عبدالله بن عفيف شهيد الكوفة

البريد الإلكتروني طباعة

عبد الله بن عفيف شهيد الكوفة

روى الشيخ المفيد وغيره أنّ ابن زياد صعد المنبر بعد قتل سيّد الشهداء في الكوفة فقال : الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله ، ونصر أمير المؤمنين وحزبه ، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب وشيعته (1).

( لم يزد على ذلك حرفاً واحداً ) فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من شيعة أمير المؤمنين وكان من أهل الزهد والعفاف والولاء الصحيح ، وكان قد ذهبت إحدى عينيه في حرب الجمل وذهبت الأُخرى في حرب صفّين وكان من ذلك الحين لم يبرح مسجد الكوفة من الضوء الأوّل في الصباح حتّى يذهب هزيع من الليل ، مصلّياً داعياً ، ويقضي الليل قائماً والنهار صائماً ، ولمّا سمع كلام ابن زياد رفع عقيرته فقال : يا عدوّ الله ، إنّ الكذّاب أنت وأبوك والذي ولّاك وأبوه ، يابن مرجانة ، تقتل أولاد النبيّين وتقوم على المنبر مقام الصدّيقين.

فغضب ابن زياد وقال : من التجرّء علينا ؟ فصاح عبد الله فقال : أنا المتكلّم يا عدوّ الله ويا كذّاب ابن الكذّاب ، أتقتل الذرّيّة الطاهرة التي قد أذهب الله عنهم الرجس وتزعم أنّك على دين الإسلام ، واغوثاه ، أين أولاد المهاجرى والأنصار ما لهم لا ينتقمون من هذا الطاغي اللعين بن اللعين على لسان محمّد رسول ربّ العالمين (2).

فلمّا سمع ابن زياد ذلك منه غلت الدماء في شرايينه لشدّة غضبه وانتفخت أوداجه ، فقام إليه الشُّرط والجلاوزة والأعوان وحُرّاس ابن زياد ليقبضوا على ابن عفيف فنادى بشعار الأزد فانتدب إليه أشراف من قبيلته من ورائه فخلّصوه من أيديهم وأخرجوه من باب المسجد وأوصلوه إلى منزله فأمر ابن زياد بالقبض عليه قائلاً : أسرعوا إلى هذا الأعمى وأتوني به ، أعمى الله قلبه كما أعمى عينيه ، فقام جلاوزته إليه ، فلمّا سمع الأزد بذلك ثاروا للدفاع عنه ولحق بهم أحلافهم من أهل اليمن ولم تكن بالجلاوزة قوّة على القتال ، ونمى الخبر إلى ابن زياد فطلب محمّداً بن الأشعث وأمّره على جماعة من رجال مضر وأذن له بالحرب والقتال حتّى القبض على ابن العفيف.

فهجم ابن الأشعث عليهم وشرع يقاتلهم فقتل جمع من العرب واندحر الأزد واستطاع جيش ابن زياد الوصول إلى بيت عبد الله بن عفيف فصاحت ابنة له : يا أبتاه ، أتاك القوم ، فقال لها : لا تخافي يا بنيّة وناوليني سيفي ، ولمّا اخذ السيف أنشأ يقول :

أنا ابن ذي الفضل العفيف الطاهر

 

عفيف شيخي وابن أُمّ عامر

كم دارع من جمعكم وحاسر

 

وبطل جدّلته مغادر

فقالت ابنته : يا ليتني كنت رجلاً أُقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة قاتل العترة البررة (3).

قال : وجعل القوم يدورون عليه من كلّ جهة وهو يذبّ عن نفسه فلم يقدر عليه أحد ، وكلّما جاؤوا من جهة قالت ابنته : يا أبت ، جاؤوك من جهة كذا ( وهو يحمل عليهم بالسيف ويبعدهم عنه ) حتّى تكاثروا عليه وأحاطوا به ، فقالت ابنته : وا ذلّاه ! يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به ، فجعل يدير سيفه ( وفي رواية الناسخ : قتل منهم خمسين فارساً وثلاثة عشرين راجلاً ) فما زالوا به حتّى أخذوه ، ثمّ حُمِل فأُدخل على ابن زياد ، فلمّا رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك ، فقال له عبد الله بن عفيف : يا عدوّ الله ! وبماذا أخزاني الله ؟

والله لو يكشف لي عن بصري

 

ضاق عليكم موردي ومصدري

فقال ابن زياد : يا عدوّ الله ، ما تقول في عثمان بن عفّان ؟ ( وكان يفتعل الحجج عليه ليقتله لعلمه بأنّ عبد الله شيعة لعليّ عليه السلام ، فأراد أن يُسيء القول في عثمان ليستبيح دمه فلا يلومه أحد ، فأجابه ابن عفيف ) : يا عبد بني علاج ، يابن مرجانة ـ وشمته ـ ما أنت وعثمان ؟ إن أساء أو أحسن وأصلح أم أفسد ؟ والله تعالى وليّ خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل والحقّ ، ولكن سلني عن أبيك وعنك وعن يزيد وأبيه.

فقال ابن زياد : والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت ( غصّة بعد غصّة ).

فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله ربّ العالمين ، أما إنّي قد كنت أسأل الله ربّي أن يرزقني الشهادة [ من ] قبل أن تلدك أُمّك وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي ألعن خلقه وأبغضهم إليه ، فلمّا كفّ بصري يئست من الشهادة والآن [ فـ ] الحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها وعرّفني الإجابة منه في قديم دعائي (4). ثمّ ارتجل في المكان قصيدة من تسعة وعشرين بيتاً بأتمّ الفصاحة والبلاغة وكلّها في ذمّ بين أُميّة ومدح الحسين عليه السلام وتحريض الناس على الجهاد وترغيبهم به ودعوتهم للأخذ بثار الحسين عليه السلام وذمّ الذين كاتبوه ثمّ غدروا به. وكان الشعر لفصاحته القصوى حمل ابن زياد مع غطرسته أن يستحيل إلى آذان صاغية لسماع كلماته مع كون كلّ كلمة منها بمثابة رمية في فؤاد ابن زياد لعنهما الله أو أشدّ وقعاً من سمى الأفعى الناقع ، وما أن أكمل شعره حتّى أمر ابن زياد بضرب عنقه وصلبه في السبخة ثمّ أمر بالقبض على ابنته ورميها في السجن ( وترجمت لها في كتابي رياحين الشريعة في ترجمة العلماء من نساء الشيعة ) وكانت هذه الصبيّة في سجن ابن زياد لعنهما الله حتّى انبرى لها رجل يُدعى طارق بتدبير سليمان بن صرد الخزاعي فأطلقها من السجن وهرب إلى القادسيّة وهناك التجأ إلى قبيلة خزاعة وتزوّج الصبية محمّد بن سليمان بن صرد الخزاعي بعد وقعة عين الوردة وشهادة التوّابين فرزق منها ستّة أولاد وأربع بنات وكانوا من مقدّمي الفرسان ومن شيعة أمير المؤمنين عليه السلام.

الهوامش

1. الإرشاد ، ج 2 ص 117.

2. قتل عبدالله بن عفيف كما رآه أبو مخنف ، قال : إنّ ابن زياد لمّا صعد المنبر جعل يسبّ عليّاً والحسن والحسين ، فقام إليه رجل اسمه عبدالله بن عفيف الأزدي رحمه الله وكان شيخاً كبيراً قد كفّ بصره وكان له صحبة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال له : مه ( صه ) رضّ ( فضّ ) الله فاك ولعن جدّك وأباك وعذّبك وأخزاك ، وجعل النار مثواك ، أما ( ما ) كفاك قتل الحسين عن سبّهم على المنابر ولقد سمعت رسول الله يقول : من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله أكبّه على منخره ( منخريه ) في نار جهنّم ( في النار ) [ يوم القيامة ، أتسبّ عليّاً وأولاده ، فعند ذلك ] أمر ابن زياد الملعون بضرب عنقه فمنع عنه قومه وحملوه إلى منزله ، فلمّا جنّ [ عليه ] الليل دعا ابن زياد [ الملعون ] ( لعنه الله ) ( بـ ) خولّى الأصبحي وضمّ إليه خمسمائة فارس وقال ( له ) : [ انطلقوا ] ( انطلق ) إلى الأزدي وأتني برأسه ، فساروا حتّى أتوا ( إلى منزل ) عبدالله بن عفيف رحمه الله وكانت له ابنة صغيرة فسمعت صهيل الخيل ، فقالت : يا أبتاه ، إنّ الأعداء قد هجموا عليك ، فقال : ناوليني سيفي وقفي في مكانك و ( لكن ) قولي لي القوم من ( عن ) يمينك وشمالك وخلفك وأمامك ، ثمّ وقف ( لهم ) في مضيق ، فجعل ( وجعل ) يضرب يميناً وشمالاً ، فقتل خمسين فارساً ( وهو يصلّي على النبيّ وآله وهو يرتجز ويقول : ) [ وهو ينشد بهذه الأبيات ] : [ بعد الصلاة على النبيّ وآله ] :

والله لو يكشف لي عن بصري 

 

ضاق عليكم موردي ومصدري

[ يا ويحهم والسيف أبداً مشرقاً ]

 

لا ينبغي إلّا مقرّا الحنجر

كذا وأحسبه « مشرفاً .. لا يبتغي إلّا مخرّ الحنجر ».

وكنت منكم قد شفيت غلّتي

 

إن ( إذ ) لم يكن في اليوم قومي تخفر

أم كيف لي والأصبحيّ قد أتى

 

[ بالجيش يكسر كلّ غضنفر ]

( في جيشه إلى لقا الغضنفر ).

لو أنصفوني واحداً فواحداً

 

أفنيتكم بموردي ومصدري

( لو بارزوني ) ... ( ضاق عليكم ) موردي ومصدري.

[ ويح ابن مرجان الدعيّ وقد أتى

 

ويزيد إذ يؤتى بهم في المحشر

والحكم فيه للإله وخصمهم

 

خير البريّة أحمد مع حيدر ]

قال : فتكاثروا عليه وأخذوه أسيراً [ وأتوا به ] إلى ابن زياد ، فلمّا نظر إليه قال : الحمد لله الذي أعمى عينيك ، فقال له عبد الله بن عفيف : الحمد لله الذي أعمى قلبك [ وفتح عينيك ]. فقال [ له ] ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك ( أ ) شرّ قتلة. فضحك عبد الله بن عفيف ( و ) فقال له : قد ذهب ( ذهبت ) عيناي يوم صفّين مع أمير المؤمنين وقد سألت الله أن يرزقني الشهادة على يدي ( يد أ ) شرّ الناس وما علمت على وجه الأرض أشرّ منك ، [ ثمّ ] وأنشأ يقول :

صحوت وودّعت الصبا والغوانيا

 

وقلت لأصحابي أجيبوا المناديا

وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى

 

وقتل العدى لبّيك لبّيك داعيا

وقوموا له إذ شدّ للحرب أزره

 

فكلّ امرئ يجزى بما كان ساعيا

وقودوا إلى الأعداء كلّ مضمّر

 

لحوق وقود السابحات النواحيا

وسيروا إلى الأعداء بالبيض والقنا

 

وهزّوا حراباً نحوهم والعواليا

وأبكوا * لخير الخلق جدّاً ووالداً

 

حسين لأهل الأرض ما * زال هاديا

* ( وحنّوا ) ... ( لا ).

( ألا وابكوا حسيناً معدن الجود والتُّقى

 

وكان لتضعيف المثوبة راجيا

( ألا ) وابكوا حسيناً كلّما ذرّ شارق

 

وعند غسوق الليل ( فـ ) ابكوا إماميا

ويبكى حسيناً كلّ حاف وناعل

 

ومن راكب في الأرض أو كان ماشيا

لحى الله قوماً كاتبوه ( لغدرهم ) *

 

وما فيهم من كان للدين حاميا

* [ وغرّروه ـ كذا ]

ولا من وفا بالعهد إذ حمي الوغى

 

ولا زاجراً عنه المضلّين ناهيا

ولا قائلاً لا تقتلوه فتخسروا

 

ومن يقتل الزاكين يلقى المخازيا

ولم يك إلّا ناكثاً أو معانداً

 

وذا فجرة يأتي إليه وعاديا

وأضحى حسين للرماح دريئة

 

فغودر مسلوباً على الطفّ ثاويا

قتيلاً كأن لم يعرف الناس أصله

 

جزى الله قوماً قاتلوه المخازيا

فيا ليتني إذا ذاك كنت لحقته

 

وضاربت عنه الفاسقين الأعاديا *

* ( مفاديا )

ودافعت عنه ما استطعت مجاهدا

 

وأغمدت سيفي فيهم وسنانيا

ولكنّ عذري واضح غير مختف

 

وكان قعودي ضلّة من ضلاليا

( و ) فيا ليتني غودرت فيمن أجابه

 

وكنت له في موضع القتل فاديا

( و ) فيا ليتني جاهدت عنه بأُسرتي

 

وأهلي وخلّاني جميعاً وماليا

تزلزلت الآفاق من عظم فقده

 

وأضحى له الحصن المحصّن خاويا

وقد زالت الأطواد من عظم قتله

 

وأضحى له * سامي الشناخيب هاويا

* [ صمّ ].

وقد كسف * شمس الضحى لمصابه

 

وأضحت له الآفاق جهراً بواكيا

* ( كسفت ).

فيا أُمّة ضلّت عن الحقّ والهدى

 

أنيبوا قال فإنّ الله في الحكم عاليا

وتوبوا إلى التوّاب من سوء فعلكم

 

وإن لم تتوبوا تدركون المخازيا

وكونوا ضراباً بالسيوف وبالقنا

 

تفوزوا كما فاز الذي كان ساعيا

وإخواننا كانوا إذا الليل جنّهم

 

تلوا طوله القرآن ثمّ المثانيا

أصابهم أهل الشقاوة والغوى

 

فحتّى متى لا يبعث الجيش عاديا

عليهم سلام الله ما هبّت الصبا

 

وما لاح نجم أو تحدّر هاديا

فلمّا فرغ من شعره أمر ( به ابن زياد لعنه الله فضربت ) بضرب عنقه فضُربت عنقه وصلب رحمة الله عليه على باب المسجد. ( مقتل أبي مخنف ، ص 106 و 107 و 108 و 109 ). ( منه رحمه الله ) وبين النصّين اختلاف يسير وفرّقنا بين ما انفرد به أبو مخنف بالقوسين والمؤلّف بالمركنتين.

نجات يافت از اين دامگاه رنج و عنا

 

نزول کرد به گلزار جنّة المأوى

مباراة الشعر :

نجى من شباكٍ ليس فيه سوى العنا

 

إلى روضة غنّاء في جنّة المأوى

3. راجع مثير الأحزان ، ص 72 ؛ والبحار ، ج 45 ص 120 ؛ العوالم ، ص 388 وغيرهما.

4. كان سياق المؤلّف موافقاً لسياق العوالم إلّا ما تخلّله من عبارات للمؤلّف وضعناها بين قوسين ، انظر العوالم ص 388.

مقتبس من كتاب : فرسان الهيجاء / المجلّد : 1 / الصفحة : 338 ـ 343

 

أضف تعليق

أعلام وكتب

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية