور من اليهوديّة والنصرانيّة ، كما في النظريّة الأولى ، أو بصورة الإبهام والإِلغاز كما في هذه ، لا يجتمع مع موقف الإسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإِسلامي. فالقول بأنّ لله يداً لا كأيدينا ، أو وجهاً لا كوجوهنا ، وهكذا سائر الصفات الخبريّة أشبه بالألغاز. وما يلهجون به ويكرّرونه من أنّ هذه الصفات تجري على الله سبحانه بنفس معانيها الحقيقيّة ولكن الكيفيّة مجهولة ، أشبه بالمهزلة. إذ لوكان إمرارها على الله تعالى بنفس معانيها الحقيقيّة ، لوجب أن تكون الكيفيّة محفوظة حتّى يكون الاستعمال حقيقيّاً ، لأنّ الواضع إنّما وضع هذه الألفاظ على تلك المعاني التي قوامها بنفس كيفيّتها. فاستعمالها في المعاني الحقيقيّة وإثبات معانيها على الله سبحانه بلا كيفيّة ، أشبه بكون حيوان أسداً حقيقة ولكن بلا ذنب ولا مخلب ولا ناب ولا ولا ...

وباختصار ، قولهم إنّ لله يداً حقيقة لكن لا كالأيدي ، كلام يناقض ذيله صدره. فاليد الحقيقيّة عبارة عن العضو الذي له تلك الكيفيّة المعلومة ، وحذف الكيفيّة حذف لحقيقتها ولا يجتمعان.

أضف إلى ذلك أنّه ليس في النصوص من الكتاب والسنّة من هذه « البلكفة » ـ أيّ بلا كيف ـ عين ولا أثر ، وإنّما هو شيء اخترعته الأفكار للتدرع به في مقام ردّ الخصم عن تهجمه عليهم بتهمة التجسيم ولذلك يقول العلّامة الزمخشري :

     

وَقَدْ شَبّهوهُ بِخَلْقِهِ وَتَخَوَّفُوا

 

شَنْعَ الوَرَى فَتَسَتَّروا بالبَلْكَفَة

ليت شعري ، لو كفت هذه اللفظة في دفع التجسيم والتشبيه ، فليكف في مجالات أخر بأن يقال في حقّه سبحانه إنّ له جسماً لا كسائر الأجسام ، وإنّ له دماً لا كسائر الدماء ولحماً لا كسائر اللحوم. حتّى إنّ بعض المتجرئين من المشبهة قال : « إنّما استحييت ، عن إثبات الفرج واللحية ، واعفوني عنهما واسألوا عمّا وراء ذلك » (7).

وبذلك تبين أنّ عقيدة الأشعري في باب الصفات الخبريّة لا تخرج ، عن إطار أحد الأمرين التاليين :

١ ـ التجسيم والتشبيه ـ لو أجريت هذه الصفات على الله سبحانه بمعانيها المعهودة في الأذهان ومع حفظ حقيقتها.

٢ ـ التعقيد والغموض ـ لو أجريت على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة من دون تفسير وتوضيح. فالقوم بين مشبّه ومعقّد ، بين مجسم وملقلق باللسان.

وفي الختام نقول إنّ نظرية « الإثبات بلا تكييف » وإن كانت رائجة في عصر الأشعري وقبله وبعده ، ولكنّها هجرت بعد ذلك إلى أن جاء ابن تيميّة الحرّاني فجددها وأثارها وأسماها مذهب السلف ، وجعل مذهبهم بين التعطيل والتشبيه. قال في جملة كلام له : « فلا يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ـ إلى أن قال : ولم يقل أحد من سلف الأمّة ولا من الصحابة والتابعين إنّ الله ليس في السماء ، ولا إنّه ليس على العرش ، ولا إنّه في كلّ مكان ، ولا إنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ، ولا إنّه داخل العالم ولا خارجه ، ولا متّصل ولا منفصل ، ولا إنّه لا تجوز الإشارة الحسيّة إليه بالأصابع ونحوها » (8).

وعلى ذلك قال أبو زهرة : « يقرر ابن تيميّة أنّ مذهب السلف هو إثبات كلّ ما جاء في القرآن من فوقيّة وتحتيّة ، واستواء على العرش ، ووجه ، ويد ، ومحبّة وبغض ، وما جاء في السنّة من ذلك أيضاً من غير تأويل ، وبالظاهر الحرفي. فهل هذا هو مذهب السلف حقّاً ؟ ونقول في الإجابة عن ذلك : لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بيّناه ، وادّعوا أنّ ذلك مذهب السلف ، وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنّه يؤدّي إلى التشبيه والجسميّة لا محالة ، فكيف لا يؤدّي إليهما والإشارة الحسيّة إليه جائزة.

ولذا تصدّى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب إبن الجوزي ، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف » (9).

إنّ لابن الجوزي كلاماً مبسوطاً في نقد هذه النظريّة وقد هاجم أحد الحنابلة المروّجين لها أعني القاضي أبا يعلى الفقيه الحنبلي المشهور المتوفي سنة ٤٥٧ هـ ، حيث قال : « لقد شَأَنَ أبو يَعْلَى الحنابلة شيئاً لا يغسله ماء البحار ». ولأجل ذلك استتر هذا المذهب حتّى أعلنه ابن تيميّة بجرأة خاصّة له.

ثمّ إنّ أبا زهرة المعاصر انتقل إلى ما ذكرناه في نقد تلك النظريّة وقال :

« ولنا أن ننظر نظرة أخرى وهي من الناحية اللغويّة. لقد قال سبحانه : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ). وقال : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ). أهذه العبارات يفهم منها تلك المعاني الحسيّة ؟ أم أنّها تفهم منها أمور أخرى تليق بذات الله تعالى ؟ فيصحّ أن تفسر اليد بالقوّة ـ كناية أو استعارة عنها ـ ويصحّ أن يفسر الوجه ، بالذات.

ويصحّ أن يفسّر النزول إلى السماء الدنيا بمعنى قرب حسابه ، وقربه سبحانه وتعالى من العباد. وإنّ اللغة تتّسع لهذه التفسيرات ، والألفاظ تقبل هذه المعاني. وهو أولى بلا شك من تفسيرها بمعانيها الظاهرة الحرفيّة ، والجهل بكيفيّاتها. كقولهم : « إن لله يداً ولكن لا نعرفها » ، « ولله نزولاً لكن ليس كنزولنا » الخ ... فإن هذه إحالات على مجهولات ، لا نفهم مؤدّاها ، ولا غاياتها. بينما لو فسّرناها بمعان تقبلها اللغة وليست غريبة عنها لوصلنا إلى أمور قريبة فيها تنزيه وليس فيها تجهيل » (10).

ثمّ إنَّ للغزالي كلاماً متيناً في نقد هذه النظريّة نأتي بخلاصته. يقول :

« إنّ هذه الألفاظ التي تجري في العبارات القرآنيّة والأحاديث النبويّة لها معان ظاهرة ، وهي الحسّية التي نراها. وهي محالة على الله تعالى ومعان أخرى مجازيّة مشهورة يعرفها العربي من غير تأويل ولا محاولة تفسير.

فإذا سمع اليد في قوله صلّى الله عليه وآله « إنّ الله خمّر آدم بيده » و « إنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن » ، فينبغي أن يعلم أنّ هذه الألفاظ تطلق على معنيين : أحدهما ـ وهو الوضع الأصلي ـ وهو عضو مركّب من لحم وعظم وعصب. وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس هذا المعنى بجسم أصلاً ، كما يقال : « البلدة في يد الأمير » ، فإنّ ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد. فعلى العامي وغير العامي أن يتحقّق قطعاً ويقيناً أنّ الرسول لم يرد بذلك جسماً وأنّ ذلك في حقّ الله محال. فإن خطر بباله أنّ الله جسم مركّب من أعضاء ، فهو عابد صنم. فإنّ كلّ جسم مخلوق ، وعبادة المخلوق كفر ، وعبادة الصنم كانت كفراً ، لأنّه مخلوق » (11).

ولقد أحسن الغزالي حيث جعل تفسير اليد في مثل قوله سبحانه : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) بالقدرة ، معنى للآية من غير تأويل ، وتوضيحاً لها من دون محاولة تفسيرها. وهذا ما سنركز عليه بعد البحث عن عقيدة المؤوّلة ونقول إنّ الواجب اتباع ظاهر الآية والسنّة بلا انحراف عنه سواء أكان موافقاً لمعانيها الحرفيّة والإفراديّة أم لا ، وهذه هي المزلقة الكبرى للحنابلة ونفس الإمام الأشعري ، فزعموا أنّ الواجب اتباع معانيها الحرفيّة سواءٌ أكانت موافقة للظاهر أم لا.

الثالث ـ التفويض

وقد ذهب جمع من الأشاعرة وغيرهم إلى إجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع تفويض المراد منها إليه.

قال الشهرستاني :

« إن جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبريّة مثل اليدين والوجه ولا يؤوّلون ذلك ، إلّا أنّهم يقولون إنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) ، ومثل قوله : ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ). ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات ، بل التكليف قد ورد بالإعتقاد بأنّه لا شريك له ، وذلك قد أثبتناه » (12).

وإليه جنح الرازي وقال :

« هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها ، كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها » (13).

تحليل نظريّة التفويض

إنّ التفويض شعار من لا يريد أن يقتحم الأبحاث الخطيرة ، ويرى أنّه يكفيه في النجاة قول رسول الله صلّى الله عليه وآله : « بُنِيَ الإِسلام على خمس : شهادة أنْ لا إله إلّا الله وأَنَّ محمداً رسول الله ، وإِقام الصلاة ، وإِيتاء الزكاة والحجّ وصوم رمضان » (14).

ولأنّه يرى أنّ التفويض أسلم من الإثبات الذي ربّما ينتهي به إمّا إلى التشبيه والتجسيم الباطلين أو إلى التعقيد والإبهام اللّذين لا يجتمعان مع سمة سهولة العقيدة.

ولكنّ أهل الإثبات ـ أعني أصحاب النظريّتين السابقتين ـ عابوا على نظريّة التفويض بأنّ غاية تلك النظريّة مجرّد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث

من غير فقه ولا فهم لمراد الله ورسوله منها. فإنّ الإيمان بالألفاظ وتفويض معانيها إلى الله سبحانه بمنزلة القول بأنّ الله تعالى خاطبنا عبثاً ، لأنّه خاطبنا بما لا نفهم ، والله يقول : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (15).

أقول : إنّ لأهل التفويض عذراً واضحاً في هذا المجال ، فإنّهم يتصوّرن أنّ الآيات المشتملة على الصفات الخبريّة ، من الآيات المتشابهة ، وقد نهى سبحانه عن ابتغاء تأويلها وأمر عباده بالإيمان بها. فقال سبحانه : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (16). فلا عتب عليهم إذا أعرضوا عن تفسيرها وفوضوا معانيها إليه سبحانه. نعم ، الإِشكال في عدم كون هذه الآيات من الآيات المتشابهة ، فإنّ المفاد فيها غير متشابه إذا أمعن فيها الإنسان المتجرد عن كلّ رأي سابق ، كما سيوافيك بيانه.

والعجب أنّ ما عابوا به أصحاب التفويض وارد عليهم أيضاً ، فإنّ إثبات الصفات الخبريّة بمعانيها الحرفيّة التي تتبادر عند إيرادها مفردة ، مع حفظ التنزيه ، تجعلها ألفاظاً بلا معان واضحة. لأنّ الكيفيّة المتبادرة من هذه الصفات هي المقوّمة لمعانيها فإثبات مفاهيمها الحرفية مع سَلْب كيفيّاتها أشبه بإثبات الشيء في عين سلبه. فعندئذ تنقلب الآيات البيّنات الدّالة على أشرف المعاني وأجلّها إلى آيات غير مفهومة ولا معقولة. وكأنّ الله تعالى خاطبهم وهم أَميون لا يعلمون من الكتاب إلّا أماني.

الرابع ـ التأويل

إنّ المعتزلة هم المشهورون بهذه النظريّة حيث يفسّرون اليد بالنعمة والقدرة ، والإستواء بالإستيلاء وإظهار القدرة. وسيظهر حقيقة التأويل في هذه الآية عندما نورد عبارات تفسير « الكشاف » الذي أُلف على نمط اعتزالي.

ويلاحظ عليهم : إنّ تأويل نصوص الآيات وظواهرها مع قطع النظر عن مورد الصفات الخبريّة ، ليس بأقلّ خطراً من نظريّة الإثبات ، إذ ربّما ينتهي التأويل إلى الإلحاد وإنكار الشريعة (17).

وما أقبح قول من يقول : « إنّ ظاهر القرآن يخالف العقل الصحيح ، فيجب ترك النّقل لأجل صريح العقل ».

أو يقول : « التمسّك في أصول العقائد بمجرّد ظواهر الكتاب والسنّة من غير بصيرة ، هو أصل الضلالة ، فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قوله : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (18).

وذلك لأنّه لا توجد آية في الكتاب العزيز يخالف ظاهرها صريح العقل ، فإنّ ما يتخيّلونه ظاهراً ليس بظاهر ، بل الآية ظاهرة في غير ما تصوروه ، وإنّما خلطوا الظاهر الحرفي بالظاهر الجُمَلي. فإنّ اليد مفردة ظاهرة في العضو الخاص وليست كذلك فيما إذا حفّت بها القرائن وجعلتها ظاهرة في معنى آخر. فإنّ قول القائل في مدح إنسان : إنّه « باسط اليد » ، أو في ذمّه بأنّه « قابض اليد » ، ليس ظاهراً في اليد العضويّة الّتي أسميناها بالمعنى الحرفي بل ظاهر في البذل والعطاء أو في البخل والإقتار وربما يكون مقطوع اليد. وحمل الجملة على غير ذلك المعنى ، حمل على غير ظاهرها.

وعلى ذلك يجب ملاحظة كلام المؤوّلة ، فإن كان تأويلهم على غرار ما تقدّم منا ، ـ تمييز الظاهر الجُمَلي عن الظاهر الإفرادي ـ ، فهؤلاء ليسوا بمؤوّلة ، بل هم مقتفون لظاهر الكتاب والسنّة ، ولا يصحّ تسمية تفسير الكتاب العزيز ـ على ضوء القرائن الموجودة فيه ـ تأويلاً ، وإنّما هو اتباع للنصوص والظواهر. وإن كان تأويلهم باختراع معان للآيات من دون أن تكون في الآيات قرائن متّصلة دالّة عليها ، فهم المؤوّلة حقّاً ، وليس التأويل بأقلّ خطراً من الإثبات المنتهي إمّا إلى التجسيم أو إلى التعقيد والإبهام.

وباختصار ، إنّ الذي يجب التركيز عليه هو أنّ الكلية « لزوم الأخذ بالكتاب والسنّة » ، أمر مسلّم فيجب على الكلّ اتباع الذّكر الحكيم من دون أيّ تحوير أو تحريف ، ومن دون أي تصرف وتأْويل. إِنما الكلام في الصغرى ، أيّ تشخيص الظاهر عن غيره إذ به ترتفع جميع التوالي الفاسدة.

ولو أنّ قادة الطوائف الإسلاميّة وأصحاب الفكر منهم نبذوا الآراء المسبقة والأفكار الموروثة ، وركّزوا البحث على تشخيص الظاهر من غيره ، حسب المقاييس الصحيحة ، لارتفع جدال النّاس ونقاشهم حول الصّفات ، الذي دار عبر مئات السنين ، والذي لم يكن نابعاً إلّا من إيثار الهوى على الحق.

الخامس ـ الإجراء بالمفهوم التصديقي

وحقيقة هذه النظريّة أنّه يجب الإمعان في مفهوم الآية ومرماها ومفادها التصديقي « لا التصوّري » ثمّ توصيفه سبحانه بالمعنى الجُمَلي المفهوم منها من دون إثبات المعنى الحرفي للصفات ولا تأويلها.

توضيحه : إنّ للمفردات حكماً وظهوراً عند الإفراد ، وللجمل المركّبة من المفردات ظهوراً آخر. وقد يتّحد الظهوران وقد يتخالفان. فلا شكّ أنّك إذا قلت « أسدٌ » ، فإنّه يتبادر منه الحيوان المفترس. كما أنّك إذا قلت « رأيْتُ أسداً في الغابة » يتبادر من الجملة نفس ما تبادر من المفرد.

وأمّا إذا قلت « رأيت أسداً يرمي » فإنّ المتبادر من الأسد في كلامك غير المتبادر منه حرفيّاً وانفراداً وهو الحيوان المفترس بل يكون حمله عليه ، حملاً على خلاف الظاهر. وأمّا حمله وتفسيره بالبطل الرامي عند القتال فهو تفسير للجملة بظاهرها من دون تصرف وتأويل.

ولو سمع عربي صميم قول الشاعر :

     

لَدَى أسَدٍ شَاكِ السّلاحِ مُجَرّبِ

 

لَهُ لُبَدٌ ، أَظفَارُهُ لم تُقَلِّمِ

فلا يشكّ في أنّ المراد من الأسد هو البطل المقدام المقتحم لجبهات القتال لا الحيوان المفترس. وكذا لو سمع قول القائل :

     

أَسَدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعَامَةٌ

 

فَتخاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ

لا يتردّد في نفسه بأنّ المراد هو الإِنسان المتظاهر بالشجاعة أمام الضعفاء ، الخائف المدبر عند لقاء الأبطال. فلا يصحّ لنا أن نتّهم من يفسّر البيتين بالإنسان الشجاع أو المتظاهر به ، بأنّه من المؤوّلة. بل هو من المثبتين للمعنى من دون تأويل ولا تحوير.

فالواجب علينا هو الوقوف على المفاد التّصديقي وإثباته لله سبحانه لا الجمود على المعنى الحرفي التصوري ، وإثباته أو نفيه عن الله سبحانه. ولو أنّ القوم بحثوا عن مفاد الآيات ، مجرّدين عن الآراء المسبقة ، لوقفوا على الظّاهر التصديقي وأثبتوه لله سبحانه من دون أن يكون هناك وصمة تأويل وتصرف أو مغبّة تجسيم وتشبيه.

ولأجل إراءة نموذج من هذا النّمط من البحث نركز على موارد ممّا وقع في مجال النقاش بين المثبتين والمؤوّلين ، حتّى يتّضح أنّ الإثبات بالمعنى الذي يتبناه المثبتون ، والتأويل والتصرف على النحو الذي ارتكبه المؤوّلون ، غير صحيحٍ ولا تامّ ، بل هناك إثبات مجرّد عن التجسيم والإبهام والتأويل.

الهوامش

1. الملل والنحل ، ج ١ ، ص ١٠٥. لاحظ بقية كلامه في هذا المجال فإنه يوقفك على مبلغ وعي المشبهة !.

2. سورة الرحمن : الآية ٢٧.

3. سورة ص : الآية ٧٥.

4. الإِبانة ، ص ١٨.

5. لاحظ فيما نقلناه عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير « علاقة الإِثبات والتفويض » ، ص ٤٦ ـ ٤٩.

6. سورة البقرة : الآية ١٤٠.

7. الملل والنحل ج ١ ، ص ١٠٥.

8. المجموعة الكبرى في مجموعة الرسائل الكبرى ، ص ٤٨٩.

9. تاريخ المذاهب الإِسلاميّة ، ج ١ ، ص ٢١٨.

10. المصدر نفسه ، ص ٢١٩ ـ ٢٢٠.

11. إلجاء العوام.

12. الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٢ ـ ٩٣ بتلخيص.

13. أساس التقديس ، ص ٢٢٣.

14. صحيح البخاري ، ج ١ ، كتاب الإِيمان ، ص ٧.

15. سورة إبراهيم : الآية ٤. الفتوحات المكية ، ج ٤ ، ص ٩٢٨. وتبعه ابن تيمية في هذا النقد كما نقله في علاقة الإثبات والتفويض ، ص ٦٠.

16. سورة آل عمران : الآية ٧.

17. قد استوفى الشيخ الأستاذ دام ظله الكلام في أقسام التأويل في مقدّمة الجزء الخامس من موسوعته القرآنية « مفاهيم القرآن » ص ١٢ ـ ١٦.

18. شرح أم البراهين ، ص ٨٢ ـ كما في علاقة الإثبات والتفويض ، ص ٦٧.

مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / الجزء : 1 / الصفحة : 317 ـ 329

 

أضف تعليق

أسماء الله وصفاته

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية