فيا لله وللشورى

البريد الإلكتروني طباعة

فيا لله وللشورى

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية الّتي تفجّر فيها غضباً وتميّز غيضاً : « حتى إذا مضى ـ يعني عمر ـ لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى ؟ متى اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ؟ لكنّي أسففتُ إذ أسفـّوا وطرت إذ طاروا فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هن وهن ».

بهذه الكلمات الحارة اختصر الحدَثَ في الحديث عن الشورى ، ولسنا بصدد الحديث عنها ولكننا بصدد ذكر ما له دور في استبعاد الهاشميين ـ ومنهم ابن عباس طبعاً ـ عن القيادة.

فلننظر أوّلاً إلى الأدوار الّتي وزّعها عمر بعدما طعن ، فهو قد سمّى النفر الستة عليّاً وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف. على أن يختاروا أحدهم فيكون هو الخليفة. ثم ضيّق دائرة الاختيار وجعله لخمسة إن اتفقوا وقتل السادس ، ثم جعله لأربعة إن اتفقوا وقتل الاثنين وأخيراً جعله لثلاثة فيهم ابن عوف إن اتفقوا وقتل الثلاثة الآخرين.

وحدّد الفترة الانتخابية بثلاثة أيام ، وجعل لابنه عبد الله حق الحضور ليكون حَكَماً فإن لم يرضوا بحكمه فالفوز لمن كان عبد الرحمن بن عوف معه. ومن أبى تضرب عنقه كائناً من كان يتولى ذلك أبو طلحة الأنصاري.

فهو بهذا الإجراء التعسفي فيما يراه الهاشميون قد استبعدهم عن أيّ دور فاعل في عملية الشورى حتى عليّ ـ كما سيأتي تصريحه بذلك ـ.

وما رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة من أنّ عمر قال : « واحضروا معكم الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس فإن لهما قرابة وأرجو لكم البركة في حضورهما وليس لهما من أمركم شيئاً » (1) ، فهذا شيء انفرد بروايته ولم أقف عليه عند غيره ، وربما كان من تزيّد الرواة بعد ذلك. وإلّا فلا معنى لأن يذكر الحسن ولا يذكر أخاه الحسين وهما معاً سيدا شباب أهل الجنة ، وهما معاً ريحانتا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهما معاً سبطاه وهما معاً ... فالبركة بحضورهما معاً أتم وأكمل إن كانت البركة هي الداعي للحضور ، كما إن حضور العباس بن عبد المطلب كان أولى من حضور ابنه عبد الله فإنه الّذي استسقى به عام الرمادة ، فبركته أكثر من بركة ابنه عبد الله وان كانت صلته بهذا أوثق.

ومهما يكن نصيب رواية ابن قتيبة من الصحة ـ نظراً لإرسالها سنداً ثم إعلالها متناً ـ فهي على فرض صحتها فلا يغير حضور الحسن وابن عباس شيئاً في ميزان القوى المتصارعة عند التعادل في الاختلاف. ما دام حضورهما لمجرد البركة الّتي يرجوها عمر للمتشاورين.

أمّا الاحتكام والاستشارة فهي لابنه عبد الله أوّلاً ، وما أدري كيف رشّحه لذلك وهو الّذي ردّ على المغيرة بن شعبة بعُنف حين قال له لو استخلفته. فقال : « قاتلك الله والله ما الله أردت بها » (2) ، « ويحك كيف استخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته » (3).

وأمّا الدور الفاعل والقاتل فهو لعبد الرحمن بن عوف فقط وفقط حيث جعل الرجحان في كفـّته كما جعل أمر الصلاة بالناس إلى صهيب الرومي طيلة أيام المشاورة فقال : « وليصل بكم صهيب هذه الثلاثة أيام الّتي تتشاورون فيها فإنه رجل من الموالي لا ينازعكم أمركم » (3).

وأعطى للمقداد بن الأسود دوراً بجمع النفر في بيت حتى يختاروا رجلا منهم (4).

كما أبقى زمام القوة التنفيذية بيد أبي طلحة الأنصاري حين أمره بأن يجمع خمسين رجلاً من الأنصار ليقف على باب البيت الّذي فيه النفر ، فإذا مضت الثلاثة أيام ولم يختاروا ضرب أعناقهم جميعاً.

فأنظر إلى الأدوار الّتي وزّعها في عملية الشورى فلم يجعل لابن عباس ولا لغيره من الهاشميين أي دور يذكر.

كما صنع مع عبد الرحمن بن عوف حين جعل الرجحان في كفته.

أو مع ابنه عبد الله حين جعله مستشاراً ومشيراً.

أو مع صهيب الرومي حين ولاه أمر الصلاة.

أو مع المقداد حين أمره أن يجمع النفر في بيت حتى يختاروا أحدهم.

أو مع أبي طلحة الأنصاري حين أوكل إليه رقابة الموقف لمدة ثلاثة أيام فإن اتفق النفر على أحدهم وإلّا ضرب أعناق الجميع.

كلّ هذا يوحي بأن عمر لازال ـ وهو في آخر حياته كما كان أيامها ـ ثابتاً على موقفه في استبعاد بني هاشم عن أي دور قيادي فيه نحو ترشيح لهم. وأمّا ذكره لعليّ ضمن أصحاب الشورى ، فهو لا يعني شيئاً ايجابياً بقدر ما هو استبعاد له بكلّ المعايير الّتي وضعها من رجحان كفة ابن عوف ، والإمام كان يعلم ذلك مسبقاً ، وإنّما رضي بالدخول في الشورى ليبرهن للناس تناقض عمر في أقواله فبالأمس كان يقول : « لا تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد » ، واليوم رشحه للخلافة ، ولم يكن يخفي ذلك على بني هاشم. ومن هنا عرف الهاشميون أنهم قد استبعدوا عن القيادة ، بل وحتى عن الحضور الفاعل وان لم يغيبّوا عن الساحة كما يتضح ذلك ممّا رواه المفيد في الارشاد بسنده عن أبي صادق قال : « لمّا جعلها عمر شورى في ستة فقال : إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ، خرج أمير المؤمنين عليه السلام من الدار وهو معتمد على يد عبد الله بن العباس فقال : يابن العباس إن القوم قد عادوكم بعد نبيكم كمعاداتهم لنبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته. أم والله لا ينيب بهم إلى الحق إلّا السيف.

فقال له ابن عباس : وكيف ذاك ؟ قال : أما سمعت قول عمر : إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد فكونوا مع الثلاثة الذين عبد الرحمن فيهم واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن ؟ قال ابن عباس : بلى ، قال : أو لا تعلم أنّ عبد الرحمن ابن عم سعد وأنّ عثمان صهر عبد الرحمن ؟ قال : بلى ، قال : فإنّ عمر قد علم أنّ سعداً وعبد الرحمن وعثمان لا يختلفون في الرأي ، وانه من بويع منهم كان اثنان معه ، وأمر بقتل من خالفهم ، ولم يبال أن يقتل طلحة إذا قتلني وقتل الزبير ، أم والله لئن عاش عمر لأعرفنّه سوء رأيه فينا قديماً وحديثاً ، ولئن مات ليجمعني وإياه يوم يكون فيه فصل الخطاب ... اهـ » (6).

« وتلقاه العباس وصار يمشي إلى جانبه فقال : عُدلت عنا. فقال : وما علمك ؟ قال : قُرِن بي عثمان. وقال : كونوا مع الأكثر ، فإن رضي رجلان رجلاً ، ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيولـّيها عبد الرحمن عثمان ، أو يوليها عثمان عبد الرحمن ، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني ، بله إنّي لا أرجو إلّا أحدهما. ومع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلاً علينا لعمر والله ما جعل الله ذلك لهم علينا كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا.

فقال له العباس : الزم بيتك ولا تدخل في الشورى فلا يختلف عليك اثنان » (7).

وفي لفظ آخر قال : « قد أطلق الله يديك فليس لأحدً عليك تبعة. بيعة ظ. فلا تدخل في الشورى عسى ذلك أن يكون خيراً » (8).

ولست بحاجة إلى التعليق على كلمة العباس ، فقد كان رجلاً داهياً كما يقول الإمام فيه وهو يعرف نفسيات النفر المرشحين ، فقد أحسّ بأن القوم سيعدلون عن ابن أخيه إلى غيره ، وإذا حدث ذلك مع حضوره معهم ، كان عليه غضاضة وأشد مضاضة بخلاف لو لم يحضر وحدث ذلك ، فلذلك حاول محتاطاً بهذا التدبير أن يخفف من ألم المعاناة الّتي ستلحق الإمام بحضوره معهم.

ومهما كان نوايا العباس فقد مرت الأيام سراعاً ومات عمر واجتمع النفر فقال العباس لعليّ : « لم أدفعك في شيء إلّا رجعت إليَّ مستأخراً بما أكره : أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت ، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت. وأشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى إلّا تدخل معهم فأبيت ، إحفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم فقل : لا ، إلّا أن يولّوك ، وأحذر هؤلاء الرهط فإنّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر ، حتى يقوم لنا به غيرُنا ، وأيم الله لا نناله إلّا بشرّ لا ينفع معه خير.

فقال عليّ : أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى ، ولئن مات ليتداولنّها بينهم ، ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون » هكذا رواية الطبري (9).

ولعل ذكر عثمان من سهو الرواة والصحيح عمر صاحب الوصية كما أن في رواية ابن أبي الحديد في شرح النهج : « أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرنه ما أتى إلينا قديماً ، ولأعلمنّه سوء رأيه فينا وما أتى إلينا حديثاً ، ولئن مات. وليموتنّ.

ليجتمعنّ هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا ولئن فعلوها وليفعلن ليروني حيث يكرهون والله ما بي رغبة في السلطان ولا حب الدنيا ولكن لإظهار العدل والقيام بالكتاب والسنة » (10).

وقال عليه السلام : « أمّا إني أعلم أنهم سيولون عثمان وليحدثنّ البدع والأحداث ، ولئن بقي لأذكرنّك ، وإن قتل أو مات ليتداولونّها بنو أمية ، وإن كنتَ حيّاً لتجدنّي حيث يكرهون ، ثم تمثل :

حلفتُ بربّ الراقصات عشيةً

 

غدَونَ خِفافا فابتدرنّ المحصّبا

ليحتلبن رهطُ ابن يعمر مارِئا

 

نجيعاً بنو الشدّاخ وِرداً مصلّبا (11)

فعرفنا ممّا مرّ موقف الإمام وموقف عمه العباس من تلك الشورى ، أمّا عن مواقف بقية الهاشميين فحسبنا معرفة رأي ابن عباس ، فقد روى ابن أبي الحديد انّه قال للإمام بعد ما سمع كلام عمر : « ذهب الأمر منا. الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان ، فقال له الإمام : أنا أعلم ذلك ولكني أدخل معهم في الشورى لأنّ عمر قد أهّلني الآن للخلافة ، وكان قبل يقول : إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فانا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته » (12).

فعلى هذا النحو غير المؤثر كان دخول الإمام.

وعلى هذا النحو في الجو المحموم جرت عملية الاقتراع فكان الجدل وكانت الخصومة.

وفي ذلك الجو الصاخب كان احتجاج الإمام بحديث المناشدة بفضائله المؤهلة له دون بقية النفر.

وفي ذلك كان التحرك اليائس من بعض الصحابة حين رأى التدافع.

فقال عمار لعبد الرحمن بن عوف : إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّاً.

وصدّقه المقداد فقال : صدق عمار إن بايعتَ عليّاً قلنا سمعنا وأطعنا.

وقال ابن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان ، إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا ، فشتم عمّار ابن أبي سرح وقال : متى كنت تنصح المسلمين.

فتكلم بنو هاشم وتكلم بنو أمية.

فقال عمّار : أيها الناس إنّ الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه ، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيّكم.

فقال رجل من بني مخزوم (13) : لقد عدوت طورك يا بن سميّة وما أنت
وتأمير قريش لأنفسها.

فقال سعد لعبد الرحمن بن عوف : افرغ قبل أن يفتتن الناس.

فقال عبد الرحمن : إنّي نظرت وشاورت فلا تجعلنّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً. ودعا عليّاً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أعمل بمبلغ علمي وطاقتي.

ثم دعا عثمان فقال له كما قال لعليّ فقال عثمان : نعم فبايعه.

فقال عليّ عليه السلام : حبوته محاباة ( حبو دهر ) ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا من دفعنا عن حقنا والاستئثار علينا وانّها لسنّة علينا وطريقة تركتموها ، أما والله ما وليت عثمان إلّا ليردّ الأمر إليك والله كلّ يوم هو في شأن. دق الله بينكما عطر منشم. فخرج وهو يقول : سيبلغ الكتاب أجله.

فقال عبد الرحمن : يا عليّ لا تجعل على نفسك سبيلاً ، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان أحداً.

فقال المقداد : يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون.

ثم قال : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم ، إنّي لأعجب من قريش انّهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحدا اعلم ولا أقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعواناً.

فقال عبد الرحمن : يا مقداد اتق الله فإنّي خائف عليك الفتنة.

فقال رجل للمقداد : رحمك الله مَن اهل هذا البيت ؟ ومَن هذا الرجل ؟

قال : أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل عليّ بن أبي طالب.

وقال عليّ : إنّ الناس ينظرون إلى قريش ، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول : إن وُلي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم (14).

وروى الطبري عن المسور بن مخرمة قال : « وتلكأ عليّ فقال عبد الرحمن ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (15) » (16).

إلّا أنّ البلاذري روى : « إنّ عبد الرحمن قال لعليّ : بايع وإلّا ضربت عنقك » (17) ـ ولم يكن مع أحدٍ يومئذ سيف غيره ـ فيقال : أنّ عليّاً خرج مغضباً فلحقه أصحاب الشورى وقالوا : بايع وإلّا جاهدناك ، فأقبل معهم يمشي حتى بايع عثمان وهو يقول ـ كما في الطبري ـ : « خدعة وأيّما خدعة » (18).

وهكذا تمت البيعة لعثمان وسمّاها الإمام خدعة وأيّما خدعة ، فإن الشورى بدءاً من وصية عمر ومروراً بما قام به عبد الرحمن وانتهاء بتهديد الإمام إن لم يبايع ، كلها أدوار لمسألة محبوكة بحنكة لتولية عثمان دون غيره.

وحسبنا ما مرّ من قول عمر نفسه : « والذي نفسي بيده لأردنّها إلى الّذي دفعها إليّ أول مرّة » (19) ، ومن هو ذاك إلّا عثمان. هذا وغيره ما يؤكد استبعاد بني هاشم عمداً ، فلا غرابة إذن فيما إذا روى البياضي في كتابه الصراط المستقيم كلاماً لابن عباس في ذلك اليوم فقال : « وأسند الحاجب إلى ابن عباس أنه قال يوم الشورى : كم تمنعون حقنا ؟ وربّ البيت إن عليّاً هو الإمام والخليفة ، وليملكنّ من ولده أئمّة أحد عشر يقضون بالحقّ : أولهم الحسن بوصية أبيه إليه ، ثم الحسين بوصية أخيه إليه ، ثم ابنه عليّ بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه محمّد بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه جعفر بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه موسى بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه عليّ بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه محمّد بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه عليّ بوصية أبيه إليه ، ثم ابنه الحسن بوصية أبيه إليه ، فإذا مضى فالمنتظر صاحب الغيبة ، قال عليم ـ الراوي ـ لابن عباس من أين لك هذا ؟ قال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علم عليّاً ألف باب فتح له من كلّ باب ألف باب ، وإنّ هذا من ثَمّ » (20).

وأخيراً فقد قرأنا فيما مرّ حقبة من تاريخ حبر الأمة عبد الله بن عباس في أيام عمر ، وهي حقبة مليئة بالمفاجآة والمحاورات ، كشفت لنا خبايا وزوايا في التاريخ قد يجهلها الكثيرون ممن هم عمريون أكثر من عمر وقد تحرّيت ما وسعني البحث الدقة في إبراز الصورة لهما بكل جوانبها سواء المضيء الناصع والمعتم المظلم ، دون حسابات التعظيم والتفخيم للأشخاص ، فإنهم بشر مثلنا وكلهم من بني ادم. فهم يحسنون ويسيئون ، وطباعهم كطبائع الناس ، يغضبون عند الاثارة والاستفزاز ويثورون لحدّ الاشمئزاز ، وما في ذلك من نقد أو تجريح ، بل ذلك هو المنظار الصحيح ويبقى عمر في نظر ابن عباس وقد أجاب من سأله عنه فقال : « كان كالطير الحذر الّذي يرى أن له بكلّ طريق شركاً يأخذه » (21).

كما كان ابن عباس في نظر عمر وقد قال لمن تسخّط تقريبه من المهاجرين : « ذاكم فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول » (22).

كما تبقى الشورى سلعة بائرة في سوق الاستخلاف ، ومجرد اسم تلعب به

الشفاه أفرغ منه مضمونه كما يقول عبد الفتاح عبد المقصود (23).

ولم يكتب لهذه الطريقة حظ في الحياة ، فإنّ أحداً من الخلفاء لم يلجأ إليها بعد عمر كما يقول الدكتور منير العجلاني (24).

وما من شك في أن النظام الّذي وضعه للشورى قد كان نظاماً لا يخلو من نقص ، ولعله لا يخلو من نقص شديد كما يقول الدكتور طه حسين (25).

فممّا لا ريب فيه إنّ عدم النص على الخليفة أو تعيين الانتخاب في عدد مخصوص أوجد حزبية وبيلة وهيأ لها أن تعمل أسوأ أعمالها ولم تقف عند حدود النجاح في الانتخاب فحسب ، بل استقرت على وجه دائم لتقضي على الخصوم والأحزاب المناوئة. كما يقول الشيخ العلائلي (26).

وقال معاوية : وانّه لم يشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلّا الشورى الّتي جعلها عمر إلى ستة نفر ، وذلك إنّ الله بعث محمّداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون فعمل بما أمره الله به ، ثم قبضه الله إليه. وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمر دينهم ، فعمل بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسار بسيره حتى قبضه الله إليه. واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته ، ثم جعلها شورى بين ستة نفر ، فلم يكن رجل منهم إلّا رجاها لنفسه ورجاها له قومه ، وتطلعت إلى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف (27).

ولو اختير عليّ أو الزبير بن العوام لتغير وجه التاريخ ولكنهم اختاروا ألينهم ناظرين في اختياره إلى أن العرب كانوا قد سئموا حكم عمر في شدته وهراوته.

هكذا يقول أحمد أمين (28).

إلى غير ذلك من آراء حول الشورى ورجالها ، من بدايتها إلى مآلها ، وقد يكون بعضها أصوب من بعض ، إلّا أن من الباحثين المحدثين يرون في فعلة عبد الرحمن بن عوف خدعة لإقصاء الإمام عن الخلافة.

فقد ذهب الدكتور جمال سرور إلى أن طلب عبد الرحمن من الإمام عليّ أن يتعهد بأن يسير بسيرة الخليفتين ـ أبي بكر وعمر ـ وهو يعلم أن عليّاً لا يرضى أن يتقيّد بسياستهما ، إنّما أراد أن يحرجه ليفسح المجال لاختيار عثمان ، وسرعان ما تحقق غرضه (29).

وذهب الدكتور أحمد صبحي إلى أنّ عبد الرحمن قد بنى اختياره على قاعدة غير معروفة في الشرع ، إذ قرن سيرة الشيخين ـ أبي بكر وعمر ـ بكتاب الله وسنّة رسوله ، شرطاً على كلّ من عليّ وعثمان ، ولم يقل أحد من قبلُ ولا من بعدُ ، أنّ سيرة الشيخين تقترن بكتاب الله وسنّة رسوله في المسائل السياسية ، وحين أراد الإمام عليّ أن ينبهه إلى ذلك ـ كتاب الله وسنّة رسوله فقط ، وإن اجتهد كما اجتهدا ـ نحّاه عبد الرحمن ليختار عثمان ، حتى إذا اعترض الإمام عليّ قال عبد الرحمن : ( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ) (30) فأضاف خطأ آخر باستشهاده بالآية الشريفة في غير موضعها ، فضلاً عن أنّها لا تقال لمثل الإمام عليّ (31).

وأخيراً قال الدكتور محمّد بيومي مهران : « وهكذا كان انتخاب عثمان مصطبغاً بصبغة التحيّز للأمويين ، وقد وجدت هذه النتيجة من أول الأمر ـ معارضة من الهاشميين فضلاً عن أهل الورع والسبق في الإسلام مثل سلمان وعمّار وأبي ذر والمقداد وغيرهم من رواد شيعة الإمام » (32).

الهوامش

1. الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 23.

2. أنساب الأشراف للبلاذري 1 ق 4 / 502 تحـ احسان عباس ط بيروت.

3. تاريخ الطبري 4 / 227 ط محققة دار المعارف.

4. الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1 / 23.

5. تاريخ الطبري 4 / 229 ط محققة.

6. الإرشاد / 151.

7. أنساب الاشراف 5 / 23 ط أفست المثنى.

8. نفس المصدر 1 ق 4 / 509 تحـ د : إحسان عباس ط بيروت.

9. تاريخ الطبري 4 / 230 ط محققة.

10. شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 409 ـ 410 و 1 / 64 ط مصر الأولى.

11. نفس المصدر 1 / 64.

12. نفس المصدر 1 / 63 .

13. لئن تكتم علماء التبرير على اسم الرجل المخزومي في بعض المصادر غير ان ابن أبي الحديد في شرح النهج 9 / 58 ط محققة أفصح في رواية له وأنه هاشم بن الوليد بن المغيرة والصواب هشام بن الوليد وهو أخ لخالد بن الوليد. وقد سبق لخالد ملاحاة مع عمار أيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنهاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأثنى على عمار ثناءً بالغاً وقال : من سبّ عماراً سبّه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله ، وهذا ما رواه خالد نفسه ( راجع مجمع الزوائد 9 / 294 ) تجد الحديث بأوسع من هذا كما رواه أحمد والطبراني.

فهشام بن الوليد هو الّذي تعدى طوره حين اعترض عماراً في مقالته.

14. أنظر تاريخ الطبري 4 / 232 ـ 233 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 410.

15. الفتح / 10.

16. أنظر تاريخ الطبري 4 / 238.

17. انساب الاشراف 1 ق 4 / 508.

18. تاريخ الطبري 4 / 238 ـ 239 ط محققة ، وسير اعلام النبلاء 2 / 579 ط دار الفكر.

19. أنظر الرياض النضرة 2 / 74.

20. الصراط المستقيم 2 / 151.

21. تاريخ الخلفاء للسيوطي / 82 ط المنيرية سنة 1351 هـ.

22. الإصابة 2 / 325 ط مصطفى محمّد.

23. السقيفة والخلافة / 264.

24. عبقرية الإسلام ونظام الحكم / 150 ط دار الكتاب الجديد بيروت.

25. الفتنة الكبرى 1 / 60 ط دار المعارف بمصر.

26. سمو المعنى في سمو الذات / 32 ط عيسى البابي الحلبي بمصر سنة 1358 هـ.

27. أنظر العقد الفريد 4 / 281 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1363 هـ.

28. كتابه يوم الإسلام / 57.

29. بتوسط الإمامة وأهل البيت 1 / 368.

30. الفتح / 10.

31. بتوسط الإمامة وأهل البيت 1 / 368.

32. نفس المصدر.

مقتبس من كتاب : موسوعة عبد الله بن عبّاس / المجلّد : 2 / الصفحة : 121 ـ 133

 

أضف تعليق

السقيفة والشورى

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية