هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟

البريد الإلكتروني طباعة

هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟
إنّ توسع الحضارة يُلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج
إليها فيما مضى ، وبما أنّ الحضارة والحاجات في حال التزايد والتكامل ، فكيف
تعالِجُ القوانينُ المحدودةُ الواردةُ في الكتاب والسنّة ، الحاجاتِ غير المحدودة .
وبما أنّ الإسلام نظام تشريعيّ كاملٌ ، تَدَخَّل في شؤون المجتمع كافّة ،
ثقافيّها ، وسياسيّها ، وإجتماعيّها ، وعسكريّها ، وعائليّها ، وأغنى المجتمع عن
كل تشريع سوى تشريعه ، فعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه : إنّ القوانين الواردة
في الكتاب والسنّة ، محدودة مهما توسّع نطاقها ، فكيف تُغني المجتمع عن ممارسة
التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة
الرسول .
نعم ، المسيحية أراحت نفسها من الإجابة عن هذا السؤال بادّعاء أنّ
نظامَها لا يخرج عن الطقوس الفردية والعبادية ، وإنّما هو الإسلام ، الذي يدّعي
إغناء المجتمع عن كل تشريع في جميع حقول الحياة .
الجواب :
إنّ خلود التشريع الإسلامي ، وغناه عن كل تشريع ، مبني على وجود
أمرين فيه :

1 ـ أنّه ذو مادة حيوية ، خلّاقة للتفاصيل مهما كثُرت الحاجات ،
واستجدّت الموضوعات .
2 ـ أنّه ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة ورحابة ، مع مرونة خاصة تساير
الحضارات الإنسانية المتعاقبة . وإليك بيان كلا الأمرين :
أما الأمر الأول : فقد أحرزه بتنفيذ أُمور :
1 ـ الإعتراف بحجيّة العقل في مجالات خاصة
اعترف القرآن والسنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصة ، مما يرجع إليه
القضاء فيها ، ولا يكون هو أجنبيّاً بالنسبة إليها ، وذلك كما في باب الملازمات التي
ستأتي الإشارة إلى عناوينها . وليس المراد من حجّيته ، أنّه يُطلق سراحه في مجال
التعبديّات التي لا طريق إليها إلّا بالوحي ، فإنّه لا صلاحية له في ذاك المجال .
وأمّا الملازمات التي تعدّ من الأحكام العقلية القطعية ، وهي مرادهم من
قولهم بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فأمثلتها :
أ ـ الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته .
ب ـ الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده .
ج ـ الملازمة بين عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، وبطلان العبادة .
د ـ الملازمة بين النهي عن العبادة والمعاملة ، وفسادهما .
ه ـ الملازمة بين المنطوق والمفهوم في القضايا الشرطية ، أو الوضعية ، أو
المُغَيَّاة بغاية .
ونظير ذلك ما يستقل به العقل من أحكام عقلية تلازم أحكاماً شرعية ،
كاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان ، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلّا
بالبيان . واستقلاله بلزوم الإجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات
التحريمية ، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية ، واستقلاله بإجزاء


إطاعة الأوامر الإضطرارية أو الأوامر الظاهرية ، وغير ذلك . ولعلّ الكلّ يرجع
إلى مبدءٍ واحد ، وهو استقلاله بالتحسين والتقبيح الذاتيين ، وهذا هو المنتج لهذه
الملازمات والأحكام .
وقد فتح هذا الإعتراف ، للإسلام ، باب البقاء والخلود ، وغدا التشريع
الإسلامي في ضوئه ذا سعة وشمول لكثير من الموضوعات المستجدة أو غيرها مما لم
يذكر حكمه في الكتاب والسنّة .
نعم ، مَنْ أعدم العقل وعزله عن الحكم في مجالاته الخاصة به ، أَعطى
للإسلام ولقوانينه سمة الجمود ، وعدم الشمول كما أنّ مَنْ فَسَح المجال للعقل ،
للحكم في كل مورد ليس له طريق إليه ، جعل التشريع الإسلامي لعبة تتلاعب
بها الأهواء .
وبما أنّ هذا البحث ، بحث يرجع إلى علم أُصول الفقه ، نقتصر على هذا
القدر ، ونختم الكلام بحديث عن الإمام الطاهر ، موسى بن جعفر الكاظم ،
وهو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم ، بقوله :
« إنّ لله على الناس حجتين ، حجةً ظاهرة ، وحجةً باطنة ، فأمّا الظاهرة
فالرسل والأنبياء ، والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول » (1) .
2 ـ الإعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد
الأحكام الشرعية ـ حسب ما ينصّ عليه الكتاب ـ تابعة للمصالح
والمفاسد ، فلا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ، ولا فريضة إلّا لمصلحة في الإتيان بها .
ولا يراد من المصالح والمفاسد خصوص الدنيوية ، بل الأعمّ مما يرجع إلى سعادة
البشر في دنياه ، وفي أُخراه .
يقول سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) (2) .
__________________
(1) الكافي ، ج 1 ، ص 16 .
(2) سورة المائدة : الآية 91 .

فإذا كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وكانت الغاية المتوخاة من
تشريعها هي الوصول إلى المصالح والتحرز عن المفاسد ، وبما أنّ المصالح والمفاسد
ليست على وزانٍ واحد ، بل لها درجات ومراتب ، عَقَدَ الفقهاءُ باباً لتزاحم
الأحكام وتصادمها ، فيقدمون الأهمّ على المهم ، والأكثر مصلحة على الأقل منه ،
والأعظم مفسدة على الأحقر منه . وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثيرٍ من
المشاكل الإجتماعية ، التي ربما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك
الحياة .
ومن أمثلته : إنّ تشريح بدن الإنسان في المختبرات ، من الأُمور الضرورية
الحيوية التي يتوقف عليها نظام الطب اليوم . غير أنّ هذه المصلحة تصادمها حرمة
التمثيل بالميِّت ، مسلماً كان أو كافراً ، ولكن عناية الشارع بالصحّة العامة تجعل
إحراز هذه المصلحة مقدّمة على المصلحة الأُخرى ، وهي حرمة الميت ، ولكن يقدم
في هذا المجال بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف ،
وهكذا . وفي ضوء هذا المثال نقدر على طرح أمثلة كثيرة .
3 ـ الكتاب والسنّة مادة خصبة للتشريع
إنّ الكتاب والسُّنّة مشتملان على أصول وقواعد ، تفي باستنباط آلاف من
الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال .
وهذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأُمم ،
أغنت المسلمين عن التمسّك بكل تشريع سواه .
وتتجلى تلك الحقيقة إذا وقفنا على مرمى حديث الثقلين ، وأنّ العِتْرة
الطاهرة ، قرناء القرآن وأعداله ، لا يفترقان أبداً ، ففي ضوء الأحاديث الواردة
عن الأئمة الإثني عشر من أهل بيت الرسول الأعظم ، قَدِرَ التشريع الإسلامي
ـ على مذهب الإمامية ـ على استنباط أحكام الموضوعات المستجدة الكثيرة ،
بوضوح وانطلاق ، ولم يُرَ هناك قُصور فيه .
نعم ، إنّ من اقتصر في مجال السنّة على خصوص ما روته الصحابة عن


النبي الأكرم ، لم يَرَ بدّاً من اللجوء إلى مقاييس وقواعد ظنية ما أنزل الله بها من
سلطان ، كالقول بالقياس والإستحسان والإستقراء ، وغيرها من الظَّنِّيات التي
نَهَى الشارع المقدس عن التعبد بها في مجال العبودية ، بقوله : ( قُلْ آللَّـهُ أَذِنَ لَكُمْ
أَمْ عَلَى اللَّـهِ تَفْتَرُونَ ) ؟ (1)
هذا ، وإنّ الأحاديث الإسلامية في مجال الأحكام الفرعية ، الواردة عن
طريق الصحابة ، المنتهية إلى النبي الأكرم ، لا تتجاوز خمسمائة حديث ، تَمُدّها
أربعة آلاف (2) .
ومن المعلوم أنّ هذا المقدار من الأحاديث لا يفي بحاجات المجتمع البشري
إلى يوم القيامة ، وهذا يعرب عن أنّ الرسول لم يترك الأُمّة سدىً ، ولم يدفعهم إلى
العمل بمقاييس ظنية لا دليل عليها ، وإنّما عالج هذه الناحية الحيوية بالأمر
بالرجوع إلى عترته الطاهرة .
إنّ من المؤسف جداً ، رفض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام ، الذين اعترف القريب والبعيد بطهارتهم ووثاقتهم وعُلُوّ شأنهم ،
والأخذ بمقاييس ظنية ، وإدارة رحى التشريع بها .
« وَدَعَ عَنْكَ نَهَباً صيح في حجراتِهِ » .
4 ـ تشريع الإجتهاد
المراد من الإجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن
مصادرها المعيّنة ، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه به تحفظ غضاضة
الدين وطراوته ، ويصان عن الإندراس ، وبالتالي يستغني المسلمون عن موائد
الأجانب .
أمّا لزوم فتح هذا الباب ، ولا سيما في العصر الحاضر فليس شيئاً يحتاج إلى
__________________
(1) سورة يونس : الآية 59 .
(2) لاحظ الوحي المحمدي ، لمحمد رشيد رضا ، الطبعة السادسة ، ص 212 .

البرهنة ، إذ لم تزل الأُمّة الإسلامية ، في أعصارها الغابرة والحاضرة ، أمام
موضوعات مستجدة وطارئة ، فيجب عليها عند ذلك أن تختار سلوك أحد السبل
التالية :
ـ إمّا بذل الوُسْع في استنباط أحكامها من الكتاب والسُّنّة والعقل .
ـ أو اتّباع القوانين الوضعية البشرية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة .
ـ أو الوقوف والسكوت من غير إفتاء .
ولا شك أن المتعين هو الأول .
وقد كان الإجتهاد مفتوحاً بصورته البسيطة بين الصحابة فالتابعين ، كما أنّه
لم يزل مفتوحاً على مصراعيه بين أصحاب الأئمة الإثني عشر ، وهم الذين قالوا
لشيعتهم : « إنّما علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع » (1) .
وإنّ من مواهب الله تعالى ، العظيمة ، على الأُمّة الإسلامية ، تشريع
الإجتهاد ، وفسح المجال لعلماء الأمّة لأن يناقشوا أفكارهم ، فلم تقم للإسلام
دعامة ، ولا حفظ كيانه ونظامه إلّا على ضوء هذه البحوث والمناقشات العلمية وردّ
صاحب فكر على ذي فكر آخر ، وقد حكى شيخنا العلامة المتضلع ، شيخ
الشريعة الأصفهاني ـ رحمه الله ـ عن بعض الأعلام ، قوله : « إنّ عدم محاباة
العلماء ، بعضهم لبعض ، من أعظم مزايا هذه الأُمّة ، التي أَعْظَمَ الله بها عليهم
النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدية إلى تحريف ما
فيهما ، واندراس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلّا بيّنوه ،
ولفاعل فيه اعوجاج إلّا قوّموه ، حيث اتّضحت الآراء وانعدمت الأهواء ، ودامت
الشريعة البيضاء ، على مِلىء الآفاق بأضوائها ، مأمونة عن التحريف ، ومصونة
عن التصحيف » (2) .
وقد جَنَت بعض الحكومات الإسلامية ، حيث أقفلت باب الإجتهاد ، في
__________________
(1) الوسائل ، ج 18 ، كتاب القضاء ، الباب السادس من أبواب صفات القاضي ، الحديث 52 .
(2) إبانة المختار ، ص 1 .

أواسط القرن السابع ، وحرمت الأُمّة الإسلامية من هذه الموهبة العظيمة ، يقول
المقريزي :
« استمرت ولاية القُضاة الأربعة ، من سنة 665 ، حتى لم يبق في مجموع
أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام ، غير هذه الأربعة وعودي من
تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يُوَلَّ قاضٍ ، ولا قُبلت شهادة أَحد ، ما لم يكن
مقلداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار ، في طول هذه المدة ،
بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم » (1) .
ومن بوادر الخير أَنْ وَقَفَ غيرُ واحدٍ من أهل النظر من علماءِ أهل السنة ،
وقفة موضوعية ، وأحسّوا بلزوم فتح هذا الباب بعد قفله قُرُوناً (2) .
5 ـ حقوقُ الحاكِم الإسلامي
من الأسباب الباعثة على كون التشريع الإسلامي ، صالحاً لحلّ المشاكل ،
أنّه منح للحاكم الإسلامي كافة الصلاحيات المؤدية إلى حقّ التصرّف المطلق في كل
ما يراه ذا صلاحية للأُمّة ، ويتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ
المطلق ، إلّا ما يعد من خصائصهما .
مثلاً : إذا رأى الحاكم أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع في أملاك
الناس ، فَلَهُ أَنْ يُقَرِّرَ وينفِّذَ ما يحقّق هذه الغاية في ضوء العدل والإنصاف : فله
أن يُجْبِرَ أصحابَ الأراضي التي يمرّ بها الطريق ، على بيع أراضيهم أو يشتريها بثمن
مناسب .
أو إذا أراد رفع المعيشة العامة إلى مستوى خاص ، فله وضع الضريبة على
صنف خاص من أبناء الشعب ، أو كلّهم لتأمين هذه الغاية .
__________________
(1) الخطَطُ المقريزية ، ج 2 ، ص 344 .
(2) لاحظ تاريخ حصر الإجتهاد ، لشيخنا العلامة الطهراني ، ودائرة المعارف لفريد وجدي ، مادة
« جهد » و « ذهب » . وغير ذلك ممّا أُلف في هذا المضمار .

كما أنّ له أن يقرر ما يراه مناسباً لتنظيم السير في الشوارع ، متوخياً في
ذلك سلامة النفوس ، وسهولة الذهاب والإياب ، كلّ ذلك في إطار العدل
والإنصاف والقوانين العامة الإسلامية .
قال المحقق النائيني رحمه الله : « فُوّضَ إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يَراهُ
لازماً من المقررات ، لمصلحة الجماعة وسدّ حاجاتها في إطار القوانين
الإسلامية » (1) .
وهذه الحقوق ثابتة للنبي الأكرم ، لقوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنفُسِهِمْ ) (2) .
كما أنّها ثابتة لخلفائه المعصومين ، وبعدهم لعلماء الأمّة وفقهاء الدين الذين
أُلقيت على كواهلهم أُمور تدبير حياة الأُمّة ، وصيانة الشريعة .
وهناك كلمة قيمة للإمام الخميني ـ قدّس سرّه ـ نأتي بنصّها :
« إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من
أقطار الإسلام ، أو في مناطقه كلّها ، وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات
اللازمة ، وأخصّ بالذكر : العلم الوسيع ، والعدل ، يجب على المسلمين
إطاعته ، وله من الحقوق والمناصب والولاية ، ما للنبيّ الأكرم من إعداد القوات
العسكرية ، ودعمها بالتجنيد ، وتعيين الوُلاة وأخذ الضرائب ، وصرفها في
محالّها ، إلى غير ذلك . . .
وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحُكّام الإسلاميين ، مثل النبي والأئمة في
جميع الشؤون والمقامات ، حتى الفضائل النفسانية ، والدرجات المعنوية ، فإنّ
ذلك رأي تافِهٌ لا يُركنُ إليه ، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المحولة إلى الحاكم
الإسلامي ، والموضوعة على عاتقه ، لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية ،
__________________
(1) تنبيه الأمّة وتنزيه المِلّة ، ص 97 .
(2) سورة الأحزاب : الآية 6 .

فإنّهم صلوات الله عليهم ، في هذا المضمار ، في درجة لا يدرك شأوهم ، ولا يشق
لهم غُبار ، حسب روائع نصوصهم وكلماتهم .
وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها على سائر المحكومين ، بل هي من
وجهة النظر الإسلامية مسؤولية إجتماعية كبرى أمام الله سبحانه أوّلاً ، وأمام
المسلمين ثانياً . والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم وسياسة
العباد ، ليس لها أي ارتباط بالمُثُل الخلقية والصفات النفسانية » (1) .
ثم إنّ البحث حول حقوق الحاكم الإسلامي ، الذي يمهّد الطريق لسيادة
الأحكام الإسلامية طويل الذيل يرجع فيه إلى مفاهيم القرآن (2) .
وأمّا الأمر الثاني ، وهو أنّ التشريع الإسلامي ينظر إلى الكون والمجتمع
بسعة ورحابة ، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة ، فقد أحرز
ذلك بتحقيق أُمور ثلاثة :
1 ـ النظر إلى المعاني دون الظواهر
الإسلام يهتم بالمعنى دون الظاهر ، وهذه إحدى العِلَل لبقاء أحكامه
وخلودها ، وقد أوضحنا حال ذلك عند البحث عن إتّقان التشريع والتقنين
الإسلامي .
__________________
(1) ولاية الفقيه ، للإمام السيد الخميني ، ص 63 ـ 66 . وقد كان سماحته حيّاً يرزق ونحن نجري
القلم على هذه المواضع ، لكنه لبّى دعوة ربّه والتحق بالرفيق الأعلى ليلة الأحد التاسع والعشرين
من شهر شوال عام 1409 للهجرة . وقد كان ـ قدّس الله سرّه ـ رجلاً مثالياً في التقوى ، وبطلاً في
العلم ، ومجاهداً مناضلاً في سبيل إعلاء كلمة الحق . وبالحق كان مصداقاً لقول الشاعر :
ليس من الله بِمُسْتَنْكر
أَنْ يَجْمَعَ العالَم في واحدٍ

أعلى الله مقامه ، ورفع في الجنان درجته .
(2) قد أشبع شيخنا الأستاذ ـ دام ظله ـ الكلام في هذا المضمار ، فلاحظ « مفاهيم القرآن » ، ج 2 ،
ص 265 ـ 296 .

2 ـ الأحكام التي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وصلاحيته للبقاء ، وجود قوانين
حاكمة على القوانين العامة ، مثل قاعدة ، « لا حرج » ، و « لا ضَرَرَ » ، وغير
ذلك مما أوضحنا حاله عند البحث عن إتقان التشريع والتقنين الإسلامي .
3 ـ الإسلام شريعة وُسْطى والأُمّة الإسلامية أُمّة وَسَط
من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام للبقاء والخلود ، كونه ديناً جامعاً
بين الدعوة إلى المادة ، والدعوة إلى الروح ، وديناً وسطاً بين المادية البحتة ،
والروحيّة المحضة ، وبذلك جاء شريعة تامّة لم تعطّل الفطرة في تشريعاتها ، ولم
تلقي حبلها على عاتقها لتخرج عن حدودها ، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح
العباد ، ومن الآخرة مثله .
فكما أنّ الإسلام ندب إلى العبادة ، ندب إلى طلب الرزق أيضاً ، بل ندب
إلى ترويح النفس ، والتخلية بينها وبين لذاتها .
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : « للمؤمن ثلاثُ ساعات ، ساعةٌ
يُناجي فيها ربَّه ، وساعة يَرُمّ فيها معاشه ، وساعةٌ يُخلّي بين نفسه ولذّاتها » (1) .
فقد قرن بين عبادة الله ، وطلب الرزق ، وترفيه النفس ، بحيث جعل
الجميع في مستوى واحد .
فكما أنّ أداء الصلاة والصوم ، والحج ، وظائف دينية ، فكذلك إنّ شقَّ
الطريق لطلب الرزق والمعاش ، والقيام بنزهة بين الرياض ، أو سباحة في
الأحواض ، والأعمال الرياضية البدنية ، وظيفة دينية للمؤمن ، ولأجل هذا
ينسجم الإسلام مع الحضارات المتواصلة .
  
__________________
(1) نهج البلاغة ، باب الحِكم ، رقم 390 .

هذه هي الخاتمية ، ودلائلها المشرقة ، وشبهاتها الضئيلة ، وأسئلتها المهمة ،
وأجوبتها الرصينة ، طرحناها معرض البحث والتنقيب ، ولم يكن رائدنا إلّا تبنّي
الحقيقة ، متجرّدين عن كل رأي مسبق لا دليل عليه .

مقتبس من كتاب : الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل / المجلّد : 3 / الصفحة : 519 ـ 529

 

أضف تعليق

النبوة

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية