قصة السقيفة

البريد الإلكتروني طباعة

قصة السقيفة

أعقب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمور خطيرة ، جرَّت وراءها فتناً عديدة غيَّرت مسار الإسلام الذي أراده الله تعالىٰ وأراده رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. تمخَّضت هذه الأحداث عن تعيين الناس الخليفة ، وجثمان النبيِّ العظيم لم يوارَ في التراب بعد ، والإمام عليٌّ عليه السلام وبنو هاشم ـ وجمع من المهاجرين والأنصار ـ منهمكون بجثمان النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم حافِّين به يودِّعونه في آخر ساعات وجوده علىٰ أرض المعمورة. لقد انقطع الوحي ، ورحل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وينتظرُ أمته من بعده أمرٌ خطير ..

في هذه اللحظات المؤلمة الشديدة ، وبعد ساعة من انقطاع الوحي ، استغلَّ عمر بن الخطَّاب فرصة الخلاف بين الأوس والخزرج ونبأ اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة ، يتداولون فيها أمر الخلافة بعد رسول الله ، خوفاً علىٰ مستقبل الأنصار ، فيما لو كانت الخلافة بيد قريش ! فأخذ عمر بن الخطَّاب بيد أبي بكر وانخرطا من بين الجموع الحاشدة بجثمان النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيصحبهما أبو عبيدة إلىٰ سقيفة بني ساعدة ، ليتمَّ تنفيذ « البيعة الفلتة » ! لخليفة رسول الله علىٰ أُمَّته.

على أي حال انضم الثلاثة إلىٰ تجمُّع الأنصار ، وبعد أن دار جدل عنيف ، غلبهم المهاجرون ؛ لأنَّهم « أوَّل من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته ، وأحقُّ الناس بهذا الأمر بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلَّا ظالم .. وأنتم يا معشر الأنصار لا يُنكر فضلكم في الدين ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام ، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله .. فنحن الأمراء وأنتم الوزراء » ! علىٰ حدِّ تعبير أبي بكر (1).

ولمَّا عارض أحد الأنصار بذكر فضائلهم ونصرتهم للنبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعدم تسليم الأمر للمهاجرين ، ردَّ عليه عمر بقوله : « هيهات لا يجتمع سيفان في غمد ، والله لا ترضىٰ العرب أن تؤمِّركم والنبيُّ من غيركم ، ولا تمتنع العرب أن تولِّي أمرها من كانت النبوَّة فيهم ، ولنا بذلك الحجَّة الظاهرة ، من نازعنا سلطان محمَّد ونحن أولياؤه وعشيرته إلَّا مدلٍ بباطلٍ ، أو متجانفٍ لإثمٍ ، أو متورِّطٍ في هلكة » !!

هذه حجَّتهم الظاهرة : قوم محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أولياؤه وعشيرته لا ينازعهم علىٰ سلطان محمَّد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلَّا ظالم ، متجاهلين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام الذي بايعوه وبايعه مئة ألف أو يزيدون في غدير خمٍّ ، وبعد فهو أقرب الناس إلىٰ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في العلم والزهد وسائر الصفات المستلزمة للإمامة والولاية العامة وأخصُّهم به ، وهو ابن عمِّه الذي نشأ في بيته ، كما نشأ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في بيت أبيه أبي طالب !

فقال بشير بن سعد ـ أحد زعماء الأنصار ـ : « يا معشر الأنصار ، إنَّا والله وإن كنَّا أولي فضيلة وسابقة في الدين ، إلَّا أنَّ محمَّداً من قريش وقومه أولىٰ به ، وأيمُ الله لا يراني الله أُنازعهم هذا الأمر أبداً ».

فقال أبو بكر : هذا عمر ، وهذا أبو عبيدة ، فأيُّهما شئتم فبايعوا .. فأدار عمر ظهره لأبي بكر ، وقال لأبي عبيدة : ابسط يدك أُبايعك ، فأنت أمين هذه الأُمَّة !! ولمَّا امتنع أبو عبيدة ، أدار عمر إلىٰ أبي بكر ، فبسط يده وصفق عليها ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فبويع أبو بكر ، بايعه أبو عبيدة وبشير بن سعد الخزرجي ، ثُمَّ بايعه الأوس. وتمَّت مسرحية « السقيفة » وقد مثَّل دور البطولة فيها أبو بكر وعمر !

وما أن انتصف نهار اليوم حتىٰ تمَّت بيعة أبي بكر بهذا النحو ، الذي كان مفاجأة لأكثر الناس ، وأخذوا يزفُّون عبدالله بن عُثمان التيمي ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ إلىٰ مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتكون بيعته علىٰ نطاق أوسع !

تسرَّب نبأ السقيفة والبيعة في أرجاء المدينة المنوَّرة ، علىٰ ساكنها السلام ، كلُّهم علموا بخبر البيعة ، إلَّا عليٌّ وبنو هاشم ومن معهم ، حيث كانوا مع مصيبة وداع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم !

فانطلق البراء بن عازب وجاء يضرب باب بني هاشم قائلاً : يا معشر بني هاشم ، قد بويع أبو بكر !

سادت لحظة هدوء ، متسائلين : ما كان المسلمون يُحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولىٰ بمحمَّد ، لكنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب لم يستغرب هذا الفعل منهم ، فقال : فعلوها وربِّ الكعبة !!

ولمَّا كان اليوم الثاني ، وبعد أن واروا جثمان النبي الطاهر ، انحاز مع عليِّ بن أبي طالب عليه السلام بنو هاشم جميعاً ، ومعهم طائفة من المهاجرين والأنصار ، اعتقاداً منهم بحقِّ عليٍّ في الخلافة (2).

فقال الأنصار : لا نبايع إلَّا عليَّاً ، وقال الزبير : لا أغمد سيفاً حتىٰ يُبايع علي ، وانظم وانحاز في بيت عليٍّ وفاطمة عليهما السلام : المقداد بن عمرو ، وخالد بن سعيد ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذرٍّ الغفاري ، وعمَّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب ، وحذيفة بن اليمان ، وابن التيهان ، وعبادة بن الصامت (3) ، كلُّهم يرفضون البيعة لابن أبي قحافة ، للسبب الآنف ذكره ..

إضافةً إلىٰ ذلك فقد اعتصم جماعة من الأنصار في أحيائهم ، فجاء عبدالرحمن بن عوف يعاتبهم علىٰ تخلُّفهم عن بيعة الخليفة ، ويذكر لهم حقَّه بقرابته من رسول الله ، وما شابه ذلك من الحجج التي يتشبَّثون بها ، من أجل إثبات حق أبي بكر بالخلافة ، وأنَّه أولىٰ بها من غيره ، فردَّ عليه جماعة الأنصار : « إنَّ ممَّن سمَّيت من قريش ، مَنْ إذا طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد : عليُّ بن أبي طالب » !

هذا أحد المواقف ضد الاتجاه الذي نال خلافة رسول الله بالغلبة ! وموقف آخر يمكن أن نقتبس منه بعض الأقوال ، كقول الفضل بن عبَّاس ، الذي قام خطيباً وأجاد حيث قال : « يا معشر قريش : إنَّه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه ! ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولىٰ بها منكم » (4) ، ويقصد بصاحبنا عليَّ بن أبي طالب عليه السلام.

وأنشد عتبة بن أبي لهب ، معرباً عن أولوية علي عليه السلام برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبأمر الخلافة ؛ إذ يقول :

ما كنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصرفٌ

 

عن هاشمٍ ثُمَّ منها عن أبي الحسنِ

عن أوَّل الناس إيماناً وسابقةً

 

وأعلم الناس بالقرآن والسننِ (5)

وكان المهاجرون والأنصار لا يشكُّون في عليٍّ عليه السلام (6).

وما كان من أبي بكر إلَّا أن ينتظر عليَّاً عليه السلام وأصحابه أن يبايعوه ! ولمَّا تأخَّرت بيعتهم أرسل عمر بن الخطَّاب إلىٰ بيت عليٍّ عليه السلام ، فنادىٰ عليَّاً وأصحابه وهم في الدار فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب ليحرق البيت ومن فيه ، فقيل له : إنَّ فيه فاطمة !

قال : وإن (7) !!

لكنَّهم اقتحموا بيت عليٍّ عليه السلام .. وقد ثبت عن أبي بكر قوله ، حين حضرته الوفاة : « وددت أنِّي لم أكشف عن بيت فاطمة ، وتركته ولو أُغلق علىٰ حرب » (8).

أتىٰ قنفذ ـ رسول الخليفة الجديد ـ عليَّ بن أبي طالب عليه السلام فقال : يدعوك خليفة رسول الله. فقال عليه السلام : « لسريع ما كذَّبتم علىٰ رسول الله » !

فرجع فأبلغ أبا بكر قوله ، فبكىٰ أبو بكر طويلاً ! فبعثه مرَّةً أُخرىٰ بتحريض من عمر ، فقال : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع ، فقال عليه السلام بصوت مرتفع : « سبحان الله ! لقد ادَّعىٰ ما ليس له ». فرجع قنفذ وأبلغه كلام عليٍّ فبكىٰ أبو بكر طويلاً ..

أمَّا عمر فتعجَّل الأمر ، وأتىٰ بيت عليٍّ مع جماعة وطرقه بشدَّة ، فلمَّا سمعت فاطمة أصواتهم نادت : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطَّاب وابن أبي قحافة » ؟!

فانصرف القوم باكين لبكائها ومناجاتها أباها ، إلَّا عمر لم يتصدَّع قلبه لبكاء ابنة رسول الله وبضعته ، فبقي معه جماعة ، حتىٰ أخرجوا عليَّاً عليه السلام فمضوا به إلىٰ أبي بكر ، وعرضوا عليه البيعة فأجابهم بكلِّ ثبات وعزيمة : « أنا أحقُّ بهذا الأمر منكم ، لا أُبايعكم وأنتم أولىٰ بالبيعة لي ».

فقالوا : نضرب عنقك !!

فقال عليه السلام : « إذن تقتلون عبد الله وأخا رسوله » !

فقال عمر : أمَّا عبد الله فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا !

وأبو بكر ساكت ! ثُمَّ قال عمر لأبي بكر : ألا تأمر فيه بأمرك ؟!

فأجابه الخليفة : لا أُكرهه علىٰ شيء مادامت فاطمة إلىٰ جنبه !

فلحق عليٌّ عليه السلام بقبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، يصيح ويبكي وينادي : « يا ابن أمِّ إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » (9).

وهكذا وقع سريعاً تأويل ما أخبر به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً عليه السلام :

قال الإمام علي عليه السلام : « إنَّ ممَّا عهد إليَّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنَّ الأُمَّة ستغدر بي بعده » (10).

وفي رواية أُخرىٰ قال عليه السلام : « بينما كنَّا نمشي أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم آخذ بيدي .. فلمَّا خلا له الطريق اعتنقني ثُمَّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟

قال : ضغائن في صدور أقوام ، لا يبدونها لك إلَّا من بعدي » (11).

الهوامش

1. الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٤ ـ ١٥ ، مكتبة ومطبعة مصطفىٰ بابي الحلبي ـ مصر ١٩٦٩ م.

2. صحيح مسلم ـ الجهاد والسير ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ، صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر ٥ : ٢٨٨ / ٤٥٦ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٢٣١.

3. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٣ ، ابن أبي الحديد ٢ : ٤٩ ، ٥٦ و ٦ : ١١ ، وزاد في ١ : ٢٢٠ حذيفة وابن التيهان وعبادة بن الصامت ، وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٨ ، الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٩ ، ١٩٤ ، تاريخ الخلفاء : ٥١ ولم يذكروا الأسماء.

4. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

5. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

6. تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤ ، شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١ وغيرها.

7. أنظر قصَّة هذا الحدث في : الإمامة والسياسة ١ : ١٢ ، شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦ ، ٦ : ٥٨ ، ٢٠ : ١٤٧ ، تاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٤ ، العقد الفريد ٥ : ١٢.

8. الإمامة والسياسة ١ : ٢٤ ، تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠.

9. أنظر : شرح النهج ٢ : ٥٦ ، ٦ : ١١ ، الإمامة والسياسة : ١٢ ـ ١٣ ، تاريخ اليعقوبي ـ مختصراً ـ ٢ : ١٢٦ ، الفتوح ابن أعثم ١ : ١٣ ، دار الكتب العلمية ، ط ١ ـ ١٤٠٦ هـ.

10. المستدرك ٣ : ١٤٠ ، ابن عساكر ٣ : ١٤٨ / ١١٦٤ ـ ١١٦٨ ، تذكرة الحفَّاظ ٣ : ٩٩٥ ، ابن أبي الحديد ٦ : ٤٥ ، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٩٩٧ ، الخصائص الكبرىٰ ٢ : ٢٣٥.

11. مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩ ، ابن أبي الحديد ٤ : ١٠٧ ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٨ ، كنز العمَّال. ١٧٦١٣ / ٤٦٥٣٣.

مقتبس من كتاب : [ الإمام علي عليه السلام سيرة وتأريخ ] / الصفحة : 135 ـ 141

 

أضف تعليق

السقيفة والشورى

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية