أسماؤها وألقابها وشمائلها عليها السلام :
عرفت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بجملة من الأسماء والألقاب ، وطبيعي أنّه كلّما كان الإنسان من ذوي المنزلة والمكانة تعددت أسماؤه.
قال الإمام الصادق عليه السلام : « لفاطمة عليها السلام تسعة أسماء عند الله عزَّ وجلَّ : فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحُدَّثة ، والزهراء » (1).
وأضاف ابن شهرآشوب عن أبي جعفر القمي رضي الله عنه : البتول ، الحرّة ، السيدة ، العذراء ، مريم الكبرىٰ ، الصديقة الكبرىٰ (2). وفيما يلي نورد دلالات بعض هذه الأسماء والألقاب التي تشير إلىٰ خصائصها الفريدة ومناقبها الفذّة ، وما اتسمت به من الصدق والبركة والطهارة والرضا والفضل العميم علىٰ سائر النساء.
1 ـ فاطمة :
تقدّم في ولادتها عليها السلام أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد سمّاها فاطمة بأمر الله تعالىٰ ، وهذا الاسم مشتق من الفطم بمعنىٰ القطع ، يقال : فطمت الاُمّ صبيها ، وفطمت الرجل عن عادته ، والفاعل منه فاطم وفاطمة.
وسبب التسمية هو أن الله تعالىٰ فطمها وفطم ذريتها ومحبيها عن النار علىٰ ما جاء في الحديث الشريف ، فجعلها سبحانه سيدة نساء أهل الجنة ، وجعل من ذريتها الحسن والحسين عليهما السلام سيدي شباب أهل الجنّة ، وجعل محبتها منجية من النار ، لأنّها محبّة لقيم العفاف ومبادىء الشرف ، وتعلّق بمكارم الأخلاق التي تتحلّىٰ بها سيدة النساء عليها السلام.
روىٰ جابر بن عبد الله وابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال : « إنّما سميت ابنتي فاطمة ، لأنّ الله عزَّ وجلَّ فطمها وفطم محبيها عن النار » (3).
وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام : « قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّي سميت ابنتي فاطمة لأنّ الله فطمها وذريتها من النار » (4).
ومحبة الزهراء عليها السلام المنجية من النار لا بدّ أن تقترن بحبّ خصال الخير وعقائد الحقّ التي كان ينطوي عليها قلبها الطاهر ، مع الانقطاع عن كل ما يمتّ إلىٰ الشرّ بصلة من الظلم والبغي والعدوان.
وواضح بأن ( فاطمة ) علىٰ صيغة ( فاعل ) ولكنها وردت في الحديثين الشريفين بمعنىٰ صيغة ( مفعول ) ؛ لكونها ( مفطومة ). ولهذا نظائر في القرآن الكريم ولغة العرب ، قال تعالىٰ : ( عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ) (5) قيل : أي مرضية ، وقوله تعالىٰ : ( مَّاءٍ دَافِقٍ ) (6) قيل : أي مدفوق . وكقولهم : سرّ كاتم ، أي مكتوم وغيرها كثير.
ولكن هذا الاسم الشريف ( فاطمة ) جاء في حديث آخر علىٰ صيغة ( فاعل ) تعبيراً عن وصفه ولم يصرف إلىٰ معنىٰ ( مفعول ).
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « سمّيت فاطمة لأنّها فطمت شيعتها من النار ، وفُطم أعداؤها عن حبّها » (7).
2 ـ الزهراء :
ويستفاد من جملة الأحاديث والأخبار أنّ فاطمة عليها السلام عرفت بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع في غرّتها ، فهي مزهرة كالشمس الضاحية ، ومشرقة كالقمر المنير.
وسُئل الإمام الصادق عليه السلام عن فاطمة عليها السلام لِمَ سمّيت الزهراء ؟ فقال عليه السلام : « لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء ، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض » (8).
وسأل أبو هاشم الجعفري رضي الله عنه صاحب العسكر عليه السلام لِمَ سميت فاطمة عليها السلام الزهراء ؟ فقال : « كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين عليه السلام من أول النهار كالشمس الضاحية ، وعند الزوال كالقمر المنير ، وعند غروب الشمس كالكوكب الدرّي » (9).
قال ابن الأثير : الزهراء : تأنيث الأزهر ، وهو النيّر المُشرق من الألوان ، ويراد به إشراق نور إيمانها ، وإضاءته علىٰ إيمان غيرها (10).
وقال المناوي : سميت بالزهراء لأنها زهرة المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم (11).
وارتجزت بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في زفاف الزهراء عليها السلام قائلة :
فاطمة خير نساء البشر |
ومن لها وجه كوجه القمر |
|
فضلّك الله علىٰ كلِّ الورىٰ |
بفضل من خصّ بآي الزمر (12) |
وقال الشاعر :
أضاءت بها الأكوان والأرض والسما |
قديماً وفي الدنيا وفي النشأة الاُخرىٰ |
|
وما زال في الأدوار يشرق نورها |
ومن أجل ذاك النور سميت الزهرا (13) |
وقال آخر :
شعّت فلا الشمس تحكيها ولا القمر |
زهراء من نورها الأكوان تزدهر (14) |
3 ـ البتول :
البتل في اللغة : القطع ، وهو يرادف الفطم من حيث المعنىٰ ، وقد عرفت الزهراء عليها السلام بهذا الاسم لتفرّدها عن سائر نساء العالمين بخصائص تميزت بها ، كما تدل عليه الأحاديث وأقوال أهل اللغة.
أما في الأحاديث : فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سُئِلَ ما البتول ؟ فإنّا سمعناك يا رسول الله تقول : إنّ مريم بتول وفاطمة بتول. فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : البتول التي لم تر حمرةً قط ـ أي لم تحض ـ فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء » (15) ، وتنزيهها عن الحيض باعتباره أذىً يشير إلىٰ علوّ مقامها وإلىٰ خصوصية تفردت بها عن سواها ، لأنّها من أهل البيت الذين طهرهم ربهم من الرجس تطهيراً ، وهو أمر غير مستبعد لكثرة المؤيدات له في الأحاديث والآثار.
منها : ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « حرّم الله النساء علىٰ علي عليه السلام ما دامت فاطمة عليها السلام حية » قال : قلت : كيف ؟ قال : « لأنّها طاهرة لا تحيض » (16).
ومنها : ما أخرجه الطبراني وغيره بالاسناد عن عائشة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : « إنّ فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتلّ كما يعتللن » (17).
ومنها : ما أخرجه النسائي والخطيب والمحب الطبري بالاسناد عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « إنّ ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث » (18).
ومنها : ما رواه ابن المغازلي وغيره بالاسناد عن أسماء بنت عميس ، قالت : شهدتُ فاطمة عليها السلام وقد ولدت بعض ولدها فلم يُرَ لها دم ، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : « يا أسماء ، إنّ فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية » (19). وفي رواية : أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لها : « أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرىٰ لها دم في طمث ولا ولادة » (20).
وأمّا أهل اللغة : فقد أضافوا عدة دلالات اُخرىٰ تحكي عن منزلة الزهراء عليها السلام التي لا يدانيها أحد من نساء الاُمّة ، وفيما يلي بعضها.
قال الزبيدي : روي عن الزمخشري ، أنّه قال : لقبت فاطمة بنت سيد المرسلين عليها السلام بالبتول تشبيهاً بمريم عليها السلام في المنزلة عند الله تعالى.
وقال ثعلب : لانقطاعها عن نساء زمانها وعن نساء الاُمّة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً ، وهي سيدة نساء العالمين ، وأُمّ أولاده صلّى الله عليه وآله وسلّم ورضي الله عنها وعنهم.
وقيل : البتول من النساء : المنقطعة عن الدنيا إلىٰ الله تعالىٰ ، وبه لقّبت فاطمة أيضاً ( رضي الله عنها ) (21).
وقال الجزري بنحو قول ثعلب ، وأضاف في آخره : وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلىٰ الله (22).
وقال به أيضاً أحمد بن يحيىٰ علىٰ ما نقله عنه ابن منظور. وأضاف ابن منظور : امرأة متبتلة الخلق : أي منقطعة الخلق عن النساء ، لها عليهنّ فضل.
وقيل : التامة الخلق. وقيل : تبتيل خلقها : انفراد كلّ شيء منها بحسنه ، لا يتكل بعضه علىٰ بعض (23).
وعن الهروي في ( الغريبين ) ، قال : سميت فاطمة عليها السلام بتولاً ؛ لأنّها بتلت عن النظير (24).
4 ـ المُحَدَّثة :
المُحَدَّث : من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يُلهم له ويلقىٰ في روعه شيء من العلم علىٰ وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلىٰ ، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفىٰ علىٰ غيره (25).
وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من صالح عباده ، ومنزلة جليلة من منازل الأولياء ، حضيت بها الزهراء بنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علىٰ ما جاء في كثير من الروايات ، منها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « إنّما سميت فاطمة عليها السلام محدّثة ، لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران ، فتقول : يافاطمة ، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك علىٰ نساء العالمين. يا فاطمة ، اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فتحدّثهم ويحدّثونها. فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضّلة علىٰ نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إنّ مريم كانت سيدة نساء عالمها ، وإنّ الله عزَّ وجلَّ جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها ، وسيدة نساء الأولين والآخرين » (26).
وقد اتضح من التعريف المتقدم أنّ المحدَّث غير النبي ، وأنّه ليس كلّ محدّث نبي ، ولكن قد يتصور البعض أنّ الملائكة لا تحدّث إلّا الأنبياء ، وهو تصور غير صحيح ومنافٍ للكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، فمريم بنت عمران عليها السلام كانت محدثة ولم تكن نبية ، قال تعالىٰ : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ) (27) وأُمّ موسىٰ كانت محدثة ولم تكن نبية ، قال تعالىٰ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (28) وقال سبحانه مخاطباً موسىٰ عليه السلام : ( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ) (29) وسارة امرأة نبي الله إبراهيم عليه السلام قد بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (30) ، ولم تكن نبية ، ونفي النبوة عن النساء المتقدمات وعن غيرهن ثابت بقوله تعالىٰ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ ) (31) ولم يقل نساءً ، وعليه فالمُحدَّثون ليسوا برُسل ولا أنبياء ، وقد كانت الملائكة تحدّثهم ، والزهراء عليها السلام كانت مُحدَّثة ولم تكن نبية ، كما يحلو للبعض أن يقوله ويقذف به الفرقة الناجية (32).
5 ـ الصدّيقة :
وهي صيغة مبالغة في الصدق والتصديق ، وقد عرفت الزهراء عليها السلام بالصديقة ، والصديقة الكبرىٰ ، أي كانت كثيرة التصديق لما جاء به أبوها صلّى الله عليه وآله وسلّم وقويّة الإيمان به ، كما انّها كانت صادقة في جميع أقوالها بأفعالها (33).
روىٰ الشيخ الكليني باسناده عن علي بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام ، قال : « إنّ فاطمة عليها السلام صديقة شهيدة » (34).
وأخرج المحبُّ الطبري في ( الرياض النضرة ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال للإمام علي عليه السلام : « أوتيت ثلاثاً لم يؤتهنّ أحد ولا أنا : أوتيتَ صهراً (35) مثلي ، ولم أوت أنا مثلك ، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أُوت مثلها زوجة ، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما ، ولكنكم مني وأنا منكم » (36).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم للإمام علي عليه السلام : « يا علي ، إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء ، وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها ، فهي الصادقة الصدوقة » (37).
وأخرج الحاكم وغيره عن عائشة : أنها إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت : ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً منها إلّا أن يكون الذي ولدها (38).
كناها :
كانت عليها السلام تُكَنىٰ بأسماء أبنائها عليهم السلام فهي أُمّ الحسن ، وأُمّ الحسين ، وأُمّ المحسن ، وأُمّ الأئمة (39).
وعن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام : « أنّ فاطمة عليها السلام كانت تُكنىٰ أُمّ أبيها » (40).
وروي ذلك عن مصعب بن عبد الله الزبيري ، ومحمد بن علي المديني وابن الأثير (41).
أُمّ أبيها :
ومن الاوسمة الرفيعة الخالدة التي لم تمنح لبنت نبيّ قط غير الزهراء عليها السلام ما منحه أشرف الرسل والأنبياء لسيدة النساء : ( أم أبيها ) صلوات الله عليها.
إنّها كنية ما أجلّها وأعظمها ! فهي تعبر عن عمق الارتباط الروحي الضخم بين المانح العظيم المقدس وبين الممنوحة الطاهرة المطهرة بحكم التنزيه من كل رجس ودنس.
نعم ، هذه الكنية جديرة بالتأمل والتدبر ، فهي هتاف ملأ الكون بصداه ، ونداء لكلِّ جيل يتدبر معناه ، وتنبيه للاُمّة بما ينبغي عليها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ من قلب الرسول.
لقد تبوّأت الزهراء عليها السلام هذا المقام العظيم من قلب أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لا لكونها ابنته ، وإنّما أراد الله عزَّ وجلّ لها ذلك المقام المحمود زيادة علىٰ مواقفها الفريدة والتي سنذكر طرقاً منها فنقول :
كانت الزهراء عليها السلام أحب الناس الىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (42) ، وهي بهجة قلبه وبضعة منه ، يغضب لغضبها ، ويرضىٰ لرضاها ، ويغضبه ما يغضبها ، ويبسطه ما يبسطها ، ويؤذيه ما يؤذيها ، ويسرّه ما يسرّها (43).
وكانت إذا دخلت علىٰ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها (44).
وإذا أراد سفراً أو غزاة كان صلّى الله عليه وآله وسلّم آخر الناس عهداً بفاطمة عليها السلام ، وإذا قدم كان صلّى الله عليه وآله وسلّم أول الناس عهداً بفاطمة عليها السلام (45) ، وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم لا ينام حتىٰ يقبّل عرض وجهها ، ... ويدعو لها (46).
وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يكثر من زيارتها وتعهدها ويقول لها : « فداك أبي وأُمّي » (47) ويقبّل رأسها فيقول : « فداك أبوك » (48) وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعينها علىٰ الجاروش والرحىٰ (49).
وحينما استشهد حمزة بن عبد المطلب عليه السلام في أُحد بكت فاطمة الزهراء عليها السلام فانهلت دموع المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم لبكائها (50) ، وحينما ماتت رقية قعدت علىٰ شفير قبرها إلىٰ جنب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهي تبكي ، فجعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه رحمةً لها (51).
أما تعامل الزهراء عليها السلام مع أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد كانت تهتم به اهتمام الاُمّ بولدها (52) ، فمنذ أيام طفولتها كانت تدفع عنه أذىٰ المشركين (53) ، وتخفّف آلامه وتضمد جروحه (54) ، وتمسح الدم عن وجهه في الحرب (55) ، وإذا عاد من سفرٍ بادرت إلىٰ استقباله واعتنقته وقبّلت بين عينيه ، وكانت تتأثر لحاله وتحنو عليه.
أخرج الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا قدم من سفر ، صلّىٰ في المسجد ركعتين ، ثمّ أتىٰ فاطمة فتلقته علىٰ باب البيت ، فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ما يبكيك ؟ » فقالت : « أراك شعثا ًنصباً ، قد أخلولقت ثيابك » فقال لها : « لا تبكي ، فإنّ الله قد بعث أباك بأمرٍ لا يبقىٰ علىٰ وجه الأرض بيت ولا مدر ولا حجر ولا وبر ولا شعر إلّا أدخله الله به عزّاً أو ذلاً حتىٰ يبلغ حيث بلغ الليل » (56).
وكانت « سلام الله عليها » تؤثره بما عندها من طعام كالاُمّ المشفقة علىٰ ولدها ، فعن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليها السلام بكسرة خبز لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : « ما هذه الكسرة ؟ » قالت : « قرص خبزته ولم تطب نفسي حتىٰ أتيتك بهذه الكسرة .. » (57).
وعن عبد الله بن الحسن قال : دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علىٰ فاطمة عليها السلام فقدّمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير ، فأفطر عليها ، ثم قال : « يابنية ، هذا أول خبزٍ أكل أبوك منذ ثلاثة أيام » ، فجعلت فاطمة عليها السلام تبكي ورسول
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسح وجهها بيده (58).
ولمّا اختار الله سبحانه لنبيه دار رضوانه ومأوىٰ أصفيائه ، كانت الزهراء عليها السلام كالاُمّ التي فقدت وحيدها ، فما رؤيت عليها السلام ضاحكة قطّ منذ قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتىٰ قبضت (59) ، وما زالت بعده معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة (60) ، تشمّ قميصه فيغشىٰ عليها (61) ، وسمعت بلالاً يؤذّن حتىٰ إذا بلغ : أشهد أن محمداً رسول الله ، شهقت وسقطت لوجهها وغشي عليها حتىٰ ظنّ بأنّها عليها السلام قد فارقت الحياة (62).
وكانت تقول :
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها |
واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا |
|
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت |
منّا العيون بتهمالٍ له سكبُ (63) |
هذه هي بعض الموارد التي تحكي لنا طبيعة العلاقة بين الرسول المصطفىٰ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأحبّ الناس إليه فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولو أتينا علىٰ جميع ما ورد في إكرامه لها وإلطافه بها وشفقته عليها ، لخرجنا عن شرط الاختصار في هذا البحث ، وعلىٰ العموم كانت عليها السلام بمثابة الاُمّ لأبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم فهو يعظّمها ويبرّها ويحنو عليها ، ويجد فيها كل ما يجد الولد في أُمّه من العطف والرقة والحنان والوفاء ، فما أجدرها إذن بتلك الكنية الرفيعة : أمّ أبيها !
فانظر إلىٰ كرامة البنات وعزّتهن بالإسلام ، فالبنت التي كانت مصدر شؤمٍ وعارٍ في أعراف الجاهلية ، أصبحت في رحاب الإسلام أُمّاً للنبي الخاتم سيد البشر صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال الشاعر :
بضعة من أبٍ عظيم يراها |
نور عينيه مشرقاً في رداءِ (64) |
|
فهي أحلىٰ في جفنه من لذيذ الـ |
ـحُلمِ غِبّ الهجود والإعياءِ |
|
وهي قطبُ الحنان في صدر طه |
واختصار البنات والأبناءِ |
|
غيّب الموت من خديجة وجهاً |
فإذا فاطم معين العزاءِ |
|
تحسب الكون بسمةً من أبيها |
فهي أُمّ تذوب في الإرضاءِ (65) |
وشيء آخر يمكن استخلاصه من هذه الكنية التي تشرفت بها الزهراء عليها السلام وهو أن الاُمّ في اللغة بمعنىٰ الأصل ، وفاطمة عليها السلام هي الفرع الفذّ النامي من الشجرة المحمدية الذي حافظ علىٰ بقاء الأصل وديمومته ، فأخرج للناس ثمار تلك الشجرة الباسقة.
عن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : « أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عدن ، وسائر ذلك في سائر الجنة » (66).
وقد استلهم بعضهم هذا المعنىٰ فأنشد :
كما الله سمّاها بفاطم إذ قضىٰ |
بفطم محبيها من النار في الاُخرىٰ |
|
بأُمّ أبيها كنّيت إذ بفاطم |
بقى ذكره في الناس والملّة الغرّا (67) |
حليتها وشمائلها :
كانت الزهراء عليها السلام تشبه أباها صلّى الله عليه وآله وسلّم خلقاً وأخلاقاً ومنطقاً ، وقد وصفها الصحابة المعاصرون لها بأنّها كانت كأبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم في مشيته وجلسته وسمته وهديه ما تخطي منه شيئاً.
عن أنس بن مالك ، قال : لم يكن أحد أشبه برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الحسن ابن علي وفاطمة عليهما السلام (68).
وعن عائشة ، قالت : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلّاً وهدياً وحديثاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (69).
وقالت : أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (70).
وعن جابر بن عبد الله ، قال : ما رأيت فاطمة تمشي إلّا ذكرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تميل علىٰ جانبها الأيمن مرّة ، وعلىٰ جانبها الأيسر مرة (71).
وعن أُمّ سلمة ، قالت : كانت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أشبه الناس وجهاً وشبهاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (72).
وكانت الزهراء عليها السلام المثل الأعلىٰ في خَلقِها وخُلُقِها وسموها وتفوقها في كل الفضائل والصفات الإنسانية العليا علىٰ جميع نساء أهل الدنيا ، حتىٰ بلغ من كمالها أن وصفها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مراراً وتكراراً بالحورية ، فسبحان من خصّها بما خصّها وفضّلها علىٰ نساء العالمين.
الهوامش
1. أمالي الصدوق : 688 / 945. وعلل الشرائع 1 : 178 / 3.
2. المناقب 3 : 357 ، دار الأضواء.
3. الفردوس / الديلمي 1 : 346 / 1385 ، دار الكتب العلمية . والمناقب / ابن المغازلي : 65 / 92. وإسعاف الراغبين / الصبّان : 118 ، دار الكتب العلمية . ومسند فاطمة الزهراء عليها السلام / السيوطي : 50 ـ 51. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي : 51. وعيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 46 / 174. وعلل الشرائع 1 : 178 / 1. وأمالي الطوسي : 294 / 571. ومناقب ابن شهرآشوب 3 : 329. وكشف الغمة 1 : 463.
4. أمالي الطوسي : 570 / 1179 . وذخائر العقبىٰ : 26.
5. سورة الطارق : 86 / 6.
6. سورة الحاقة : 69 / 21.
7. معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : 396 / 53 ، طبع جماعة المدرسين ـ قم.
8. معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : 64 / 15. وعلل الشرائع / الشيخ الصدوق 1 : 181 / 3. ودلائل الإمامة : 149 / 59. وبحار الانوار 43 : 12 / 6.
9. المناقب / ابن شهرآشوب 3 : 330. وبحار الأنوار 43 : 16.
10. منال الطالب / ابن الأثير : 508 ـ القاهرة.
11. اتحاف السائل / المناوي : 24 ، مكتبة القرآن ـ القاهرة.
12. المناقب / ابن شهرآشوب 3 : 355.
13. من قصيدة للشيخ علي الجشي في ديوانه 1 : 76 ، مطبعة النجف 1383 هـ.
14. من قصيدة للسيد محمد جمال الهاشمي في ديوانه ( مع النبي وآله عليهمالسلام ) : 34 ، الطبعة الاُولىٰ.
15. معاني الأخبار : 64 / 17. وعلل الشرائع : 181 / 1. ومناقب ابن شهرآشوب 3 : 330. ودلائل الإمامة : 149 / 67.
16. تهذيب الأحكام / الطوسي 7 : 475 / 116. ومناقب ابن شهرآشوب 3 : 330.
17. المعجم الكبير / الطبراني 22 : 400 / 1000. واعلام الورىٰ / الطبرسي 1 : 291. ومناقب ابن شهرآشوب 3 : 330. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : 64.
18. تاريخ بغداد 12 : 331. وذخائر العقبىٰ : 26. ومسند فاطمة الزهراء عليها السلام / السيوطي : 50.
19. المناقب / ابن المغازلي : 369 / 416. وكشف الغمة 1 : 463. ودلائل الامامة : 148 / 56.
20. ذخائر العقبىٰ : 44.
21. تاج العروس / الزبيدي 7 : 330 ـ بتل ـ.
22. النهاية 1 : 94 ـ بتل ـ.
23. لسان العرب 11 : 43 ـ بتل ـ.
24. المناقب / ابن شهرآشوب 3 : 330.
25. الغدير / الأميني 5 : 42 ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
26. علل الشرائع 1 : 182 / 1. ودلائل الإمامة : 80 / 20. وبحار الأنوار 43 : 78 / 65.
27. سورة آل عمران : 3 / 42.
28. سورة القصص : 28 / 7.
29. سورة طه : 20 / 38.
30. راجع الآيات من 71 ـ 73 من سورة هود.
31. سورة الأنبياء : 21 / 7.
32. أمثال عبد الله القصيمي في كتابه « الصراع بين الإسلام والوثنية ».
33. مرآة العقول / العلّامة المجلسي 5 : 315 دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
34. الكافي 1 : 458 / 2.
35. الصهر في اللغة : هو زوج بنت الرجل ، وأبو زوجة الرجل أيضاً . اُنظر لسان العرب ـ صهر ـ 4 : 471.
36. الرياض النضرة / المحب الطبري 3 : 172 دار الكتب العلمية ـ بيروت.
37. بحار الأنوار 22 : 491 عن كتاب الطرف للسيد ابن طاووس.
38. مستدرك الحاكم 3 : 160 وصحّحه علىٰ شرط مسلم. والاستيعاب 4 : 377. وذخائر العقبىٰ : 44.
39. مناقب ابن شهرآشوب 3 : 357. والهداية الكبرىٰ / الخصيبي : 176 مؤسسة البلاغ ـ بيروت. وبحار الأنوار 43 : 16 / 15.
40. مقاتل الطالبيين / أبي الفرج : 29 ـ النجف الأشرف. والمناقب / ابن المغازلي : 340 / 392. والاستيعاب 4 : 380 عن الإمام الصادق عليه السلام. وبحار الأنوار 43 : 19 / 19.
41. المعجم الكبير 22 : 397 / 985 و 988. وأُسد الغابة 5 : 520. ومجمع الزوائد 9 : 211. واتحاف السائل : 25.
42. المعجم الكبير 22 : 397 / 986.
43. راجع : صحيح مسلم 4 : 1903 / 94. ومستدرك الحاكم 3 : 154. ومسند أحمد 4 : 5 دار الفكر ـ بيروت.
44. سنن الترمذي 5 : 700 / 3872 دار احياء التراث العربي ـ بيروت. وجامع الاُصول / الجزري 10 : 86 دار احياء التراث العربي ـ بيروت. ومستدرك الحاكم 4 : 272.
45. مستدرك الحاكم 1 : 489 و 3 : 165. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 56. وذخائر العقبىٰ : 37. ومسند أحمد 5 : 275.
46. مناقب ابن شهرآشوب 3 : 334. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 66.
47. مستدرك الحاكم 3 : 156.
48. مقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 66. وذخائر العقبىٰ : 130.
49. بحار الأنوار / المجلسي 43 : 50 / 47 عن ابن شاذان.
50. شرح ابن أبي الحديد 15 : 17 دار احياء الكتب العربية.
51. مسند أحمد 1 : 335. وتاريخ المدينة المنورة / ابن شبة 1 : 103 دار الفكر ـ بيروت.
52. البدء والتاريخ / المقدسي 5 : 20 مكتبة الثقافة الدينية.
53. صحيح مسلم 3 : 1418 / 107 كتاب الجهاد والسير.
54. صحيح مسلم 3 : 1416 / 101 كتاب الجهاد والسير.
55. المغازي / الواقدي 1 : 249 عالم الكتب ـ بيروت.
56. المعجم الكبير 22 : 225 / 595 و 596. ومستدرك الحاكم 1 : 488 و 3 : 155. وحلية الأولياء / أبو نعيم 3 : 30 و 6 : 123 دار الكتب العلمية. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 63. وذخائر العقبىٰ : 37.
57. مجمع الزوائد 10 : 312.
58. مناقب ابن شهرآشوب 3 : 333. وبحار الأنوار 43 : 40.
59. المعجم الكبير / الطبراني 22 : 398 / 989 و 990 و 993 و 994. والمناقب / ابن شهرآشوب 3 : 359. وبحار الأنوار 43 : 196.
60. مناقب ابن شهرآشوب 3 : 362. وبحار الأنوار 43 : 181.
61. مقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي 1 : 77. وبحار الأنوار 43 : 157 / 6.
62. الفقيه / الشيخ الصدوق 1 : 194 / 906 دار الكتب الاسلامية. وبحار الأنوار 43 : 157 / 7.
63. أمالي الشيخ المفيد : 41 / 8 طبع جماعة المدرسين ـ قم. والبيتان من قصيدة مروية في عدة مصادر. راجع فاطمة الزهراء في ديوان الشعر العربي : 16 مؤسسة البعثة ـ قم.
64. أي في حسن ونضارة.
65. من قصيدة لبولس سلامة بعنوان عيد الغدير : 80 الطبعة الرابعة ـ طهران.
66. مستدرك الحاكم 3 : 160. ومقتل الحسين عليه السلام / الخوارزمي : 61.
67. البيتان للشيخ علي الجشي من ديوانه 1 : 76 مطبعة النجف 1383 هـ.
68. مسند أحمد 3 : 164.
69. سنن الترمذي 5 : 700 / 3872. وجامع الاُصول 10 : 86. ومستدرك الحاكم 4 : 272.
70. مسند أحمد 6 : 282.
71. المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٦٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٦ / ٧.
مقتبس من كتاب : سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام / الصفحة : 25 ـ 42