معنى السجود وموقعه العبادي

البريد الإلكتروني طباعة

معنى السجود وموقعه العبادي

أولاً : تعريف السجود :

١ ـ السجود في اللغة :

الطاعة والخضوع ، يقال : سَجَدَ ، سُجُوداً ، أيّ : خضع وتطامن (1) ، ومنه قوله تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ... ) (2) فهذا لسان حال تلك المخلوقات في الطاعة والخضوع ، وكلّ شيء ذلّ فقد سجد (3) ، وهو ساجد. والجمع : سُجّد ، وسُجودٌ (4).

والسَجّادُ : الكثير السجود (5) ، ورجل سجّاد : علىٰ وجهه سَجّادة ، أيّ : ثفنة من أثر السجود (6).

وقد اشتهر به الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام لكثرة سجوده لله تعالىٰ ولهذا لُقب عليه السلام بالسجّاد ، وذي الثفنات.

والمسجَدُ : جبهة الرجل حيث يصيبه أثر السجود (7) ، والجمع مَسَاجِدُ ، والمساجِدُ من بدن الانسان : الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ، وهي : الجبهة واليدان والركبتان والقدمان (8).

والمَسجِدُ : بيت الصلاة (9) ، ومكانها المخصص.

والمَسجِدُ الحرام : الكعبة ، والمسجِدُ الأقصىٰ : مسجد بيت المقدّس ، قال تعالىٰ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلىٰ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) (10). والجمع : مساجِد.

٢ ـ السجود في الاصطلاح :

هو الانحناء ووضع أعضاء السجود (11) علىٰ الأرض ، بحيث يساوي موضع جبهته موقفه ، أو يزيد بقدر لبنة لا غير (12).

وحقيقته : وضع الجبهة وباطن الكفّين والركبتين وطرفي الابهامين من القدمين علىٰ الأرض (13) ، بقصد التعظيم (14).

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام تسمية مثل هذا السجود بالسجود الجسماني ، وهو أقلّ رتبةً من السجود الآخر المسمّىٰ بالنفساني ، قال عليه السلام : « السجود الجسماني : هو وضع عتائق الوجوه علىٰ التراب ، واستقبال الأرض بالراحتين والركبتين وأطراف القدمين مع خشوع القلب وإخلاص النية.

والسجود النفساني : فراغ القلب من الفانيات ، والاقبال بكنه الهمّة علىٰ الباقيات ، وخلع الكبر والحمية ، وقطع العلائق الدنيويّة ، والتحلّي بالاخلاق النبويّة » (15).

٣ ـ السجود في القرآن الكريم :

هذا وقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلىٰ ضربين من السجود وهما :

١ ـ سجود اختيار : وهو خاصّ بالانسان وبه يستحقّ الثواب نحو قوله تعالى : ( فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا ) (16) أيّ تذللوا له ، وهو المراد بالتعريف الاصطلاحي المتقدم (17).

٢ ـ سجود تسخير : وهو للإنسان والحيوان والنبات والجماد وعلىٰ ذلك قوله تعالىٰ : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (18) وقوله تعالىٰ : ( وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) (19).

ولم يُرد الباري عزَّ وجل أنّ المذكور في هذه الآية الشريفة يسجد سجود البشر في صلاته ، وإنّما أراد تعالىٰ أنّ تلك الأشياء غير ممتنعة من فعله تعالىٰ فهي كالمطيع له سبحانه ، وهذا ما عبّر عنه بالساجد (20).

وقد ورد في القرآن الكريم ما يؤيّد كلا النوعين بآيات كثيرة ، ومن الآيات ما اشتمل علىٰ كلا النوعين من السجود « التسخير والاختيار » ، كقوله تعالىٰ : ( وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) (21).

ثانياً : العبادة في السجود :

لا شكّ أنّ السجود في ذاته عبادة إذ إنّه يمثل غاية الخضوع ، بل هو أبلغ صور التذلّل لله سبحانه وتعالىٰ ؛ لأنّه يربط بين الصورة الحسّية والدلالة المعنويّة للعبادة في ذلّة العبد ، وعظمة الربّ ، وافتقار العبد لخالقه. ولا يكون الانسان عبداً لله تعالىٰ إلّا بهذا التذلّل وبهذه العبوديّة. ومن هنا يظهر سرّ اختصاص السجود بالقرب من الله تعالىٰ (22) ، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أقرب ما يكون العبد إلىٰ الله وهو ساجد » (23).

