إيمان أبي طالب

البريد الإلكتروني طباعة

إيمان أبي طالب

ما كان وما مات أبو طالب إلّا مؤمناً ، موحّداً بالله ، مصدّقاً بدعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقد كان على دين الحنيفيّة دين سيّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ويعلم أن نبيّاً سيولد في العرب من أكرم البيوت ، التي كانت أعناق القبائل واليهود تشرأب له.

فعندما تنقل من مكان إلىٰ آخر مصطحباً معه ابن أخيه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقول العرفاء له : سيكون لهذا الغلام شأن كبير فاحفظه وانصره وسيكون له أعداء ، وعندما أظهر النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم دعوته ، قال له أبو طالب : « أخرج ابن أبي فإنّك الرفيع كعباً ، والمنيع حزباً ، والأعلىٰ أبا ، والله لا يسلقك لسان إلّا سلقته ألسن حداد ، واجتذبته سيوف حداد ، والله لتذللن لك العرب ذل البهم لحاضنها ... » (1).

هذا قمّة الإيمان بعينه ، وقد دافع وناهض من أجل محمّد ، فعارضه أبو لهب وقال : « والله لنمنعنه مابقينا » (2) ، وعندما نصّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم علىٰ علي عليه السلام قالوا لأبي طالب بعد خروجهم من الدار وقام بانذارهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قالوا له : « قد أمرك أن تسمع لابنك » (3) ـ يعنون عليّاً ـ ولكنّه لم يأبه لقولهم بل أجابهم : « دعوه فلن يألوا ابن عمّه خيراً » (4).

فكيف لا يكون مؤمناً ؟! بل هو مؤمن بكلّ وجوده ، وهو يأمر أخاه حمزة بأن يلحق بمحمّد وينصره ، وأبيات شعره خير دليل على إيمانه وحثه إلىٰ أخيه حمزة رضي الله عنه الذي كان يكنّى بأبي يعلىٰ‌ٰ :

فصبراً أبا يعلىٰ على دين أحمدِ

 

وكن مظهراً للدين وفقت صابرا

وحُط من أتى بالحق من عند ربه

 

بصدقٍ وعزمٍ ـ وحقٍ ـ لا تكن حمزُ كافرا

فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن

 

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وبادِ قريشا بالذي قد أتيته

 

جهاراً وقل : ماكان أحمدُ ساحراً (5)

وقد قيل إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال عن عمّه أبي طالب رضي الله عنه : إنّه في ضحضاح من نار !

فرأيت البحث عن الحديث أجدىٰ حتّى أتبين ، فوجدت أن راوي هذا الحديث هو المغيرة بن شعبة ، ولما تابعت مواقفه وفعاله رأيته ليس أهلاً للأخذ بأقواله ونقله ، فما هو إلّا زان (6) وجب عليه الحدّ في عهد عمر بن الخطاب ، ثُم لم يحدّه وحد الشهود عليه ، ومواقف المغيرة من الإمام عليّ عليه السلام بينتها الحوادث والوقائع ، فهو من ألد أعدائه.

ثمّ لماذا لم يذكره أحد غير المغيرة ، كأبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان وباقي الصحابة ؟!.

لقد قال كثير من علماء السنّة بثبوت إيمان أبي طالب ، كيف لا ! فقد كان مؤمناً بالله إيماناً فطريّاً على دين سيّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ثمّ آمن بدعوة ابن أخيه محمّد بن عبدالله ، ولقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بالسبابة والوسطىٰ » (7) ، وأبو طالب كفل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما كفله جدّه عبد المطلب رحمه الله ورعاه وهيّأ له الأرضية المرنة لنشر الدعوة.

ثم لو تركنا كلّ هذه الدلائل ، ألم تكن السيّدة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها زوجة لأبي طالب ؟! ألم تكن مؤمنة مسلمة رعت وكفلت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلي عليها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاتها واضطجع في قبرها تكريماً ووضع عباءته في القبر (8) ، فبقاء فاطمة بنت أسد رضي الله عنها على عصمة أبي طالب رضي الله عنه وهي من المؤمنات السابقات إلى الإسلام أوّل دليل على إيمان أبي طالب عليه السلام ، إذ كيف يقرّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقاءها على عصمة أبي طالب وهو على الكفر وقد حرم الدين الإسلامي المشركة على المسلم والمشرك على المسلمة ، ولا يخفى عليكم أن فاطمة بنت أسد أسلمت بعد عشرة من المسلمين وبقيت مع أبي طالب وهاجرت إلى المدينة ، وهي أوّل امرأة بايعت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ومن دلائل إيمانه هذه الأبيات التي قالها عندما علم أن قريشاً تعد أمراً ما لقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

 

حتى أوسّد بالتراب دفينا

فاصدع بأمرك ماعليك غضاضة

 

وأبشر بذاك وقرّ منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي

 

ولقد صدقت ـ دعوت ـ وكنت ثم أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد

 

من خير أديان البرية دينا (9)

ولقد جاء إليه وفد قريش ، وقالوا له : نعطيك عمارة بن الوليد وهو فتي قريش ، اتّخذه ولداً وسلّم لنا ابن أخيك نقتله ، فإنّما هو رجل كرجل.

ولكن أبا طالب احتقرهم واستهزأ بهم ، ثمّ قال : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أرعاه وأغذيه وأسمنه لكم وأعطيكم ابني لتقتلوه ، هذا والله ما لا يكون أبداً (10).

وله أبيات جميلة يصف فيها فضل بني هاشم وسيّدنا محمّد ، أذكر بعضها :

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر

 

فعبد مناف سرّها وصميمها

فإن حصلت أشراف أنساب عبد منافها

 

ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً

 

هو المصطفىٰ من سرّها وكريمها (11)

وأدلّ دليل على إيمانه أيضاً تلك القصيدة الرائعة التي قالها لسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما رفع سيفه بوجه قريش ورمىٰ بعض الدم والرفث على أحد وجهائهم لأنّهم أرادوا الاستهزاء بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ورموا عليه بعض الحجارة والدم ، وهذه القصيدة تبين الإيمان المطلق لأبي طالب عليه السلام أذكر بيتين فيها.

أنت النبي محمد

 

قرم أغر مسوّدُ

لمسودين أكارم

 

طابوا وطاب المولِدُ

وعندما عاودت الكرة تلك الفئة الطاغية جاء إلىٰ ابن أخيه قائلاً :

أعوذ برب البيت من كل طاعن

 

علينا بسوء أو يلوح بباطل

ومن فاجر يقتابنا بمغيبه

 

ومن ملحق في الدين مالم نحاول

كذبتم وبيت الله يُبزي محمداً

 

ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتى نصرع دونه

 

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لعمري لقد كلفت وجداً بأحمد

 

وأحببته حب الحبيب المواصل

وأيده ربّ العباد بنصره

 

وأظهر دينا حقه غير باطل (12)

بعد كلّ هذا هل يصحّ أن يشكّ أحد بإيمان الرجل الصالح أبي طالب عليه السلام ، ومن أراد الاستزادة فليراجع السيرة الحلبية وتاريخ الطبري وابن الأثير ، ليرىٰ كم ناضل وجاهد هذا الرجل في نصرة ابن أخيه وإيمانه بدعوته.

الهوامش

1. هذا الكلام ذكره ابن طاووس في الطرائف : 1 ح 388 عن كتاب نهاية الطلب وغاية السؤول في مناقب آل الرسول لإبراهيم بن علي الدينوري ، وانظر : شيخ الأبطح 22 ط بغداد ، وأبو طالب مؤمن قريش 124 ط مصر.

2. الكامل في التاريخ لابن الأثير : 2 / 61.

3. تاريخ الطبري : 2 / 321.

4. الطبقات الكبرىٰ لابن سعد ، ذكر علامات النبوّة بعد نزول الوحي : 1 / 147 ، تاريخ دمشق 42 / 46.

5. كنز الفوائد للكراجكي : 1 / 181 ، الغدير للأميني : 7 / 481.

6. الكامل في التاريخ لابن الأثير : 2 / 541 ، تاريخ الطبري : 4 / 69.

7. صحيح البخاري ، باب اللعان : 3 / 425 « 5304 ».

8. مستدرك الحاكم ، مناقب أمير المؤمنين : 3 / 322 « 4632 ».

9. ذكره الثعلبي في تفسيره وقال : قد اتّفق على صحّة نقل هذه الأبيات من أبي طالب : مقاتل ، وعبدالله بن عبّاس ، والقسم بن محضرة ، وعطاء بن دينار.

وراجع : السيرة الحلبية : 1 / 408 ، البداية والنهاية لابن كثير : 3 / 38 ، فتح الباري لابن حجر العسقلاني : 7 / 246 « 3885 » ، وغيرهم.

10. تاريخ الطبري : 2 / 327 ، سيرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن هشام : 1 / 172.

11. السيرة الحلبية : 1 / 43 ، وغيره.

12. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 14 / 77.

مقتبس من كتاب : [ ومن النهاية كانت البداية ] / الصفحة : 119 ـ 125

 

أضف تعليق

أبو طالب

إسئل عمّا بدا لك من العقائد الإسلامية