ثالثاً : موقع وأهميّة السجود بين أجزاء الصلاة :

إنّ من المناسب أن نقف قليلاً موقف المقارنة بين أجزاء الصلاة ، لنرىٰ موقع السجود بينها وما يمتاز به من خصائص ، وذلك علىٰ النحو الآتي :

١ ـ القيام في الصلاة :

ويراد به المثول بين يدي مالك الملك ، إعلاناً للطاعة والولاء وامتثال الأمر ، ولا يخفىٰ أنّ الاستعداد والمثول قياماً بين يدي الملك هو من دلائل الطاعة وعلاماتها. ومن هنا يقتضي أن تكون هيئة المثول وحقيقته متناسبة مع عظمة الملك الذي نقف بين يديه.

فكمال القيام بين يدي الله تعالىٰ أن يكون علىٰ طمأنينة وسكون وهيبة وحياء ، فلا يجعل رأسه مرفوعاً وكأنّه يقف أمام ضدّه ونظيره ، ولا يبالغ في طأطأته فيخرج بالحياء عن صورته ، بل يجعل نظره إلىٰ محلّ سجوده ، مقيماً صلبه ونحره ، مرسلاً يديه علىٰ فخذيه بوقار ، فلا يعبث بهما ، ولو استحضر العبد أثناء قيامه قول الله تعالىٰ : ( الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (24) لما فارق هذه الهيئة.

ويزيد في جلال القيام وهيبته ما وجب فيه من تلاوة بعض سور القرآن الكريم ، وبهذا يكون القيام مشهداً من مشاهد الطاعة والولاء والاجلال والتعظيم.

فهذا الإمام السجاد عليه السلام وهو يستحضر هذا المشهد فيلفت انتباه الناس من حوله تغيّر لونه حال وضوئه وكان إذا قام إلىٰ الصلاة اخذته رعدة فقيل له : مالك ؟ فقال عليه السلام : « أتدرون بين يدي من أقوم ومن أُناجي ؟ » (25) إنّه الحضور بين يدي مالك الملك.

٢ ـ الركوع في الصلاة :

وهو صورة أُخرىٰ من صور الامتثال والخضوع ، ولا شكّ أنّه يحمل من معاني الخضوع فوق ما يحمله القيام ، ولكلٍّ معناه وأبعاده ومغزاه.

ومع صورة التعظيم الظاهرة في انحناءة الركوع ، يأتي الذكر الذي يصحبها متوّجاً معنىٰ التعظيم ومركّزاً مغزاه في قلب الراكع : « سبحان ربّي العظيم وبحمده ».

هذه المرتبة من التعظيم أفردها الإسلام لله تعالىٰ وحده ، فنهىٰ أن ينحني أحد أمام أحد احتراماً وتعظيماً ، ولذلك تميّز الركوع بمرتبة أخصّ من الامتثال قياماً في الولاء والخضوع والتعظيم ، فالقيام يقع كثيراً في يوميات الانسان ، كالامتثال قياماً بين يدي الوالدين ، أو بين يدي المعلّم ، أو الرئيس أو الملك ، ولكن يحرّم الركوع لهؤلاء ولغيرهم ؛ لأنّه من خصائص الخضوع لله تعالىٰ.

ولهذا فقد اختصّ الله تعالىٰ هذه الاُمّة بالسلام ، وهي تحيّة أهل الجنّة ، وحرّم عليهم ما كان شائعاً من مظاهر التحيّة كالسجود والانحناء والتكفير وغيرها من المظاهر التي لا تجوز إلّا لله تعالىٰ (26).

ولقد ورد في سرِّ مد العنق في الركوع عن أمير المؤمنين عليه السلام : « تأويله آمنتُ بالله ولو ضُرِبَت عنقي » (27).

وجاء عن الإمام الباقر عليه السلام في الركوع من الذكر ما يستشعر به المرء حقيقة ما يؤدّيه من امتثال وطاعة وخشوع ، يقول فيه : « إذا أردت أن تركع فقل وأنت منتصب : الله أكبر ، ثمّ اركع وقل : اللهمّ لك ركعت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكّلت ، وأنت ربّي ، خشع لك قلبي وسمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعصبي وعظامي وما أقلّته قدماي ، غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ ولا مستحسرٍ ، سبحان ربّي العظيم وبحمده » (28).

وكما أنّ الركوع تخشّع لله تعالىٰ ، كذلك رفع الرأس منه تواضع له تعالىٰ ، وانتصاب للامتثال بين يديه.

ومن حيث الحكم : فالركوع : موضع تعظيم الله تعالىٰ ، وتبطل الصلاة بعدم إتيانه أو بتكراره ، ولو سهواً.

٣ ـ السجود في الصلاة :

وهو موضع الدعاء وطلب الحاجات ، ويعدّ غاية في الخضوع والتذلّل والاستكانة.

إنّ العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلّة والخضوع لله سبحانه وتعالىٰ ، وإذا عرف العبد نفسه بالذلّة والافتقار عرف ربّه هو العلي الكبير المتكبّر الجبّار (29).

روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال : « السجود منتهىٰ العبادة من بني آدم » (30).

وعنه عليه السلام : « ما خسر والله قطُّ من أتىٰ بحقيقة السجود ولو كان في عمره مرّة واحدة ، وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه ، غافلاً لاهياً عمّا أعدّ الله تعالىٰ للساجدين من البشر العاجل ، وراحة الآجل ، ولا بَعُدَ عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود ، ولا قَرُبَ إليه أبداً من أساء أدبه وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال السجود .. (31) ».

والمراد في هذه الصورة المتحرّكة التي يرسمها هذا الحديث الشريف هو ضرورة حضور القلب في جميع أحوال الصلاة من أفعالها وأقوالها ، وجدير بالتأمّل أن ذلك يقتضي أن يكون الحضور حال السجود آكد ؛ لأنّ حضور القلب في القيام ـ مثلاً ـ يقتضي الالتفات إلىٰ مقام العبوديّة والربوبيّة ، وفي الركوع يقتضي الالتفات إلىٰ عظمة الربّ وذلّة العبد ، وإلىٰ أنّ الحول والقوّة منفيّة عنه.

والحضور المناسب للسجود هو بالفناء عن الكلِّ والحضور عند الرب تعالىٰ (32).

ولأهميّة السجود جعله الله تعالىٰ واحداً من العلامات التي تميز عباده المخلصين ، قال تعالىٰ : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (33).

تسمية المصلّىٰ مسجداً :

وممّا يؤكّد اهتمام الإسلام المتزايد بالسجود هو تسمية المصلّىٰ ـ وهو موضع اقامة الصلاة ـ مسجداً ، إذ أصبح له عنواناً خاصّاً متميزاً ، عناية بأهم أجزاء الصلاة ، باعتبار أن السجود هو موضع القرب كما تبين وبه يتجلّى التواضع والخضوع والتذلّل لله جلَّ وعلا ، لذا فقد أولىٰ الباري تعالىٰ عناية خاصّة بالمساجد فنسبها له سبحانه وحده كما قال : ( أَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ) (34).

ولقد شاءت ارادته تعالىٰ أن يجعل المسجد مبدأ إسراء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومعراجه إلىٰ السماء ليريه من آياته العظمىٰ ويثبت له معجزة في ذلك قال تعالىٰ : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا .. ) (35).

٤ ـ هيئة السجود وحالته وذكره :

إنّ للسجود هيئةً وحالةً وذكراً ، تنطوي علىٰ جملة أسرارٍ تتجلّىٰ للإنسان المؤمن من خلال صلاته بمقدار درجة الاقبال وحضور القلب ووعي تامّ لما يقوم به من حركات وما يتلفّظه من كلمات.

أ ـ فهيئته : إراءة حالة التواضع وترك الاستكبار والعجب من خلال وضع الجبهة علىٰ الأرض وإرغام الأنف ـ وهو من المستحبّات الأكيدة ـ إظهاراً لكمال التخضّع والتذكّر والتواضع.

ب ـ وأمّا الحالة : فهي وضع أعضاء السجود السبعة علىٰ الأرض ، وبما أنّ تلك الأعضاء تعدّ مظهراً لعقل الإنسان وقدرته وحركته ، فيكون إرغامها علىٰ التذلّل والخضوع والمسكنة عبر السجود لله عزَّ وجلّ مظهراً من مظاهر التسليم التامّ له سبحانه ، وهذا يعني شعور العبد بالندم والتوبة وطلب المغفرة والابتعاد عن الخطيئة بشتىٰ أشكالها ، ومع حصول تلك المعاني في نفس الساجد ، فلاشكّ أنّه سيشعر بحالة من الاُنس ورهبة حقيقيّة تمنعه من العدول إلىٰ ارتكاب المعصية من جديد.

ج‍ ـ وأما الذكر : وهو « سبحان ربّي الأعلىٰ وبحمده » فإنّه متقوّم بالتسبيح ـ وهو التنزيه عن التوصيف ـ والتحميد ، وذكره تعالىٰ بأنّه العلي الأعلىٰ ، والعلي من الأسماء الذاتيّة لله تعالىٰ (36).

وفي الحديث الشريف عن الإمام الرضا عليه السلام : « .. فأول ما اختار لنفسه : العلي العظيم ؛ لأنّه أعلى الأشياء كلّها ، فمعناه : الله واسمه العلي العظيم ، هو أول أسمائه ، علا علىٰ كلِّ شيء » (37).

د ـ ومن أسرار حركات السجود : ـ من الهوي إلىٰ الأرض ، ثمّ استقرار الجبهة عليها ، ثمّ رفع الرأس ، ثمّ العودة إليها ، ثمّ الرفع منها ثانية ـ استحضار دورة حياة الانسان كلّها منذ نشأته الاُولىٰ من مادة الأرض ، وتكونه إنساناً يدبّ عليها ، ثمّ عودته فيها بعد موته ، ثمّ خروجه منها يوم البعث والنشور.

وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام أطراف هذا المشهد في جوابه العجيب عن سؤال سائل سأله ، قائلاً : يا بن عمّ خير خلق الله ، ما معنىٰ السجدة الاُولىٰ ؟ فقال عليه السلام : « تأويله اللهم إنّك منها خلقتنا ـ يعني من الأرض ـ ورفع رأسك : ومنها أخرجتنا ، والسجدة الثانية : وإليها تُعيدنا ، ورفع رأسك من الثانية : ومنها تخرجنا تارة اُخرىٰ .. » (38).

فمن عثر علىٰ سرّ الصلاة يقف علىٰ مواقف القيامة ويراها كأنّها قامت وتدعو نارها من أعرض وتولىٰ ، فيجدُّ ويجاهد ويجتهد في إخمادها ، كما في المأثور عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّ حريقاً وقع في بيته وهو ساجد فجعلوا يقولون له : يا بن رسول الله ، النار ، يا بن رسول الله النار. فما رفع رأسه حتّى طفئت. فقيل له ـ بعد فراغه ـ : ما الذي ألهاك عنها ؟

قال عليه السلام : « ألهاني عنها النار الاُخرىٰ » (39).

رابعاً : العلاقة العباديّة بين الركوع والسجود :

ربّما عبّر القرآن الكريم عن الصلاة كلّها بالركوع والسجود ، قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (40).

ومثله ما حكاه القرآن من قول الملائكة لمريم : ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (41).

ومع هذا الاشتراك بين الركوع والسجود ، وكونهما مثالين لغاية التذلّل والتخضّع ، ومقرونين بالذكر الخاصّ بكلّ منهما ، لكن في السجود زيادة تخضّع ظاهرة ، فبين الانحناءة ومدّ العنق وبين وضع الجبهة علىٰ الأرض ، مصحوباً بهذا الذكر الجليل « سبحان ربّي الأعلىٰ » فارق مرتبة جعل العبد في حالة السجود أشدّ قربا إلىٰ الله تعالىٰ ، وبه يتجلّىٰ لنا معنىٰ قوله تعالىٰ : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ) (42) وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أقرب ما يكون العبد من الله عزَّ وجلَّ وهو ساجد » (43).

وفي حديث جعفر الصادق عليه السلام يوازن فيه بين الركوع والسجود ، جاء فيه : « .. الركوع أوّل والسجود ثانٍ ، فمن أتىٰ بمعنىٰ الأوّل صلح للثاني ، وفي الركوع أدب ، وفي السجود قرب ، ومن لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب ، ... فإنّ الله تعالىٰ يرفع عباده بقدر تواضعهم له ويهديهم إلى اُصول التواضع والخضوع بقدر اطلاع عظمته على سرائرهم » (44).

وقد علّق الإمام الخميني قدّس سره علىٰ هذا النصّ بقوله : « وفي هذا الحديث الشريف إشارات وبشارات وآداب ووظائف .. ومن هنا يعلم أنّ السجود فناء ذاتي كما قال أهل المعرفة ، لأنّ الركوع أوّل هذه المقامات والسجود ثانٍ ، فليس هو إلّا مقام الفناء في الذات » (45).

وأمّا من حيث الذكر ، فالذكر الذي ينبغي قوله في كلّ منهما يشترك في جوانب ويختلف في أُخرىٰ ، فالاشتراك بذكر التسبيح والتحميد ، وهو التنزيه والشكر علىٰ النعم.

سأل محمّد بن سنان الإمام الرضا عليه السلام عن علّة جعل التسبيح في الركوع والسجود فقال عليه السلام : « لعللٍ ، منها أن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبّده وتورّعه واستكانته وتذلّله وتواضعه وتقربه إلىٰ الله مُقدِّساً له وممجّداً ، مسبّحاً مطيعاً ، معظّماً شاكراً لخالقه ورازقه فلا يذهب به الفكر والأماني إلىٰ غير الله » (46).

وأمّا موضع الافتراق ففي الأوّل التعظيم في الانحناء ، وفي الثاني ذكره بالعلوّ مع التذلّل والانحطاط والصاق الجبين بالتراب بمعنىٰ ربّي أنت العلي وأنا الوضيع الداني.

عن هشام بن الحكم ، عن أبي الحسن موسىٰ بن جعفر عليه السلام ـ في حديث صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في الاسراء ـ قال : قلت له .. ولأي علّة يقال في الركوع : « سبحان ربّي العظيم وبحمده » ويقال في السجود : « سبحان ربّي الأعلىٰ وبحمده » ؟

قال عليه السلام : « يا هشام .. فلمّا ذكر ما رأىٰ من عظمة الله ارتعدت فرائصه ، فابترك علىٰ ركبتيه ، وأخذ يقول : « سبحان ربّي العظيم وبحمده » فلمّا اعتدل من ركوعه قائماً نظر إليه (47) في موضع أعلىٰ من ذلك الموضع خرَّ علىٰ وجهه وجعل يقول : « سبحان ربّي الأعلىٰ وبحمده » فلمّا قال سبع مرّات سكن ذلك الرعب ، فلذلك جرت به السُنّة » (48).

ومن بديع التعبير عن علاقة الركوع بالسجود ما قاله السيّد السبزواري رحمه الله :

     

إنَّ الرُّكوعَ والسُّجُودَ والثَّنا

 

أعظمُ طاعةٍ لخالقِ السَّما

إنَّ الرُّكوعَ والسُّجُودَ حقُّهُ

 

بِذاتِهِ لِذاكَ يَستحقُّهُ (49)

الهوامش

1. المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ « سجد » ، مكتب نشر الثقافة الإسلاميّة ١٤١٢ ه‍ ط ٤. والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير / الفيومي ١ : ٢٦٦ « سجد » ، منشورات دار الهجرة ـ قم ١٤١٤ ه‍ ط ٢.

2. سورة الحج : ٢٢ / ١٨.

3. المصباح المنير ١ : ٢٦٦ « سجد ».

4. المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ « سجد ».

5. المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ « سجد ».

6. أساس البلاغة / الزمخشري : ٢٨٥ « سجد » ، دار الفكر ـ بيروت ١٤٠٩ ه‍ ـ ١٩٨٩ م.

7. المختار من صحاح اللغة : ٢٢٩ « سجد » ، انتشارات ناصر خسرو ـ طهران ١٣٦٣ ه‍ ش. وأساس البلاغة : ٢٨٥ « سجد ».

8. المعجم الوسيط ١ : ٤١٦ « سجد ».

9. المصباح المنير / الفيومي ١ : ٢٦٦ « سجد ».

10. سورة الإسراء : ١٧ / ١.

11. أعضاء السجود سبعة ، وهي : الجبهة ، والكفّان ، والركبتان ، وابهاما الرجلين. تذكرة الفقهاء / العلّامة الحلي ٣ : ١٨٥ ، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم ١٤١٤ ه‍ ط ١ ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل واختاره الشافعي في أحد قوليه ، كما في المغني لابن قدامة الحنبلي ١ : ٥٩١. والاُم للشافعي ١ : ١١٤.

12. جامع المقاصد في شرح القواعد / المحقّق الكركي ٢ : ٢٩٨ ، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم ١٤١٤ ه‍ ط ٢.

13. المقنعة / الشيخ المفيد : ١٠٥.

14. مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام / السيّد السبزواري ٦ : ٤١٦ ، مؤسّسة المنار ـ ١٤١٢ ه‍ ط ٤.

15. غرر الحكم ودرر الكلم / عبدالواحد الآمدي ١ : ١٢٢ / ٢٢٣٤ و ٢٢٣٥ ، مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت ١٤٠٧ ه‍ ، ١٩٨٧م ط ١. ومستدرك وسائل الشيعة / الميرزا حسين النوري ٤ : ٤٨٦ / ٥٢٣٢ باب ٢٣ من أبواب السجود ، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ ١٤٠٧ ه‍ ط ١.

16. سورة النجم : ٥٣ / ٦٢.

17. معجم مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الاصفهاني : ٢٢٩ مادة « سجد ».

18. سورة الرعد : ١٣ / ١٥.

19. سورة الرحمن : ٥٥ / ٦.

20. المسائل السروية / الشيخ المفيد : ٤٩ ، المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد رقم ٤٦ ـ ١٤١٣ ه‍ ط ١.

21. سورة النحل : ١٦ / ٤٩.

22. فقه السجود / علي بن عمر بادحدح : ٢٠ ـ ٢١ بتصرف ، دار الأندلس ـ جدة ١٤١٥ ه‍.

23. جامع أحاديث الشيعة ٥ : ٤٦٣ / ٨٠٣٩ ـ ٨٣١١. وصحيح مسلم بشرح النووي / ٤ : ٢٦٧ / ٤٨٢ باب ٤٢ ما يقال في الركوع والسجود ، تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي ، دار الكتب العلميّة ـ بيروت ١٤١٥ ه‍ ط ١. وسنن أبي داود ١ : ٢٣١ / ٨٧٥ باب الدعاء في الركوع والسجود ، دار الفكر ـ بيروت. وفيض القدير شرح الجامع الصغير / المناوي ٢ : ٨٧ / ١٣٤٨ ، دار الكتب العلميّة ـ بيروت ١٤١٥ ه‍ ، ١٩٩٤ ، ط ١.

24. سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

25. مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ١٧ : ٢٣٦ / ١٣٤ ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، دار الفكر ـ دمشق ١٤٠٩ ه‍ ط ١. وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٤ : ٣٩٢ / ١٥٧ ترجمة علي بن الحسين عليهم السلام ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ١٤١٢ ه‍ ط ٨.

26. راجع مجمع البيان / الطبرسي ٥ : ٤٠٥ ، دار المعرفة ـ بيروت ١٤٠٦ ه‍.

27. من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ١ : ٢٠٤ / ٩٢٨ باب ٤٥ ، دار الأضواء ـ بيروت ١٤٠٥ ه‍ ط ٦. وجامع أحاديث الشيعة / تحت اشراف آية الله السيّد البروجردي ٥ : ٤٣٠ / ٨٢١٣ باب ٢ كيفيّة الركوع ـ قم ١٤١٦ ه‍.

28. جامع أحاديث الشيعة ٥ : ٤٣٣ / ٨٢٢٩ باب ٢ كيفيّة الركوع.

29. فيض القدير للمناوي ٢ : ٦٨ / ١٣٤٨.

30. الدعوات / قطب الدين الراوندي : ٧. ومستدرك الوسائل ٤ : ٤٧٢ / ٥١٩٣ باب ١٨. وجامع أحاديث الشيعة ٥ : ٤٦٦ / ٨٣٢١.

31. مصباح الشريعة : ٩١ باب ٤١ في السجود ، منشورات مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت ١٤٠٣ ه‍ ط ٢.

32. أسرار الصلاة / الميرزا جواد الملكي التبريزي : ٢٦٨ ، دار الكتاب الإسلامي ـ قم.

33. سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.

34. سورة الجن : ٧٢ / ١٨.

35. سورة الإسراء : ١٧ / ١.

36. الآداب المعنويّة للصلاة / الإمام الخميني : ٥٣٦ ـ ٥٣٧ ، نشر طلاس ـ دمشق ١٩٨٤ م ط ١.

37. اُصول الكافي / الكليني ١ : ١١٣ / ٢ باب حدوث الأسماء ، كتاب التوحيد ، دار الأضواء ـ بيروت ١٤٠٥ ه‍.

38. علل الشرائع / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٣٦ / ٤ باب ٣٢ ، منشورات مكتبة الداوري ـ قم « اُفسيت علىٰ طبعة المكتبة الحيدريّة ـ النجف الأشرف ، تحقيق السيّد محمّد صادق بحرالعلوم سنة ١٣٨٥ ه‍ ».

39. مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ١٧ : ٢٣٦ / ١٣٤ ترجمة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٤ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ / ١٥٧ ترجمة علي بن الحسين عليه السلام. وانظر : مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٤ : ١٤٧ ـ ١٤٨ ، دار الأضواء ـ بيروت ١٩٩١ م ـ ١٤١٢ ه‍ ط ٢.

40. سورة الحج : ٢٢ / ٧٧.

41. سورة آل عمران : ٣ / ١٢٤.

42. سورة العلق : ٩٦ / ١٩.

43. راجع : صحيح مسلم بشرح النووي ٤ : ١٦٧ / ٤٨٢ باب ٤٢ كتاب الصلاة. والسنن الكبرى / النسائي ١ : ٢٤٢ / ٧٢٣ باب ٢٥ كتاب التطبيق ، دار الكتب العلميّة ـ بيروت ١٤١١ ه‍ ط ١. وجامع أحاديث الشيعة ٥ : ٢٢٥ / ٢٩٣٧ باب أفضل السجود وآدابه من أبواب السجود.

44. وسائل الشيعة ٦ : ٣٠٩.

45. الآداب المعنويّة للصلاة / الامام الخميني : ٥٢٧ ـ ٥٢٨. والحديث منقول من كتاب مصباح الشريعة : ١٢ باب ١٥.

46. عيون أخبار الرضا عليه السلام / الشيخ الصدوق ٢ : ١٠٦ / ١ باب ٣٤. العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان والتي سمعها من الإمام الرضا عليه السلام مرّة بعد مرّة ، تحقيق السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان ، منشورات الأعلمي ـ طهران « أُوفسيت علىٰ طبعة المكتبة الحيدريّة ـ النجف الأشرف » ١٣٩٠ ه‍.

47. الضمير في « إليه » راجع إلىٰ الموصول في قوله عليه السلام : « فلمّا ذكر ما رأىٰ من عظمة الله » وليس المراد به ماذهب إليه المجسّمة الذين ما قدروا الله حقّ قدره ، فقالوا بالرؤية ، تعالىٰ الله عن قولهم علوّاً كبيراً.

48. علل الشرائع / الصدوق ٢ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ / ٤ باب ٣٠.

49. مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام / السيّد السبزواري ٦ : ٤١٥.

مقتبس من كتاب : [ السجود مفهومه وآدابه والتربة الحسينية ] / الصفحة : 9 ـ 24

 

أضف تعليق

السجود

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية